عنوان و نام پدیدآور:نفحات الولایه: شرح عصری جامع لنهج البلاغه المجلد 7 / ناصرمکارم شیرازی، بمساعده مجموعه من الفضلاء؛ اعداد عبدالرحیم الحمدانی.
مشخصات نشر:قم : مدرسه الامام علی ابن ابی طالب (ع) ، 1426ق.-= 1384.
مشخصات ظاهری:10 ج.
شابک:30000 ریال : دوره 964-813-958-X: ؛ ج. 1 964-813-907-5 : ؛ ج. 2 964-813-908-3 : ؛ ج. 3 964-813-917-2 : ؛ ج. 4 964-813-918-0 : ؛ ج.5 : 964-813-941-5 ؛ 70000 ریال: ج. 6 978-964-533-120-5 : ؛ 70000 ریال: ج. 7 978-964-533-121-2 : ؛ 70000 ریال: ج. 8 978-964-533-122-9 : ؛ 70000 ریال: ج. 9 978-964-533-123-6 : ؛ 70000 ریال: ج. 10 978-964-533-124-3 :
یادداشت:عربی.
یادداشت:ج 1- 5 ( چاپ دوم: 1384).
یادداشت:ج. 6- 10 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390).
یادداشت:کتابنامه.
مندرجات:.- ج. 6. من خطبة 151 الی 180.- ج. 7. من خطبة 181 الی 200.- ج. 8. من خطبة 201 الی 241.- ج. 9. من رسالة 1 الی 31.- ج. 10. من رسالة 32 الی 53
موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق -- خطبه ها
موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- کلمات قصار
موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- نامه ها
موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه -- نقد و تفسیر
شناسه افزوده:حمرانی، عبدالرحیم
شناسه افزوده:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه. شرح
شناسه افزوده:مدرسة الامام علی بن ابی طالب (ع)
رده بندی کنگره:BP38/02 /م7 1384
رده بندی دیویی:297/9515
شماره کتابشناسی ملی:م 84-40347
ص :1
ص :2
نفحات الولایه: شرح عصری جامع لنهج البلاغه المجلد 7
ناصرمکارم شیرازی، بمساعده مجموعه من الفضلاء
اعداد عبدالرحیم الحمدانی
ص :3
ص :4
وقَدْ أَرْسَلَ رَجُلاً مِنْ أَصْحابِهِ، یَعْلَمُ لَهُ عِلْمَ أَحْوالِ قَوْم مِنْ جُنْدِ الْکُوفَةِ، قَد هَمُّوا بِاللِّحاقِ بِالْخَوارِجِ، وکانُوا عَلی خَوْف مِنْهُ علیه السلام، فَلَمّا عادَ إِلَیْهِ الرَّجُلُ قالَ لَهُ: «أأمِنُوا فَقَطَنُوا(1) ، أم جبنوا فَظَعَنُوا(2) ؟» فَقالَ الرَّجُلُ: بَلْ ظَعَنُوا یاأَمیرَالْمُؤمنینَ. فَقالَ علیه السلام: (3)
لابدّ من التعرف علی سبب ذکر هذا الکلام الذی ورد فی الخطبة بغیة الوقوف علی معناها.
إنّ رجلاً یُدعی الخریت بن راشد أحد بنی ناجیّة قد شهد مع علی علیه السلام صفین
ص:5
فجاء بعد تحکیم الحکمین فی ثلاثین من صحبه (وفی روایة الطبری ثلاثمائة) فقال:
«وَاللّهِ یاعَلیُّ لا أُطیعُ أَمْرَکَ ولا أُصلّی خَلْفَکَ وإِنّی غَداً مُفارِقُکَ».
فقال الإمام علیه السلام:
«ثَکَلَتْکَ أُمُّکَ إذاً تَعْصِی رَبَّکَ وتَنْکِثُ عَهْدَکَ وَلا تَضُرُّ إلَّا نَفْسَکَ»،
«أَخبِرنِی لِمَ تَفْعَلْ ذَلِکَ؟» قال:
«لأَنّکَ حَکَمْتَ فِی الکِتابِ وَضَعُفْتَ عَنِ الحَقِّ إذا جَدّ الجَدُّ فَأنا عَلَیکَ رَادٌّ وَلَکُم جَمِیعاً مُباینٌ».
فقال علیه السلام:
«وَیحَکَ هَلُمَّ إلیّ أُدارِسُکَ وَأُناظِرُکَ فِی السُّننِ وِأُفَاتِحُکَ أمُوراً مِنَ الحَقِّ أنَا أعلَمُ بِها مِنْکَ فَلَعَلَّکَ تَعرِفُ ما أنْتَ الآنَ لَهُ مُنکِرٌ».
فقال الخریت:
«فإنّی غادٍ عَلَیکَ غَداً».
فقال علیه السلام:
«أُغدو وَلا یَستَهوِینَّکَ الشَّیطَانُ وَلا یَتَقَحَمَنَّ بِکَ رَأی السُّوء وَلا یَسْتَخِفَنَّکَ الجُهلاءُ الّذینِ لایَعلَمُونَ، فَواللّهِ إنِ استَنْصَحْتَنِی وَاسْتَرشَدتَنِی وَقَبِلْتَ مِنّی لأَهدِیَنَّکَ سَبِیلَ الرَّشادِ»(1).
فقرر هذا الرجل الجاهل الإلتحاق بقومه من الخوارج لیبتلی بذلک المصیر الأسود، وإثر ذلک بعث الإمام علیه السلام أحد أصحابه خلف هذا الرجل علّه یتراجع عن موقفه، ولکن سرعان ما عاد مبعوث الإمام علیه السلام لیخبره بإلتحاقه وصحبه بالخوارج ومغادرته الکوفة.
***
ص:6
بُعْداً لَهُمْ «کَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ»! أَمَا لَوأُشْرِعَتِ الأَسِنَّةُ إِلَیْهِمْ، وصُبَّتِ السُّیُوفُ عَلَی هَامَاتِهمْ، لَقَدْ نَدِمُوا عَلَی مَا کَانَ مِنْهُمْ. إِنَّ الشَّیْطَانَ الْیَوْمَ قَدِ اسْتَقَلَّهُمْ، وهُو غَداً مُتَبَرِّیءٌ مِنْهُمْ، ومُتَخَلٍّ عَنْهُمْ. فَحَسْبُهُمْ بِخُرُوجِهِمْ مِنَ الْهُدَی، وَارْتِکَاسِهِمْ فِی الضَّلاَل وَالْعَمَی، وصَدِّهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وجِمَاحِهمْ فِی التِّیهِ.
کما مضی سابقاً کان الکلام من قبل فئة قلیلة جاهلة ومتعصبة أشکلت علی الإمام علیه السلام بسبب استجابته لتحکیم القرآن، والحال هذا وأمثاله ممّا کانوا قد مارسوا ضغوطهم علی الإمام علیه السلام لقبول التحکیم، والأسوأ من ذلک وإثر اعتراضهم علی الإمام علیه السلام الذی یمثل محور الهدی انشقّوا عنه وإلتحقوا بالخوارج محور الجهل والتعصب والضلال، ویشرح الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة عوامل تعاسة هذه الفئة الضالّة بغیة تجنّب الآخرین السقوط فی هذا المستنقع فقال علیه السلام:
«بُعْداً(1) لَهُمْ «کَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ»!».
کان هذا التعبیر إشارة لما ورد فی القرآن الکریم بشأن قوم ثمود إذ قال تعالی:
«أَلاَ بُعْداً لِّمَدْیَنَ کَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ»(2) والذی کان لعنة لقوم شعیب الوثنیین، کما کان إشارة إلی الجهات المشترکة بین هؤلاء القوم الضالّین وقوم شعیب وقوم صالح،
ص:7
حیث کان هؤلاء اناساً متکبرین ومغرورین وردت قصّتهم فی عدّة سور من القرآن الکریم، ثم قال علیه السلام:
«أَمَا لَو أُشْرِعَتِ(1) الأَسِنَّةُ إِلَیْهِمْ، وصُبَّتِ السُّیُوفُ عَلَی هَامَاتِهمْ(2) ، لَقَدْ نَدِمُوا عَلَی مَا کَانَ مِنْهُمْ، إِنَّ الشَّیْطَانَ الْیَوْمَ قَدِ اسْتَقَلَّهُمْ(3) ، وهُو غَداً مُتَبَرِّیءٌ مِنْهُمْ، ومُتَخَلٍّ عَنْهُمْ».
یشیر هذا الکلام فی الواقع إلی ما ورد مراراً فی القرآن الکریم بخصوص الطغاة الغافلین الذین ما أن یرکبوا السفینة وتغشاهم أمواج البحار الهادرة ویستشعروا بالخطر حتی تطرح عنهم حجب الغفلة ویتوجّهون إلی اللّه، ولکن سرعان ما یعودون لتلک الغفلة إذا ما بلغوا ساحل النجاة(4).
کما یشیر أیضاً إلی ما ورد کراراً فی القرآن الکریم أنّ الشیطان(5) وأئمّة الضلال(6) یتبرأون یوم القیامة من أتباعهم.
ثم قال علیه السلام:
«فَحَسْبُهُمْ بِخُرُوجِهِمْ مِنَ الْهُدَی، وَارْتِکَاسِهِمْ(7) فِی الضَّلاَل وَالْعَمَی، وصَدِّهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وجِمَاحِهمْ(8) فِی التِّیهِ».
إشارة إلی أنّه نتیجة تلک اللجاجة التیه فی الضلال والحیرة والإبتعاد عن الهدی وهذا المصیر الأسود الذی یصنعه کلّ إنسان لجوج وجاهل، جدیر بالذکر أنّه یستفاد من هذا الکلام وتلک المقدّمة التاریخیة الواردة فی سبب ذکره:
إنّ الإمام علیه السلام کان رحیماً حتی بالأفراد من أهل اللجاجة والجهل والتعصب، وکان
ص:8
یسعی قدر المستطاع لإصلاحهم، وإن لم تؤثر مواعظه البلیغة کان یقرعهم بکلمات عنیفة ویریهم عاقبة أعمالهم فی الدنیا والآخرة لعلّهم یفیئون إلی الحقّ.
***
ص:9
ص:10
رُوِیَ عَنْ نَوْفِ الْبَکّالی قالَ: خَطَبَنا بِهذِهِ الْخُطْبَةِ أَمیرُالْمؤمنینَ عَلیٌّ علیه السلام بِالْکُوفَة وهُوقائِمٌ عَلی حِجارَة، نَصَبَها لَهُ جُعْدَةُ بنُ هُبَیْرَةَ(1) الْمَخْزُومی، وعَلَیْهِ مِدْرَعَةٌ(2) مِنْ صُوف وحَمائِلُ سَیْفِهِ لِیفٌ، وفی رِجْلَیْهِ نَعْلانِ مِنْ لِیف، وکأنّ جَبینَه ثَفِنَةُ(3) بَعیر(4)
یستفاد من أواخر هذه الخطبة أنّ الإمام علیه السلام خطبها قبل شهادته بأسبوع، وهدفه
ص:11
منها إعداد الناس لجهاد معاویة ولصوص الشام، واستجابوا لدعوته فتقاطروا علیه أُلوفاً مؤلفة، ولکن للأسف....
خاض الإمام علیه السلام فی استعراض عدّة أمور من هذه الخطبة بغیة إثارة أرواحهم وعواطفهم لمواجهة الأعداء الظلمة، فاستهلّ حدیثه فی القسم الأوّل والثانی والثالث من الخطبة بحمد اللّه والثناء علیه إلی جانب بیان صفاته الجمالیّة والجلالیّة ومن ثم وحدانیته وعلمه المطلق بذرات الوجود کافّة، وأنّ ذاته وصفاته أسمی من أن یستوعبها الفکر، کما لا یقوی علی ذلک الأمر حتی الملائکة المقرّبون.
ثم تطرق الإمام علیه السلام فی القسم الرابع إلی الورع والتقوی والزهد فی الدنیا، وبین جوانب من سیرة سالف الأنبیاء مثل نبی اللّه سلیمان علیه السلام الذی عاش الزهد فی الدنیا مع ما کان لدیه من الملک.
وبین فی القسم الخامس من الخطبة المصیر الأسود الذی طال طغاة العالم کالفراعنة والعمالقة وأصحاب الرسّ الذین قتلوا أنبیاء اللّه وسعوا لإطفاء نور اللّه، ولکن سرعان ما صرعوا وغادروا الدنیا.
وأشار فی الفصل السادس إلی ظهور المهدی علیه السلام وتشکیل حکومة العدل العالمیّة وتطرق إلی جانب من فضائله ومناقبه.
وخاض فی القسم السابع ثانیة فی الوعظ والإرشاد، وتحدّث عن غدر الدنیا وتقلب أحوالها وتفاهتها، وذکر شهداء صفین الذین عانقوا الشهادة وبکی عدداً من أصحابه مثل عمار بن یاسر وابن التیهان وخزیمة ذی الشهادتین، ثم مدحهم علی طاعتهم لأوامر اللّه وإحیائهم لسنّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وإماتتهم البدع واستعدادهم الدائم للجهاد.
وأصدر فی القسم الثامن من خطبته أمره بالجهاد ودعی الجمیع للإلتحاق بسوح الوغی.
***
ص:12
الْحَمْدُ للّهِ الَّذِی إِلَیْهِ مَصَائِرُ الْخَلْقِ، وعَوَاقِبُ الأَمْرِ. نَحْمَدُهُ عَلَی عَظِیمِ إِحْسَانِهِ، ونَیِّرِ بُرْهَانِهِ، ونَوَامِی فَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ، حَمْداً یَکُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً، ولِشُکْرِهِ أَدَاءً، وإِلَی ثَوَابِهِ مُقَرِّباً، وَلِحُسْنِ مَزِیدِهِ مُوجِباً. ونَسْتَعِینُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاج لِفَضْلِهِ، مُؤَمِّل لِنَفْعِهِ، وَاثِق بِدَفْعِهِ، مُعْتَرِف لَهُ بِالطَّوْلِ، مُذْعِن لَهُ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ. ونُؤْمِنُ بِهِ إِیمَانَ مَنْ رَجَاهُ مُوقِناً، وأَنَابَ إِلَیْهِ مُؤْمِناً، وخَنَعَ لَهُ مُذْعِناً، وأَخْلَصَ لَهُ مُوَحِّداً، وعَظَّمَهُ مُمَجِّداً، ولاَذَ بِهِ رَاغِباً مُجْتَهِداً.
ینبغی قبل الشروع فی شرح هذه الخطبة الإشارة إلی شخصیة (نوف البکالی) راوی هذه الخطبة، لا شک ولا ریب فی أنّه من أصحاب الإمام علی علیه السلام وقیل حاجبه، ویعتقد البعض أنّه من قبیلة حمیر التی سکنت الیمن، بینما یراه البعض الآخر من قبیلة همدان، وهنالک کلام فی لقبه، قیل بَکّال (علی وزن فَعّال) وقیل بِکال (علی وزن کِتاب) وقیل بَکال (علی وزن طَواف)، علی کلّ حال فقد کان رجلاً عفیفاً ومؤمناً ووفیاً.
***
استهل الإمام علیه السلام هذا القسم من الخطبة بحمد اللّه والثناء علیه بهدف إعداد قلوب المخاطبین وإزالة صدأ الغفلة عنها، ثم استعان بذاته المقدّسة وأبرز إیمانه المطلق بها
ص:13
فقال فی الحمد والثناء:
«الْحَمْدُ للّهِ الَّذِی إِلَیْهِ مَصَائِرُ(1) الْخَلْقِ، وعَوَاقِبُ الأَمْرِ».
نعم فمنه تعالی بدایة الخلق وإلیه المصیر، فموجودات هذا العالم کافّة من فیض وجوده وستؤول عاقبة أمرها إلیه، وهذه إشارة إلی قضیة المعاد ویوم القیامة فالحدیث فی هذه العبارة عن مبدیءٍ نحمده ونثنی علیه.
ولکن لم هذا الحمد والثناء؟ قال علیه السلام:
«نَحْمَدُهُ عَلَی عَظِیمِ إِحْسَانِهِ، ونَیِّرِ بُرْهَانِهِ، ونَوَامِی(2) فَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ».
العبارة:
«عَظِیمِ إِحْسَانِهِ» یمکن أن تکون إشارة إلی نعمة الإیمان والاعتقاد الخالص باللّه تعالی بقرینة
«نَیِّرِ بُرْهَانِهِ» التی تشیر إلی الأدلّة الواضحة، وکما یمکن أن تکون إشارة إلی نعمة الحیاة والخلق التی تعدّ من أعظم نعم اللّه، إلّاأنّ التفسیر الأوّل أنسب، والعبارة:
«ونَوَامِی فَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ» إشارة إلی تکامل الإنسان فی المجالات المادیّة والمعنویّة والتی تعدّ من النعم الإلهیّة الکبری.
ثم خاض علیه السلام فی بیان کیفیة هذا الحمد فقال:
«حَمْداً یَکُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً، ولِشُکْرِهِ أَدَاءً، وإِلَی ثَوَابِهِ مُقَرِّباً، وَلِحُسْنِ مَزِیدِهِ مُوجِباً».
من البدیهی أن لا یسع أحد أداء حقّ الشکر والحمد للّه تبارک وتعالی، ویعجز عن ذلک حتی جمیع الأنبیاء والأولیاء والملائکة المقرّبین، وعلیه فالمراد من الأداء ما کان فی وسع الإنسان والذی یوجب ثواب اللّه ونیل المزید من نعمه.
وعلی هذا الأساس تطرق فی هذه الجملات الحکیمة، تارة الصفات الإلهیّة وإحسانه ونِعمه، وتارة أخری إلی أساس النعم المتنوعة الإلهیّة وأصولها، وفی الثالثة إلی کیفیة الحمد والشکر، وبذلک تطرق إلی مجموعة کاملة من الصفات الإلهیّة ونعمه.
ثم تطرق بعد الحمد - کما ورد شبیه ذلک فی سورة الفاتحة - إلی الاستعانة باللّه
ص:14
تبارک وتعالی فقال:
«ونَسْتَعِینُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاج لِفَضْلِهِ، مُؤَمِّل لِنَفْعِهِ، وَاثِق بِدَفْعِهِ، مُعْتَرِف لَهُ بِالطَّوْلِ(1) ، مُذْعِن(2) لَهُ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ».
تشیر هذه العبارات الخمس إلی مواضیع متنوعة؛ الأوّل: الحدیث عن الأمل بفضل اللّه فی الأمور المعنویّة، والثانی: الأمل والرجاء فی المنافع والمصالح المادیّة، والثالث: الثقة بدفع الآفات والمضرّات عن العباد، والرابع: مقام الاعتراف بالنعم، وأخیراً أداء حقّ الشکر بالقول والعمل.
فقد اتّجه الإمام علیه السلام بعد بیانه لما یستحق اللّه تعالی من حمد واستعانة تامة بذاته المقدّسة الإفصاح عن إیمانه بالذات المقدّسة، وهو الإیمان الذی انطوی علی جمیع المزایا فقال علیه السلام:
«ونُؤْمِنُ بِهِ إِیمَانَ مَنْ رَجَاهُ مُوقِناً، وأَنَابَ إِلَیْهِ مُؤْمِناً، وخَنَعَ(3) لَهُ مُذْعِناً، وأَخْلَصَ لَهُ مُوَحِّداً، وعَظَّمَهُ مُمَجِّداً، ولاَذَ بِهِ رَاغِباً مُجْتَهِداً».
حقّاً إنّ الإیمان الذی ینطوی علی کلّ هذه الصفات ویختزن کلّ هذه الآثار لهو أرفع إیماناً وأرسخ عقیدة، ولا یتأتّی مثل هذا الإیمان إلّامن خلال تطهیر القلب من دنس المعصیة والإبتعاد عن الأهواء والسعی إلی تهذیب النفس والتوجه إلی اللّه سبحانه وتعالی، ولعلّ هنالک من یتساءل: لماذا استهل الإمام علیه السلام کلامه بحمد اللّه والثناء علیه ثم استعان بذاته المقدّسة لیتجه أخیراً إلی الإیمان، والحال أنّ الإیمان هو دافع الحمد والاستعانة؟
والجواب عن ذلک، إنّ الإیمان الذی تطرق إلیه الإمام علیه السلام هنا هو الإیمان الجامع للکمال، والذی لا یحصل إلّابعد حمد اللّه والإستعانة بذاته المقدّسة وما وجب سابقاً قبل الحمد والإستعانة إنّما یمثل المراحل الابتدائیة للإیمان.
***
ص:15
ص:16
لَمْ یُولَدْ سُبْحَانَهُ فَیَکُونَ فِی الْعِزِّ مُشَارَکاً، ولَمْ یَلِدْ فَیَکُونَ مَوْرُوثاً هَالِکاً.
ولَمْ یَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ ولَا زَمَانٌ، ولَمْ یَتَعَاوَرْهُ زِیَادَةٌ ولَا نُقْصَانٌ، بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلاَمَاتِ التَّدْبِیرِ الْمُتْقَنِ، وَالْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ. فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ مُوَطَّدَات بِلاَ عَمَد، قَائِمَات بِلاَ سَنَد. دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَات مُذْعِنَات، غَیْرَ مُتَلَکِّئَات ولَا مُبْطِئَات؛ ولَوْلاَ إِقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِیَّةِ وإِذْعَانُهُنَّ بِالطَّوَاعِیَةِ، لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ، ولَا مَسْکَناً لِمَلاَئِکَتِهِ، ولَا مَصْعَداً لِلْکَلِمِ الطَّیِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ.
قال الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة - فی مواصلة شرح صفات اللّه التی تصدرت بها الخطبة:
«لَمْ یُولَدْ سُبْحَانَهُ فَیَکُونَ فِی الْعِزِّ مُشَارَکاً، ولَمْ یَلِدْ فَیَکُونَ مَوْرُوثاً هَالِکاً، ولَمْ یَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ ولَا زَمَانٌ، ولَمْ یَتَعَاوَرْهُ(1) زِیَادَةٌ ولَا نُقْصَانٌ».
إنّ من بین القوانین التی تحکم عالم المادة والممکنات أنّ کلّ جماعة ترد الحیاة تفارقها بعد مدّة لتحل محلها طائفة أخری، فالأبناء یرثون صفات الآباء، کما ینقل هؤلاء صفاتهم إلی الأبناء، وبما أنّ الذات الإلهیّة أزلیّة وأبدیّة فهی لم تولد من أحد لیکون لها مثیل ولم یولد منها أحد لیرثها.
ص:17
والعبارة:
«ولَمْ یَتَقَدَّمْهُ...» إشارة إلی أنّه یفوق الزمان؛ لأنّ الزمان نتیجة لحرکة الموجودات من النقص إلی الکمال وبالعکس، وبما أنّ وجوده المقدّس عین کماله المطلق ولیس للزیادة والنقصان من سبیل إلی ذاته فلا معنی لطرو الوقت والزمان علیه(1).
وحیث إنّ نفی الشبیه والنظیر والزمان والزیادة والنقصان عن ذاته القدسیّة ربّما یخلق وهماً یتمثل فی تعطیل معرفة اللّه، وبعبارة أخری إنعدام السبیل إلی معرفته؛ فقد قال:
«بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلاَمَاتِ التَّدْبِیرِ الْمُتْقَنِ، وَالْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ».
إشارة إلی أنّ الذات القدسیّة وإن کانت خارجة عن متناول العقول البشریّة إلّاأنّ إثبات أصل وجودها ممکن من خلال تأمّل نظام الخلیقة والتدبیر الحکیم الذی یحکمه، وهذا ما أشارت إلیه بعض الروایات الإسلامیّة التی حثت علی عدم الاستغراق فی الذات المقدّسة، بل التفکیر فی آثار قدرته وعظمته وعلمه فی عالم الوجود، الأمر الذی جعله القرآن الکریم محوراً فی معرفة اللّه ودعی أصحاب الفکر وأولوا الألباب إلی التفکیر علی الدوام فقال تعالی: «اِنَّ فِی خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّیْلِ وَالنَّهَارِ لآیَاتٍ لِاُولِی الأَلْبَابِ * الَّذِینَ یَذْکُرُونَ اللّهُ قِیَاماً وَقُعُوداً وَعَلَی جُنُوبِهِمْ وَیَتَفَکَّرُونَ فِی خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَکَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(2).
ثم رکز الإمام علیه السلام علی مصادیق هذا البیان الکلّی والعام فقال:
«فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ مُوَطَّدَات(3) بِلاَ عَمَد(4) ، قَائِمَات بِلاَ سَنَد(5)».
ص:18
ثم أشار إلی هذه الحقیقة:
«دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَات مُذْعِنَات، غَیْرَ مُتَلَکِّئَات(1) ولَا مُبْطِئَات».
یبدو هنالک رأیان بشأن المراد من طاعة السماوات لأوامر اللّه وإقرارها بربوبیّته تعالی؛ قال البعض: إنّ المراد الإقرار والطاعة بلسان الحال، أی أنّ اللّه سبحانه وتعالی خلقها بهذه الصیغة بحیث تعیش حالة التسلیم له من حیث نظام العلّة والمعلول وقوانین الخلق دون أن یکون لها أیّة إرادة أو علم، لأنّها موجودات جامدة ولا روح لها.
وقال البعض: إنّ العبارات أعلاه تدلّ علی أنّ جمیع عالم الوجود - من الإنسان والحیوان والجماد وجمیع الکواکب السماویّة - له عقل وشعور، وقد أقرّوا بإرادتهم علی ربوبیّته تعالی وأذعنوا له بالطاعة.
طبعاً هذان التفسیران صحیحان ولا یختلفان عمّا أراد الإمام علیه السلام بیانه، لأنّ الهدف بیان عظمة الخلق وتسلیم عالم الوجود لأمر اللّه تبارک وتعالی.
ثم قال علیه السلام:
«وَلَوْلاَ إِقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِیَّةِ وإِذْعَانُهُنَّ بِالطَّوَاعِیَةِ(2) ، لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ، ولَا مَسْکَناً لِمَلاَئِکَتِهِ، ولَا مَصْعَداً(3) لِلْکَلِمِ الطَّیِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ».
أشار الإمام علیه السلام فی هذه العبارة إلی أنّ طاعة السماوات لأوامر اللّه منحها ثلاثة امتیازات: الأوّل: أنّها موضع عرش اللّه، والثانی: مسکن لملائکته، والثالث: موضع لصعود الأعمال والأقوال الصالحة للعباد؛ بمعنی أنّ حفظة الأعمال وکتبة الأفعال
ص:19
تکتبها فی سجل الأعمال ویرفع إلی السماء ما یستحق منها القرب الإلهی.
ومن الطبیعی أن یختار اللّه تعالی موضعاً لهذه الأمور خاضعاً لسیطرته وهیمنته، وبعبارة أخری بما أنّ جمیع السماوات فی قبضته فقد أسبغ علیها تلک الأمور، والتعبیر بالملائکة فی العبارة المذکورة إشارة إلی الملائکة المقربین، وإلّا فللملائکة حضور فی العالم برمته من أرض وسماء.
وأمّا حقیقة العرش فهذا ما سیأتی شرحه فی هذه الخطبة إن شاء اللّه.
***
ص:20
جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْلاَماً یَسْتَدِلُّ بِهَا الْحَیْرَانُ فِی مُخْتَلِفِ فِجَاجِ الأَقْطَارِ، لَمْ یَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا ادْلِهْمَامُ سُجُفِ اللَّیْلِ الْمُظْلِمِ، ولَا اسْتَطَاعَتْ جَلاَبِیبُ سَوَادِ الْحَنَادِسِ أَنْ تَرُدَّ مَا شَاعَ فِی السَّمَاوَاتِ مِنْ تَلأْلُؤ نُورِ الْقَمَرِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَایَخْفَی عَلَیْهِ سَوَادُ غَسَق دَاج، وَلَا لَیْل سَاج، فِی بِقَاعِ الأَرَضِینَ الْمُتَطَأْطِئَاتِ، ولَا فِی یَفَاعِ السُّفْعِ الْمُتَجَاوِرَاتِ؛ ومَا یَتَجَلْجَلُ بِهِ الرَّعْدُ فِی أُفُقِ السَّمَاءِ، ومَا تَلاَشَتْ عَنْهُ بُرُوقُ الْغَمَامِ، ومَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة تُزِیلُهَا عَنْ مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ الأَنْوَاءِ وانْهِطَالُ السَّمَاءِ! ویَعْلَمُ مَسْقَطَ الْقَطْرَةِ ومَقَرَّهَا، ومَسْحَبَ الذَّرَّةِ ومَجَرَّهَا، ومَا یَکْفِی الْبَعُوضَةَ مِنْ قُوتِهَا، ومَا تَحْمِلُ الاُْنْثَی فِی بَطْنِهَا.
تطرق الإمام علیه السلام فی مواصلته لبیان آثار عظمة اللّه فی عجائب السماوات فی العالم العلوی عن القمر والنجوم حیث قال ابن أبی الحدید: إنّ هذا القسم من کلام الإمام علیه السلام بیان لتوحید اللّه وتمجیده بأحسن وجه وبأفصح الکلام وأجمل العبارات حیث قال علیه السلام:
«جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْلاَماً یَسْتَدِلُّ بِهَا الْحَیْرَانُ فِی مُخْتَلِفِ فِجَاجِ(1) الأَقْطَارِ(2)».
ص:21
هذه العبارة إشارة إلی ما ورد کراراً فی القرآن الکریم بشأن النجوم: «وَبِالنَّجْمِ هُمْ یَهْتَدُونَ»(1).
وقال تعالی فی موضع آخر: «وَهُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِی ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ»(2).
نعلم أنّ النجوم الثابتة التی تشکل تقریباً أغلب کواکب السماء إنّما تطلع من نقاط معینة وتغیب فی أخری معینة کذلک وأنّ مواضعها فی السماء من شأنها تعیین الجهات الأربع الشمال والجنوب والشرق والغرب وتعدّ أفضل وسائل للإهتداء فی الأسفار الطویلة خلال اللیالی المظلمة فی الصحاری والبحار.
ثم أشار علیه السلام إلی نقطة بدیعة أخری فقال:
«لَمْ یَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا ادْلِهْمَامُ(3) سُجُفِ(4) اللَّیْلِ الْمُظْلِمِ، ولَا اسْتَطَاعَتْ جَلاَبِیبُ(5) سَوَادِ الْحَنَادِسِ(6) أَنْ تَرُدَّ مَا شَاعَ فِی السَّمَاوَاتِ مِنْ تَلاَْلُونُورِ الْقَمَرِ».
فقد أشار الإمام علیه السلام فی الواقع إلی نکتة ظریفة إلی أنّ اللّه سبحانه وتعالی خلق ظلمة اللیل کنعمة کبیرة لهدوء المخلوقات وراحتها من جانب، ومن جانب آخر جعل النجوم لیهتدی بها فی الصحاری والبحار وخلق القمر منیراً، إلّاأنّ هذین المصدرین المضیئین خُلقا بحیث لا یقضیان علی عتمة اللیل، والجمع بین هذا النور والظلمة بهدفین مختلفین نموذج لقدرته المطلقة سبحانه.
ص:22
وما أن فرغ الإمام علیه السلام من بیان آثار عظمة اللّه وقدرته فی عالم الخلق حتی تطرق لسعة علمه وإحاطته بجمیع الموجودات فی الأرض والسماء؛ حتی أشار بشرح رائع إلی عشرة موارد منها تجسد سعة علمه سبحانه فقال:
«فَسُبْحَانَ مَنْ لَایَخْفَی عَلَیْهِ سَوَادُ غَسَق(1) دَاج(2) ، وَلَا لَیْل سَاج(3) ، فِی بِقَاعِ الأَرَضِینَ الْمُتَطَأْطِئَاتِ(4) ، ولَا فِی یَفَاعِ(5) السُّفْعِ(6) الْمُتَجَاوِرَاتِ؛ ومَا یَتَجَلْجَلُ(7) بِهِ الرَّعْدُ فِی أُفُقِ السَّمَاءِ، ومَا تَلاَشَتْ(8) عَنْهُ بُرُوقُ الْغَمَامِ، ومَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة تُزِیلُهَا عَنْ مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ(9) الأَنْوَاءِ(10) وانْهِطَالُ(11) السَّمَاءِ! ویَعْلَمُ مَسْقَطَ الْقَطْرَةِ ومَقَرَّهَا، ومَسْحَبَ(12) الذَّرَّةِ ومَجَرَّهَا(13) ، ومَا یَکْفِی الْبَعُوضَةَ مِنْ قُوتِهَا، ومَا تَحْمِلُ الاُْنْثَی فِی بَطْنِهَا».
حقّاً إنّ تأمّل عبارة الإمام علیه السلام بشأن علم اللّه تبارک وتعالی بجمیع الکائنات فی السماوات والأرض التی تجعل أعظم الأشیاء وأصغر الموجودات وأخفی المخلوقات یغوص فی بحرٍ من التفکیر هل بالإمکان خفاء أعمالنا وأقوالنا، بل نیّاتنا وأفکارنا علی اللّه تبارک وتعالی المحیط بکلّ شیء؟ وهذه أحد أهم الآثار التربویّة للإیمان بسعة علم اللّه وإحاطته بجمیع الأشیاء.
والطریف أنّ الإمام علیه السلام حین یتحدّث عن ظلمة اللیل أو سکونه یشیر إلی آثاره المختلفة فی مختلف بقاع الأرض من قمم الجبال إلی سفوحها، وحین یتحدّث عن
ص:23
تساقط الأوراق یخوض فی جملة الأسباب التی تؤدّی إلی هذا التساقط، وبالتالی حین یتطرق إلی هطول قطرات المطر لا ینسی الحدیث عن مواضع استقراره فی جوف الأرض الذی یعدّ خزاناً مبارکاً لتلک المیاه، وحین یتحدّث عن طعام ذبابة یشیر إلیه بمقدار، وهذا بدوره ما یجعل هذه الخطبة فی مصاف أفصح وأبلغ خطب نهج البلاغة، وهی الفصاحة والبلاغة التی بلغت حدّ الإعجاز.
جدیر بالذکر أنّ لأغلب هذه التعبیرات جذوراً فی الآیات القرآنیّة، فاللّه تبارک وتعالی حین یشیر إلی علمه بجمیع الموجودات یقول: «اللّهُ یَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ کُلُّ أُنثی وَمَا تَغِیضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَکُلُّ شَیء عِنْدَهُ بِمِقْدَار»(1) ویقول تعالی فی موضع آخر: «اِنَّ اللّهُ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَیُنَزِّلُ الْغَیْثَ وَیَعْلَمُ مَا فِی الأَرْحَامِ»(2).
تضمنت الخطبة إشارة إلی عواصف الأنواء التی تستحق المزید من الشرح، فأنواء جمع نوء علی وزن نوع تعنی لغویاً طلوع النجوم أو غروبها، إلّاأنّهم اقتصروا علی معنی الطلوع، وإن أضاف البعض إلیها الغروب واعتبرها من مفردات الأضداد، ومن العقائد السائدة لدی العرب أنّ القمر یطوی 28 منزلاً خلال دورته حول نفسه ویستغرق کلّ منزل 13 یوماً، وتقترن بدایة کلّ منزل بطلوع نجم فی المشرق وغروب آخر فی المغرب، کما یعتقدون بحصول تغییر فی الجو وسقوط مطر أو هبوب ریاح یتزامن مع بدایة کلّ منزل، ومن هنا کانوا یقولون: (مُطِرنا بنوء فلان)، وقد اتخذ هذا الاعتقاد صیغة خرافیة بالتدریج لیعتقدوا بأنّ هذا النجم هو العنصر المسبب لنزول الأمطار ولابدّ من التضرع إلیه بغیة نزول المطر.
ص:24
ذکر العلّامة المجلسی رحمه الله فی الجزء 55 من بحار الأنوار باباً مفصلاً حمل عنوان:
«فی النهی عن الاستمطار بالأنواء والطیرة والعدوی» ونقل فیه عدّة روایات بهذا الشأن منها ما روی عن الإمام الباقر علیه السلام:
«ثَلاثَةٌ مِنْ عَمَلِ الْجاهِلَیّةِ، الْفَخْرُ بِالاَْنْسابِ والطَّعْنُ فِی الأَحْسابِ والاسْتِسْقاءُ بِالاَْنْواءِ»(1).
والذی تجدر الإشارة إلیه هنا أنّ أحداً لوطرح الموضوع بصیغة بحث فلکی وقال باقتران هبوب ریاح شدیدة أو سقوط مطر فی کلّ منزل من المنازل الثمانیة والعشرین بأمر اللّه فإنّه لم یجانب الحقیقة، ولیس هناک من نهی عن هذا الکلام، غیر أنّ عرب الجاهلیة نسبوا هبوب الریاح وهطول الأمطار إلی تلک الأنواء وهذا نوع من الشرک، لأنّهم قالوا باستقلالیة تلک الأنواء بعیداً عن إرادة اللّه، من هنا یتّضح عدم وجود أی إشکال فی عبارة الإمام:
«تُزِیلُهَا عَنْ مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ الأَنْوَاءِ» لأنّ مراد الإمام علیه السلام أنّ کل ما اقترن بطلوع وغروب هذه الأنواء تابع لإذن اللّه وأوامره.
***
ص:25
ص:26
وَالْحَمْدُ للّهِ الْکَائِنِ قَبْلَ أَنْ یَکُونَ کُرْسِیٌّ أَوعَرْشٌ، أَوسَمَاءٌ أَوأَرْضٌ، أَوجَانٌّ أَوإِنْسٌ. لَایُدْرَکُ بِوَهْم، ولَا یُقَدَّرُ بِفَهْم، ولَا یَشْغَلُهُ سَائِلٌ، ولَا یَنْقُصُهُ نَائِلٌ، ولَا یَنْظُرُ بِعَیْن، ولاَ یُحَدُّ بِأَیْن، ولاَ یُوصَفُ بِالاَْزْوَاجِ، ولاَ یُخْلَقُ بِعَلاَج، ولاَ یُدْرَکُ بِالْحَوَاسِّ، وَلَا یُقَاسُ بِالنَّاسِ. الَّذِی کَلَّمَ مُوسَی تَکْلِیماً، وأَرَاهُ مِنْ آیَاتِهِ عَظِیماً؛ بِلاَ جَوَارِحَ وَلَا أَدَوَات، وَلَا نُطْق وَلَا لَهَوَات. بَلْ إِنْ کُنْتَ صَادِقاً أَیُّهَا الْمُتَکَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّکَ، فَصِفْ جِبْرِیلَ ومِیکَائِیلَ وجُنُودَ الْمَلاَئِکَةِ الْمُقَرَّبِینَ، فِی حُجُرَاتِ الْقُدُسِ مُرْجَحِنِّینَ، مُتَوَلِّهَةً عَقُولُهُمْ أَنْ یَحُدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقِینَ. فَإِنَّمَا یُدْرَکُ بِالصِّفَاتِ ذَوُوالْهَیْئَاتِ وَالأَدوَاتِ، ومَنْ یَنْقَضِی إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ. فَلاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ، أَضَاءَ بِنُورِهِ کُلَّ ظَلاَم، وأَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ کُلَّ نُور.
تابع الإمام علیه السلام بیان صفات اللّه تعالی بعد أن أشار إلی عظمة الخالق وقدرته وذکر آیاته فی عالم الوجود، فشرح فی هذا القسم جانباً مهمّاً من الصفات الثبوتیّة والسلبیّة والصفات الفعلیة بصورة رائعة فأتمّ درسه لمخاطبیه فی سبیل معرفة اللّه، فقد تحدّث فی بادئ الأمر عن أزلیّة اللّه تبارک وتعالی المقرونة بالأبدیّة فقال علیه السلام:
«وَالْحَمْدُ للّهِ الْکَائِنِ قَبْلَ أَنْ یَکُونَ کُرْسِیٌّ أَوعَرْشٌ، أَوسَمَاءٌ أَوأَرْضٌ، أَوجَانٌّ أَوإِنْسٌ».
ص:27
فالأمور الستة هذه إشارة إلی تکوین العالم، ذلک لأنّها الأصل والأساس وما سواها تابع لها، علی کلّ حال فإنّ هذه العبارة إشارة إلی أهم صفاته الجمالیّة سبحانه والتی تعود إلیها سائر الصفات وهی عدم تناهی ذاته القدسیّة من جمیع الجهات، فلکل المخلوقات زمان وتاریخ لحدوثها سوی الذات القدسیّة التی کانت منذ الأزل وستبقی إلی الأبد، ومن هنا أشار إثر ذلک إلی إحدی عشرة صفة من صفاته السلبیّة والتی تنبع جمیعها من ذاته القدسیّة اللامتناهیّة.
فقال فی العبارة الأولی والثانیة:
«لَا یُدْرَکُ بِوَهْم، وَلَا یُقَدَّرُ بِفَهْم».
ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ الفارق بین هاتین العبارتین هو أنّ الوهم هنا إشارة إلی القوّة التی تدرک الجزئیات، والفهم إشارة إلی إدراک الکلیات، وهنالک احتمال آخر هو أنّ الوهم إشارة إلی قوّة الحدس والفرض، والفهم إشارة إلی الإدراک والیقین، أی لا یمکن الوصول إلیه تعالی عن طریق العلم ولا الحدس ولا الظن، أضف إلی ذلک أنّ العبارة الأُولی إشارة إلی إدراک أصل وجوده، والعبارة الثانیة إشارة إلی قیاس ذاته القدسیّة وبما أنّها لامتناهیّة فهی لا تدرک بوهم ولا تقاس بعقل.
ثم قال فی الصفتین السلبیتین الثالثة والرابعة:
«وَلَا یَشْغَلُهُ سَائِلٌ، وَلَا یَنْقُصُهُ نَائِلٌ(1)».
إنّ الإنسان مهما کان ذکیاً وفطناً إن تحدّث إلیه شخص أو عدّة أشخاص بشأن موضوع مهم لا یسعه إدراک مطلب الآخرین، أو تعامله مع شخص یحول دونه والآخرین، ذلک لأنّه وجود محدود ومتناهٍ، أمّا الذات الإلهیّة القدسیّة فلا یضیق بها التعامل مع جمیع المخلوقات وفی آن واحد فهی تسمع أصواتهم وتقضی حاجاتهم وتعلم بنیّاتهم ولا یشغلها سائل عن آخر، وکذلک لو طرق جمیع العباد باب اللّه وسألوه ما سألوا وضمن لهم الإجابة لما نقص شیء من ملکه وخزائنه، بل لما شکل
ص:28
ذلک قطرة من بحر جوده، کیف لا وهو الخلّاق لما یشاء وفیضه غنی عن الحدود(1).
ثم قال علیه السلام: فی الصفتین الخامسة والسادسة:
«وَلَا یَنْظُرُ بِعَیْن، وَلَا یُحَدُّ بِأَیْن(2)».
أجل! إنّه یری کلّ شیء وکل مکان والعالم برمّته حاضر عنده، مع ذلک لیس له عین ولا مکان، لإنّه أسمی من الزمان والمکان والعوارض الجسمیّة.
ثم قال علیه السلام فی الصفتین السابعة والثامنة:
«وَلَا یُوصَفُ بِالاَْزْوَاجِ(3) ، وَلَا یُخْلَقُ بِعَلاَج».
ذکروا عدّة معانٍ لأزواج منها: جمع زوج مثل النظیر والقرین والزوج والشبیه والمثیل والضد والترکیب، ولا مانع من جمع کلّ هذه المفاهیم فی العبارة السابقة، أی أنّ اللّه منزّه عن کلّ هذه الأمور، والعبارة
«لَا یُخْلَقُ بِعَلاَجٍ» إشارة إلی الناس وأشباههم إن أرادوا خلق شیء - أو بتعبیر أدق - إن أرادوا ترکیب هیئة من أشیاء إنّما یستعینون ببعض الوسائل التی قد تکون بسیطة وأخری صعبة، والخالق الوحید الذی لا یحتاج إلی أیّة وسائل وأدوات هو الحقّ سبحانه وتعالی(4) ، بل أبعد من ذلک کما قال القرآن الکریم: «اِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ»(5).
ثم قال فی الصفتین التاسعة والعاشرة من صفاته السلبیّة سبحانه:
«وَلَا یُدْرَکُ بِالْحَوَاسِّ، وَلَا یُقَاسُ بِالنَّاسِ».
إننا نعلم بأنّ دائرة حواس الإنسان هی الأجسام المادیّة، وعلیه فالذات القدسیّة
ص:29
التی تفوق عالم المادة لا تدرک إلّابالعقل والفکر، ویخطئ أولئک الذین یعتقدون بإمکانیّة رؤیة اللّه تعالی فی الدنیا والآخرة بهذه العین.
العبارة:
«لَا یُقَاسُ بِالنَّاسِ» تشیر إلی أصل کلّی بشأن صفات اللّه تعالی فی عدم إمکانیّة مقارنة هذه الصفات بصفات المخلوق فإنّ ذلک ینتهی إلی الضلالة، وهذا المعنی ورد فی الخطبة الأُولی من نهج البلاغة:
«وکَمالُ الاِْخْلاصِ لَهُ نَفْیُ الصِّفاتِ عَنْهُ».
وقال أخیراً فی بیان آخر الصفات:
«الَّذِی کَلَّمَ مُوسَی تَکْلِیماً، وأَرَاهُ مِنْ آیَاتِهِ عَظِیماً؛ بِلاَ جَوَارِحَ وَلَا أَدَوَات، وَلَا نُطْق وَلَا لَهَوَات(1)».
بما أنّه نقل فی السابق مختلف الصفات وأثبتها للّه تعالی بأکمل وجه، فقد خاض هنا فی مسألة تکلّم اللّه سبحانه وتعالی وأوضح أنّ اللّه کلّم موسی علیه السلام ولکن لیس علی غرار الناس الذین یتکلّمون بواسطة اللسان والفم والأمواج الصوتیة وأداء الحروف، بل یخلق الأمواج الصوتیة لیتحدّث بواسطتها مع موسی علیه السلام، فکان موسی یسمع الکلام من ست جهات وهذا من عظمة آیات اللّه دون الحاجة إلی الجوارح والأعضاء الصوتیة، وظاهر کلام الإمام علیه السلام أنّ عظمة آیات اللّه هو سماع کلامه سبحانه من الجهات الست، والشاهد علی ذلک قوله علیه السلام:
«بِلاَ جَوَارِحَ وَلَا أَدَوَات، وَلَا نُطْق وَلَا لَهَوَات».
الاحتمال الآخر الذی ذکره شرّاح نهج البلاغة بهذا الشأن أنّ المراد من عظیم آیاته المعجزات التسع التی حبی بها موسی بن عمران(2) ، ولکن یبدو هذا الاحتمال بعیداً ولا ینسجم مع سیاق کلام الإمام علیه السلام فهو لا یخلو من تکلّف ومخالفة الظاهر،
ص:30
ویحتمل أن یکون المراد معجزتی العصا والید البیضاء التی اقترنت بتکلیم موسی علیه السلام.
علی کلّ حال فلا یصح إطلاق صفة الناطق أو اللافظ علی اللّه تبارک وتعالی، هذین اللفظین یشیران إلی حرکة اللسان ومخارج الحروف والأمواج الصوتیة التی یتنزّه عنها اللّه تبارک وتعالی، بینما یصح إطلاق لفظ المتکلّم علی اللّه لأنّه یوجد الکلام ویخلق الأمواج الصوتیة فی ست جهات کی لا یتصور موسی والآخرون أنّ اللّه یحویه مکان.
ثم خاض الإمام علیه السلام فی مطلبین آخرین بهدف إکمال هذه الصفات وإثبات عجز الفکر البشری عن تبیانه لحقیقة اللّه تبارک وتعالی فقال فی الأُولی:
«بَلْ إِنْ کُنْتَ صَادِقاً أَیُّهَا الْمُتَکَلِّفُ(1) لِوَصْفِ رَبِّکَ، فَصِفْ جِبْرِیلَ ومِیکَائِیلَ وجُنُودَ الْمَلاَئِکَةِ الْمُقَرَّبِینَ، فِی حُجُرَاتِ الْقُدُسِ مُرْجَحِنِّینَ(2) ، مُتَوَلِّهَةً(3) عَقُولُهُمْ أَنْ یَحُدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقِینَ».
إشارة إلی أنّ الإنسان الذی یعجز عن بیان صفات ملائکة اللّه المقرّبین ولا یسعه إدراک حقیقة وجودها وحقیقة صفاتها، فکیف یتوقع إدراک صفات الخالق ویستوعب فی حیزه الفکری صفاته الجمالیّة والجلالیّة، مع العلم أنّ الملائکة الذین نعجز عن بیان صفاتهم یعیشون حالة الحیرة ضمن دائرتهم.
ثم خاض علیه السلام فی النقطة الثانیة التی تعدّ دلیلاً عقلیاً واضحاً فقال:
«فَإِنَّمَا یُدْرَکُ بِالصِّفَاتِ ذَوُوالْهَیْئَاتِ وَالأَدْوَاتِ، ومَنْ یَنْقَضِی إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ».
ثم اختتم هذا القسم باستنتاج واضح فقال علیه السلام:
«فَلاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ، أَضَاءَ بِنُورِهِ کُلَّ ظَلاَم، وأَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ کُلَّ نُور».
ص:31
وقد رکز شرّاح نهج البلاغة فی تفسیرهم لهذه العبارة علی معنی مطابق؛ فقالوا:
المراد القضاء علی ظلمة اللیل بضیاء النهار وجمع ضیاء النهار بظلمة اللیل وجعل الظلمة المقرونة بالسکون والهدوء تعمّ کلّ مکان، بینما أخذ البعض الآخر المعنی الکنائی، فقال: إنّ المراد من الظلمات الأخلاق القبیحة التی تزول من روح الإنسان بنور معرفة اللّه، وبالمقابل فإنّ الأفراد الذین یعیشون ظلمة الجهل وعدم معرفة اللّه إنّما تزول عن وجودهم أنوار الفضیلة والأخلاق الإنسانیّة.
نعم، لیست هنالک من حاجة للتفسیر الکنائی استناداً إلی إمکانیّة التفسیر علی ضوء المعنی المقارن وعدم وجود القرینة علی المعنی الکنائی وإن أمکن الجمع بین المعنیین.
ذکرنا کراراً أنّ طریق معرفة اللّه صعب بنفس الدرجة التی یتّضح فیها السلوک إلیه والتعرف علیه، وبعبارة أخری فإنّ العلم بوجود اللّه عن طریق تدبر أسرار الخلق فی الأرض والسماء والوقوف علی عجائب الخلقة أمر فی غایة الصعوبة، فکلّ إنسان مهما کان لدیه من علم وشعور یری آثار علمه وقدرته وعظمته تعالی فی کلّ مکان وفی کلّ شیء، ولکن یستحیل علیه فهم کنه ذاته وصفاته، ذلک لأنّه کما ذکر الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة أننا نعانی من القیاس المضل بهذا الشأن، فلیس لنا حظ سوی معرفة الصفات بواسطة الوسائل والأدوات والمقرونة بالزمان والمکان، فکان من الطبیعی أن یتعذر علینا إدراک ما یفوق الزمان والمکان والأدوات واللامتناهی من حیث الوجود والصفات، أو بتعبیر:
«ما لِتُراب وربِّ الأَرْبابِ».
إننا لنعجز عن إدراک صفات بعض المخلوقات الأسمی کالملائکة المقرّبین - کما أشار إلی ذلک الإمام علیه السلام فی الخطبة - فضلاً عن إدراک صفات خالقها، وعلی هذا
ص:32
الأساس أُمرنا بالإکتفاء بالعلم الإجمالی فی مرحلة إدراک کنه الذات والصفات، وأن لا نسعی للوصول للعلم التفصیلی فهو خارج عن طاقتنا، علی سبیل المثال إننا نعلم أنّ اللّه عالم بکلّ شیء وقادر علی کلّ شیء، ولکن هل علمه عن طریق الصور الذهنیة کالذی علیه الأمر بالنسبة للإنسان؟ طبعاً لا! ولکن کیف ذلک، حقّاً إننا لا نعلم وهذه هی الحقیقة التی أشار إلیها الإمام علیه السلام کراراً فی خطب نهج البلاغة ولا سیما فی الخطبة 91 المعروفة بخطبة الأشباح، کما حذرنا سائر أئمّة الهدی علیهم السلام من سلوک هذا الوادی وقد نقل المرحوم الکلینی فی الکافی والصدوق فی کتاب التوحید بعض نماذج ذلک.
یذکر أنّ عبد الملک بن أعین أحد أصحاب الإمام الصادق علیه السلام کتب له رسالة أنّ طائفة فی العراق یصفون اللّه بالأوصاف الجسمیّة فطلب منه بیان المذهب الحقّ فی التوحید فکتب الإمام علیه السلام:
«سَألتَ عَنِ التَّوحِیدِ رَحِمَکَ اللّهُ، فاعلِم أنّ اللّهَ لَیسَ کَمِثِلِهِ شَیءٌ وَهوَ السَّمِیعُ البَصِیرُ، وأنّهُ أَسمَی مَنَ الصِّفاتِ الّتی یَشبَه بِها مَخلُوقَاتِهِ، وَاعلَم أنّ المَذهبَ الصَّحیح ما جَاءَ فِی القُرآنِ الکَریمِ فَنَزِّهُهُ عَنِ الشَّبُیهِ» (1)(إشارة إلی أنّه فی باب صفات اللّه أن لا نشبّهه بالمخلوقات وأن لا نعتقد بالعدم بصورة کلیّة بالاکتفاء بالمعرفة الإجمالیّة).
قیل الکثیر فی العرش والکرسی، وقد أسهبنا فی شرح العرش وحملته فی الخطبة الأُولی من نهج البلاغة(2).
تکررت مفردة العرش فی القرآن الکریم 20 مرّة، وإن لم تکن جمیعها متعلقة بالعرش الإلهی، کما ذکرت مفردة الکرسی مرتان تتعلق إحداهما فقط بکرسی اللّه
ص:33
کما وردت عبارة «العرش» فی نهج البلاغة سبع مرّات والکرسی مرّة واحدة فی هذه الخطبة، ورغم أنّ العرش یعنی المسند المعهود والأریکة التی ینصبها السلاطین ویجلسون علیها فی الأعیاد والمناسبات الرسمیة، ویعنی الکرسی الأریکة القصیرة الدعامة والتی یجلسون علیها فی الأیّام الاعتیادیة، ولکن قطعاً ما ورد فی القرآن ونهج البلاغة والروایات بشأن العرش والکرسی لیس المراد منه هذا المعنی وإنّما هی کنایة عن أمور أخری.
فقد اعتبر البعض العرش إشارة إلی مجموع عالم الوجود، بینما عدّه البعض الآخر علم اللّه تعالی، وذهبت طائفة ثالثة إلی أنّ المراد به صفات الجمال والجلال، کما فسّروا الکرسی بهذا المعنی أیضاً، وهناک من اعتبر الکرسی إشارة إلی تدبیر الأمور الجزئیّة للعالم والعرش بمعنی التدبیر الکلّی والأحدی والذی یفرز جمیع التدبیرات الجزئیّة، ولکن کما أشرنا سابقاً فإنّ ما یفهم من القرآن الکریم أنّ أحد معانی الکرسی علی الأقل مجموعة السماوات والأرض وعالم المادة أو الحاکمیّة علیه، والعرش إشارة إلی عالم الأرواح والملائکة وعالم ما وراء المادة أو الحاکمیّة علیها، ذلک أنّ القرآن الکریم قال فی آیة الکرسی: «وَسِعَ کُرْسِیُّهُ السَّمواتِ وَالأَرْضَ»(1) ومن الطبیعی أنّ العرش أسمی وأرفع من الکرسی، طبعاً ما ذکرناه هو أحد التفاسیر الواضحة للعرش والکرسی، وهناک بعض التفاسیر الأخری کما صرحت بها الروایات(2).
***
ص:34
أُوصِیکُمْ عِبَادَ اللّهِ بِتَقْوَی اللّهِ الَّذِی أَلْبَسَکُمُ الرِّیَاشَ، وأَسْبَغَ عَلَیْکُمُ الْمَعَاشَ؛ فَلَوأَنَّ أَحَداً یَجِدُ إِلَی الْبَقَاءِ سُلَّماً، أَولِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِیلاً، لَکَانَ ذلِکَ سُلَیْمَانُ بْنُ دَاوُودَ عَلَیْهِ السَّلاَمُ، الَّذِی سُخِّرَ لَهُ مُلْکُ الْجِنِّ والاِْنْسِ، مَعَ النُّبُوَّةِ وعَظِیمِ الزُّلْفَةِ. فَلَمَّا اسْتَوْفَی طُعْمَتَهُ، واسْتَکْمَلَ مُدَّتَهُ، رَمَتْهُ قِسِیُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ، وأَصْبَحَتِ الدِّیَارُ مِنْهُ خَالِیَةً، والْمَسَاکِنُ مُعَطَّلَةً، ووَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ. وإِنَّ لَکُمْ فِی الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً!
أَیْنَ الْعَمَالِقَةُ وأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ! أَیْنَ الْفَرَاعِنَةُ وأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ! أَیْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِینَ قَتَلُوا النَّبِیِّینَ، وأَطْفَأُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِینَ، وأَحْیَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِینَ! أَیْنَ الَّذِینَ سَارُوا بِالْجُیُوشِ، وهَزَمُوا بِالأُلُوفِ، وعَسْکَرُوا الْعَسَاکِرَ، ومَدَّنُوا الْمَدَائِنَ!
خاض الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة بعد الأبحاث المرتبطة بصفات الجمال والجلال وعظمة عالم الوجود بالأبعاد العملیّة، ذلک لأنّ الأعمال الصالحة إنّما تفرزها العقیدة الصالحة، فقد دعی الإمام علیه السلام الجمیع للتقوی إزاء تلک النعم التی أفاضها تعالی علی عباده فقال علیه السلام:
«أُوصِیکُمْ عِبَادَ اللّهِ بِتَقْوَی اللّهِ الَّذِی أَلْبَسَکُمُ الرِّیَاش(1) ، وأَسْبَغَ عَلَیْکُمُ الْمَعَاشَ».
ص:35
فقد أشار الإمام علیه السلام فی الواقع إلی نعمتین عظیمتین تعدان مصدراً لنعم جمّة أخری؛ النعمة الأُولی أنواع الثیاب التی تحفظ البدن من الحرارة والبرودة ومختلف المخاطر، وتضفی علی الإنسان الوقار والهیبة والاحترام وتمیّزه عن الحیوانات.
والنعمة الأخری المعاش، أی أنواع الرزق التی یحتاجها الإنسان فی حیاته، وللمعاش من مادة معیشة مفهوم واسع یشمل الطعام والماء والهواء والدواء والسکن، وجمیع مواهب الحیاة ولا یبدو صحیحاً ما تصوره البعض من أنّه یقتصر علی الماء والغذاء، ورغم أنّ هذا المفهوم عام إلّاأنّه یشمل أنواع الألبسة الفاخرة، ولکن ممکن ذکر ذلک بالخصوص بسبب أهمیّته الفائقة فی حیاة الإنسان.
وبما أنّ حبّ الدنیا رأس کلّ خطیئة فقد خاض الإمام علیه السلام فی تقلب أحوال الدنیا وزوالها ثم رکز علی مصداق واضح فقال علیه السلام:
«فَلَو أَنَّ أَحَداً یَجِدُ إِلَی الْبَقَاءِ سُلَّماً، أَو لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِیلا، لَکَانَ ذلِکَ سُلَیْمَانُ بْنُ دَاوُودَ عَلَیْهِ السَّلاَمُ، الَّذِی سُخِّرَ لَهُ مُلْکُ الْجِنِّ والاِْنْسِ، مَعَ النُّبُوَّةِ وعَظِیمِ الزُّلْفَةِ(1)».
نعم فسلیمان علیه السلام مع ما کان له من جلال وجبروت وقدرة وعزّة وکر وفر لم یستطع الحیلولة دون الموت لیغادر الدنیا فی الأجل المعین دون أدنی تأخیر أو تریث، ومن هنا واصل الإمام علیه السلام کلامه قائلاً:
«فَلَمَّا اسْتَوْفَی طُعْمَتَهُ، واسْتَکْمَلَ مُدَّتَهُ، رَمَتْهُ قِسِیُّ(2) الْفَنَاءِ بِنِبَالِ(3) الْمَوْتِ، وأَصْبَحَتِ الدِّیَارُ مِنْهُ خَالِیَةً، والْمَسَاکِنُ مُعَطَّلَةً، ووَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ».
یا له من تشبیه رائع! فقد شبّه الإمام علیه السلام قانون الفناء بالنبال التی تحمل الموت! وقد صوبت هذه النبال نحو الجمیع لتنتظر آخر لقمة طعام یتناولونها وآخر دقیقة عمر یقضونها لتصوب نحوهم سهام الموت فتصیب أهدافها، سواء کان هذا الهدف
ص:36
نملة ضعیفة أو سلیمان الذی سخرت له جنود الإنس والجن والوحش والطیر، والعجیب أنّ قانون الموت والفناء من القوانین التی لا تعرف من معنی للاستثناء، فهو یَطال الصالحین والسیئین والأتقیاء والأشقیاء والأقویاء والضعفاء دون أن یرحم أحداً أو یمهله مدّة: «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَایَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا یَسْتَقْدِمُونَ»(1) وسنورد بحثاً مهمّاً فی التأملات بشأن کیفیة موت سلیمان علیه السلام.
ثم خلص الإمام علیه السلام إلی هذه النتیجة:
«وإِنَّ لَکُمْ فِی الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً! أَیْنَ الْعَمَالِقَةُ وأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ! أَیْنَ الْفَرَاعِنَةُ وأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ! أَیْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِینَ قَتَلُوا النَّبِیِّینَ، وأَطْفَأُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِینَ، وأَحْیَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِینَ! أَیْنَ الَّذِینَ سَارُوا بِالْجُیُوشِ، وهَزَمُوا(2) بِالأُلُوفِ، وعَسْکَرُوا الْعَسَاکِرَ، ومَدَّنُوا الْمَدَائِنَ!».
فالإمام علیه السلام فی هذه العبارات العمیقة المعنی وعقب إشارته للاعتبار بموت سلیمان علیه السلام یسلط الضوء علی تاریخ البشریّة السالفة فیتطرق إلی ذوی النفوذ والقدرة الذین حکموا البلاد بقبضتهم الفولاذیة آنذاک ولم یبق منهم الیوم سوی حفنة من التراب مرکزاً علی طائفة معینة منهم فقد أشار بادئ الأمر إلی العمالقة الذین ینحدرون من العملاق أحد أحفاد نبی اللّه نوح علیه السلام ممن کانت لهم أجساد قویّة وضخمة وقد حکموا البلاد لسنین متمادیة.
ثم أشار إلی الفراعنة أی ملوک مصر الذین کانوا من أقوی ملوک التاریخ، بینما تطرق فی المرحلة الثالثة إلی أصحاب الرس (نهر الرس أو الأبار الملیئة بالماء التی کانت فی بعض مناطق ایران)، وهم أولئک الذین وقفوا بوجه الأنبیاء وقتلوهم وأطفأوا سنن اللّه وأحیوا سنن الظلمة.
وأشار فی المرحلة الأخیرة بصورة کلیة إلی الملوک المتجبرین السابقین کافّة
ص:37
الذین کانوا یمتلکون العدّة والعدد وشیّدوا المدن الجمیلة والرائعة، ولکن لم تکن عاقبتهم سوی الرکوع للموت ومغادرة العروش المذهبة والاکتفاء بحفرة صغیرة فی باطن الأرض.
خلافاً للتوراة المعاصرة التی تصور سلیمان علیه السلام کملک جبار وصانع للمعابد الوثنیة(1) یعتبره القرآن الکریم من الأنبیاء العظام ونموذجاً للقدرة والحاکمیة الاستثنائیة، وقد اختزنت سیرته العدید من الدروس والعبر للجمیع فالقرآن الکریم یصرح بأنّ اللّه سبحانه وتعالی أفاض علیه العدید من النعم فسخر له الریح التی تنقله من مکان إلی آخر وسخر له الإنس والجن وأفاض علیه العلم الجم حتی علّمه منطق الطیر وزوده بالعدید من الجنود والعمال، مع ذلک کان موته عبرة ودرساً، جاء فی بعض الروایات: أنّ سلیمان علیه السلام قال ذات یوم لأصحابه:
«إنّ اللّهَ قَد وَهبَ لُی مُلکاً عَظِیماً وَمَعَ جَمیعِ ما أُوتیتُ مِنَ المِلکِ ما تمّ لِی سُرورَ یَومٍ إلی اللّیلِ، وَقَد أَحببتُ أن أدخلَ قَصری فِی غَدٍ فأصعدِ أعلاهُ وَانظرُ إلی مَمالِکی فَلا تَأذَنُوا لأحدٍ بِالدُّخولِ عَلیَّ» فلما کان من الغد أخذ عصاه بیده وصعد إلی أعلی موضع من قصره ووقف متکئاً علی العصا ینظر إلی ممالکه مسروراً بما أوتی فرحاً بما أُعطی، إذ نظر إلی شاب حسن الوجه واللباس قد خرج علیه من بعض زوایا قصره فقال له سلیمان:
«مَنْ أَدخلکَ إلی هذا القّصر وَقَد أردتُ أن أخلُو فیهِ الیومَ فَبِإذن مَنْ دَخلتَ». فقال الشاب:
«أدخَلَنی هذا القَصر رَبّهُ وَبِإذنِه دَخلتُ». فقال:
«رَبُّهُ أَحَقُّ بهِ مِنّی فَمَنْ أنتُ؟» قال:
«أنا مَلَکُ المَوت». قال:
«وَفِیما جِئتَ». قال:
«لأَقبضَ رُوحکَ». قال سلیمان:
«إمضِ لِما أِمرتَ بِهِ فَهذا یَومُ سُروری وأبی اللّهُ عَزّ وَجلّ أنْ یَکونَ لِی
ص:38
سُرور دُونَ لِقائِهِ»، فقبض ملک الموت روحه وهو متکئاً علی عصاه (ولم یمنحه إذن الجلوس) وهو میت ما شاء اللّه والناس ینظرون إلیه وهم یقدرون أنّه حی فافتتنوا فیه واختلفوا فمنهم من قال إنّ سلیمان علیه السلام قد بقی متکئاً علی عصاه هذه الأیّام الکثیرة ولم یتعب ولم ینم ولم یأکل ولم یشرب، إنّه لربّنا الذی یجب علینا أن نعبده، وقال قوم إنّ سلیمان علیه السلام لساحر وأنّه یرینا أنّه واقف متکیء علی عصاه یسحر أعیینا ولیس کذلک، فقال المؤمنون: إنّ سلیمان هو عبد اللّه ونبیّه یدبر اللّه أمره بما شاء، فلما اختلفوا بعث اللّه الاُرضة فدبّت فی عصاه فلمّا أکلت جوفها انکسرت العصا وخرّ سلیمان علیه السلام علی وجهه فعلموا جمیعاً بموته(1).
وکما أشار الإمام علیه السلام فی الخطبة لما تمّ عمر سلیمان صوبت إلیه أقواس المنیّة وأصابه سهم الموت.
«عمالقة»: جمع «عملاق» اسم شخص من أحفاد نوح وإلیه تنسب قبیلة العمالقة وکان هؤلاء الأفراد أقویاء وأشداء ومقاتلین عاشوا فی شمال الحجاز لألفی سنة قبل المیلاد حسب بعض المؤرخین، هجموا علی مصر فاحتلوها وحکموها مدّة، ولکن حمل علیهم المصریون لسبعة عشر قرن قبل المیلاد فعادوا إلی جزیرة العرب وأقاموا فی الیمن والحجاز وسائر المناطق وشکلوا هناک بعض الدویلات ویری بعض المفسرین أنّ الجبابرة الذین تحدّث عنهم القرآن فی قصّة دخول موسی وبنی اسرائیل إلی بیت المقدس هم طائفة من أولئک العمالقة.
وأخیراً قضی علیهم یوشع حیث أمر بنی اسرائیل بأمر من موسی علیه السلام، وقد تساءل أمیرالمؤمنین علیه السلام فی هذه الخطبة قائلاً:
«أَیْنَ الْعَمَالِقَةُ وأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ» الذین
ص:39
کانوا یتمتعون بقدرات هائلة وشکلوا الحکومات المقتدرة لیحکموها لعقود من الزمان، ثم زالوا من صفحة الوجود ولم یبق سوی اسمهم(1).
کان ملک مصر یسمی (فرعون) وسلطان الروم (القیصر) وسلطان ایران (کسری)، ویُدعی فرعون مصر الذی عاصر نبی اللّه موسی علیه السلام رمسیس الثانی والذی عاصر نبی اللّه یوسف علیه السلام کان الریان بن الولید، وقیل إنّ الفراعنة الذین حکموا مصر قبل المیلاد بلغوا 32 فرعوناً، کان بعضهم من مصر والبعض الآخر من العمالقة والروم والیونانیین وبعض الایرانیین الذین أوفدوا من قبل بعض السلاطین لفتح مصر فحکموا البلاد ولم یبق لهم من الیوم أثر.
تعنی مفردة الرس فی الأصل (الأثر المختصر)، ویری البعض أنّ الرس مختصر الأرس (نهر معروف فی شمال ایران) بینما یری الأعم الأغلب أنّها بئر ویعتقدون أنّ القوم الذین لم یبق منهم الآن إلّاالقلیل کانوا مزارعین ولدیهم عدّة آبار ملیئة بالمیاه فکانت أوضاعهم المعاشیة جیدة، وهنالک خلاف بین المفسرین بشأن المکان الذی عاشوا فیه والنّبی الذی أرسل إلیهم، فالبعض یعتقد أنّهم بقایا عاد وثمود، بینما یری البعض الآخر أنّهم عاشوا فی الیمامة وکان نبیّهم یدعی حنظلة، ویری آخرون أنّ نبیّهم کان شعیب.
جاء فی کتاب عیون أخبار الرضا أنّ أمیرالمؤمنین علی علیه السلام قال:
«إِنّهُم کَانُوا قَوماً یَعبُدونَ شَجرَةً صُنوبر یُقالُ لَها شاه دَرخت وَکَانتْ لَهُم إثنَتا عَشَرَ قَریةً عَلی
ص:40
شاطئ نَهرٍ یِقالُ لَهُ أرسُ یُسمی إحدَاهُنَّ آبان والثّانیة آذَر وَالثّالثة دی وَالرّابِعة بَهمن وَالخامِسة اسفندار وَالسّادسَة فَروردین وَالسّابعة اردیبهشت وَالثّامنة خرداد وَالتّاسعة تِیر وَالعاشِرة مُرداد وَالحادیة عَشرة شهریور وَالثّانیة عشرة مِهر، وَکَانُوا یَأتُون بِشِیاهٍ وَبقَر فَیذبَحُونَها لِلشجرةِ وَیَشعِلُونَ النِّیرانَ بِالحَطبِ فَإذا إرتَفَع دُخان تِلکَ الذَّبائِح خَرّوا لَلشجرةِ سُجّداً یَبکُونَ وَیَتضرعُونَ إلیها، ثُمَّ بَعثَ اللّهُ عَزّ وَجلّ إلیهِم نَبیّاً مِنْ بَنی اسرائیلَ فَلَم یَتّبُعُوهُ فَدعا اللّهَ قَائلاً: أَیبِس شَجَرَهُم أَجْمَع، أرِهم قُدرَتَکَ وَسُلطانَکَ، فَأصبَحَ القَومُ وَقَد یَبِس شَجَرُهُم کُلّه فَهالَهُم ذَلِکَ وَاجتَمعَ رَأیُهم وَاتّخذُوا أَنابِیبَ طُوال مِنْ رِصاص وَاسعةِ الأفواهِ ثُمَّ أَرسلُوها فِی قَرارِ العِینِ وَأَرسلُوا فِیها نَبِیّهُم حَیّاً حَتّی مَاتَ، فَأرسلَ اللّهُ عَلَیهِم رِیحاً عَاصِفاً، شدیدة الحُمرة؛ فَأماتَهُم جَمیعاً»(1).
نعم، لقد رأت الدنیا الکثیر من السلاطین والأقوام المنحرفة والجبابرة الظالمة، وقد طفح غبار النسیان لا علی قبورهم فحسب بل علی تاریخهم، وهذا أفضل سند ودلیل علی عدم وفاء الدنیا لأحد.
***
ص:41
ص:42
ومنها: قَدْ لَبِسَ لِلْحِکْمَةِ جُنَّتَهَا، وأَخَذَهَا بِجَمِیعِ أَدَبِهَا، مِنَ الاِْقْبَالِ عَلَیْهَا، وَالْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَالتَّفَرُّغِ لَهَا؛ فَهِیَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِی یَطْلُبُهَا، وحَاجَتُهُ الَّتِی یَسْأَلُ عَنْهَا، فَهُو مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الاِْسْلاَمُ، وضَرَبَ بِعَسِیبِ ذَنَبِهِ، وأَلْصَقَ الأَرْضَ بِجِرَانِهِ، بَقِیَّةٌ مِنْ بَقَایَا حُجَّتِهِ، خَلِیفَةٌ مِنْ خَلاَئِفِ أَنْبِیَائِهِ.
ما ورد فی هذا القسم یبدو ظاهراً عدیم الإرتباط بالأقسام السابقة من الخطبة وسبب ذلک أنّ السید الرضی لا ینقل جمیع الخطبة فی أغلب الأحیان، بل یختار قطوفاً منها، ویدلّ علی ذلک ما صدر به هذه الخطبة بقوله
«مِنْها»، وهذا ما أدی إلی نوع من الإبهام والغموض فی هذا القسم وعودة الضمائر فیه لیقدم کلّ شارح ما یراه من احتمال بشأنها، لکننا نعتقد بوجود بعض القرائن لها هنا.
فقال علیه السلام:
«قَدْ لَبِسَ لِلْحِکْمَةِ جُنَّتَهَا(1) ، وأَخَذَهَا بِجَمِیعِ أَدَبِهَا، مِنَ الاِْقْبَالِ عَلَیْهَا، وَالْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَالتَّفَرُّغِ لَهَا».
هنالک عدّة احتمالات بشأن هذا الشخص الذی تدرع بالحکمة وأخذ بجمیع آدابها ومنها أربعة احتمالات هی:
ص:43
1. قال البعض: المراد به الإمام المهدی علیه السلام وغیبته ونهضته، وقد نسب ابن أبی الحدید هذا الرای إلی الإمامیّة ولم یقرّ به بادئ الأمر، بینما أذعن أخیراً بأنّه الشخص الذی سیولد فی آخر الزمان واسمه المهدی علیه السلام.
2. قال الفلاسفة: هم نخبة من العرفاء یتواجدون بین الناس فی کلّ زمان.
3. جاء عن بعض المتصوفه أنّ المراد أولیاء اللّه وسالکی طریق الحقّ الذین یتواجدون علی الأرض علی الدوام.
4. وتری المعتزلة أنّ المراد به العالم العدل والموحّد من المؤمنین من الأفراد الذین یعیشون بین الناس، ولکن حین نسلط الضوء علی هذه العبارات إلی آخر القسم سیتّضح لدینا بما لا یقبل الشک أنّ المراد هو الإمام المهدی علیه السلام.
علی کلّ حال فالعبارة:
«قَدْ لَبِسَ لِلْحِکْمَةِ جُنَّتَهَا» تشیر إلی أنّه حکیم وقد لبس جلباباً لحفض هذه الحکمة والمراد من ذلک طبعاً جلباب الورع والتقوی، کما ورد فی هذا الحدیث الشریف:
«ما أَخْلَصَ عَبْدٌ اللّهِ عَزَّوَجَلَّ أَرْبَعینَ صَباحاً إِلَّا جَرَتْ یَنابیعُ الْحِکْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلی لِسانِهِ»(1).
والعبارات اللاحقة:
«وأَخَذَهَا بِجَمِیعِ أَدَبِهَا...» کلّها تشیر إلی أنّه حکیم، قد عمّت الحکمة والعلم کلّ کیانه وبها یدیر شؤون من حوله.
ثم قال علیه السلام:
«فَهِیَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِی یَطْلُبُهَا، وحَاجَتُهُ الَّتِی یَسْأَلُ عَنْهَا».
وهذا الکلام تأکید آخر علی أنّ ذلک الولی ینطلق فی مشروعه من الحکمة والعلم لیمارس قبل کلّ شیء خلق الثورة العلمیّة والثقافیّة، وینسجم هذا الکلام تماماً وما ورد فی الروایات بشأن المهدی علیه السلام.
ومن ذلک ما روی عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:
«إذا قامَ قائِمُنا وَضَعَ یَدَهُ عَلی رُؤُوسِ الْعِبادِ فَجَمَعَ بِها عُقُولَهُمْ وکَمُلَتْ بِها أَحْلامُهُم»(2).
ص:44
وواصل کلامه علیه السلام فی بیان میزة أخری لذلک الولی فقال:
«فَهُو مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ(1) الاِْسْلاَمُ، وضَرَبَ بِعَسِیبِ(2) ذَنَبِهِ(3) ، وأَلْصَقَ الأَرْضَ بِجِرَانِهِ(4)».
حین تتخلف الناقة عن المشی فإنّها تفترش الأرض بحیث یلتصق ذنبها بالأرض حتی تضع علیه أسفل عنقها وهذه دلالة علی شدّة التعب ویستفید العرب من هذا الأمر بصفته کنایة عن الضعف والعجز، وهذا الکلام إشارة واضحة أخری إلی أحد صفات ذلک الولی الربّانی فی أنّ الإسلام والمسلمین یعیشون أقصی درجات الضعف فی غیبته وتتکالب علیهم الأعداء من کلّ حدب وصوب بغیة القضاء علی الإسلام وکسر شوکة المسلمین.
وجاء فی حدیث آخر عن الإمام الصادق علیه السلام:
«الْعِلْمُ سَبْعَةٌ وعِشْرُونَ حَرْفاً فَجَمیعُ ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ حَرْفانِ فَلَمْ یَعْرِفِ النّاسُ حَتّی الْیَوْمِ غَیْرَ الْحَرْفَیْنِ فَإذا قامَ قائِمُنا أَخْرَجَ خَمْسَةً وعِشْرینَ حَرْفاً فَبثّها فی النّاسِ وضَمَّ إِلَیْها الْحَرْفَیْنِ حَتّی یَبُثَّها سَبْعَةً وعِشْرینَ حَرْفاً»(5).
(إشارة إلی أنّ الإمام المهدی علیه السلام یمارس ثورة ثقافیة هائلة وسریعة بحیث یرقی بسطح العلم والمعرفة عشرة أضعاف ما کانت علیه).
ویختتم الإمام علیه السلام هذا القسم بمسألة واضحة بهذا الخصوص فیقول:
«بَقِیَّةٌ مِنْ بَقَایَا حُجَّتِهِ، خَلِیفَةٌ مِنْ خَلاَئِفِ أَنْبِیَائِهِ».
وکما یفهم من بیان هذه الصفات فإنّ مرجع الضمیر فی العبارات السابقة لا یعود
ص:45
إلّا إلی الإمام المهدی علیه السلام سیما من خلال هذه المفردات «بقیة»، «بقیّة اللّه»، «الحجّة»، «الخلیفة» الواضحة فی نصوصنا الدینیّة.
یستفاد من الإشارات الواضحة التی تضمنتها هذه الخطبة بشأن نهضة الإمام المهدی علیه السلام وخلافاً لما یتصوره الجهّال فإنّ القاعدة الأصلیة التی ینطلق منها الإمام علیه السلام إنّما تستند إلی الثورة الثقافیة والعلمیّة والفکریّة، لا النهضة العسکریّة التی تختزن إراقة الدماء، حیث یرتقی بالمستوی العلمی لدی الناس بحیث یمارس حکومته القائمة علی أساس العدل والقسط، طبعاً سیواجه الإمام علیه السلام فی بدایة مشروعه تلک الأقلیّة المتغطرسة والمنحرفة التی تحاول إعاقة مشروعه ممّا یضطره لمعالجتها عسکریاً، ولکن یبقی همه محصوراً فی طلب العلم والارتفاع بالمستوی العلمی لدی الأمّة ولسان حاله وقاله علی غرار سیرة جدّه النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «رَبِّ زِدْنِی عِلْماً»(1).
***
ص:46
ثُمَّ قالَ علیه السلام: أَیُّهَا النَّاسُ، إِنِّی قَدْ بَثَثْتُ لَکُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِی وَعَظَ الأَنْبِیَاءُ بِهَا أُمَمَهُمْ، وأَدَّیْتُ إِلَیْکُمْ مَا أَدَّتِ الأَوْصِیَاءُ إِلَی مَنْ بَعْدَهُمْ، وأَدَّبْتُکُمْ بِسَوْطِی فَلَمْ تَسْتَقِیمُوا، وحَدَوْتُکُمْ بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا، للّهِ أَنْتُمْ! أَتَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَیْرِی یَطَأُ بِکُمُ الطَّرِیقَ، ویُرْشِدُکُمُ السَّبِیلَ؟
أَلاَ إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْیَا مَا کَانَ مُقْبِلاً، وأَقْبَلَ مِنْهَا مَا کَانَ مُدْبِراً، وأَزْمَعَ التَّرْحَالَ عِبَادُ اللّهِ الأَخْیَارُ، وبَاعُوا قَلِیلاً مِنَ الدُّنْیَا لَایَبْقَی، بِکَثِیر مِنَ الآخِرَةِ لَا یَفْنَی. مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِینَ سُفِکَتْ دِمَاؤُهُمْ وهُمْ بِصِفِّینَ أَلاَّ یَکُونُوا الْیَوْمَ أَحْیَاءً؟ یُسِیغُونَ الْغُصَصَ ویَشْرَبُونَ الرَّنْقَ! قَدْ واللّهِ لَقُوا اللّهُ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ، وأَحَلَّهُمْ دَارَ الأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهِمْ.
خاض الإمام علیه السلام فی الوعظ والإرشاد والنصح المشوب بالتحذیر فقال:
«أَیُّهَا النَّاسُ، إِنِّی قَدْ بَثَثْتُ(1) لَکُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِی وَعَظَ الأَنْبِیَاءُ بِهَا أُمَمَهُمْ، وأَدَّیْتُ إِلَیْکُمْ مَا أَدَّتِ الأَوْصِیَاءُ إِلَی مَنْ بَعْدَهُمْ، وأَدَّبْتُکُمْ بِسَوْطِی فَلَمْ تَسْتَقِیمُوا، وحَدَوْتُکُمْ(2) بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا(3)».
ص:47
تشیر هذه العبارات إلی أنّ الإمام علیه السلام کان یستغل کلّ فرصة بغیة هدایة أهل الکوفة الذین عرفوا بالضعف والتشتت وقد مارس شتّی الأعمال الثقافیة بهذا الشأن حتی أفاض علیهم مختلف مواعظ الأنبیاء وإرشادات الأوصیاء إلّاأنّ المطر الرحمة الإلهیّة لم یجد له من سبیل فی أرض قلوبهم السبخة، ثم تخلی عن الرفق والمرونة لیجابههم بشدة علهم یعودون إلی أنفسهم ویعیشون الوحدة؛ ومرّة أخری لم تجد هذه المسامیر من سبیل فی تلک الأحجار الصلدة، لیتّضح بجلاء أن لا نقص ولا عیب فی الزعامة والقیادة، بل العیب کلّه فی تلک الفئة الجاهلة الفاقدة للحمیّة.
کما تفید هذه العبارات أنّ مساعی جمیع الأنبیاء والأوصیاء لا تبدو مجدیة مع هؤلاءالقوم.
«للّهِ أَنْتُمْ! أَتَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَیْرِی یَطَأُ بِکُمُ الطَّرِیقَ، ویُرْشِدُکُمُ السَّبِیلَ؟».
أی حین لا یتمکن زعیم مثلی من إعادتکم إلی جادة الصواب فسوف لن یکون هنالک قط من یسعه القیام بذلک.
والغریب أنّه رغم حالة الیأس والقنوط التی تفرزها طبیعة تلک الفئة إلّاأنّ الإمام علیه السلام لا یکفّ عن النصح والإرشاد، فیستعرض لهم طبیعة ما حولهم وما تحکمه من ظروف ویکشف لهم عن منزلة الشهادة فی سبیل اللّه فیقول:
«أَلَا إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْیَا مَا کَانَ مُقْبِلاً، وأَقْبَلَ مِنْهَا مَا کَانَ مُدْبِراً».
إشارة إلی اقبال جمیع الفضائل علی المجتمع الإنسانی إبان بزوغ فجر الإسلام وشروق شمس النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله، إلّاأنّ هذه القیم والسنن الإلهیّة قد ولّت ظهرها لهذا المجتمع وحلّت محلّها قبائح عصر الجاهلیة التی طویت صفحتها عن المجتمع الإسلامی بفعل ظهور بنی أمیّة وسلیلی عصر الجاهلیة.
ثم ذکر علیه السلام مقدمة بهدف الاشادة بمقام الشهداء فی سبیل اللّه وترسیخ ثقافة الجهاد والشهادة إزاء الطواغیت والظلمة فقال:
«وأَزْمَعَ(1) التَّرْحَالَ(2) عِبَادُ اللّهِ الأَخْیَارُ،
ص:48
وبَاعُوا قَلِیلاً مِنَ الدُّنْیَا لَایَبْقَی بِکَثِیر مِنَ الآخِرَةِ لَایَفْنَی».
تشیر هذه العبارة اللطیفة إلی أنّ أولئک الأخیار الذین فازوا بالشهادة وتقلّدوا وسام الشرف بالجهاد فی سبیل اللّه لم یجانبوا الضرر فحسب، بل مارسوا تجارة مربحة حیث باعوا القلیل من متاع الدنیا الفانی بالکثیر من متاع الآخرة الباقی، کما أنّ أولئک الذین وفقوا لجهاد أنفسهم ولم ینالوا الشهادة وولّوا ظهورهم لزخرف الدنیا وزبرجها وأقبلوا علی الآخرة ونعیمها هم أیضاً فی مصاف عباد اللّه الأخیار.
ثم أکّد الإمام علیه السلام ذلک بقوله:
«مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِینَ سُفِکَتْ دِمَاؤُهُمْ وهُمْ بِصِفِّینَ أَلاَّ یَکُونُوا الْیَوْمَ أَحْیَاءً؟ یُسِیغُونَ(1) الْغُصَصَ ویَشْرَبُونَ الرَّنْقَ!(2)».
إشارة إلی أنّهم ذهبوا واستراحوا لنبقی الیوم ونشهد هذه الأوضاع المزریة التی یصول ویجول فیها العدو بینما یکتفی الأصحاب الضعاف فی الحقّ والفاقدو الإرادة بالتفرج علی هذا المشهد الذی یهز من الأعماق کلّ مؤمن غیور، والواقع أنّ الإمام علیه السلام یشیر بهذه العبارات إلی جنایات معاویة وجند الشام وسکوت وضعف أهل الکوفة والعراق.
ثم بلغ کلام الإمام علیه السلام ذروته فقال:
«قَدْ واللّهِ لَقُوا اللّهُ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ، وأَحَلَّهُمْ دَارَ الأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهِمْ».
أجل، فالأمر کما قال القرآن الکریم: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ أمْواتاً بَلْ أَحیاءٌ عِنْدَ رَبِهِم یُرزَقُونَ»، بل الموتی أولئک الذین استسلموا للذل وواصلوا حیاتهم المادیّة التافهة فی ظلّ رایة الطواغیت والظلمة، والحقّ أنّ الشهادة مدعاة للفخر، ویتضاعف هذا الفخر حین یکون فی وسط اجواء فاسدة وقذرة وتنتهی إلی الخلاص من الطغمة المفسدة والمتجبرة.
ولعل الرسالة التی اطلقها الإمام علی علیه السلام من محراب عبادته حین شهادته بقوله:
ص:49
«فُزْتُ ورَبِّ الْکَعْبَةِ» لتختزن العدید من الدروس والعبر التی ینبغی أن یحتذی بها المؤمنون.
***
ص:50
أَیْنَ إِخْوَانِی الَّذِینَ رَکِبُوا الطَّریِقَ، ومَضَوْا عَلَی الْحَقِّ؟ أَیْنَ عَمَّارٌ؟ وأَیْنَ ابْنُ التَّیِّهَانِ؟ وأَیْنَ ذُوالشَّهَادَتَیْنِ؟ وأَیْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِینَ تَعَاقَدُوا عَلَی الْمَنِیَّةِ، وأُبْرِدَ بِرُؤُوسِهِمْ إِلَی الْفَجَرَةِ!
قال: ثمّ ضرب بیده علی لحیته الشریفة الکریمة، فأطال البکاء، ثم قال علیه السلام: (أَوِّهِ عَلَی إِخْوَانِی الَّذِینَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْکَمُوهُ، وتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْیَوُا السُّنَّةَ وأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ. دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، ووَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ).
ثم نادی بأعلی صوته: الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللّهِ! أَلَا وإِنِّی مُعَسْکِرٌ فِی یَوْمِی هذَا؛ فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَی اللّهِ فَلْیَخْرُجْ!
تغیَّر خطاب الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة لیواصل خطبته بعبارات ملیئة بالحزن ویذکر تلک الثلّة من الشهداء فی صفین التی خلا مکانها الآن بین الأصحاب فقال:
«أَیْنَ إِخْوَانِی الَّذِینَ رَکِبُوا الطَّریِقَ، ومَضَوْا عَلَی الْحَقِّ؟».
ثم رکز علیه السلام علی الطلیعة منهم فی الاثرة والشهادة والعلم والمعرفة فقال:
«أَیْنَ عَمَّارٌ؟ وأَیْنَ ابْنُ التَّیِّهَانِ؟» ثم ذکرهم بصورة کلیة وعامة فقال:
«وأَیْنَ ذُوالشَّهَادَتَیْنِ؟ وأَیْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِینَ تَعَاقَدُوا عَلَی الْمَنِیَّةِ، وأُبْرِدَ(1)
ص:51
بِرُؤُوسِهِمْ إِلَی الْفَجَرَةِ!».
إشارة إلی عشرات الأفراد من أصحاب النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله الذین لزموا علیّاً علیه السلام ونالوا الشهادة فی صفین وقام جناة جیش معاویة بحز رؤوسهم وارسالها إلی طاغیتهم معاویة(1).
«قالَ: ثُمَّ ضَرَبَ بِیَدِهِ عَلی لِحْیَتِهِ الشَّریفَةِ الْکَریمَةِ، فَأَطالَ الْبُکاءَ»، ثُمَّ قالَ علیه السلام:
«أَوِّهِ(2) عَلَی إِخْوَانِی الَّذِینَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْکَمُوهُ، وتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْیَوُا السُّنَّةَ وأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ. دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، ووَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ».
فهذه الصفات الست تفید عظمة مقامهم فی العمل والعلم فی حفظ الدین والجهاد وطاعة الإمام والزعیم الربّانی، فقد کانوا علی بصیرة بالقرآن فیطبقونه علی تفاصیل حیاتهم کما کانوا علی علم بالواجبات فیعملون بها ویمیتون البدعة ویحیون السنّة کما کانوا من أهل الإیثار والتضحیة حین الجهاد.
فی الواقع أنّ الإمام علیه السلام أراد أن یقدم لأصحابه أُسوة حسنة ویقول إنّ المؤمن الواقعی والمسلم الحقیقی وصاحب النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله من یتصف بهذه الخصائص، أملاً فی أن تفعل هذه الکلمات الحماسیة فعلها فی تلک القلوب الباهتة فیهب أصحابها لجهاد الظلمة والطواغیت.
«ثُمَّ نادی بِأَعْلی صَوْتِهِ: الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللّهِ! أَلَا وإِنِّی مُعَسْکِرٌ فِی یَوْمِی هذَا؛ فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَی اللّهِ فَلْیَخْرُجْ!». وهکذا دعا الإمام علیه السلام القوم للجهاد بعد تلک المواعظ البالغة، فأقبل العدید منهم وشعر بخطورة المسؤولیّة فتأهب للجهاد.
«قال نوْفٌ: وعَقَد لِلْحُسَیْنِ علیه السلام فی عَشَرَةِ آلاف، ولِقیسِ بن سعد فی عَشَرَةِ
ص:52
آلاف، ولِابی أیُّوبِ الأَنْصاری فی عَشَرَةِ آلاف، ولِغَیْرِهِمْ عَلی أَعْداد أُخَر، وهُو یُریدُ الرَّجْعَةَ إلی صِفینَ، فَما دارَتِ الْجُمْعَةُ حَتّی ضَرَبَهُ الْمَلْعُونُ ابنُ مُلْجَم لَعَنهُ اللّهُ، فَتَراجَعَتِ الْعَساکِرُ، فَکُنّا کَأَغْنام فَقَدتْ راعیها، تَخْتَطُفها الذِئابُ مِن کُلِّ مَکان!».
وعلی هذا الأساس فرح ذئاب الشام ولصوص جیش معاویة بتخلصهم من ذلک الخطر العظیم، بینما عاش المؤمنون حالة من الأسی والهم، جاء فی الروایة أنّ الشام لما بلغها خبر قتل أمیر المؤمنین علیه السلام علم بذلک عمرو بن العاص فبشر معاویة قائلاً:
«اِنَّ الأَسَد المُفرِشِ ذِراعَیْهِ بِالْعَراقِ لاقی شُعُوبَه»(1).
ذکر الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة بعض الأصحاب الأوفیاء الذین کانوا من صحابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله الأشداء، ثم وفوا بما عاهدوا علیه الإمام علیه السلام حتی نالوا الشهادة فی صفین، وکما ذکر سابقاً وجاء فی الروایة أنّ 300 من صحابة النّبی صلی الله علیه و آله الذین بایعوه فی بیعة الرضوان وکان منهم ممن شهد بدر قد وقفوا إلی جانب علی فی صفین فقتل منهم 63 وقد ذکر الإمام علیه السلام ثلاثة منهم، ونذکر هنا نبذة عن کلّ واحد منهم ثم نخوض فی سیرة قیس بن سعد وابی أیوب الأنصاری الذین ورد إسماهما فی آخر الخطبة بصفتهما من امراء جیش الإمام علیه السلام.
کنیته أبوالیقظان، أسلم فی مکة وتحمل أشدّ العذاب، وذکر ابن عبد البر فی الاستیعاب أنّ یاسر حین قدم إلی مکة تزوج من جاریة هی سمیة التی ولدت له عماراً الذی عذب علی ید المشرکین وأجبر علی الطعن بالإسلام، فأتی النّبی صلی الله علیه و آله
ص:53
باکیاً فنزلت الآیة الشریفة: «اِلاَّ مَنْ أُکْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِْیمَانِ»(1) التی تدلّ علی التقیة فی هذه الموارد، وأجمع المفسرون علی أنّ الآیة نزلت فی عمّار، وکان ممن هاجرالحبشة وصلی إلی القبلتین ومن أوائل المهاجرین الذین شهدوا بدراً وجمیع الغزوات الإسلامیّة.
قال فیه النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:
«اِنَّهُ مَلییٌ إیماناً إلی أَخْمُصِ قَدَمَیْهِ»؛ وقال أیضاً:
«مَنْ أَبْغَضَ عَمّاراً أبْغَضَهُ اللّهُ»؛ وقال صلی الله علیه و آله:
«تَشتَاقُ الجَنَّةُ إلی أربَعة: عَلیٍّ وَعمّار وَسَلمان وأبِی ذر».
وأضاف ابن عبد البر تواتر عن النّبی صلی الله علیه و آله أنّه قال:
«تَقْتُلُ عَمّاراً الْفِئَةُ الْباغِیَةُ».
وعدّه ابن عبد البر من أصح الأخبار، وقد قتل یوم صفین وهذا أعظم دلیل علی بطلان معاویة، وروی ابن عبد البر عن أبی عبد الرحمن السلمیانة قال: شهدنا صفین فرأیت عمار بن یاسر ومعه أصحاب محمّد وکأنّه رأیتهم وسمعت عمار یقول لهاشم ابن عقبة (عتبة) احمل یا هاشم فالجنّة فی ظلال السیوف، الیوم نلقی محمّداً وأصحابه فإنّما نحن علی الحقّ وهم علی الباطل. یقول عبد اللّه ابن سلمة: نظرت عمّار فی صفین وقد أصابه العطش فالتمس ماء، فأتوه بظرف من اللبن فقال الیوم التقی أصحابی فقد قال لی رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«إنّ آخِرَ شَرابِکَ مِنَ الدُّنیا ضَباحاً مِنْ لَبن»(2).
جدیر ذکره أنّه لما بلغ معاویة خبر قتل مالک الأشتر - بعد صفین - خطب الناس فقال: «أما بعد فإنّه کانت لعلی یمینان فقطعت إحداهما بصفین - یعنی عمّار بن یاسر، وقطعت الأخری الیوم - یعنی الأشتر -»(3).
هو أبوالهیثم بن التیهان واسمه مالک من قبیلة الأنصار، وهو أحد النقباء لیلة
ص:54
العقبة وممن شهد بدراً، وقیل إنّه أدرک صفین وقتل فیها، ویؤید ذلک هذه الخطبة، وذکر ابن أبی الحدید أسماء طائفة من علماء أهل السنّة الذین قالوا بقتله فی صفین(1).
هو خزیمة بن ثابت الأنصاری وکنیته أبو عمّار وممن التحق بالنّبی صلی الله علیه و آله فی المدینة وقد وروی ابن الأثیر فی أُسد الغابة سبب لقبه ذوالشهادتین فقال: إنّ النّبی صلی الله علیه و آله اشتری فرساً من سواء بن قیس المحاربی، فجحد سواء، فشهد خزیمة بن ثابت للنبی فقال له رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«ما حَمَلَکَ عَلی الشّهادةِ وَلَم تَکُن مَعنا حاضِراً»، فقال: صدقتک بما جئت به وعلمت أنّک لا تقول إلّاحقّاً، فقال: رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«مَن شَهِدَ لَهُ خُزَیمِةُ أو عَلَیهِ فَحَسبُهُ»(2)، فجعل رسول اللّه شهادة خزیمة بشهادتین (طبعاً هذا استثناء وذلک بسبب إیمان خزیمة ولعل ذلک کون شهادته تدعو إلی علم القاضی). کان ممن شهد الغزوات الإسلامیّة، وذکر ابن عبد البر فی الاستیعاب أنّه شهد صفین فقاتل فیها حتی قتل(3).
کنیته أبوالفضل. کان رجلاً شجاعاً وجواداً، وأبوه سعد رئیس الخزرج، وکان قیس من کبار شیعة أمیر المؤمنین علیه السلام وهو معروف بمحبّته وولائه للإمام وشهد معه حروبه کلّها وروی انس بن مالک أنّ قیس بن سعد کان رئیس حاجبی النّبی صلی الله علیه و آله (وکان ثقة فی کلّ الأمور) وذکر ابن شهاب: أنّ قیس بن سعد کان أحد الساسة العرب الخمسة الذین یحلّون المشاکل والفتن(4).
ص:55
هو خالد بن زید ویعرف عادة بالکنیة، کان ممن صحب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وشهد العقبة وشهد بدراً، وعلیه نزل النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله حین قدم المدینة ولم یزل عنده حتی بنی مسجده ومساکنه، شهد مع علی علیه السلام الجمل وصفین وکان فی المقدمة یوم النهروان، عاش عشر سنوات بعد علی علیه السلام وتوفی سنة 50 للهجرة(1).
ویتّضح ممّا مرّ معنا سابقاً هذه النقطة التاریخیّة من هم الأفراد الذی قاتلوا مع علی علیه السلام قاسطی الشام وسائر البغاة؟ ومن هم أولئک الأفراد الذین نالوا الشهادة مع علی علیه السلام ومن هم قادة جیشه؟ ولو لم یکن هناک من دلیل علی أحقیّته علیه السلام وبطلان خصمه سوی هذا لکفی.
***
ص:56
فی قُدْرَةِ اللّهِ وفِی فَضْلِ الْقُرْآنِ وفِی الْوَصِیَّةِ بِالتَّقْوی(1)
هذه الخطبة من الخطب الغایة فی الفصاحة والبلاغة والتی تتضمن عدّة مباحث تبدو غیر متصلة الأقسام، وذلک بسبب اسلوب السید الرضی رحمه الله المعهود فی الاختیار. علی کل حال تتعرض الخطبة لخمسة مواضیع مهمّة هی:
1. جانب من صفات اللّه الجلالیّة والجمالیّة بعبارات عمیقة المعنی.
2. التعریف بالقرآن الکریم وبیان بعض خصائصه المهمّة.
3. الوصیّة بالورع والتقوی وشرح آثارها وبرکاتها.
4. ذکر للقیامة ونار جهنم الألیمة وعجز الإنسان عن تحملها.
ص:57
5. بیان سبل النجاة من نار جهنم والاستفادة من إمکانات الدنیا فی هذا السبیل وأهمها إغاثة المحرومین والمساکین.
***
ص:58
الْحَمْدُ للّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَیْرِ رُؤْیَة، والْخَالِقِ مِنْ غَیْرِ مَنْصَبَة. خَلَقَ الْخَلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ، وَاسْتَعْبَدَ الأَرْبَابَ بِعِزَّتِهِ، وسَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ؛ وهُوالَّذِی أَسْکَنَ الدُّنْیَا خَلْقَهُ، وبَعَثَ إِلَی الْجِنِّ والاِْنْسِ رُسُلَهُ، لِیَکْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا، ولِیُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا، ولِیَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا، ولِیُبَصِّرُوهُمْ عُیُوبَهَا، ولِیَهْجُمُوا عَلَیْهِمْ بِمُعْتَبَر مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا وأَسْقَامِهَا، وحَلاَلِهَا وحَرَامِهَا، ومَا أَعَدَّ اللّهُ لِلْمُطِیعِینَ مِنْهُمْ وَالْعُصَاةِ مِنْ جَنَّة ونَار، وکَرَامَة وهَوَان. أَحْمَدُهُ إِلَی نَفْسِهِ کَمَا اسْتَحْمَدَ إِلَی خَلْقِهِ، وجَعَلَ لِکُلِّ شَیء قَدْراً، ولِکُلِّ قَدْر أَجَلا، ولِکُلِّ أَجَل کِتَاباً.
جدیر ذکره أنّ «ابن أبی الحدید المعتزلی» لما بلغ هذه الخطبة تأثر جدّاً بفصاحتها وبلاغتها. ثم خاض فی مقارنتها مع أحد أبرز وأفضل الخطب التی خطبها الکاتب العربی المعروف (ابن أبی الشحماء العسقلانی) فأشار إلی ضعف تلک الخطبة إزاء خطبة أمیرالمؤمنین علیه السلام، واستنتج أنّ مثل هذه العبارات لا تصدر إلّامن علی علیه السلام وعرض بالذم لأولئک المتعصبین الذی یحاولون عبثاً نسب خطب نهج البلاغة لغیر الإمام علیه السلام ویراهم لا یتبعون إلّاأهواءهم ورغباتهم(1).
علی کلّ حال استهل الإمام علیه السلام خطبته قائلاً:
«الْحَمْدُ اللّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَیْرِ رُؤْیَة،
ص:59
والْخَالِقِ مِنْ غَیْرِ مَنْصَبَة(1). خَلَقَ الْخَلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ، وَاسْتَعْبَدَ الأَرْبَابَ بِعِزَّتِهِ، وسَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ».
لا شک فی أنّ الرؤیة والمشاهدة تختص بالأجسام، واللّه أسمی من الجسمیّة، والتعب والإرهاق أثر القیام بالأعمال من شؤون الأفراد ذوی القدرة المحدودة، ولیس لها من سبیل إلی من کانت جمیع صفاته لامتناهیّة فی خلقه لما یشاء، فخلق هذا العالم أهون علیه من رؤیتنا لبعضنا خلال لحظة، کما لیس لمقتدر من قدرة أمام اللّه، فهو القادر علی فناء کلّ شیء بعاصفة أو صاعقة أو زلزلة أو سیل جارف.
العبارة:
«وسَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ» إشارة لطیفة إلی هذه الحقیقة أنّ عظمة الإنسان فی جوده وکرمه فکلما کانت کرمه أکبر کان عظمته کذلک، ولکن بما أنّ جمیع نعم الأرض والسماء من اللّه الذی بسط مائدته لتشمل الجمیع فهو أعظم من کلّ عظیم.
ثم أشار إلی جانب من صفاته سبحانه فی خلق الإنسان والهدف من هذه الخلقة وطُرق الأنبیاء علیهم السلام فی التربیة والتعلیم فقال:
«وهُوالَّذِی أَسْکَنَ الدُّنْیَا خَلْقَهُ، وبَعَثَ إِلَی الْجِنِّ والْاِنْسِ رُسُلَهُ».
ثم تطرق إلی الهدف من بعثة الأنبیاء لیوجزها فی عدّة أمور فقال:
«لِیَکْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا، ولِیُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا، ولِیَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا، ولِیُبَصِّرُوهُمْ عُیُوبَهَا».
أجل، فزخارف الدنیا ومتاعها غفلة وعیشها نکد ومالها ومقامها ضلالة، ومن هنا کان أحد المبادیء الأساسیّة للأنبیاء تحذیراتهم المتکررة للإنسان بغیة عدم الغفلة عن الهدف الأساسی للخلقة وعدم الاستغراق فی هذه الدنیا واتخاذها قنطرة إلی الآخرة وعدم الرکون إلی الإقامة فیها فهی لیست إلّامنزل یتوقف فیه الإنسان للیلة.
ثم واصل علیه السلام کلامه بالاشارة إلی سائر أهداف الأنبیاء فقال:
«ولِیَهْجُمُوا(2) عَلَیْهِمْ
ص:60
بِمُعْتَبَر(1) مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا(2) وأَسْقَامِهَا، وحَلاَلِهَا وحَرَامِهَا، ومَا أَعَدَّ اللّهُ لِلْمُطِیعِینَ مِنْهُمْ وَالْعُصَاةِ مِنْ جَنَّة ونَار، وکَرَامَة وهَوَان».
إشارة إلی أنّ الأنبیاء علیهم السلام وإضافة لما سبق ینشدون ثلاثة أهداف مهمّة أخری لهدایة الناس؛ فذکر فی البدایة الدروس والعبر التی تختزنها هذه الحیاة العابرة، ومن ذلک أننا نری بعض الأفراد الأصحاء والأقویاء الذین سرعان ما یهجم علیهم المرض فیسلبهم قدرة الحرکة ویسیر بهم إلی حافة الموت، وإذا بهم ینهضون فجأة لیستأنفوا نشاطهم من جدید، والآخر بیان الحلال والحرام الذی یشکل جانباً مهماً من دعوة الأنبیاء ویمثل الحد الفاصل بین المنطقة الآمنة والمحظورة.
والثالث بیان الثواب والعقاب المادی والمعنوی - المادی مثل الجنّة والنار والمعنوی مثل الاحترام والتحقیر - فکلّ هذه الأمور من شأنها أن تکون دافعاً لطاعة اللّه(3).
العبارة:
«لِیَهْجُمُوا» إشارة إلی أنّ أنبیاء اللّه یخوضون فی أهداف الدعوة من خلال بیاناتهم البلاغیة وتعبیراتهم المؤکدة والتی تفعل فعلها فی نفس المخاطب.
ثم عاد الإمام علیه السلام فی ختام هذا القسم إلی حمد اللّه والثناء علیه فقال:
«أَحْمَدُهُ إِلَی نَفْسِهِ کَمَا اسْتَحْمَدَ إِلَی خَلْقِهِ».
وقد اختلف شرّاح نهج البلاغة فی مفهوم هذه العبارة، ولکن بالنظر إلی العبارة
«اسْتَحْمَدَ إِلَی فلان» التی تعنی أنّه عامله بإحسان لیحمده(4) یصبح معنی العبارة
ص:61
(أحمده علی إفاضة النعم) کما طلب من عباده.
وعاد علیه السلام فی الختام إلی ما استهل به الخطبة فتطرق إلی محدودیة الحیاة الدنیا والحساب الدقیق الذی یسود العالم فقال:
«وجَعَلَ لِکُلِّ شَیء قَدْراً، ولِکُلِّ قَدْر أَجَلا، ولِکُلِّ أَجَل کِتَاباً».
نعم! فکلّ ذرات هذا العالم تسیر وفق حساب وکل شیء فی لوح محفوظ، کما أنّ لجمیع موجودات هذا العالم نهایة ستبلغها فی وقت معین ینتهی فیه عمرهم وهذه عبرة لجمیع الناس لیعلموا من جانب أنّ الدنیا لیست باقیة ومن جانب آخر أنّ هنالک حساباً دقیقاً ینتظر جمیع الأعمال.
***
ص:62
منها: فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وصَامِتٌ نَاطِقٌ. حُجَّةُ اللّهِ عَلَی خَلْقِهِ. أَخَذَ عَلَیْهِ مِیثَاقَهُمْ، وارْتَهَنَ عَلَیْهِمْ أَنْفُسَهُمْ. أَتَمَّ نُورَهُ، وأَکْمَلَ بِهِ دِینَهُ، وقَبَضَ نَبِیَّهُ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ وقَدْ فَرَغَ إِلَی الْخَلْقِ مِنْ أَحْکَامِ الْهُدَی بِهِ. فَعَظِّمُوا مِنْهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ یُخْفِ عَنْکُمْ شَیْئاً مِنْ دِینِهِ، ولَمْ یَتْرُکْ شَیْئاً رَضِیَهُ أَوکَرِهَهُ إِلَّا وجَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِیاً، وآیَةً مُحْکَمَةً، تَزْجُرُ عَنْهُ، أَوتَدْعُوإِلَیْهِ، فَرِضَاهُ فِیمَا بَقِیَ وَاحِدٌ، وسَخَطُهُ فِیمَا بَقِیَ وَاحِدٌ. واعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ یَرْضَی عَنْکُمْ بِشَیء سَخِطَهُ عَلَی مَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ، ولَنْ یَسْخَطَ عَلَیْکُمْ بِشَیء رَضِیَهُ مِمَّنْ کَانَ قَبْلَکُمْ. وإِنَّمَا تَسِیرُونَ فِی أَثَر بَیِّن، وتَتَکَلَّمُونَ بِرَجْعِ قَوْل قَدْ قَالَهُ الرِّجَالُ مِنْ قَبْلِکُمْ. قَدْ کَفَاکُمْ مَؤُونَةَ دُنْیَاکُمْ، وحَثَّکُمْ عَلَی الشُّکْرِ، وافْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِکُمُ الذِّکْرَ.
تحدّث الإمام علیه السلام فی القسم السابق من الخطبة عن المبدأ والمعاد وصفات الجلال والجمال والثواب والعقاب یوم القیامة إلی جانب بعثة الأنبیاء والرسل وبیانهم للحلال والحرام.
وتطرق هنا إلی القرآن الکریم لکونه معجزة نبی الإسلام صلی الله علیه و آله وأعظم مشروع عمل یوم القیامة وذکر له عدّة أوصاف تشیر جمیعاً إلی جامعیة القرآن وشمولیته فقال:
«فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وصَامِتٌ نَاطِقٌ. حُجَّةُ اللّهِ عَلَی خَلْقِهِ. أَخَذَ عَلَیْهِ مِیثَاقَهُمْ،
ص:63
وارْتَهَنَ عَلَیْهِمْ أَنْفُسَهُمْ».
فقد ذکر علیه السلام سبع صفات مهمّة للقرآن کافیة شافیة لبیان أهمیّة القرآن ومنزلته الرفیعة، العبارة
«آمِرٌ زَاجِرٌ، وصَامِتٌ نَاطِقٌ» فی الواقع کلّ منهما صفتان للقرآن وقد حذفت واو العطف بینهما، أی للقرآن أوامر ونواهٍ سکت فی بعض الأمور التی تقتضی المصلحة فیها السکوت وانطلق بیانه فی الأمور التی یتوجب علی الجمیع الإلمام بها أو أنّ القرآن ساکت فی الظاهر ذلک أنّه لیس أکثر من حروف وکلمات، إلّا أنّ حقیقة الأمر أنّه تحدّث بمئة لسان وإماط اللثام عن الحقائق، العبارة
«أَخَذَ عَلَیْهِ مِیثَاقَهُمْ» إشارة إلی العهد الذی أخذه اللّه وأنبیاؤه من المؤمنین حین الإیمان بالتوحید والنبوّة، لأنّ من یبدی إیمانه بهذین المبدأین فمعنی ذلک تسلیمه لأوامر اللّه وأوامر رسوله صلی الله علیه و آله، أو أنّ اللّه بافاضته للعقل من جانب وفطرة التوحید من جانب آخر أخذ هذا العهد من جمیع الناس من خلال التکوین لیسلموا لأمره ویعملوا بکتابه.
العبارة:
«وارْتَهَنَ عَلَیْهِمْ أَنْفُسَهُمْ» إشارة إلی الحقیقة التی صرّح بها القرآن الکریم «کُلُّ نَفْس بِمَا کَسَبَتْ رَهِینَةٌ»(1) فکما لا تطلق العین المرهونة دون تسدید الدیون فإنّ الإنسان لا یبلغ حریته الحقیقیة ما لم یمارس وظائفه الدینیّة.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه لیکشف عن عمق أهمیّة کتاب اللّه بذکره لصفتین أخریین فقال:
«أَتَمَّ نُورَهُ، وأَکْمَلَ بِهِ دِینَهُ».
والمراد من النور هنا الفیض الإلهی الذی یشمل العباد عن طریق القرآن، والعبارة
«أَکْمَلَ بِهِ دِینَهُ» إشارة إلی الآیة: «الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ»(2) التی کمل بموجبها الدین بنزول القرآن ومشروع الولایة.
وتطرق الإمام علیه السلام إلی شمولیة أحکام الإسلام والقرآن فقال:
«وقَبَضَ نَبِیَّهُ صَلَّی
ص:64
اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ وقَدْ فَرَغَ إِلَی الْخَلْقِ مِنْ أَحْکَامِ الْهُدَی بِهِ».
ثم استنتج من ذلک
«فَعَظِّمُوا مِنْهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ».
إشارة إلی عدم ارتجال الصفات للّه وعدم الابتداع فی العبادة والدعاء وتنزیه اللّه سبحانه وتعالی عن کلّ شیء بل لابدّ من اتباع هدیه وإرشاده الذی ورد فی القرآن فی کل هذه الأمور (یمکن أن تکون هذه العبارة إشارة إلی توقیفیّة صفات اللّه والتعبدیّة فی الطاعة).
ثم خاض علیه السلام فی بیان علّة هذا الموضوع فقال:
«فَإِنَّهُ لَمْ یُخْفِ عَنْکُمْ شَیْئاً مِنْ دِینِهِ، ولَمْ یَتْرُکْ شَیْئاً رَضِیَهُ أَوکَرِهَهُ إِلَّا وجَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِیاً(1) ، وآیَةً مُحْکَمَةً، تَزْجُرُ عَنْهُ، أَوتَدْعُوإِلَیْهِ».
بعبارة أخری، أنّ اللّه سبحانه وتعالی أتمّ الحجّة فی جمیع أوامره ونواهیه وجهد رسول اللّه فی ابلاغ الرسالة؛ فأوضح المعالم من الدین وبین الأصول والفروع، وعلیه فلم یدع من مجال للبدع فی الدین.
ثم قال علیه السلام:
«فَرِضَاهُ فِیمَا بَقِیَ وَاحِدٌ، وسَخَطُهُ فِیمَا بَقِیَ وَاحِدٌ».
وعلیه فقد سلب هذه الذریعة فی أنّ أحکام عصر النّبی صلی الله علیه و آله إنّما تختص بعهده وعلینا الاجتهاد علی ضوء تغیر الزمان وتبدل الوسط، والواقع أنّ هذه العبارة إشارة إلی الحدیث النبوی الشریف:
«حَلالُ مُحَمَّد حَلالٌ أبَداً إلی یَوْمِ الْقِیامَةِ وحَرامُهُ حَرامٌ أبَداً إلی یَوْمِ الْقِیامَةِ»(2).
وقال فی تأکیده علی وحدة الرسالة بشأن جمیع الناس بما فیهم الماضون والحاضرون والقادمون:
«واعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ یَرْضَی عَنْکُمْ بِشَیء سَخِطَهُ عَلَی مَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ، ولَنْ یَسْخَطَ عَلَیْکُمْ بِشَیء رَضِیَهُ مِمَّنْ کَانَ قَبْلَکُمْ. وإِنَّمَا تَسِیرُونَ فِی أَثَر بَیِّن، وتَتَکَلَّمُونَ بِرَجْعِ قَوْل قَدْ قَالَهُ الرِّجَالُ مِنْ قَبْلِکُمْ».
ص:65
وتشیر کلّ هذه العبارات إلی وحدة تعالیم الأنبیاء وسفراء اللّه وطُرق السعادة والتکامل التی ابلغت من جانب اللّه بواسطة أنبیائه، رغم رقی التکامل البشری بفعل تقادم الزمان وهذا فی الواقع أحد فروع التوحید، وهو ما أکّده القرآن الکریم.
«آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَیْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ کُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلاَئِکَتِهِ وَکُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَانُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَد مِّنْ رُسُلِهِ»(1).
واختتم الإمام علیه السلام کلامه هنا بالإشارة لبعض الأمور المهمّة فقال:
«قَدْ کَفَاکُمْ مَؤُونَةَ دُنْیَاکُمْ، وحَثَّکُمْ عَلَی الشُّکْرِ، وافْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِکُمُ الذِّکْرَ».
إشارة من جانب إلی أنّه شملکم بأنواع النعم: «وَسَخَّرَ لَکُمْ مَّا فِی السَّمواتِ ومَا فِی الأَرْضِ» (2)
و «هُوالَّذِی خَلَقَ لَکُمْ مَّا فِی الأَرْضِ جَمِیعاً»(3) ومن جانب آخر أمرکم بالشکر الذی یوجب زیادة النعمة واستمرار العنایة الإلهیّة، ومن جانب آخر دعاکم لذکره والذی یعود علی قلوبکم بالطمأنینة والنجاة من مخالب الشیطان: «أَلَا بِذِکْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (4)«إِنَّ الَّذِینَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّیْطَانِ تَذَکَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ»(5).
وما یلاحظ من أنّ الإمام علیه السلام اکد علی ذکر اللسان من بین جمیع الأعمال الواجبة والمستحبة کونه مدعاة لیقظة القلب وهذه الیقظة هی المصدر الرئیسی للحرکة نحوالخیر والسعادة، أضف إلی ذلک فإنّ اللسان إن لم یلهج بالذکر سینطلق لخدمة الشیطان وأننا لنعلم أنّ العدید من الکبائر إنّما تصدرمن اللسان، جدیر بالذکر أنّ التوجه إلی النعم وشکر المنعم علی فضله ونعمه هو المحور الأصلی لمعرفة اللّه کما ورد فی علم العقائد.
ص:66
إنّ وحدة الأحکام الشرعیّة وسریانها علی الأولین والآخرین بما فیها الأقوام والأمم کافّة لمن الأمور المهمّة التی أکّد علیها الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة، وتوضیح ذلک أنّ تاریخ البشریّة فی الماضی والحاضر شهد أنواع التمییز بین الأقوام والشعوب فی وضع القوانین والتشریعات، فکانت هنالک الأحکام المختلفة التی تتأثر عادة بلون البشرة والأخری بالمنزلة الاجتماعیّة وکان دم ذوی البشرة البیضاء أثمن من نظیره لدی العبید فکانت هنالک الامتیازات الخاصّة لدی طبقة الأشراف فی سن القوانین.
فانبثق الإسلام لیلغی تلک الامتیازات کافّة إثر تبنیه لرسالة المساواة وعدم التمایز الطبقی وتکافو جمیع الأفراد مهما اختلفت ألوانهم وأعراقهم فی الحقوق والواجبات وجاء فی الخبر أنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بینما کان فی منی أیّام الحج راکباً دابته إذ التفت إلی الناس فقال:
«یا أَیُّها النّاسُ ألا إِنَّ رَبَّکُمْ واحِدٌ وإِنَّ أَباکُمْ واحِدٌ ألا لا فَضْلَ لِعَرَبِیٍّ عَلی عَجَمی، ولا لِعَجَمِی عَلی عَرَبی، ولا لاَِسْوَدَ عَلی أَحْمَرَ(1) ، ولا لاَِحْمَرَ عَلی اسْوَدَ إِلاّ بِالتَّقْوی. أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قالُوا نَعَم! قالَ لِیَبْلُغَ الشّاهِدُ الْغائِبَ»(2).
ولم یقتصر النّبی صلی الله علیه و آله علی هذا الکلام فی ذلک التجمع العظیم بمنی، بل أشار إلیه فی موارد کثیرة بصفته أحد المبادئ الإسلامیّة المسلمة، ففی الخبر أنّ سلمان الفارسی دخل مجلس النبی صلی الله علیه و آله فأکرمه النّبی لفضله وسنه وأجلسه فی صدر المجلس فلما رآه عمر أنکر ذلک وقال:
«مَنْ هذَا الْعَجَمِیٌّ الْمُتَصَدِّرُ فیما بَیْنَ الْعَرَبِ» فصعد النبی الأکرم صلی الله علیه و آله المنبر (الأمر الذی کان یقوم به لبیان حکم عام وأساسی) فخطب الناس وقال:
ص:67
«اِنَّ النّاسَ مِنْ آدَمَ إلی یَوْمِنا هذا مِثْلُ أسْنانِ الْمِشْطِ؛ لا فَضْلَ لِلْعَرَبِیِّ عَلَی الأَعْجَمِیِّ ولا لِلاَْحْمَرِ عَلَی الأَسْوَدِ إِلاّ بِالتَّقْوی، سَلْمانُ بَحْرٌ لا یُنْزَفُ وکَنْزٌ لا یَنْفَد، سَلْمانُ مِنّا أهْلَ الْبَیْتِ»(1).
یشیر هذا الحدیث صراحة إلی عدم مساواة الناس الذین یعیشون فی عصر معین إزاء القوانین الشرعیّة فحسب، بل شمولیته لجمیع الأفراد الذین سکنوا الأرض طیلة تاریخ البشریّة فی ظلّ نفس الظروف ویبدو لهذا المبدأ والحکم الإسلامی جدواه الفعلیه آنذاک حین کانت الامتیازات القبلیة بین العرب والامتیازات العرقیّة والتمایز الطبقی هو الحاکم فی العالم انذاک.
وکلام أمیرالمؤمنین علیه السلام فی هذه الخطبة إنّما هو تأکید لهذا الموضوع حین قال إنّ اللّه لن یرضی عنکم بشیء سخطه علی من کان قبلکم ولن یسخط علیکم بشیء رضیه ممن کان من قبلکم وما زال هذا القانون هو الحاکم، کما یبدو لهذا الکلام الذی یمثل امتداداً لکلمات النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قیمته القصوی علی أساس إعادة تلک الامتیازات الجاهلیة بما فیها امتیاز العرب علی العجم إبان خلافة عمر کما تفید تواریخ الفریقین.
ونختتم الحدیث هنا بعبارة من خطبته صلی الله علیه و آله فی حجة الوداع حین بین للجمیع أسس وقوانین الشریعة الإسلامیّة للجمیع:
«أَیُّهَا النّاسُ إنّ رَبَّکُمْ واحِدٌ وإِنَّ أباکُمْ واحِدٌ کُلُّکُمْ لِآدَمَ وآدَمُ مِنْ تُراب ، «إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَاللّهِ أَتْقاکُمْ»
ولَیْسَ لِعَربیٍّ عَلی عَجَمِیٍّ فَضْل إِلَّا بِالتَّقوی؛ ألا هَلْ بَلّغْتُ؟ قالُوا: نَعَمْ. قالَ: فَلْیَبْلُغِ الشّاهِدُ الْغائِبَ»(2).
صدرّ الإمام علیه السلام کلامه فی هذه الخطبة بأنّ القرآن صامت وناطق، بینما وصفه فی
ص:68
الخطبة 125 فی قصة التحکیم قائلاً:
«هذَا الْقُرْآنُ إِنَّما هُوخَطٌّ مَسْتُورٌ بَیْنَ الدَّفَتَیْنِ لا یَنْطِقُ بِلِسان ولابُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمان. وإِنَّما یَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ» کما ورد شبیه ذلک فی الخطبة 158.
فهل هنالک من تناقض بین هذه التعابیر؟ الجواب هو أنّ المراد من ناطقیة القرآن أنّه بین أحکام اللّه فیه بلسان عربی مبین، فکلّ من کان لدیه استعداد دعاه لنفسه وهداه للخیر والسعادة وعلیه فهو ناطق بالنسبة لدعاة الحقّ؛ أمّا بالنسبة إلی أولئک الأفراد المتعصبین والذین انبروا للنزاع فهم لا یسمعون رسالة القرآن وإن سمعوها تظاهروا بعدم السماع، ولا مناص لهؤلاء الأفراد من قاضٍ وحکم عادل یبلغهم رسالة القرآن ویتم علیهم الحجّة، علی سبیل المثال للقرآن رسالة واضحة فی قصة صفین حیث یقول: «فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَی الاُْخْرَی فَقَاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتّی تَفِیءَ إِلَی أَمْرِ اللّهِ»(1). فمن الواضح للجمیع أنّ علیّاً علیه السلام وإضافة إلی نصبه لخلافة النّبی صلی الله علیه و آله من جانب اللّه تعالی إنّما بویع من قبل قاطبة المؤمنین وأغلبیة المهاجرین والأنصار، ولم یکن معاویة وجیشه سوی حفنة من الطغاة الجفاة الذین أرادوا فرض أنفسهم علی الأمة، ولکن حیث انبروا لمواجهة حکم اللّه لزم أن یکون هناک حکم یأخذ بأیدیهم إلی الحقّ رغم أنّ مسألة التحکیم وللأسف لم تسر بالاتجاه الصحیح ولم تتوصل إلی النتیجة المتوخاة.
***
ص:69
ص:70
وأَوْصَاکُمْ بِالتَّقْوَی، وجَعَلَهَا مُنْتَهَی رِضَاهُ، وحَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ. فَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِی أَنْتُمْ بِعَیْنِهِ، ونَوَاصِیکُمْ بِیَدِهِ، وتَقَلُّبُکُمْ فِی قَبْضَتِهِ. إِنْ أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ، وإِنْ أَعْلَنْتُمْ کَتَبَهُ؛ قَدْ وَکَّلَ بِذلِکَ حَفَظَةً کِرَاماً، لَایُسْقِطُونَ حَقّاً، وَلَا یُثْبِتُونَ بَاطِلاً. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ (مَنْ یَتَّقِ اللّهُ یَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجاً) مِنَ الْفِتَنِ، ونُوراً مِنَ الظُّلَمِ، ویُخَلِّدْهُ فِیمَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ، ویُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْکَرَامَةِ عِنْدَهُ، فِی دَار اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ؛ ظِلُّهَا عَرْشُهُ، ونُورُهَا بَهْجَتُهُ، وزُوَّارُهَا مَلاَئِکَتُهُ، ورُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ؛ فَبَادِرُوا الْمَعَادَ، وسَابِقُوا الآجَالَ، فَإِنَّ النَّاسَ یُوشِکُ أَنْ یَنْقَطِعَ بِهِمُ الأَمَلُ، ویَرْهَقَهُمُ الأَجَلُ، ویُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ. فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِی مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَیْهِ الرَّجْعَةَ مَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ، وأَنْتُمْ بَنُوسَبِیل، عَلَی سَفَر مِنْ دَار لَیْسَتْ بِدَارِکُمْ، وقَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالاِْرْتِحَالِ، وأُمِرْتُمْ فِیهَا بِالزَّادِ.
أکّد الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة علی الدعوة إلی التقوی إلی جانب ذکره لسبب ذلک مع الإشارة إلی آثار التقوی، کما قدم شرحاً عمیقاً لتقلب الدنیا ورحلة الآخرة وما یلزمها من زاد ومتاع یکمن فی الورع والتقوی.
فقال بادئ الأمر:
«وأَوْصَاکُمْ بِالتَّقْوَی، وجَعَلَهَا مُنْتَهَی رِضَاهُ، وحَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ».
وتشیر هذه العبارة إلی أنّ التقوی أفضل شیء سأله اللّه عباده وأعظم فخر یتقلّده
ص:71
الجمیع والذی ینسجم مع الآیات القرآنیّة القائلة: «اِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاکُمْ»(1)، «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوَی»(2)، «تِلْکَ الْجَنَّةُ الَّتِی نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ کَانَ تَقِیّاً»(3) وجعل للتقوی قیمتها العمیقة.
والحقیقة هی أنّ التقوی شعور باطنی بالمسؤولیّة فهی ولیدة الإیمان القوی من جانب وأساس الطاعة واجتناب المعصیة من جانب آخر، والتعبیر بالحاجة بشأن اللّه تعالی لا یعنی أنّ اللّه محتاج إلی العباد فالحاجة لغویاً لا تقتصر علی الفقر، بل ترد أحیاناً بمعنی الطلب والسؤال.
ثم خاض الإمام علیه السلام فی الإشارة إلی الداعی لرعایة تقوی اللّه فقال:
«فَاتَّقُوا اللّهُ الَّذِی أَنْتُمْ بِعَیْنِهِ، ونَوَاصِیکُمْ(4) بِیَدِهِ، وتَقَلُّبُکُمْ(5) فِی قَبْضَتِهِ».
نعم فالعالم حاضر عند اللّه وزمام الجمیع بیده سبحانه، ورغم أنّ العباد أحرار فی ما یمارسون من أعمال، إلّاأنّ هذه الحریة لا تعنی سلب الذات القدسیّة قدرتها.
ثم قال علیه السلام لمزید من التأکید:
«اِنْ أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ، وإِنْ أَعْلَنْتُمْ کَتَبَهُ؛ قَدْ وَکَّلَ بِذلِکَ حَفَظَةً کِرَاماً، لَایُسْقِطُونَ حَقّاً، وَلَا یُثْبِتُونَ بَاطِلاً».
وجاء فی القرآن أیضاً: «وَأَسِرُّوا قَوْلَکُمْ أَواجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِیمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»(6).
وکذلک: «وَإِنَّ عَلَیْکُمْ لَحَافِظِینَ * کِرَاماً کَاتِبِینَ * یَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ»(7).
فمن البدیهی أنّ کتابة الأعمال من قبل الملائکة الحفظة إنّما هو للتأکید، وإلّا فقد اتضح من العبارات السابقة أنّ السر والعلانیّة سواء عند اللّه وعلمه محیط بکلّ ما فی السماوات والأرض، استناداً للعبارة
«قَدْ وَکَّلَ بِذلِکَ» وحصر هذه الکتابة بأعمال
ص:72
معینة
«وإِنْ أَعْلَنْتُمْ کَتَبَهُ» فالذی یستفاد أنّ الملائکة لیست مأمورة بکتابة کلّ الأعمال الخفیة وأنّ اللّه الستار للعیوب قد أخرج جانباً من هذه الأعمال عن دائرة علمهم واختص بها نفسه وهذا یشیر إلی منتهی لطفه.
جاء فی دعاء کمیل:
«وَکُلَّ سَیِّئَة أَمَرْتَ بِاِثْباتِهَا الْکِرامَ الْکاتِبینَ الَّذینَ وَکَّلْتَهُمْ بِحِفْظِ ما یَکُونُ مِنّی وَجَعَلْتَهُمْ شُهُوداً عَلَیَّ مَعَ جَوارِحی وَکُنْتَ أَنْتَ الرَّقیبَ عَلَیَّ مِنْ وَرآئِهِمْ وَالشّاهِدَ لِما خَفِیَ عَنْهُمْ وَبِرَحْمَتِکَ اخْفَیْتَهُ وَبِفَضْلِکَ سَتَرْتَهُ».
ثم خاض الإمام علیه السلام فی بیان آثار وبرکات التقوی فذکر بعبارة قصیرة عمیقة المعنی أربع نتائج تفرزها التقوی. فقال فی الأُولی والثانیة:
«وَاعْلَمُوا أَنَّهُ «مَنْ یَتَّقِ اللّهُ یَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجاً»
مِنَ الْفِتَنِ، ونُوراً مِنَ الظُّلَمِ».
فالشق الأوّل من الکلام اقتباس من الآیة الشریفة: «وَمَنْ یَتَّقِ اللّهُ یَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجاً»(1).
روی أبوذر الغفّاری عن النّبی صلی الله علیه و آله أنّه قال:
«إنّی لاَعْلَمُ آیةً لَوأَخَذَ بِهَا النّاسُ لَکَفَفَتْهُمْ : «ومَنْ یَتَّقِ اللّهَ یَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً»
فَما زالَ یَقُولُها ویُعیدُها»(2).
والشق الثانی من سائر الآیات مثل: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ امَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ یَجْعَلْ لَّکُمْ فُرْقَاناً» (3)(ورؤیة خاصة تتعرفون من خلالها علی الحقّ والباطل).
وقال فی الثمرة الثالثة والرابعة للتقوی:
«ویُخَلِّدْهُ فِیمَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ، ویُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْکَرَامَةِ عِنْدَهُ، فِی دَار اصْطَنَعَهَا(4) لِنَفْسِهِ».
فنتیجة التقوی فی هذه العبارة الخروج من الفتنة وزوال الظلمات من حیاة المتّقین فی هذا العالم والخلود فی النعم المادیّة والمعنویّة فی العالم الآخر، فالواقع أنّ اللّه سبحانه وتعالی جمع للمتّقین النعم المادیّة والمعنویّة لهذا العالم والعالم الآخر
ص:73
والعبارات تشیر کلّ منها إلی إحدی هذه النعم.
وتشیر العبارة
«اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ» أنّ اللّه خلق منازل الآخرة الخاصّة لخواصه أو أنّها من قبیل بعض العبارات مثل «بیت اللّه» و «شهراللّه» التی تشیر إلی عظمة تلک الدار وأهمیّتها.
ثم خاض الإمام علیه السلام فی شرح صفات ذلک المنزل الخاص فقال:
«ظِلُّهَا عَرْشُهُ، ونُورُهَا بَهْجَتُهُ، وزُوَّارُهَا مَلاَئِکَتُهُ، ورُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ».
یا له من منزل رفیع ذلک الذی یفوق السماء والأرض وفی ظلّ عرش اللّه، أضاءته أشعة نور اللّه وتقاطرت فیه ملائکته علی زیارة ذلک الإنسان وجالس فیها رسل اللّه وأنبیاءه، وهی الصفات التی تسحر الإنسان عند سماعها، فما ظنک برؤیتها؟
قال تعالی فی القرآن الکریم: «وَمَنْ یُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلئِکَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَیْهِمْ مِّنَ النَّبِیِّینَ وَالصِّدِّیقِینَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِینَ وَحَسُنَ أُوْلئِکَ رَفِیقاً»(1).
وخلص الإمام علیه السلام فی مواصلة کلامه بالدعوة إلی التقوی وبیانه لبرکاتها بالقول:
«فَبَادِرُوا الْمَعَادَ، وسَابِقُوا الآجَالَ».
کما قال القرآن: «سَابِقُوا إِلی مَغْفِرَة مِّنْ رَّبِّکُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا کَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»(2).
وقال فی موضع آخر: «وَالْمَلاَئِکَةُ یَدْخُلُونَ عَلَیْهِمْ مِّنْ کُلِّ بَاب * سَلاَمٌ عَلَیْکُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَی الدَّارِ»(3).
ثم خاض علیه السلام فی بیان العلّة فقال:
«فَإِنَّ النَّاسَ یُوشِکُ أَنْ یَنْقَطِعَ بِهِمُ الأَمَلُ، ویَرْهَقَهُمُ(4) الأَجَلُ، ویُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ. فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِی مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَیْهِ الرَّجْعَةَ
ص:74
مَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ».
والکلام إشارة لما ورد فی القرآن: «حَتَّی إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّی أَعْمَلُ صَالِحاً فِیمَا تَرَکْتُ کَلاّ إِنَّهَا کَلِمَةٌ هُوقَائِلُهَا»(1).
ومراد الإمام علیه السلام بادروا الیوم إلی العمل الصالح والتوبة من الذنب قبل أن تعیشوا مثل هذا المصیر وتطلبوا ما لا یلّبی لکم.
وحث إثر ذلک علی التأهب لسفر الآخرة والاستعداد والتزود لذلک السفر الطویل والملیئ بالمخاطر فقال:
«وأَنْتُمْ بَنُو سَبِیل، عَلَی سَفَر مِنْ دَار لَیْسَتْ بِدَارِکُمْ».
واختتمها بالعبارة:
«وقَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالاِْرْتِحَالِ، وأُمِرْتُمْ فِیهَا بِالزَّادِ».
وعادة ما یلاحظ مثل هذا التشبیه الرائع للدار الآخرة والدنیا وسکنة هذا العالم فی بعض الآیات القرآنیّة والعدید من الروایات الإسلامیّة التی شبهت الإنسان بالمسافر الذی ینطلق نحو الهدف المطلوب وعلیه أن یطرق بعض الأیّام أثناء الطریق فیتوقف فی بعض الأماکن فیهیء الزاد والمتاع وینطلق من هناک ولیس المراد من الزاد والمتاع سوی التقوی کما لیس المراد من المرکب سوی الإیمان، فأولئک الذین یقصرون فی الإعداد إنّما یتخلّفون فی الطریق ویهلکون ولا یبلغون المقصد قط فقافلة الأنبیاء والأوصیاء علیهم السلام مازالت تنادی بالرحیل والتزود لذلک السفر الطویل، وإن غط البعض فی نوم عمیق وفقد الآذان الصاغیة فصم عن سماع ذلک النداء.
قال تعالی فی محکم کتابه:
«وَإِنَّ الاْخِرَةَ هِیَ دَارُ الْقَرَارِ»(2). وقال: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوَی»(3).
***
ص:75
ص:76
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَیْسَ لِهذَا الْجِلْدِ الرَّقِیقِ صَبْرٌ عَلَی النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَکُمْ، فَإِنَّکُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِی مَصَائِبِ الدُّنْیَا.
أَفَرَأَیْتُمْ جَزَعَ أَحَدِکُمْ مِنَ الشَّوْکَةِ تُصِیبُهُ، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِیهِ، والرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ؟ فَکَیْفَ إِذَا کَانَ بَیْنَ طَابَقَیْنِ مِنْ نَار، ضَجِیعَ حَجَر، وقَرِینَ شَیْطَان! أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِکاً إِذَا غَضِبَ عَلَی النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ، وإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَیْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ!
إثر تأکیدات الإمام علیه السلام علی الورع والتقوی فی القسم السابق من الخطبة أشار هنا بعبارات رائعة إلی شدة العذاب یوم القیامة فقال:
«وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَیْسَ لِهذَا الْجِلْدِ الرَّقِیقِ صَبْرٌ عَلَی النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَکُمْ».
ثم جسد بمقارنة بسیطة وواضحة شدّة إحراق نار جهنم فقال:
«فَإِنَّکُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِی مَصَائِبِ الدُّنْیَا، أَفَرَأَیْتُمْ جَزَعَ أَحَدِکُمْ مِنَ الشَّوْکَةِ(1) تُصِیبُهُ، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِیهِ(2) ، والرَّمْضَاءِ(3) تُحْرِقُهُ؟ فَکَیْفَ إِذَا کَانَ بَیْنَ طَابَقَیْنِ(4) مِنْ نَار، ضَجِیعَ حَجَر،
ص:77
وقَرِینَ شَیْطَان!».
وقال فی مواصلته لهذا الکلام:
«أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِکاً إِذَا غَضِبَ عَلَی النَّارِ حَطَمَ(1) بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ، وإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ(2) بَیْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ!».
وللمرحوم «مغنیة» حین بلغ هذا القسم من الخطبة کلام رائع حیث یقول: «إنّ جمیع خطب نهج البلاغة تبحث أصلین أو ثلاثة أصول مع بعضها، فمن جانب الثناء علی صفات اللّه الجمالیّة والجلالیّة وأسمائه الحسنی ومن جانب آخر مدح النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وما أتی به من هدی للناس وأخیراً الکلام عن خداع الدنیا وسکرات الموت ووحشة القبر وألیم العذاب فی القیامة، والعجیب أنّ هذه الخطب لا تتضمن التکرار رغم تکرر هذه المواضیع، حیث یوردها بأسلوب بدیع وشکل جدید، الأمر الذی أذهل شرّاح نهج البلاغة»(3).
علی کلّ حال فإنّ الإمام علیه السلام شرح فی هذا الکلام عجز الإنسان وانزعاجه الشدید من مصائب الدنیا الهینة وقارنها مع ألیم العذاب وشدّة المصاب فی الآخرة لیحذر الجمیع من ذلک.
وقد ورد شبیه ذلک فی دعاء کمیل حیث یقول:
«یا رَبِّ وَاَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفی عَنْ قَلیل مِنْ بَلاءِ الدُّنْیا وَعُقُوباتِها وَما یَجْری فیها مِنَ الْمَکارِهِ عَلی اهْلِها عَلی انَّ ذلِکَ بَلاءٌ وَمَکْرُوهٌ قَلیلٌ مَکْثُهُ یَسیرٌ بَقآؤُهُ قَصیرٌ مُدَّتُهُ فَکَیْفَ احْتِمالی لِبَلاءِ الاْخِرَةِ وَجَلیلِ وُقُوعِ الْمَکارِهِ فیها وَهُوبَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ وَیَدُومُ مَقامُهُ وَلا یُخَفَّفُ عَنْ اهْلِهِ».
والذی یستفاد ضمنیاً من العبارات المذکورة أنّ نار جهنم مخلوق فطن، یشعر بالرعب من غضب مالک خازن النار فیتأرجح هنا وهناک، کما یفهم من تلک
ص:78
التعبیرات أنّ لعذاب جهنم بعد جسمی هو حرقة النار وآخر معنوی یتمثل فی مجاورة الشیطان.
***
ص:79
ص:80
أَیُّهَا الْیَفَنُ الْکَبِیرُ، الَّذِی قَدْ لَهَزَهُ الْقَتِیرُ، کَیْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الأَعْنَاقِ، ونَشِبَتِ الْجَوَامِعُ حَتَّی أَکَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ. فَاللّهَ اللّهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ! وأَنْتُمْ سَالِمُونَ فِی الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ، وفِی الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضِّیقِ. فَاسْعَوْا فِی فَکَاکِ رِقَابِکُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا. أَسْهِرُوا عُیُونَکُمْ، وأَضْمِرُوا بُطُونَکُمْ، واسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَکُمْ، وأَنْفِقُوا أَمْوَالَکُمْ، وخُذُوا مِنْ أَجْسَادِکُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَی أَنْفُسِکُمْ، وَلَا تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا، فَقَدْ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ: «إِنْ تَنصُرُوا اللّهُ یَنصُرْکُمْ وَیُثَبِّتْ أَقْدَامَکُمْ» وقَالَ تَعَالَی: «مَنْ ذَا الَّذِی یُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَیُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ کَرِیمٌ». فَلَمْ یَسْتَنْصِرْکُمْ مِنْ ذُلٍّ، ولَمْ یَسْتَقْرِضْکُمْ مِنْ قُلٍّ؛ اسْتَنْصَرَکُمْ «ولَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وهُوالْعَزِیزُ الْحَکِیمُ». وَاسْتَقْرَضَکُمْ «ولَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وهُوالْغَنِیُّ الْحَمِیدُ». وإِنَّمَا أَرَادُ أَنْ «لِیَبْلُوَکُمْ أَیُّکُمْ أَحْسَنُ عَمَلا».
تغیرت نبرة الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة لیخاطب الکهول ویستعرض لهم جانباً من أشد عذاب وأهوال یوم القیامة، ثم یدعو عباد اللّه کافّة اغتنام الفرصة بغیة الخلاص من عذاب اللّه ونقمته لیقدم تعالیم دقیقة بهذا الشأن یتمثل أحدها فی الانفاق فقال علیه السلام:
«أَیُّهَا الْیَفَنُ(1) الْکَبِیرُ، الَّذِی قَدْ
ص:81
لَهَزَهُ(1) الْقَتِیرُ(2) ، کَیْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ(3) أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الأَعْنَاقِ، ونَشِبَتِ(4) الْجَوَامِعُ(5) حَتَّی أَکَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ(6)».
السؤال الذی یطرح نفسه هنا: لماذا خاطب الإمام علیه السلام الشیخ المسن؟ لعل ذلک یعود إلی أنّ شمس عمره توشک علی المغیب - وإن کان الموت یأتی کلّ أحد بغتة - وعلیه أن یرکز فی الانتباه لنفسه، أو لأنّ للکهول تأثیراً علی أُسرهم وأبنائهم وباستطاعتهم نصحهم ووعظهم.
العبارة:
«قَدْ لَهَزَهُ الْقَتِیرُ» استناداً إلی أنّ
«لهز» یعنی فی الأصل نفوذ الشیء واتساعه فی شیء آخر و
«قتیر» من مادة قتر بمعنی التضییق والتصعبب فالعبارة تفید أنّ الشیخوخة قد نفذت فی کلّ کیانهم فقد ضعفت العظام وبهت الدماغ والأعصاب وعجزت أعضاء البدن کافّة.
وقد أشار الإمام علیه السلام إلی نوعین من العذاب الألیم الذی یحیق بأهل جهنم، أحدهما أطواق النار التی تطوق أعناق المجرمین وتتغلغل فی لحومهم حتی تبلغ عظامهم والآخر غل الجامعة التی تربط أیدیهم إلی أعناقهم بحیث تجرح سواعد أیدیهم، طبعاً هذا العذاب وإن کان شدید الألم إلّاأنّه یعتبر رحمة بفعل دوره فی حجزهم عن الذنب والمعصیة.
ثم واصل کلامه علیه السلام موجهاً الخطاب لجمیع العباد فقال:
«فَاللّهُ اللّهُ مَعْشَرَ الْعِبَادِ!
ص:82
وأَنْتُمْ سَالِمُونَ فِی الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ، وفِی الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضِّیقِ. فَاسْعَوْا فِی فَکَاکِ رِقَابِکُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا(1)».
فقد أشار الإمام علیه السلام هنا إلی نعمتین کبیرتین؛ إحداهما السلامة والعافیة والأخری إعداد الإمکانات التی تمکن الإنسان من الإقدام علی أی عمل. نعم فهو یحذر الجمیع من استغلال هذه الفرص والخلاص من تبعات المسؤولیّة.
وتشیر العبارة
«فَاسْعَوْا فِی فَکَاکِ رِقَابِکُمْ» إلی سلسلة من التکالیف التی لا مناص للإنسان من القیام بها، فقد کان السائد لدی الأقوام السابقة أنّ الدائن یستعبد المدین مالم یتمکن من أداء دینه، ولا یعتق مالم یسدد ذلک الدین، فالعبارة المذکورة یمکن أن تکون کنایة عن هذا المطلب.
والعبارة:
«مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا» إشارة إلی أنّ الشخص المدین إن تخلف عن أداء الدین خرج عن ملکیته ما کان مرتهناً لدی المدین (طبعاً بمقدار الطلب) فقد أشار الإمام علیه السلام إلی ضرورة أداء الدیون الإلهیّة والمراد بها الواجبات بغیة تحریر رهائنهم لدیه والمراد به أنفسهم.
ثم واصل الإمام علیه السلام بالخوض فی تفاسیر العبارات التی ذکرها سابقاً بصورة کلیة فرکز علی خمسة مواضیع وقال:
«أَسْهِرُوا(2) عُیُونَکُمْ، وأَضْمِرُوا(3) بُطُونَکُمْ، واسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَکُمْ، وأَنْفِقُوا أَمْوَالَکُمْ، وخُذُوا مِنْ أَجْسَادِکُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَی أَنْفُسِکُمْ، وَلَا تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا».
والمراد من
«أَسْهِرُوا عُیُونَکُمْ» أسهروا عیونکم المناجاة فی اللیل سیما صلاة التهجد.
«وأَضْمِرُوا بُطُونَکُم» إشارة إلی الصیام،
«واسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَکُمْ» إشارة إلی قیام اللیل أو السعی فی قضاء حوائج الناس واغاثة الملهوفین،
«وأَنْفِقُوا أَمْوَالَکُمْ» إشارة إلی الخمس والزکاة الواجبة والصدقات المستحبة
«وخُذُوا مِنْ أَجْسَادِکُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَی أَنْفُسِکُمْ» إشارة إلی العبادة وتهذیب النفس والجهاد فی سبیل اللّه.
ص:83
ثم استدل الإمام علیه السلام علی کلامه بالاستشهاد بآیتین من القرآن فقال:
«فَقَدْ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ : «إِنْ تَنصُرُوا اللّهُ یَنصُرْکُمْ وَیُثَبِّتْ أَقْدَامَکُمْ»(1)».
وقَالَ تَعَالَی: «مَنْ ذَا الَّذِی یُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَیُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ کَرِیمٌ»(2).
وقال علیه السلام فی شرحه لهذه الآیات:
«فَلَمْ یَسْتَنْصِرْکُمْ مِنْ ذُلٍّ، ولَمْ یَسْتَقْرِضْکُمْ مِنْ قُلٍّ؛ اسْتَنْصَرَکُمْ «ولَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وهُوالْعَزِیزُ الْحَکِیمُ»
وَاسْتَقْرَضَکُمْ «ولَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وهُو الْغَنِیُّ الْحَمِیدُ»
وإِنَّمَا أَرَادُ أَنْ «لِیَبْلُوَکُمْ أَیُّکُمْ أَحْسَنُ عَمَلا»».
إشارة إلی أنّ اللّه اعتمد غایة اللطف فی الکلام لیتعظ من کان له أدنی استعداد لطاعته بتلک التعبیرات المفعمة باللطف والمحبّة فیحث الخطی علی التسلیم للّه.
والحقیقة أنّ کلام الإمام علیه السلام جواب لسؤال هو هل یمکن للّه تعالی الذی له جند السماوات والأرض أن یستعین بعبده الضعیف العاجز الذی لا یملک لنفسه سوی ما أفاض اللّه علیه؟ أم یستقرض عبده الضعیف الذی یرتع فی نعمه وهو الذی بیده خزائن السماوات والأرض؟ فلو أراد اللّه اعانة ضعیف لما لا یعینه، ولو أراد اثراء فقیر لما لا یقوم هو بهذا العمل؟ أشار الإمام علیه السلام إلی أنّ الهدف من کلّ هذه الأمور هو الامتحان والاختبار.
جدیر بالذکر أنّ جمیع ما ذکر اقتباس من القرآن الکریم، إذ قال تعالی فی موضع «وَلَو یَشَاءُ اللّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلکِنْ لِّیَبْلُوَا بَعْضَکُمْ بِبَعْض»(3).
وفی موضع آخر: «الَّذِی خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَیَاةَ لِیَبْلُوَکُمْ أَیُّکُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»(4) وآیات أخری.
***
ص:84
فَبَادِرُوا بَأَعْمَالِکُمْ تَکُونُوا مَعَ جِیرَانِ اللّهِ فِی دَارِهِ. رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَهُ، وأَزَارَهُمْ مَلاَئِکَتَهُ، وأَکْرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِیسَ نَار أَبَداً، وصَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَی لُغُوباً ونَصَباً: (ذَلِکَ فَضْلُ اللّهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشَاءُ وَاللّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِیمِ). أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَی نَفْسِی وأَنْفُسِکُمْ، وهُوحَسْبُنَا ونِعْمَ الْوَکِیلُ!
خلص الإمام علیه السلام فی ختام الخطبة إلی نتیجة واضحة وهی أنّ کان الأمر کذلک
«فَبَادِرُوا بَأَعْمَالِکُمْ تَکُونُوا مَعَ جِیرَانِ اللّهِ فِی دَارِهِ».
ثم خاض علیه السلام فی خصائص هؤلاء الجیران فقال:
«رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَهُ، وأَزَارَهُمْ مَلاَئِکَتَهُ، وأَکْرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِیسَ(1) نَار أَبَداً، وصَانَ(2) أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَی لُغُوباً(3) ونَصَباً (4): «ذَلِکَ فَضْلُ اللّهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشَاءُ وَاللّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِیمِ»(5)».
فقد بیّن الإمام علیه السلام بهذه العبارات الرائعة أربع خصائص لجیران اللّه اثنان منها لهما
ص:85
بعد معنوی والاثنان الآخران لهما بعد مادی؛ فمرافقة الأنبیاء وزیارة الملائکة کرامتان معنویتان وکرامتان روحیتان لا مثیل لهما کما أنّ عدم سماع أدنی صوت لنار جهنم وصون الاجساد من أی تعب ونصب کرامتان مادیتان لا نظیر لهما کذلک.
ولیت شعری أی کرامة أسمی من أن یرافق الإنسان هؤلاء المقرّبین فی غرف الجنّة ویشمل بهذه النعم المعنویّة والمادیّة.
ویؤکد الإمام علیه السلام ضمنیاً بالاستفادة من الآیة الشریفة علی أهمیّة هذه النعم الأخرویة ویعدها من فضائل اللّه العظمی.
والعبارة:
«وأَکْرَمَ أَسْمَاعَهُمْ...» اقتباس من الآیة: «لَایَسْمَعُونَ حَسِیسَهَا وَهُمْ فِی مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ»(1).
والعبارة:
«وصَانَ أَجْسَادَهُمْ...» إشارة إلی الآیة الشریفة: «لَایَمَسُّنَا فِیهَا نَصَبٌ وَلَا یَمَسُّنَا فِیهَا لُغُوبٌ»(2).
وهنا یرد هذا السؤال: تُری من هم جیران اللّه الذین لهم هذه الکرامات؟
فالتعبیر بجیران اللّه یشیر إلی أنّهم من خواص اللّه ومقرّبیه بحیث استحقوا اسم جیران اللّه ویتّضح من زیارة الملائکة والأنبیاء لهم أنّهم لیسوا أنبیاء ولا ملائکة، وعلیه فلابدّ أن یکونوا من الصدیقین والشهداء والحواریین الذین تمحوروا حول الأنبیاء والأولیاء وأصبحوا علی ما هم علیه فی ظلّ الورع والتقوی وتهذیب النفس لیشملوا بکل هذه العنایة الإلهیّة، علی غرار ما قال القرآن الکریم: «وَمَنْ یُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلئِکَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَیْهِمْ مِّنَ النَّبِیِّینَ وَالصِّدِّیقِینَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِینَ وَحَسُنَ أُوْلئِکَ رَفِیقاً»(3).
والشاهد علی هذا الموضوع ما ذکره الإمام علیه السلام فی الرسالة 27 بشأن تلک الثلّة
ص:86
من المتّقین الذی بلغوا درجة من الورع والتقوی ومنزلة رفیعة من الزهد وعدم الاعتناء بزخارف الدنیا واکتسبوا بحقّ اسم جیران اللّه.
ثم اختتم خطبته لإتمام الحجّة فقال:
«أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَی نَفْسِی وأَنْفُسِکُمْ، وهُوحَسْبُنَا ونِعْمَ الْوَکِیلُ!».
وعلیه فقد أتمّ الحجّة علیهم من جانب ودعا لهم بالموفقیة من جانب آخر وأفصح بالتالی عن توکله علی اللّه فی جمیع الأحوال.
لقد کشف الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة عن أروع الدروس التی یمکن أن ینطوی علیها من سلک سبیل الحقّ بغیة التربیة والتهذیب کما تطرق بعبارات قصیرة وعمیقة المعنی إلی منهج السیر والسلوک إلی اللّه تعالی.
فقد أثار لدیهم الشعور بخشیة اللّه من خلال ذکره لجانب من العذاب الألیم لنار جهنم، ثم حذرهم من أنّ أعمارهم وعافیتهم إنّما هی أمانة مستودعة وستعاد یوماً ما إلی صاحبها.
وعلیه فلابدّ من اغتنام الفرصة والمبادرة إلی العمل کما ورد فی الحدیث النبوی الشریف:
«إِغْتنم خَمساً قَبْلَ خَمْس؛ حَیاتَکَ قَبْلَ مَوْتِکَ وصِحَّتَکَ قَبْلَ سُقْمِکَ وفَراغَکَ قَبْلَ شُغْلِکَ وشَبابَکَ قَبْلَ هَرَمِکَ وغِناکَ قَبْلَ فَقْرِکَ»(1).
ثم أشار إلی العبادة وتهذیب النفس فأوصی بإحیاء اللیل وقلّة الطعام وتوظیف الجوارح فی خدمة الخلق والسعی إلی الجهاد ومن ثم انفاق الأموال، وبالتالی الحد من الجسم لصالح الروح لیبث الأمل فی قلوب السالکین بوعد اللّه من خلال استشهاده ببعض الآیات القرآنیّة.
ص:87
وأخیراً رسخ الدوافع المعنویّة عن طریق ذکر الثواب العظیم الذی ینتظرهم جوار قرب اللّه. نعم فقد أدی معلم الإنسانیّة العظیم وقائد الغرّ المحجلین حقّ المطلب بعبارات قصیرة واضحة فی اطار تعالیم متکاملة.
***
ص:88
قالَهُ لِلْبُرجِ بْنِ مُسْهِر الطّائی، وقَدْ قالَ لَهُ بِحَیْثُ یَسْمَعُهُ:
«لا حُکْمَ إِلَّا للّهِ»، وکانَ مِنَ الْخَوارِجِ (1)
نعلم أنّ الخوارج - تلک الفئة الجاهلة والمتعصبة التی ثارت علی الإمام علیه السلام بعد التحکیم فی صفین - وکان شعارهم
«لا حُکْمَ إِلَّا للّهِ» ومرادهم عدم ضرورة تعیین حَکم یوم صفین، فلا حَکم إلّااللّه؛ وقد استعمل هذا الشعار بصیغة منحرفة وخاطئة من قبل الخوارج، وحین رفع بُرج بن مُسهر الطائی هذا الشعار عند الإمام علیه السلام، عنفه علیه السلام بکلمات لاذعة وعنیفة، حتی لا یجر واحداً غیره علی رفع هذا الشعار المضل (قدمنا شرحاً وافیاً بشأن هذا الشعار الذی رفعته هذه الفئة الضالة فی الخطبة 40 من هذا الشرح)
***
ص:89
ص:90
اسْکُتْ قَبَّحَکَ اللّهُ یَا أَثْرَمُ، فَوَاللّهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ فَکُنْتَ فِیهِ ضَئِیلاً شَخْصُکَ، خَفِیّاً صَوْتُکَ؛ حَتَّی إِذَا نَعَرَ الْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ.
فی بدایة الکلام أجبر الإمام علیه السلام هذا الخارجی علی السکوت. ثمّ لیعرفه جیداً الناس ذکر صفاته السیئة وسابقته البشعة، فقال:
«اسْکُتْ قَبَّحَکَ اللّهُ یَا أَثْرَمُ».
کلمة «أثرم» التی تعنی الشخص الذی ضرب علی فمه وکسرت أسنانه الإمامیّة إشارة إلی أنّ فمک واسنانک تشیر إلی أنّ مخالفیک ضربوک لأنّک بذیء اللسان، إضافة إلی ذلک فإنّ من کسرت أسنانه الأمامیّة لا یستطیع أن یتکلّم بطلاقة والأفضل له أن یسکت.
ثم واصل ذکر ماضیه السیء فقال:
«فَوَاللّهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ فَکُنْتَ فِیهِ ضَئِیلاً(1) شَخْصُکَ، خَفِیّاً صَوْتُکَ؛ حَتَّی إِذَا نَعَرَ الْبَاطِلُ نَجَمْتَ(2) نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ(3)».
إشارة إلی أنّک لم تحضر ولم تدافع عن الحقّ عند ظهور الإسلام حین بعثة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أو ظهور ولایة الحقّ لأمیرالمؤمنین علی علیه السلام بل کنت شخصاً ضعیفاً لا یکترث لکلامک، أمّا الآن وقد صدع صوت الباطل فقد انضممت إلیه لتطلق ذلک الشعار عن حماقة وجهل، ویتّضح من خلال تأمّل سوابق هذا الرجل ومن شاکله
ص:91
العقیدة والظروف التی کانت سائدة آنذاک أنّ هذه المواجهة العنیفة من قبل الإمام علیه السلام والعبارات المحقرة له کانت غایة فی الحکمة، ولولا ذاک لکان یخشی انخداع الأفراد السطحیین بزیف ذلک الشعار.
والخوارج فئة سطحیة متعصبة جاهلة خلقت العدید من الإرباکات للمجتمع الإسلامی. کما أنّ قسوتهم وغلظتهم فاقت الوصف فی تاریخ الإسلام، ولحسن الحظ فقد تعرفت علیهم المجتمعات الإسلامیّة طیلة التاریخ فاقصتهم عن الساحة ولعل هنالک القلیل من سلیلیهم والذین لا یتظاهرون وبتلک العقیدة الباطلة.
اعتبر ابن أبی الحدید برج بن مسهر أحد شعراء الخوارج الذی ینتمی إلی یعرب بن قحطان؛ إلّاأنّ البعض یعتقد أنّ برج بن مسهر الشاعر هو شخص آخر، عاش فی العهد الجاهلی (ویحتمل أنّه أدرک ظهور الإسلام) وقد روی أبو تمام أبیاتاً من شعره فی الحماسة(1).
وبرج بن مسهر الطائی الخارجی الذی حقره الإمام علیه السلام شخص مجهول لم یرد اسمه فی کتب الرجال المعروفة، ویؤید ذلک عبارة أمیر المؤمنین علیه السلام حین خاطبه بأنّک شخص ضئیل ومجهول ولا قدرة لک علی الکلام.
***
ص:92
یَحْمَدُ اللّهَ فِیْها وَیُثْنِی علی رَسُولِهِ وَیَصِفُ خَلْقاً مِنَ الْحَیَوانِ(1)
تعدّ هذه الخطبة من الخطب الجامعة فی نهج البلاغة والتی تسهب فی المعارف الدینیّة وتتکون فی الواقع من ستة أقسام، ففی القسم الأوّل - وعلی غرار أغلب خطب نهج البلاغة - جری الکلام فی حمد اللّه والثناء علیه وذکر أسمائه وصفاته بعبارات غایة فی الدقة والروعة.
وتطرق القسم الثانی إلی رسالة الرسول صلی الله علیه و آله ومشاریعه العملیّة.
ورکز فی القسم الثالث علی خلق بعض الأحیاء کنموذج حی لآیات علم اللّه وقدرته سیما بشأن النمل وخلق السماوات والأرض والشمس والقمر.
وخاض - فی القسم الرابع - فی نتائج ما قیل لیکشف عن عظمة الخالق التی تقف وراء هذه المشاهد العجیبة وحذر أولئک الذین یرون هذه الآیات وینکرونها عملیاً.
ص:93
وتطرق فی القسم الخامس ثانیة إلی خلقة کائن عجیب آخر هو الجرادة وخاض فی جزئیات خلقه.
واختتم الخطبة فی القسم الأخیر لیخلص فی نتیجة جامعة لینهی خطبته ببحث کلّی بشأن نظام الخلق وعظمة الخالق وخضوع جمیع المخلوقات لذاته القدسیّة.
جدیر ذکره أنّ تنظیم الخطب هنا یختل فی أغلب شروح نهج البلاغة؛ فقد ذکر البعض هذه الخطبة بالرقم 231 (مثل ابن أبی الحدید وفیض الإسلام) بینما ذکروا بدلاً من هذه الخطبة التی وردت بالرقم 185 فی نسخة صبحی الصالح خطبة همام؛ والبعض بالرقم 227 (مثل نسخة بنیاد نهج البلاغة وشرح ابن میثم).
وذکرها المرحوم الشارح الخوئی بالرقم 184؛ ولکننا - کما یعلم الإخوة القراء - نتبع نسخة صبحی الصالح.
***
ص:94
الْحَمْدُ للّهِ الَّذِی لَاتُدْرِکُهُ الشَّوَاهِدُ، وَلَا تَحْوِیهِ الْمَشَاهِدُ، وَلَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ، وَلَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ، الدَّالِّ عَلَی قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ، وبِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَی وَجُودِهِ، وبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَی أَنْ لَاشَبَهَ لَهُ. الَّذِی صَدَقَ فِی مِیعَادِهِ، وارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ، وقَامَ بِالْقِسْطِ فِی خَلْقِهِ، وعَدَلَ عَلَیْهِمْ فِی حُکْمِهِ. مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الأَشْیَاءِ عَلَی أَزَلِیَّتِهِ، وبِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَی قُدْرَتِهِ، وبِمَا اضْطَرَّهَا إِلَیْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَی دَوَامِهِ. وَاحِدٌ لَابِعَدَد، ودَائِمٌ لَابِأَمَد، وقَائِمٌ لَا بِعَمَد. تَتَلَقَّاهُ الأَذْهَانُ لَابَمُشَاعَرَة، وتَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِی لَابِمُحَاضَرَة. لَمْ تُحِطْ بِهِ الأَوْهَامُ، بَلْ تَجَلَّی لَهَا بِهَا، وبِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا، وإِلَیْهَا حَاکَمَهَا. لَیْسَ بِذِی کِبَر امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَایَاتُ فَکَبَّرَتْهُ تَجْسِیماً، وَلَا بِذِی عِظَم تَنَاهَتْ بِهِ الْغَایَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِیداً؛ بَلْ کَبُرَ شَأْناً، وعَظُمَ سُلْطَاناً.
ما أن استهل الإمام علیه السلام الخطبة بحمد اللّه والثناء علیه حتی خاض فی صفاته التی تنفی عنه الجسمیة والحدوث والشبیه والمثیل فقال علیه السلام:
«الْحَمْدُ اللّهِ الَّذِی لَاتُدْرِکُهُ الشَّوَاهِدُ، وَلَا تَحْوِیهِ الْمَشَاهِدُ، وَلَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ، وَلَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ».
فما جاء فی هذه الصفات الأربع أمور تنفی أی شائبة جسمیّة عن اللّه تعالی، فلا عین تراه ولا حواس تدرکه ولا مکان یحویه ولا شیء یخفیه.
«شَواهِد» جمع
«شاهِدَة» بمعنی الحس و
«مَشاهِد» جمع
«مَشْهد» بمعنی
ص:95
مکان الحضور والظهور.
«نَواظِر» جمع
«ناظِرَة» قوّة الباصرة و
«سَواتِر» جمع
«ساتِرَة» بمعنی الستر وکل ما یستر الأشیاء.
فالصفات المذکورة والمقتبسة فی الواقع من القرآن الکریم فی عدد من الآیات تبطل عقیدة المجسمة (الفرقة التی تقول بجسمیّة اللّه) وتکشف مدی بعد أصحابها عن التعالیم الإسلامیّة.
ثم أشار علیه السلام إلی صفات أخری ومنها صفة الأزلیة وتنزیهه عن کلّ شبیه ومثیل فقال علیه السلام:
«الدَّالِّ عَلَی قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ، وبِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَی وَجُودِهِ، وبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَی أَنْ لَاشَبَهَ لَهُ».
تستند هذه الأدلة الثلاثة إلی هذه النقطة وهی استحالة مضی سلسلة العلل ومعالیل العالم إلی مالا نهایة، لأنّ التسلسل باطل، وعلیه فحدوث الموجودات دلیل علی وجود العلّة الأزلیّة والأبدیّة التی ینبع وجودها من ذاتها؛ فالکلّ حادث وهو القدیم، والکلّ مخلوق وهو الخالق، لأنّ ذاته الطاهرة لا متناهیة من جمیع الجهات فلیس له شبیه ولا مثیل، لاستحالة وجود وجودین لا متناهیین من جمیع الجهات ذلک أنّ کلّاً منها یحد الآخر أمّا المخلوقات المحدودة من جمیع الجهات بما فیها الزمان والمکان إنّما تعددت أشباهها وأمثالها.
ثم تطرق علیه السلام إلی صفتین من صفات الذات وهما تعدان من صفات الفعل فقال:
«الَّذِی صَدَقَ فِی مِیعَادِهِ، وارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ، وقَامَ بِالْقِسْطِ فِی خَلْقِهِ، وعَدَلَ عَلَیْهِمْ فِی حُکْمِهِ».
نعم، فلیس فی وعوده غیر الصدق، ذلک لأنّ التخلف فی الوعد إمّا یعزی إلی العجز أو إلی الجهل أو الحاجة (مثلاً یعدّ الإنسان ثم یعجز ویتخلف عمّا وعد بعد القیام به، أو یعد ثم یفهم لاحقاً ما کان ینبغی علیه أن یعد مثل ذلک أو یعد ویری أن خلف الوعد لصالحه) ومن الطبیعی أنّ أیّاً من الصفات الثلاث؛ العجز والجهل والحاجة لیست لها من سبیل إلی الذات القدسیّة ومنها یستحیل علیه خلف الوعد.
ص:96
وأشار فی بیانه للصفة الثانیة إلی سمو مقام اللّه عن الظلم، وهو ذات الأمر الذی یفرزه العجز والجهل أو الحاجة.
ثم رکز علیه السلام علی جانبین من جوانب عدله أحدهما فی عدم التمییز والآخر العدل فی القضاء والعقاب والثواب، وعلیه فالعبارات الثلاث
«وارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ» «وقَامَ بِالْقِسْطِ فِی خَلْقِهِ، «وعَدَلَ عَلَیْهِمْ فِی حُکْمِهِ» تشیر جمیعها إلی عدالة اللّه ونفی الظلم عنه فی مختلف الجوانب.
ثم تطرق علیه السلام إلی صفات أخری من صفات الجمال والجلال فقال:
«مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الأَشْیَاءِ عَلَی أَزَلِیَّتِهِ، وبِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَی قُدْرَتِهِ، وبِمَا اضْطَرَّهَا إِلَیْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَی دَوَامِهِ».
فقد قال الإمام علیه السلام فی العبارة الأولی: إنّ اللّه قد جعل حدوث الأشیاء دلیل علی أزلیّته، ذلک لأننا نری فی هذا العالم مجموعة من الموجودات تنتهی إلی علل سابقة بصیغة سلسلة من العلل والمعالیل، فهل یمکن أن تستمر سلسلة العلل والمعالیل إلی مالانهایة؟ وکل علّة معلولة لآخر وبعبارة أخری هل نقبل تسلسل العلّة والمعلول إلی مالا نهایة؟
الجواب عن هذا السؤال بالسلب قطعاً، لأنّ مفهوم ذلک أنّ المالانهایة تتطلب التبدل إلی موجود غنی، أو بتعبیر آخر تتبدل مالانهایة الصفر إلی عدد، وعلیه فإننا ندرک من حدوث الأشیاء وجوداً أزلیاً ووجوده من ذاته وهو واجب الوجود.
وأشار فی العبارة الثانیة إلی حقیقة هی أنّ فی جبین کلّ موجود علامة علی العجز، فالأعمار والقدرات والاستعدادات کلّها محدودة، وهذا العجز یکشف أنّ وراءها ید القدرة المطلقة التی أفاضت القدرة علی کلّ شیء بالمقدار الذی تطلبته حکمته.
وجری الحدیث فی العبارة الثالثة عن فناء الکائنات، وهو الفناء الذی یسیر طواعیة وقد کمن لها الموت بالمرصاد شائت أم أبت، ومن الواضح أنّ هذه الکائنات الفانیّة لیست خالقة لنفسها کما أنّ وجودها لا ینبع من ذاتها وإلّا لما آلت إلی الفناء،
ص:97
وعلیه فهنالک قدرة تفوقها أزلیّة وأبدیّة والکلّ مستند فی وجوده إلی الذات المقدّسة، والذی نود بیانه هنا أنّه ما الفارق بین العبارة
«مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الأَشْیَاءِ عَلَی أَزَلِیَّتِهِ» والعبارة السابقة
«الدَّالِّ عَلَی قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ؟» فهل العبارتان تفیدان اثبات أزلیة اللّه عن طریق حدوث الموجودات؛ أی أنّها صفة وضحت بعبارتین أم أنّ لکلّ منهما مفهوماً مستقلاً؟ طبعاً فصاحة وبلاغة الإمام علیه السلام تستلزم أن تختزن کلّ عبارة مفهوماً جدیداً.
فلا یستبعد أن تکون العبارة السابقة إشارة إلی الدلالة التکوینیّة والعبارة الأخیرة إشارة إلی الدلالة التشریعیّة، أی کما یدل حدوث الموجودات علی أزلیّة اللّه بلسان التکوین ففی الآیات القرآنیّة وروایات المعصومین وردت مثل هذه الاستدلالات بعبارات مختلفة.
قال القرآن الکریم: «کُلُّ مَنْ عَلَیْهَا فَان * وَیَبْقَی وَجْهُ رَبِّکَ ذُوالْجَلاَلِ وَالاِْکْرَامِ»(1).
وقال فی موضع آخر: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَیْرِ شَیُ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ»(2).
فالآیة فی الواقع إشارة لبرهان العلیة الذی جاء فی الفلسفة لاثبات وجود اللّه وهو أنَّ العالم الذی نعیش فیه حادث لا شک، فهل وجد هذا الحادث بدون علّة أم أنّه علّة لنفسه أم أنّه معلول لعلة أخری معلولة لعلة أخری أو مخلوق للّه تعالی واجب الوجود؟ الذی وجوده فی ذراته ولا یبقی سوی الاحتمال الرابع بعد الإلتفات إلی بطلان الاحتمالات الثلاثة الأولی.
ثم ذکر الإمام علیه السلام ثلاث صفات أخری من صفات اللّه تعالی فقال:
«وَاحِدٌ لَابِعَدَد، ودَائِمٌ لَابِأَمَد، وقَائِمٌ لَابِعَمَد».
والمراد من الواحد العددی الأشیاء التی لها شبیه ومثیل وثانی وثالث ولکن لم یوجد إلّا فرد منها؛ کالشمس فی المنظومة الشمسیّة فهی واحدة فقط لا غیر ولکن لها ثان.
ص:98
فهذا المعنی لا یصح بالنسبة للّه تعالی؛ لأنّ وجوده لا متناهٍ من جمیع الجهات ویستحیل علیه التعدد، ولذلک فوحدة الذات القدسیّة لیست وحدة عددیة، بل بمعنی انعدام الشبیه والنظیر والمثیل لها، وهوذات المعنی الوارد فی سورة التوحید: «وَلَمْ یَکُنْ لَّهُ کُفُواً أَحَدٌ»(1).
وبعبارة أخری یمکن التعدد فی الواحد العددی؛ لکنه یستحیل فی الواحد الذاتی.
وأشار فی العبارة الثانیة
«دَائِمٌ لَابِأَمَد» إلی أنّ دوام وجوده سبحانه لیس بدوام زمانی لأنّ ذاته القدسیّة تفوق الزمان والمکان بل المراد منه الدوام الذاتی.
ومفهوم العبارة
«قَائِمٌ لَابِعَمَد» أنّ قیامه بذاته؛ لا بمساعدة الآخر وبعبارة أخری فإنّ القیام ذو مفهوم مادی وهو وقوف الشیء علی قدمیه أو بالاستعانة بعمود، کما له مفهوم یفوق المادة وهو أنّه وجود مدیر ومدبر لعالم الوجود ودون الاستناد إلی شیء آخر وهذا هو معنی قائمیة اللّه تعالی.
بعبارة أخری فإنّ جمیع الموجودات تعتمد علی ذاته القدسیّة وهو قائم بهذه الذات.
ثم بلغ کلام الإمام علیه السلام ذروته لیخوض فی تلک الذات المطلقة إلی الحد الذی یسعه الفکر البشری فشرح الذات المقدّسة بأسلوب رائع ضمن عبارة قصیرة وعمیقة المعنی بما یبعدها عن التشبیه ولا ینتهی إلی تعطیل المعرفة فقال:
«تَتَلَقَّاهُ الأَذْهَانُ لَابَمُشَاعَرَة(2) ، وتَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِی(3) لَابِمُحَاضَرَة(4)».
ص:99
دلیل واضح إشارة إلی أنّ آثار عظمته وقدرته وعلمه وحکمته التی ملأت العالم علی وجوده؛ الوجود الکائن خلف حجب الغیب وما وراء الطبیعة وجعل کلّ شیء تجلیاً لعلمه وقدرته.
وقال فی مواصلته لکلامه علیه السلام:
«لَمْ تُحِطْ بِهِ الأَوْهَامُ(1) ، بَلْ تَجَلَّی لَهَا(2) بِهَا، وبِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا، وإِلَیْهَا حَاکَمَهَا».
فالإمام علیه السلام طبق ما ورد أبطل مذهب التعطیل إلی جانب نفی التشبیه؛ أی أنّه حذر من مغبة خطأ أولئک الذین یزعمون أنّهم لا یفهمون من صفات اللّه تعالی سوی صفاته السلبیّة، إلی جانب أولئک الذین هبطوا باللّه تعالی إلی درجة الممکنات فقالوا: له صفات محدودة وممکنة، فقد تحدّث من جانب عن تلقی الأذهان وتجلی الصفات ومن جانب آخر عن عدم احاطة الأفکار بالذات القدسیّة وصفاتها وینتج من ذلک أنّ لدینا علماً إجمالیاً بالنسبة لذاته وصفاته سبحانه رغم عجزنا عن الاستغراق فی تفاصیلها وجزئیاتها.
ثم قال علیه السلام:
«لَیْسَ بِذِی کِبَر امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَایَاتُ فَکَبَّرَتْهُ تَجْسِیماً، وَلَا بِذِی عِظَم تَنَاهَتْ بِهِ الْغَایَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِیداً؛ بَلْ کَبُرَ شَأْناً، وعَظُمَ سُلْطَاناً».
إشارة إلی أننا حین نقول:
«اللّه أکبر» إنّما یقتدح أحیاناً إلی ذهن الأفراد غیر المطلعین إلی أنّ أبعاده الوجودیة ملأت شرق العالم وغربه وشماله وجنوبه، وحین نقول:
«اللّه عظیم» یتصورون أنّه کذلک بالنسبة لسائر الموجودات کالجبال والبحار والسماوات، والحال لیس لکبره وعظمته من بعد جسمی، بل کبره وعظمته معنوی،
ص:100
لأنّه إن کان اللّه جسماً کبیراً لاشتمل حتماً علی أجزاء ونهایة وزمان ومکان بینما هو أسمی وأرفع من کلّ ذلک ویالها من کلمات رائعة تلک التی ساقها الإمام الصادق علیه السلام لذلک الشخص الذی قال عنده: اللّهُ أکبر، فسأله علیه السلام:
«أَکْبَرُ مِنْ أیِّ شَیءٍ؟»، قال:
«مِنْ کُلِّ شَیء».
فأشار علیه الإمام علیه السلام:
«بِأنّکَ جَعلتَ لَهُ حُدوداً فِی الزّمانِ وَالمَکانِ». فقال الشخص فماذا أقول: قال علیه السلام: قل:
«اللّهُ أَکْبَر مِنْ أنْ یُوصَفَ»(1).
إشارة إلی أننا لا نعدو صفات مخلوقاته فی کلّ صفة نطبقها علیه ذلک لأنّ فکرنا محدود فی الاستیعاب، وعلیه فهواسمی من کلّ الصفات وهذا ما أکّده القرآن الکریم بقوله: «سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا یَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللّهِ الْمُخْلَصِینَ»(2). (الذین یصفونه بما یلیق به).
***
ص:101
ص:102
وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ الصَّفِیُّ، وأَمِینُهُ الرَّضِیُّ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِأَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ، وظُهُورِ الْفَلَجِ، وإِیضَاحِ الْمَنْهَجِ؛ فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ صَادِعاً بِهَا، وحَمَلَ عَلَی الْمَحَجَّةِ دالاّ عَلَیْهَا، وأَقَامَ أَعْلاَمَ الاِْهْتِدَاءِ ومَنَارَ الضِّیَاءِ، وجَعَلَ أَمْرَاسَ الاِْسْلاَمِ مَتِینَةً، وعُرَی الاِْیمَانِ وَثِیقَةً.
بعد أن فرغ الإمام علیه السلام من بیان صفات الجمال والجلال خاض فی الأصل الثانی للدین أی الشهادة بنبوة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فوصفه بتلک الصفات التی تکشف عن أبعاده الوجودیّة کافّة فقال:
«وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ الصَّفِیُّ، وأَمِینُهُ الرَّضِیُّ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ -».
حقاً إنّ اللّه تعالی إن اصطفی شخصاً واعتبره أمیناً وارتضاه من خلقه فذلک لکمال إخلاصه وطهارته علی جمیع المستویات، فهذه العبارات إشارة إلی عصمة النّبی صلی الله علیه و آله من الذنب والخطأ.
ثم خاض علیه السلام فی الأهداف المتوخاة من بعثته صلی الله علیه و آله وتعالیمه فقال:
«أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ، وظُهُورِ الْفَلَجِ(1) ، وإِیضَاحِ الْمَنْهَجِ».
وهکذا بیّن الإمام علیه السلام من خلال هذه العبارات الثلاث أهداف البعثة التی تتمثل فی إتمام الحجّة وانتصار الحقّ علی الباطل وایضاح سبیل السعادة. آنذاک تناول
ص:103
المهام العملیّة للنبی صلی الله علیه و آله فقال:
«فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ صَادِعاً(1) بِهَا، وحَمَلَ عَلَی الْمَحَجَّةِ دالاّ عَلَیْهَا، وأَقَامَ أَعْلاَمَ الاِْهْتِدَاءِ ومَنَارَ الضِّیَاءِ، وجَعَلَ أَمْرَاسَ(2) الاِْسْلاَمِ مَتِینَةً، وعُرَی(3) الاِْیمَانِ وَثِیقَةً».
فقد ورد الحدیث بادئ الأمر عن الخوض فی إبلاغ الرسالة بصورة کلیة علی غرار ما ورد فی القرآن الکریم: «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِکِینَ»(4).
ثم خاض فی الجزئیات فی أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله دعا الناس إلی جادة الصواب وعرض لهم علامات لسیر علی هذا النهج ونصب لهم مصابیح الهدی حتی لا یضلوا الطریق فی ظلمة اللیل ولا یتخلفوا عن مواصلة السیر، وبالتالی رسخ أسس الإسلام وشدّ عری الإیمان بشرح وافٍ وتدبیر محکم.
وقلّما نجد کلاماً یستعرض هذا المطلب بشأن أهداف النّبی صلی الله علیه و آله وخططه فی الدعوة بهذه العبارة القصیرة والعمیقة.
العبارة:
«جَعَلَ أَمْرَاسَ الاِْسْلاَمِ مَتِینَةً» کأنّه شبّه الإسلام بالخیمة التی شدّت بحبال متینة من کلّ جانب إلی الأرض لتحول دون إقتلاعها من قبل العواصف ولیست هذه الحبال سوی بعض الأمور من قبیل الجمعة والجماعة والحج والزکاة والأمر وبالمعروف والنهی عن المنکر والجهاد التی حفظت علی الدوام بیضة الإسلام وذادت عن کیانه، فالإسلام بخیر ما طبقت هذه التعلیمات الإسلامیّة فإنّ ضعفت هیمن الأعداء علی المسلمین.
والعبارة:
«وعُرَی الاِْیمَانِ وَثِیقَةً» شبهت الإیمان بحبل له عدّة عقد لابدّ من التمسک بها للنجاة من قعر البئر أو الخلاص من المطبات، ومن الطبیعی أنّ هذه العقد
ص:104
إن کانت ضعیفة وخاویة فلا یتعذر علی الإنسان النجاة فحسب بل یشرف علی سقوط خطیر فهذه العقد هی فروع الإسلام وتعلیماته فی مختلف مشاریعه العبادیّة والاجتماعیّة التی صرّحت بها الأخبار والروایات، ومن ذلک ما ورد فی الحدیث النبوی الشریف أنّه صلی الله علیه و آله سأل أصحابه یوماً:
«أیّ عُرَی الإیمانِ أَوْثَق؟» قالوا: «اللّه ورسوله أعلم؟» وذکر البعض الصلاة أو الزکاة و... فقال صلی الله علیه و آله:
«بَلی فِی ذَلِکَ فَضلٌ، ولکِنْ أوْثَقُ عُرَی الإیمانِ الحُبُّ فِی اللّهِ والبُغْضُ فِی اللّهِ وتَولّی اوْلِیاءَ اللّهِ وَالتّبری مِنْ اعْداءِ اللّهِ»(1).
طبعاً یمکن أن تکون المفاهیم الأخلاقیّة التی أشارت إلیها الروایات من قبیل التوکل والتفویض والتسلیم والرضا والصبر والیقین وما شابه ذلک من عری الإیمان ولیست هنالک أی منافاة مع بعضها البعض الآخر.
***
ص:105
ص:106
ولَوفَکَّرُوا فِی عَظِیمِ الْقُدْرَةِ، وجَسِیمِ النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إِلَی الطَّرِیقِ، وخَافُوا عَذَابَ الْحَرِیقِ، ولکِنِ الْقُلُوبُ عَلِیلَةٌ، وَالْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ! أَلاَ یَنْظُرُونَ إِلَی صَغِیرِ مَا خَلَقَ، کَیْفَ أَحْکَمَ خَلْقَهُ، وأَتْقَنَ تَرْکِیبَهُ، وفَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وسَوَّی لَهُ الْعَظْمَ وَالْبَشَرَ! انْظُرُوا إِلَی النَّمْلَةِ فِی صِغَرِ جُثَّتِهَا، ولَطَافَةِ هَیْئَتِهَا، لَاتَکَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ، وَلَا بِمُسْتَدْرَکِ الْفِکَرِ، کَیْفَ دَبَّتْ عَلَی أَرْضِهَا، وصُبَّتْ عَلَی رِزْقِهَا، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَی جُجْرِهَا، وتُعِدُّهَا فِی مُسْتَقَرِّهَا. تَجْمَعُ فِی حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، وفِی وِرْدِهَا لِصَدْرِهَا؛ مَکْفُولٌ بِرِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا؛ لَایُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ، وَلَا یَحْرِمُهَا الدَّیَّانُ، ولَوفِی الصَّفَا الْیَابِسِ، وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ! ولَوفَکَّرْتَ فِی مَجَارِی أَکْلِهَا، فِی عُلْوِهَا وسُفْلِهَا، ومَا فِی الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِیفِ بَطْنِهَا، ومَا فِی الرَأْسِ مِنْ عَیْنِهَا وأُذُنِهَا، لَقَضَیْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، ولَقِیتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً! فَتَعَالَی الَّذِی أَقَامَهَا عَلَی قَوَائِمِهَا، وبَنَاهَا عَلَی دَعَائِمِهَا! لَمْ یَشْرَکْهُ فِی فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ، ولَمْ یُعِنْهُ عَلَی خَلْقِهَا قَادِرٌ. ولَوضَرَبْتَ فِی مَذَاهِبِ فِکْرِکَ لِتَبْلُغَ غَایَاتِهِ، مَا دَلَّتْکَ الدَّلاَلَةُ إِلَّا عَلَی أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ هُوفَاطِرُ النَّخْلَةِ، لِدَقِیقِ تَفْصِیلِ کُلِّ شَیء، وغَامِضِ اخْتِلاَفِ کُلِّ حَیٍّ. ومَا الْجَلِیلُ واللَّطِیفُ، والثَّقِیلُ والْخَفِیفُ، والْقَوِیُّ والضَّعِیفُ، فِی خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ.
عاد الإمام علیه السلام ثانیة إلی موضوع معرفة اللّه الذی استهل به خطبته وعرج فیها
ص:107
علی معرفة النّبی صلی الله علیه و آله لیخوض هنا فی أدلة اثبات وجود اللّه وعلمه وقدرته المطلقة، فحذر أولئک الذین ضلّوا الطریق فقال:
«ولَوفَکَّرُوا فِی عَظِیمِ الْقُدْرَةِ، وجَسِیمِ النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إِلَی الطَّرِیقِ، وخَافُوا عَذَابَ الْحَرِیقِ».
إشارة إلی أمرین: أنّه لو استعمل الفکر لاتّضحت آثاره عاجلاً علی أعمال الإنسان؛ الأوّل التفکیر فی عظمة قدرة اللّه الذی خلق النجوم السماویّة العظیمة وملیاردات الکواکب فی المجرة ومئات الملایین من المجرات بحیث لم یتّضح لأحد سعة ملکه وعظمته، وکل ما نورده بشأن عظمة العالم إنّما یقتصر علی الأشیاء التی لا تتجاوز دائرة علمنا القاصر، ولعل کلّ ذلک لا یعدو ورقة شجرة بلغت عنان السماء فی وسط غابة کثیفة، فالتفکیر بهذا الشأن یجعل الإنسان خاضعاً لهذه القدرة فیقبل علی اللّه ویتعلق به قلبه فینیر باسمه وذکره حیاته.
والآخر التفکیر فی النعم کونها ملأت وجودنا وهی متصلة منذ لحظة انعقاد النطفة حتی ختام العمر؛ فقد سخر لنا لشمس والقمر والسماوات والأرض ومنحنا التصرف فی السحب والریاح والأمطار، فقد بسط نعمته فی کلّ مکان وجعل الجمیع یتغذی علی رزقه، والحقّ أنّ شکر النعمة المودع فی فطرة کلّ إنسان یسوقه إلی معرفة المنعم.
ثم تساءل علیه السلام تری ما العامل الذی یصد الإنسان عن السبیل ویسوقه إلی العذاب الألیم مع وجود کلّ هذه الدوافع القویة؟ فقال:
«ولکِنِ الْقُلُوبُ عَلِیلَةٌ، وَالْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ!(1)».
فقد أشار الإمام علیه السلام هنا إلی سببین رئیسیین، لأنّ المراد من القلوب العقول التی تتعطل عن المعرفة أثر الهوی والهوس وسائر الآفات، والمراد من البصائر عیون البصیرة التی تطرح علیها حجب المعصیة والتعصب وحبّ الذات.
وبالطبع فإنّ هذه الأمور طارئة علی أصل الخلقة بل الغفلة والهوی والهوس
ص:108
والشهوة هی التی قادت إلی ذلک، فقد أشار الإمام علیه السلام فی هذه العبارة القصیرة إلی موانع المعرفة والتی أفصح عنها القرآن الکریم بقوله: «کَلاَّ بَلْ رَانَ عَلی قُلُوبِهِمْ مَّا کَانُوا یَکْسِبُونَ)(1).
وقوله : «أَفَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّهُ عَلی عِلْم وَخَتَمَ عَلَی سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَی بَصَرِهِ غِشَاوَةً»(2).
کما تضمنت العدید من الآیات القرآنیّة دعوة الجمیع إلی تأمّل أسرار الخلق والتفکر فی قدرة اللّه ونعمه علهم یعودون عن هذا الطریق إلی جادة الصواب.
ثم رکز الإمام علیه السلام علی بعض الکائنات العجیبة فی هذا العالم بعد فراغه من بیان أسرار الخلیقة بصورة کلّیة فقال:
«أَلَا یَنْظُرُونَ إِلَی صَغِیرِ مَا خَلَقَ، کَیْفَ أَحْکَمَ خَلْقَهُ، وأَتْقَنَ تَرْکِیبَهُ، وفَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وسَوَّی(3) لَهُ الْعَظْمَ وَالْبَشَرَ!(4)».
حیث أشار الإمام علیه السلام إلی ستة أمور بشأن الحیوانات والحشرات الغایة فی الصغر؛ الخلق المحکم، الترکیب الصحیح، الإشتمال علی الأذن والعین، والنظام الخاص فی العظام والجلد، نعم فهذه الحشرات تتمتع بالأعضاء والوسائل کافّة التی تحتاجها رغم صغرها فقد أفاض اللّه علیها بقدر جسمها وحاجتها ما أفاضه علی بعض الحیوانات العظیمة کالفیل والجَمل وبالطبع یبدو خلق هذه الکائنات الصغیرة أعظم من تلک الکبیرة لما فیها من دقة وظرافة عجیبة.
ثم خاض الإمام علیه السلام فی مرحلة أدق فی تفاصیل مخلوقین صغیرین غالباً ما لا یکترت الإنسان لخلقتهما بعبارات رائعة، فقال بادئ الأمر بشأن النملة:
«انْظُرُوا إِلی النَّمْلَةِ فِی صِغَرِ جُثَّتِهَا، ولَطَافَةِ هَیْئَتِهَا، لَاتَکَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ، وَلَا بِمُسْتَدْرَکِ الْفِکَرِ».
ص:109
ثم قال علیه السلام:
«کَیْفَ دَبَّتْ عَلَی أَرْضِهَا، وصُبَّتْ عَلَی رِزْقِهَا، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَی حُجْرِهَا، وتُعِدُّهَا فِی مُسْتَقَرِّهَا. تَجْمَعُ فِی حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، وفِی وِرْدِهَا(1) لِصَدْرِهَا(2)».
نعم، فهذا المخلوق الضعیف علی درجة من الفطنة بحیث یعرف کیف یمارس حیاته، فهو یتجول بهذه الید والرجل الصغیرة فی الجبل والصحراء ویتسلق الأشجار ویختار ذلک النوع من الطعام من بین مختلف الأطعمة والذی ینسجم مع طبیعته ومزاجه ویجلب إلی عشه الحبوب من الطرق القریبة والبعیدة فهو یختار حتی هذه الحبوب ویسلک بعض الطرق المتشعبة فی عشّه کی لا یخلق بعض المتاعب لسائر جنسه فی الحرکة والعبور ثم یضع هذه الحبوب فی مکان معین بغیة الحیلولة دون فسادها، ویعمد فی فصل الصیف بإلهام ذاتی ودون أن یری فصل الشتاء - أی ولد فی تلک السنة - لادّخار بعض الحبوب والمواد الغذائیّة التی یحتاجها فی المستقبل خشیة هطول الأمطار وتعذر الحرکة فی فصل الشتاء فیلتقط ما یعینه علی قضاء تلک المدّة.
ثم قال علیه السلام:
«مَکْفُولٌ بِرِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا؛ لَایُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ، وَلَا یَحْرِمُهَا الدَّیَّانُ(3) ، ولَوفِی الصَّفَا(4) الْیَابِسِ، وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ!(5)».
أشار إلی أنّ اللّه سبحانه وتعالی قد عمّ لطفه هذه الموجودات الصغیرة التی تعیش فی الجبال والصحاری والسهول فزودها بالطعام الذی یلائم طبعها وقد وفر لها ما تحتاجه من غذاء ورطوبة لازمة عن طریق الهواء حتی وإن کانت تعیش فی جوف صخرة صماء، والهمها قدرة التزود بالطعام لتلک التی تفتقد فیها هذه القدرة وهذا حقاً ما یذهل العقول.
ص:110
هل تدری هذه الحشرة أنّه یتعذر علیها الخروج من عشها فی بعض أیّام الشتاء؟ وهل تفهم المقدار الذی تحتاجه من المواد الغذائیّة فی تلک المدّة؟ وهل تعی طبیعة المواد التی یمکن أن تبقی سالمة أو فاسدة خلال هذه المدّة؟ وهل تعلم أین هذه المواد وکیف یجب علیها الحصول علیها؟
نعم، إنّها تعرف کلّ ذلک بعد أن علّمها خلقها.
ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی البنیة العجیبة لهذا المخلوق الحی الصغیر فقال:
«ولَوفَکَّرْتَ فِی مَجَارِی أَکْلِهَا، فِی عُلْوِهَا وسُفْلِهَا، ومَا فِی الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِیفِ(1) بَطْنِهَا، ومَا فِی الرَأْسِ مِنْ عَیْنِهَا وأُذُنِهَا، لَقَضَیْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، ولَقِیتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً!».
إشارة إلی أنّ الإنسان لو تأمّل خلق هذا الموجود الصغیر الذی لا یری بسهولة لرآی عالَماً عجیباً حقّاً فذلک الرأس الغایة فی الصغر یضم العین والأذن والفم وقرنان کأنّهما هوائیان تستفید منهما فی الإرتباط بالعالم الخارجی وتحوی بطنها شیء أشبه بالمعدة والأمعاء واحاطت به أضلاع غایة فی الصغر والدقة کما لها أعصاب وعضلات ظریفة تتناسب مع حاجتها ویتولی دماغها الصغیر إدامة حیاتها المعقدة، ولأرجلها مفاصل مختلفة ولکلّ مفصل وظیفة معینة علی غرار مفاصل الحیوانات الکبری.
ثم خلص الإمام علیه السلام ممّا سبق إلی هذه النتیجة فقال:
«فَتَعَالَی الَّذِی أَقَامَهَا عَلَی قَوَائِمِهَا، وبَنَاهَا عَلَی دَعَائِمِهَا! لَمْ یُشْرِکْهُ فِی فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ، ولَمْ یُعِنْهُ عَلَی خَلْقِهَا قَادِرٌ».
فقد لفت الإمام علیه السلام فی هذه العبارة انتباه الجمیع إلی موضوعین:
وهوأنّ اللّه سبحانه وتعالی خلق هذا الجسد الظریف علی ید ورجل ظریفة تستطیع حمله بل أحیاناً تحمل حملاً ثقیلاً یفوق دفعة أضعاف وزنها، والغریب أنّها
ص:111
تتسلق الحائط الأملس بهذا الحمل وتلتصق أحیاناً بالسقف وتواصل طریقها وهو العمل الذی یتعذر علی أی إنسان بطل القیام به، أضف إلی ذلک فقد خلق لها جهازاً عظمیاً یناسب طبیعتها والذی عبّر عنه الإمام علیه السلام بالدعائم، وهذا الجهاز لیس ثقیلاً بحیث یحدّ من حرکتها ولا خفیفاً وظریفاً إلی الدرجة التی لا تستطیع حفظ حیاتها وما بجوفها.
ثم أشار علیه السلام إلی نقطة مهمّة أخری فقال:
«ولَو ضَرَبْتَ فِی مَذَاهِبِ فِکْرِکَ لِتَبْلُغَ غَایَاتِهِ، مَا دَلَّتْکَ الدَّلاَلَةُ إِلَّا عَلَی أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ هُوفَاطِرُ النَّخْلَةِ، لِدَقِیقِ تَفْصِیلِ کُلِّ شَیء، وغَامِضِ اخْتِلاَفِ کُلِّ حَیٍّ».
أی لا تعتقدوا أنّ بنیة کائن کبیر کالنخلة الضخمة أعقد من بنیة موجود صغیر کالنملة، لأنّکم إن نظرتم بدقّة فإنّ لکلیهما بنیة غایة فی التعقید والدقّة وتحکم کلّ منهما قوانین معینة وتبدو علیهما الهدایة الإلهیّة منذ الولادة حتی الممات بالإضافة إلی أنّ لتلک الشجرة الکبیرة أعضاء مختلفة صغیرة وکبیرة وقویة وضعیفة بحیث یؤدّی کلّ منهما وظیفة معینة تتناسب معه (وعلی هذا الضوء تتضح علاقة العلّة والمعلول فی العبارات المذکورة).
وزبدة الکلام إنّ الإنسان یری أحیاناً آثاراً مختلفة من حیث الصغر والکبر لصانع اساعة التی لا یعدو حجمها سانتیمتراً واحداً وأخری التی تبلغ بضعة أمتار، أو کتاب من بضع صفحات وآخر ذو عشرة أجزاء، فإنّ الإنسان حین یقارنها مع بعضها ویری وحدة الأصول الکلیة السائدة فیها ویقف علی انسجام الآداب التی ضمها ذلک الکتاب الصغیر وذلک الکبیر یفهم أنّ هذین الأثرین یعودان إلی مصدر واحد وأنّ الذی أبدعهما واحد أیضاً.
ثم أشار علیه السلام إلی نقطة مهمّة أخری لمواصلة کلامه السابق فقال:
«ومَا الْجَلِیلُ واللَّطِیفُ، والثَّقِیلُ والْخَفِیفُ، والْقَوِیُّ والضَّعِیفُ، فِی خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ».
إشارة إلی أنّ الصغیر والکبیر والبسیط والمعقّد إنّما یتصور بالنسبة لموجود
ص:112
محدود القدرة ویمتنع علیه ما کان خارجاً عن استعداده ویصعب علیه ما کان بمنتهی استعداده ویسهل علیه ما کان دون قدرته، أمّا اللّه تبارک وتعالی اللامتناهی القدرة فالجمیع لدیه علی حد سواء، فلا فرق عنده بین تسییر المنظومة الشمسیة وتسییر ذرة من الغبار، وخلق نملة غایة فی الصغر مع خلق شجرة غایة فی الضخامة.
وحمل حبّة قمح بالنسبة لنملة یفرق عما علیه فی حمل حبتین، فلعل حملها للأولی یبدو سهلاً بینما یشقّ علیها حمل الثانیة والحال لا نشعر نحن البشر بأدنی فارق بین الحالتین.
کما أننا نستطیع فی تصوراتنا الذهنیة أن نتصور قطرة ماء کما نستطیع بنفس البساطة تصور بحر متلاطم من المیاه.
لعل هذه الأمثلة تستطع إیضاح عمق البحث الذی ذکرناه بشأن قدرته المطلقة سبحانه.
رغم أنّ طبیعة النمل بفعل کثرتها وتنوعها وتواجدها فی الجبال والصحراء وداخل البیوت بحیث لا تحضی باهتمام عامة الناس، لکنها تبدو عجیبة للغایة بالنسبة للعلماء الذین فکروا لأکثر من عقدین بشأن حیاتها فالدراسات التی أجریت بشأن أسرار خلقة هذه الکائنات فتحت الباب علی مصراعیه أمام الوقوف علی عظمة الخالق ونشیر هنا إلی جانب من تلک الدراسات:
1. إنّ الحیوانات والحشرات التی تعیش بصورة جماعیة لیست بالقلیلة من قبیل:
الطیور والأسماک والغزلان بینما قلیلة هی الحیوانات التی تستند حیاتها الجماعیة علی أساس تقسیم الوظائف والأعمال وأبرزها النمل فلإناث النمل وظیفة جمع
ص:113
الطعام وحفظ الفراخ وحتی حراسة ملکة النمل فی عشّها، ووظیفة الذکور تلقیح الملکة کما أنّ وظیفة الملکة وضع البیوض، والغریب فی الأمر أنّ الذکور تموت بعد التلقیح، وهنالک طائفة منها تبدو کمجموعة مسلحة لها مجسّات قویة تنبری للدفاع بها عن نفسها وصد هجمات الأعداء علی لاعشاش.
2. تقوم العاملات بوظیفة ثقب الأرض وایجاد حفرة بالتدریج لتوفر لبقیتها الحیاة تحت سطح الأرض إلّاأنّ جمیع النمل لا یعیش تحت الأرض فهنالک طائفة منها التی یطلق علیها «النجارة» تعمد إلی ثقب الأخشاب لتصنع أعشاشها بداخلها
3. تملک النملة - علی الرغم من صغرها ودقّة هیکلها - جمیع الأجهزة التی یملکها الحیوان الکبیر بل لدیها ما یفوق تلک الحیوانات من قبیل: الأرجل الإضافیة والمجسّات التی تمکنها من التعرف علی الوسط الذی تعیش فیه.
4. هناک نوع من النمل یتعذی علی بعض الأحیاء ومن ذلک النمل المعروف بالحنطی والذی یخدمه البرغوث النباتی، فهذه الحشرات تفرز سائلاً حلواً کالعسل یتغذی علیه النمل، کما یستفید سائر النمل من بعض الحشرات التی تضع بیوضها علی قشور الأشجار.
5. إذا لا یعتریکم العجب فإنّ بعض النمل یمارس الزراعة، فهناک نوع من النمل یدعی المظلی حیث یرتب مزرعة صغیرة حول أعشاشها ویزرعها بالفطریات الصغیرة وتقوم العاملات بفصل قطع صغیرة من الأوراق وتضعها علی رأسها فتبدو وکأنّها مظلة وهذا سبب التسمیة.
6. هنالک نوع من النمل یدعی بالحرس الذی یتنقل کالبدو من مکان إلی آخر، وهو فی الواقع حشرات مفترسة تتجنبها حتی الفیلة وإلّا کبدتها خسائر جسیمة، وطائفة من هذه الحشرات التی تعیش فی المناطق الحارة تأکل اللحوم، فإن هاجمت حیواناً افترسته ونهشت لحمه وعضلاته ولا تبقی منه سوی العظام وخلال مدّة وجیزة.
ص:114
7. للنمل عادة رأس کبیر وخصر نحیف وجثة قویة فهی قادرة علی حمل الحبوب التی تعادل بضعة أضعاف وزنها وتتسلق الجدران التی لا یقوی علی تسلقها الأبطال من حملة الأثقال، نعم فالنملة وخلافاً لجثتها الصغیرة تحمل مایبلغ عشرة أضعاف وزنها وتنقله من مکان لآخر.
8. نظرة النملة للمستقبل وإدارتها رائعة جدّاً، فهی تفکر فی الصیف بمؤونة الشتاء والحال ربّما لم تکن شاهدت الشتاء طیلة عمرها، فتلتقط الحبوب وتخرجها أحیاناً من عشّها لکی لا تفسد، وأحیاناً أخری تشطرها نصفین حتی لا تخضر وتنمو.
9. للنمل خبرة عجیبة بالمکان فقد ذکر العلماء أنّهم جعلوا نملة وسط دائرة من النار فحاولت الخروج ولم تستطع حتی ماتت وکان ذلک فی مرکز الدائرة، أی أبعد نقطة عن النار.
10. ذکر العلماء أنّ النمل أنواع ربّما یتجاوز الأربعة آلاف وأنّ عدده علی الأرض عشرة أضعاف عدد الناس، وتفید المطالعات الحدیثة أنّ النمل سبق الإنسان فی التغلب علی مشکلة الازدحام، فملایین النمل تتخذ أقصر الطرق لتبلغ مقصدها بأسرع وقت ودون أی تأخیر.
إنّ عجائب عالم النمل لیفوق ما ذکرناه وقد سطرت العدید من المقالات والکتب بهذا الشأن، ومن هنا تتضح أهمیّة المسألة التی رکز علیها الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة من شرحه لخلق اللّه سبحانه(1).
***
ص:115
ص:116
وکَذلِکَ السَّمَاءُ وَالْهَوَاءُ، والرِّیَاحُ وَالْمَاءُ. فَانْظُرْ إِلی الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالنَّبَاتِ والشَّجَرِ، وَالْمَاءِ والْحَجَرِ، وَاخْتِلاَفِ هذَا اللَّیْلِ والنَّهَارِ، وتَفَجُّرِ هذِهِ الْبِحَارِ، وکَثْرَةِ هذِهِ الْجِبَالِ، وطُولِ هذِهِ الْقِلاَلِ وتَفَرُّقِ هذِهِ اللُّغَاتِ، والأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ. فَالْوَیْلُ لِمَنْ أَنْکَرَ الْمُقَدِّرَ، وجَحَدَ الْمُدَبِّرَ! زَعَمُوا أَنَّهُمْ کَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ، وَلَا لاِخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ؛ ولَمْ یَلْجَأُوا إِلَی حُجَّة فِیمَا ادَّعَوْا، وَلَا تَحْقِیق لِمَا أَوْعَوْا، وهَلْ یَکُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَیْرِ بَانٍ، أَوجِنَایَةٌ مِنْ غَیْرِ جَانٍ؟!
تحدّث الإمام علیه السلام فی القسم السابق من الخطبة عن عجائب خلق النمل وبغیة دفع التوهم بأنّ العجائب التی تسلب العقول وتخطف الأبصار ربّما تنحصر فی هذه الموارد صرح مباشرة بأن تأمّل مواضع هذا العالم الواسع فی أرضه وسمائه إنّما ینطوی علی مثل هذه العجائب أیضاً، فرکز الإمام علیه السلام هنا علی ست عشرة ظاهرة عجیبة فی هذا العالم من السماء والأرض إلی بعض الأمور المرتبطة بالإنسان فقال:
«وکَذلِکَ السَّمَاءُ وَالْهَوَاءُ، والرِّیَاحُ وَالْمَاءُ».
وواصل کلامه قائلاً:
«فَانْظُرْ إِلَی الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالنَّبَاتِ والشَّجَرِ، وَالْمَاءِ والْحَجَرِ، وَاخْتِلاَفِ هذَا اللَّیْلِ والنَّهَارِ، وتَفَجُّرِ هذِهِ الْبِحَارِ، وکَثْرَةِ هذِهِ الْجِبَالِ، وطُولِ هذِهِ الْقِلاَلِ(1) وتَفَرُّقِ هذِهِ اللُّغَاتِ، والأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ».
ص:117
فقد طرح الإمام علیه السلام هنا سلسلة من الموجودات المتنوعة فی هذا العالم لکلّ منها ممیزاتها العجیبة وخصائصها الجمّة، والمراد من السماء مجموعة العالم العلوی من الثوابت والسیارات إلی المجرات وعلیه فالشمس والقمر فی الجملة القادمة من قبیل ذکر الخاص بعد العام وأننا لنعلم أنّ السماء بهذا المعنی تنطوی علی خلقة غایة فی الدهشة کما أشار إلی ذلک القرآن الکریم: «لَخَلْقُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ أَکْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لَایَعْلَمُونَ»(1).
المراد من الهواء هوذلک الهواء المحیط بالکرة الأرضیّة، الأکثر حیویة من کلّ شیء والأکثر من کلّ شیء.
والریاح (جمع ریح) والتی له عدّة وظائف فی تسییر عجلة حیاة الإنسان والکائنات الحیة فهی تسوق السحب والغیوم إلی الأراضی الجافة والقاحلة فتخرج النباتات، وتبث الأمواج فی البحار وتزود الکائنات البحریة بالأوکسجین وتنقل الهواء الملوث من مکان إلی آخر وتبعث إلی المدن بهواء الغابات النقی.
والماء هنا بقرینة الریاح إشارة إلی نزول الأمطار التی تبعث الحیاة کما ذکر ذلک القرآن الکریم: «وَأَرْسَلْنَا الرِّیَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً»(2).
ثم أمر الإمام علیه السلام بتأمّل مختلف کائنات هذا العالم من الشمس والقمر إلی النباتات والأشجار والمیاه والأحجار (یبدو أنّ المراد من الماء الذی ذکر هنا إلی جانب الحجر هو العیون والأنهار الجاریة) واختلاف اللیل والنهار إشارة إلی النظام الدقیق ذو النور والظلمة حیث یعقب کلّ منهما الآخر وینبثق من برکتهما الفصول الأربعة وتلک اللیالی الساکنة والهادئة والأیّام المفعمة بالحرکة والتی أشارت إلیها العدید من الآیات القرآنیّة.
العبارة:
«وتَفَجُّرِ الْبِحار» یمکن أن تکون إشارة إلی ظهور البحار أو الحرکة التی
ص:118
تظهر تلک الأمواج العاتیة ونعلم أنّ البحار مرکز عجائب مخلوقات اللّه حیث ورد فی دعاء الإمام السجاد علیه السلام:
«یا مَنْ فِی الْبِحارِ عَجائِبُهُ»(1) وأنّها مصدر مهم للمواد الغذائیّة والمعدنیّة ووسیلة مناسبة للنقل بصورة واسعة جدا ومصدر ظهور السحب وهطول الأمطار.
وکثرة الجبال إشارة إلی عددها الجم والذی جعلها تبدو کدرع یحیط بالکرة الأرضیّة وتکسر الریاح العواتی وتحتفظ بالسحب لسقی الأراضی وتمنح الأرض الهدوء والاستقرار إزاء عملیّة المد والجزر الناشئة من الجاذبیة الأرضیّة، کما أنّ سفوحها مرعی خصب للدواب والأنعام. کما أنّ استطالة القطعان تؤدّی إلی ادّخار المیاه بصورة بَرَد أو حبات ثلج علی سفوحها فتنحدر تدریجیا إلی الأراضی القاحلة فتسقیها بالمیاه، کما تسقی الإنسان والحیوان، قال القرآن الکریم: «وَالأَرْضَ بَعْدَ ذلِکَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَّکُمْ وَلِاَنْعَامِکُمْ»(2).
وأشار الإمام علیه السلام فی النهایة إلی نقطة مهمّة من حیاة الإنسان والتی تتمثل فی اختلاف اللغات واللهجات وکثرة الألسن، فکیف تعددت هذه اللغات وکیف کان لکلّ قوم لغتهم الخاصّة مع أنّ الجمیع ینحدر من ذات الأب والاُم؟ فالآن هنالک أکثر من ألف لغة فی العالم بما فیها اللغات الرسمیة والمحلیة، وقد أفاض اللّه علی الإنسان استعداداً لخلق اللغة بحیث تتمکن کلّ جماعة من اختراع لغة ووسیلة للتفاهم بینها ولعل ذلک لکی تنحصر أسرارهم بینهم دون أن یطلع علیها الآخرون، قال القرآن الکریم: «الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْانَ * خَلَقَ الاِْنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَیَانَ»(3).
وقال أیضاً: «وَمِنْ آیَاتِهِ خَلْقُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِکُمْ وأَلْوَانِکُمْ»(4).
ص:119
ولما فرغ الإمام علیه السلام من استدلالاته الرصینة والمقنعة فی إثبات وجود اللّه اتّجه صوب من ینکر وجود اللّه لیفند دعواه الواهیة بدلیلین. (طبعاً قلّما یری فی القرآن ونهج البلاغة کلام بشأن المادیین ومنکری الذات الإلهیّة القدسیّة، ذلک لأنّهم کانوا قلّة قلیلة آنذاک وکان أکثر الناس ممن یعتقدون بالأدیان والمذاهب).
فقال علیه السلام:
«فَالْوَیْلُ لِمَنْ أَنْکَرَ الْمُقَدِّرَ، وجَحَدَ الْمُدَبِّرَ!».
إشارة إلی أنّ آثار التدبیر فی أرجاء عالم الخلق کافّة علی درجة من الوضوح بحیث لا یستحق منکر مدبر العالم سوی الویل واللعنة.
ثم قال علیه السلام:
«زَعَمُوا أَنَّهُمْ کَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ، وَلَا لاِخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ».
طبعاً هذه العبارة بسبب النظرة الساذجة التی یبدیها الإنسان عادة تجاه العلف المهمل والحال من وجهة نظر عالم النبات أنّ کلّ ورقة منها هی دفتر من معرفة اللّه تعالی وقد توصل العلماء المعاصرون الیوم إلی أنّ آلاف الأنوع من هذا النبات یختزن العدید من الخواص الطبیّة والعلاجیّة ولکلّ منها بنیة معقدة، الجذور والسیقان والأوراق والبذور کلّ منها تبدو أعجب من الاخری، إذن یتّضح من تأمّلها أنّ لها زارعاً وخالقاً علیماً وقدیراً.
ثم فند الإمام علیه السلام قولهم بدلیلین: فقال أولاً:
«ولَمْ یَلْجَأُوا(1) إِلَی حُجَّة فِیمَا ادَّعَوْا، ولَا تَحْقِیق لِمَا أَوْعَوْا(2)».
والدلیل الثانی أنّ لکلّ بناء منظم ومبنی مرتب مهندس ومعمار فقال علیه السلام:
«وهَلْ یَکُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَیْرِ بَانٍ، أَوجِنَایَةٌ مِنْ غَیْرِ جَانٍ».
وتوجد الیوم العدید من الآثار والمبانی هنا وهناک فی الکرة الأرضیّة وقد مرّت علیها آلاف السنین وحفظت کآثار تراثیة لما فیها من دقة وفنون ولیس هنالک أحد
ص:120
من عباد اللّه ولا أحد من المادیین من یدعی أنّ هذه المبانی ظهرت بواسطة الأمطار والریاح والعواصف أو أنّها رتبت من قبل أفراد جهال من عدیمی الخبرة عن طریق الصدفة، بل یجمع الجمیع دون استثناء علی وجود البانی لها صاحب العقل والشعور ویشید بهندسته وفنه فی البناء.
والعبارة:
«أَوجِنَایَةٌ مِنْ غَیْرِ جَانٍ» إشارة إلی أنّه لیس فقط البناء بحاجة إلی علم وتدبیر بل التخریب والجنایة المتعمدة تحتاج إلی تخطیط الشخص العاقل الذی یتعین علیه انتخاب الزمان والمکان والوسیلة وکیفیة ممارسة العمل لتحقیق الهدف.
ویستعان الیوم بذوی الخبرة والاختصاص فی هدم بعض المبانی الضخمة بغیة تفادی وقوع العوارض الجانبیة، وعلیه فالبناء والهدم المبرمج کلاهما یحتاج إلی العقل والتدبیر.
والدلیل علی هذا الکلام ما سیرد فی القسم القادم من هذه الخطبة وکلام الإمام علیه السلام عن الجراد وبنیته العجیبة وعمله التخریبی المنظم ضد النباتات.
ما قاله الإمام علیه السلام فی العبارة الأخیرة من هذه الخطبة:
«وهَلْ یَکُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَیْرِ بَانٍ، أَوجِنَایَةٌ مِنْ غَیْرِ جَانٍ» إشارة لطیفة إلی البرهان المعروف ببرهان النظم الذی یعدّ من أهم الاستدلالات علی معرفة اللّه.
توضیح ذلک: أننا حین نرد مبناً ضخماً ذا عدّة طبقات یحتوی علی غرف متعددة، وصالة للاستقبال، ومطبخ وحمام، ومرافق صحیة، ومصاعد وحین ننظر إلی الجدران والسقوف المزینة بالمرایا الجمیلة والنقوش الظریفة الملونة ووسائل التکییف والتبرید ومد أنابیب المیاه والغاز وخطوط الکهرباء والهاتف فنری کلّ شیء منظم ومرتب.
فهل هنالک من أحد - مهما کانت درجته من العقل والشعور - یحتمل أنّ الصدفة الناشئة من الحوادث الطبیعیة المختلفة هی التی تقف وراءه؟ أم أنّ عدّة عمال أمیین
ص:121
جمعوا مقداراً من مواد البناء فبنوا هذاالبناء الرائع دون أن یکون لدیهم أدنی فن أو خبرة؟
قطعاً أنّ کلّ من یحتمل هذا الشیء إمّا أن یمزح أو أنّه فقد عقله، فالعقلاء کافّة یحکمون بأنّ بعض الأفراد الأذکیاء أعدّوا خریطة مسبقة ثم تکاتف عدد من المهندسین البنائین المهرة والمختصین وذوی المهن المنزلیة لیشیّدوا معاً هذا المبنی.
ویصدق هذا الکلام علی کلّ بناء وکل مصنع وکل کتاب علمی و... ویعبر عن ذلک ببرهان النظم ویقال إنّ النظم یدل دائماً علی عقل وشعور من یأتی به، وکلّما کان النظم أدق وأعقد کان صاحبه أوعی عقلاً وشعوراً وعلماً.
ولو تأمّلنا بنیة نملة والتی یمکن أن نقضی علیها لحظة واحدة دون أن نلتفت إلیها لوقفنا علی أنّها أعظم وأهم من تلک المبانی الشاهقة والضخمة، فبنیة الأرجل، ومفاصلها والأیدی والمجسّات والعین الغایة فی الصغر وجهاز الشامّة القوی الذی یمکنها من الشمّ من مسافات بعیدة والفم والأمعاء وجهاز الهضم وسلسلة الأعصاب والأهم من کلّ ذلک الدماغ الغایة فی الصغر والخارق للذکاء لکشف کلّ منها بمفرده خلقه من قبل خالق عالم وقدیر.
أضف إلی ذلک فإنّ هذه الحشرة الصغیرة تتغذی وتنمو وتنجب بینما ذلک المبنی الضخم موجود جامد خالٍ من الروح لا یأکل ولا یشرب ولا ینمو ولا ینجب.
والحقّ أنّ إیماننا لیتعمق بذلک الخالق القادر والعالم إن اتجهنا صوب بنیة الإنسان وأجهزته الغایة فی التعقید کالقلب والدماغ والأعصاب وأُلوف الکیلومترات من الشرایین والأوعیة الدمویّة التی تغذی کلّ لحظة جمیع ذرات البدن.
أضف إلی ذلک فإننا نعلم أنّ العالم یحتوی علی مئات الأُلوف من أنواع النباتات ومئات الأُلوف من أنواع الحیوانات والطیور والحشرات و... ولکلّ منها قصته العجیبة والمذهلة.
والقرآن المجید جعل کلّ واحدة منها آیة من آیاته فقال: «سَنُرِیهِمْ ایَاتِنَا فِی الْآفَاقِ وَفِی أَنْفُسِهِمْ حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»(1).
ص:122
وإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِی الْجَرَادَةِ، إِذْ خَلَقَ لَهَا عَیْنَیْنِ حَمْرَاوَیْنِ، وأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَیْنِ قَمْرَاوَیْنِ، وجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِیَّ، وفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِیَّ، وجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِیَّ، ونَابَیْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ، ومِنْجَلَیْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ. یَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِی زَرْعِهِمْ، وَلَا یَسْتَطِیعُونَ ذَبَّهَا، ولَوأَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ، حَتَّی تَرِدَ الْحَرْثَ فِی نَزَوَاتِهَا، وتَقْضِی مِنْهُ شَهَوَاتِهَا. وخَلْقُهَا کُلُّهُ لَایُکَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً.
یمکن تصنیف الحشرات إلی ثلاثة أنواع؛ الصنف الذی یخدم الإنسان کالنحل الذی یزودنا بالشهد وعامّة النحل التی تنقل حبوب اللقاح وتنمی ثمار الأشجار.
والصنف الآخر الحشرات غیر المؤذیة (ظاهریاً) التی لا تعود علی الإنسان بالنفع ولا تصیبه بضرر، والصنف الثالث الحشرات التی تعدّ من الآفات مثل الجراد.
وقد أسهب الإمام علیه السلام فی الأقسام السابقة من هذه الخطبة فی عجائب خلقة النمل فی أنّها وجودات خالیة من الأضرار غالباً ومجدّة ومثابرة یمکن أن تکون نموذجاً للإنسان؛ لکنّه تحدّث هنا عن حشرة تعدّ من وسائل العذاب الإلهی وبإمکانها أن تجهز جیشاً لتهجم به علی الحقول والمزارع ولا یسع قوّة الحد من زحفها، وهکذا یفصح اللّه تعالی عن قدرته فی جمیع الجهات ویرسخ لدی الإنسان شعور الخوف والرجاء.
ص:123
فقال:
«وإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِی الْجَرَادَةِ(1) ، إِذْ خَلَقَ لَهَا عَیْنَیْنِ حَمْرَاوَیْنِ، وأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَیْنِ قَمْرَاوَیْنِ(2) ، وجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِیَّ، وفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِیَّ(3)».
وأضاف قائلاً:
(وجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِیَّ، ونَابَیْنِ(4) بِهِمَا تَقْرِضُ، ومِنْجَلَیْنِ(5) بِهِمَا تَقْبِضُ».
صرح بعض العلماء بأنّ الجرادة حشرة عجیبة یشبه کلّ عضو منها أحد الحیوانات، وبعبارة أخری مع أنّها تبدو حشرة ضعیفة لکنها تشبه عشرة حیوانات قویة، فوجهها کوجه الفرس، وعیونها کعیون الفیل ورقبتها کرقبة البقرة، ومجسّاتها کقرنی الضبی وصدرها کصدر الأسد وبطنها کبطن العقرب وأجنحتها کأجنحة العقاب وسیقانها کسیقان الجمل وأرجلها کأرجل النعامة وذیلها کذیل الحیة، وقد أشار الإمام علیه السلام فی هذه العبارات إلی سبع خصائص عجیبة فیها؛ کالعیون والأحداق والأذن الخفیة والفم والشعور القوی والأسنان الحادة والعضوین اللذین یشبهان منجلین علی جانبی الفم (وسنعرض لها فی التأمّلات).
ثم تطرق علیه السلام إلی الأخطار العظیمة لهذه الحشرة التی تبدو ضعیفة فقال:
«یَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِی زَرْعِهِمْ، وَلَا یَسْتَطِیعُونَ ذَبَّهَا، ولَوأَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ، حَتَّی تَرِدَ الْحَرْثَ فِی نَزَوَاتِهَا(6) ، وتَقْضِی مِنْهُ شَهَوَاتِهَا. وخَلْقُهَا کُلُّهُ لَایُکَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً(7)».
حقّاً أنّه لمن العجب أنّ کبار أبطال التاریخ کلّما جهّزوا جیشاً لمقاومة هذه الحشرة الضعیفة فشلوا فی التخلص منها؛ فأسراب الجراد تظهر کقطع السحب
ص:124
الکبیرة فی السماء فتهجم بغتةً علی البساتین والمزارع الواسعة، فتلتهم خلال مدّة قصیرة سیقان النباتات وأغصانها وأوراقها فتحیلها إلی أشجار عاریة جرداء من الأوراق والثمار.
ویستعان الیوم بالطائرات التی ترش المبیدات الحشریة وسائر الوسائل لمواجهة خطر هذه الآفة مع ذلک لم تحرز سوی بعض التقدم وفی بعض الأحیان، وإن کانت حملة الجراد قویة، فإنّ الوسائل المعاصرة هی الأخری تعجز عن مواجهتها.
إنّ إحدی الحشرات العجیبة هی الجرادة، الحشرة التی تبدو بصورة عادیة خالیة من الضرر والأذی حیث تعیش هنا وهناک فی المزارع والبساتین والودیان والجبال، ولکن ما أن تتلقی بعض الأوامر المشفرة حتی تتکاثر بسرعة وتتطایر کأسراب عظیمة بمثابة السحب فی السماء لتحط علی کلّ مزرعة وبستان فتحیله خراباً.
ویقول العلماء: إنّ بنیة هذه الحشرة غایة فی التعقید والدهشة ومن ذلک لها عینان مرکبتان وثلاثة عیون بسیطة، وتتکون عیونها المرکبة من أربعة آلاف قسم ولکلّ قسم بنیته الخاصّة وتتشکل من جمیع هذه العیون المرکبة رؤیة واحدة.
أمّا العیون الثلاثة البسیطة فتقع فی أعلی الرأس، ویتألف صدرها من ثلاث حلقات وبطنها من عشر حلقات تشبه بعضها البعض الآخر.
لها زوجان من الأجنحة زوج أمامی بصیغة مقوسة لا یستعمل فی الطیران ووظیفته حفظ أجنحة الطیران الظریفة التی تنطبق حین الاستراحة لتحفظ تحت الأجنحة الأمامیّة القویّة.
وقد استطالت أرجلها الخلفیة لتساعدها فی القفز والوثوب، تضع الجرادة بیوضها فی فصل الصیف أو الربیع، حیث تخرج هذه البیوض بواسطة نوع من المواد
ص:125
من ذیلها فتضعها فی ثقوب من الأرض تصنعها بنفسها، وتمتاز صغار الجراد التی تتفقس عن البیوض بشدّة النهم والحرص فتأکل کلّ ما یصادفها فی طریقها، ومن هنا لابدّ من التعرف علی موضع بیوضها من أجل مکافحتها والتصدی لصغارها قبل تفقیسها من البیوض.
والجراد أنواع وأقسام منه الجراد البحری والجراد المراکشی والجراد الإیطالی الذی یسبب خسارة للمزارع أکثر من غیره من سائر الأنواع، ومن عجائب هذه الحشرة أنّها تغیر شکلها ست مرّات منذ تفقیسها من البیضة إلی تکاملها کحشرة قادرة علی الطیران.
وتبدو أسراب الجراد علی درجة من السعة بحیث تغطی آلاف الکیلومترات المربعة من السماء(1).
***
ص:126
فَتَبَارَکَ اللّهُ الَّذِی یَسْجُدُ لَهُ (مَنْ فِی السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَکَرْهاً)، ویُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً ووَجْهاً، ویُلْقِی إِلَیْهِ بِالطَّاعَةِ سِلْماً وضَعْفاً، ویُعْطِی لَهُ الْقِیَادَ رَهْبَةً وخَوْفاً! فَالطَّیْرُ مُسَخَّرَةٌ لاَِمْرِهِ؛ أَحْصَی عَدَدَ الرِّیشِ مِنْهَا والنَّفَسَ، وأَرْسَی قَوَائِمَهَا عَلَی النَّدَی والْیَبَسِ؛ وقَدَّرَ أَقْوَاتَهَا، وأَحْصَی أَجْنَاسَهَا. فَهذَا غُرَابٌ وهذَا عُقَابٌ. وهذَا حَمَامٌ وهذَا نَعَامٌ؛ دَعَا کُلَّ طَائِر بِاسْمِهِ، وکَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ.
وأَنْشَأَ (السَّحَابَ الثِّقَالَ) فَأَهْطَلَ دِیَمَهَا، وعَدَّدَ قِسَمَهَا. فَبَلَّ الأَرْضَ بَعْدَ جُفُوفِهَا، وأَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا.
ووَجْهاً، ویُلْقِی إِلَیْهِ بِالطَّاعَةِ سِلْماً وضَعْفاً، ویُعْطِی لَهُ الْقِیَادَ رَهْبَةً وخَوْفاً!».
ربّما یکون السجود هنا إشارة إلی الخضوع الإرادی للذات الإلهیّة المقدّسة فاعله أصحاب العقول والذی یفهم من کلمة «مَنْ»، کما یحتمل أن یکون المراد من السجود الإرادی التشریعی والتکوینی، إستناداً إلی أنّ مفردة «مَنْ» تشمل هنا ذوی العقول وغیرهم (أی لها حیثیة تغلیبیة کما فی الاصطلاح).
ویمکن أن تکون العبارة
«طَوْعاً وَکَرْهاً» إشارة إلی هذا المعنی، لأنّ السجود التشریعی قائم علی أساس الإرادة، بینما لیست هنالک مثل هذه الإرادة فی السجود التکوینی، وعلیه فربّما تکون إشارة إلی الطائفة التی تسجد مختارة للّه والاُخری التی تسجد حین البلاء والشدّة کما ورد فی القرآن الکریم: «فَإِذَا رَکِبُوا فِی ی الْفُلْکِ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَی الْبَرِّ إِذَا هُمْ یُشْرِکُونَ»(1).
کما أنّ العبارة
«یُعَفِّرُ لَهُ...» إن فسّرت بمعناها الحقیقی فهی إشارة إلی السجدة الاعتیادیة التی یضع فیها الإنسان جبهته علی التربة، وإن فسرت بالمعنی المجازی فهی شاملة للخضوع التشریعی والتکوینی.
کما أنّ العبارة
«یُلْقِی إِلَیْهِ بِالطَّاعَةِ...» واردة بهذا المعنی أیضاً فی أنّ طائفة من العقلاء یخضعون للّه إنطلاقاً من الرغبة والاختیار والشعور بالضعف والعجز بینما تعیش الموجودات غیر العاقلة حالة التسلیم لقوانین الخلق دون إرادة واختیار.
وتشیر العبارة
«یُعْطِی لَهُ الْقِیَادَ...» إلی مرحلة أبعد من مرحلة الطاعة لأنّ الإنسان یسمع أمر المولی فی الطاعة فینهض ویباشر العمل، أمّا فی القیاد فهو یسلم نفسه لمولاه لیأخذه حیث یشاء.
ثم وذهب بعض اللغویین إلی التمییز بین «الرهبة» و «الخوف» فی أنّ الخوف یعنی مطلقه، بینما تعنی الرهبة الخوف المقرون بالاضطراب وضبط النفس.
ثم خاض الإمام علیه السلام ثانیة فی جانب من مخلوقات اللّه العجیبة هی الطیور التی
ص:128
تمتاز حقّاً بعالمها العجیب. فلا یقتصر الأمر علی تحلیقها إلی السماء باتّجاه مضاد للجاذبیة الأرضیّة فتنطلق هنا وهناک بسرعة فائقة، بل تمتاز بنیتها ببعض الأشیاء المعقدة من جمیع الجهات والتی سنعرض إلی جانب منها فی ختام هذا البحث فقال:
«فَالطَّیْرُ مُسَخَّرَةٌ لاَِمْرِهِ».
والعبارة اقتباس من الآیة الشریفة: «أَلَمْ یَرَوْا إِلَی الطَّیْرِ مُسَخَّرَات فِی جَوالسَّمَاءِ مَا یُمْسِکُهُنَّ إِلَّا اللّهُ إِنَّ فِی ذلِکَ لاَیَات لِّقَوْم یُؤْمِنُونَ»(1).
ثم أسهب الإمام علیه السلام فی شرح هذه الطیور فأشار إلی بعض الأمور المهمّة فقال:
«أَحْصَی عَدَدَ الرِّیشِ(2) مِنْهَا والنَّفَسَ، وأَرْسَی(3) قَوَائِمَهَا عَلَی النَّدَی(4) والْیَبَسِ؛ وقَدَّرَ أَقْوَاتَهَا، وأَحْصَی أَجْنَاسَهَا. فَهذَا غُرَابٌ وهذا عُقَابٌ. وهذَا حَمَامٌ وهذَا نَعَامٌ؛ دَعَا کُلَّ طَائِر بِاسْمِهِ، وکَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ».
أشار الإمام علیه السلام فی هذه العبارات إلی أمور رائعة، فعدّ ریش الطیور من أغرب عجائبها فکلّ منها یشبه البرعم الجمیل الذی غاصت جذوره بصورة سطحیة فی لحم بدنه وظهرت أغصانه وأوراقه بصورة منتظمة وتجمعت علی بعضها بهیئة خاصّة علی جوانب الرأس والعنق والجناح والصدر وما أن یسقط أحد منها حتی ینمو آخر غیره فلطافتها عجیبة وألوانها أعجب.
ثم أشار إلی أقدامها فقد صممت بعضها للیابسة فهی قصیرة ومحکمة، وأخری للفائدة عند حافات البحار والأنهار فهی طویله ومرتفعة وبرقبة طویلة لتمکن الطائر من تناول طعامه من داخل المیاه.
ثم تطرق علیه السلام إلی موادها الغذائیّة حیث لکلّ حصته من الحبوب وما شابه ذلک
ص:129
والطریف فی الأمر أنّ أیّاً من الطیور لا یملک أسناناً لقضم هذه الحبوب وبالمقابل زودت بمعدة (والتی یطلق علیها اسم القانصة) والتی تمتاز بحراراتها الشدیدة فتفرز بعض السوائل التی تطحن الحبوب وتمتصها، وحیث لا تمتلک الوقت الکافی لالتقاط الحبوب خشیة مهاجمتها من مختلف الأعداء فقد زودت بعضو آخر هو الحوصلة التی تشبه الکیس فتقوم عن طریقها بجمع سریع لتلک الحبوب ثم تهضمها وتمتصها.
ثم أشار إلی أنواع مختلفة ومتفاوتة للطیور حیث لکلّ بنیّته الخاصّة وطریقته المختصة به کالغراب والعقاب إلی الحمام والنعام والتی انطوت علی العدید من العجائب والغرائب بما یبهت الإنسان فتعالی اللّه الملک الحقّ الذی أبدع کلّ هذا الخلق.
ولعل العبارة
«دَعَا کُلَّ طَائِر بِاسْمِهِ» تشیر إلی هذا الموضوع حیث إنّه سبحانه خلق کل طائر من هذه الطیور علی ضوء ما أراده من خصائص والواقع هذه دعوة تکوینیّة مع مجموعة الخصائص التی عبّر عنها بالاسم وشبیه تلک العبارة التی وردت فی القرآن الکریم بشأن خلق جمیع الموجودات: «اِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ»(1).
واختتم الإمام علیه السلام خطبته بالإشارة إلی السحب التی تعدّ المصدر الأصلی بما تفیضه من میاه ضروریة لحیاة جمیع الموجودات فقال:
«وأَنْشَأَ «السَّحَابَ الثِّقَالَ» (2)
فَأَهْطَلَ(3) دِیَمَهَا(4) ، وعَدَّدَ قِسَمَهَا. فَبَلَّ الأَرْضَ بَعْدَ جُفُوفِهَا وأَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا(5)».
ص:130
وإننا لنعلم أنّ السحب علی أنواع فهنالک السحب المغطاة التی تخلو تقریباً من المیاه وتلک التی تحمل قلیلاً من الماء، والنوع الثالث السحب المتجمعة الملیئة بالمیاه والشدیدة الرطوبة وکأنّها بحار علقت فی عنان السماء وتکون عادة فی الطبقات السفلی من الجو والتی عبّر عنها القرآن الکریم بالسحاب الثقال فقال:
«وَهُوالَّذِی یُرْسِلُ الرِّیَاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ حَتَّی إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَد مَّیِّت فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ کُلِّ الثَّمَرَاتِ»(1).
تعلّمنا من هذه الخطبة عدّة دروس؛ ومن ذلک أن نتأمّل أسرار عظمة اللّه حتی فی أصغر موجودات هذا العالم، فما أکثر الموجودات الصغیرة والتی لا تبدو فی ظاهرها مهمّة کالنمل والجراد بینما تختزن عجائب أسرار الخلقة، فما علینا إلّاأنّ نعید النظر فی رؤیة کلّ شیء وکأننا نراه لأول مرّة لنقف علی عجائبه فنستدل من خلالها علی خالقها الحکیم والقادر العلیم.
جدیر ذکره أنّ الأسلاف ذکروا بعض الأمور عن أسرار خلق الموجودات ولا سیما الحیوانات والتی لا تخلو من الأساطیر والخرافات والحال ما ذکره الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلاغة عن أسرار الخلیقة یخلو تماماً من أی إغراق وخرافة واسطورة.
***
ص:131
ص:132
تحدّث الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة عن صفات اللّه تعالی لیشیر إلی أکثر من سبعین صفة حیث لم یلاحظ ذکر هذا العدد من صفات الجلال والجمال فی أی من سائر الخطب.
والواقع کشف الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة عن قدرات تفکیره الربّانی فی شرح وتوضیح أعقد المسائل العقائدیة، فتطرق إلی تفاصیل صفاته تعالی الثبوتیّة والسلبیّة
ص:133
والإضافیّة بنظام خاص ورائع، وما أحرانا أن نعدّ ذلک بمنزلة سورة التوحید - التی اعتبرتها بعض الروایات أنّها تعدل ثلث القرآن الکریم - فی نهج البلاغة.
والخطبة فی الحقیقة قسم واحد هو شرح أسماء اللّه وصفاته لکننا من باب المسامحة نقسمها إلی ثلاثة أقسام، قسم یتحدّث عن صفات اللّه الثبوتیّة والقسم الآخر فی صفاته السلبیّة وقسم ثالث فی قدرته تعالی فی مسألة المعاد وعودة الناس إلی الحیاة الاُخرویّة.
وبالتالی فإنّ کلّ من یتأمّل هذه الخطبة لیقطع بأنّ أحداً من الفلاسفة الإلهیین فی الماضی والحاضر لم یقدموا مثل هذه الصورة الرائعة والدقیقة والجلیة بشأن اللّه تعالی؛ حتی أنّ من یطلع علی هذه الخطبة من غیر المسلمین لا یملک إلّاالإشادة بقائلها.
***
ص:134
مَا وَحَّدَهُ مَنْ کَیَّفَهُ، وَلَا حَقِیقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ، وَلَا إِیَّاهُ عَنَی مَنْ شَبَّهَهُ، وَلَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَیْهِ وتَوَهَّمَهُ. کُلُّ مَعْرُوف بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ، وکُلُّ قَائِم فِی سِوَاهُ مَعْلُولٌ. فَاعِلٌ لَابِاضْطِرَابِ آلَة، مُقَدِّرٌ لَابِجَوْلِ فِکْرَة، غَنِیٌّ لَا بِاسْتِفَادَة. لَاتَصْحَبُهُ الأَوْقَاتُ، وَلَا تَرْفِدُهُ الأَدَوَاتُ؛ سَبَقَ الأَوْقَاتَ کَوْنُهُ، وَالْعَدَمَ وُجُودُهُ، وَالاِْبْتِدَاءَ أَزَلُهُ. بِتَشْعِیرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَامَشْعَرَ لَهُ، وبِمُضَادَّتِهِ بَیْنَ الاُْمُورِ عُرِفَ أَنْ لَاضِدَّ لَهُ، وبِمُقَارَنَتِهِ بَیْنَ الأَشْیَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِینَ لَهُ. ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ، والْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ، والْجُمُودَ بِالْبَلَلِ، وَالْحَرُورَ بِالصَّرَدِ. مُؤَلِّفٌ بَیْنَ مُتَعَادِیَاتِهَا، مُقَارِنٌ بَیْنَ مُتَبَایِنَاتِهَا، مُقَرِّبٌ بَیْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا، مُفَرِّقٌ بَیْنَ مُتَدَانِیَاتِهَا.
تشتمل هذه الخطبة الشریفة کما ورد سالفاً علی مواضیع قیمة ومباحث هامّة فی علم اللّه والتی بیّنت بمنتهی الفصاحة والبلاغة وحسن الأسلوب وانسجام العبارات، فقد استهل الإمام علیه السلام الخطبة بالإشارة إلی جانب من صفات اللّه السلبیّة فقال:
«مَا وَحَّدَهُ مَنْ کَیَّفَهُ، وَلَا حَقِیقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ، وَلَا إِیَّاهُ عَنَی مَنْ شَبَّهَهُ، وَلَا صَمَدَهُ(1) مَنْ أَشَارَ إِلَیْهِ وتَوَهَّمَهُ».
ص:135
فقد أشار الإمام علیه السلام فی أول صفة من صفاته السلبیّة إلی مسألة نفی الکیفیة عن اللّه تعالی، تلک الحالة التی تعرض علی الجسم المادی أو الموجود الروحانی وبما أنّ طرو العوارض دلیل علی المخلوقیّة فإنّ الذات الإلهیّة الطاهرة لا تطرأ علیها الکیفیة کونها أزلیّة وأبدیّة.
ثم نفی الإمام علیه السلام عن اللّه فی الصفة الثانیة أی شبیه ومثیل، ذلک إن کان له مثیل وکانت هذه المثلیّة فی جمیع الجهات لأصبح عینه، وإن کانت فی بعض الجهات لزم منها الترکیب (ترکیب ما به الاشتراک وما به الامتیاز) والترکیب لا ینسجم مع کونه واجب الوجود، ذلک لأنّ کلّ مرکب یحتاج أیّ أجزائه ولا معنی للحاجة فی واجب الوجود، وبعبارة أخری تکون الأجزاء فی المرتبة السابقة للکلّ، وعلیه إن کان واجب الوجود لکانت تلک الأجزاء، لا (الکلّ) المولود من تلک الأجزاء، ومن جانب آخر فإنّ الذی یلزم من الأجزاء التعدد والتعدد محال فی واجب الوجود، لأنّ واجب الوجود لامتناهٍ من جمیع الجهات ویستحیل وجود لامتناهیین من جمیع الجهات.
ونفی الشبیه فی الصفة الثالثة عن الذات القدسیّة، فالذات اللامتناهیة من جمیع الجهات لا شبیه لها (الفارق بین المثل والشبیه أنّ المثل یلاحظ فی جمیع الجهات أو أکثر الصفات بینما الشبیه یمکن فی بعض الجهات).
وقال فی الصفة الرابعة والخامسة: من أشار إلی اللّه أو توهمه لم یعرفه، لأنّ الإشارة الحسیة دلالة علی الجسمیّة والاشتمال علی الجهة والمکان المنزّه اللّه منها، وتوهمه یعنی جعل حدود لذاته اللامحدودة، وعلی هذا الأساس نقول لیس لأحد درک ذاته سبحانه وعلمنا به هو علم إجمالی فنقول مثلاً: اللّه خالق وخالق لهذا العالم.
ثم أشار علیه السلام إلی صفتین أخریین فقال:
«کُلُّ مَعْرُوف بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ، وکُلُّ قَائِم فِی سِوَاهُ مَعْلُولٌ».
ص:136
قلنا کراراً أنّ اللّه وجود لا متناهٍ من جمیع الجهات ولا یستوعبه فکرنا المحدود، ولهذا فهو أسمی من الخیال والقیاس والظن والوهم، فإن قیل: فکیف نعرف اللّه؟ نقول: عن طریقین رئیسیین؛ الأوّل الإشارة إلی آثاره وأفعاله التی ملأت عالم الوجود وکلّما أمعنا النظر فی شیء رأیناه إجمالاً خلفه، والآخر عن طریق تحلیل حقیقة الوجود التی تنتهی إجمالاً بواجب الوجود والذی یصطلح علیه (برهان الصدیقین) والذی أشیر إلیه فی الأحادیث والأدعیة بعنوان
«یا مَنْ دَلَّ عَلی ذاتِهِ بِذاتِهِ» وهو أیضاً علم إجمالی؛ لا علم بکنه وحقیقة ذاته الخارجة عن متناول جمیع الأفکار بما فیها أفکار الأنبیاء والأولیاء.
کما توضح هذه النقطة أنّ کلّ شیء قائم بآخر سواء بصورة عرض عارض علی ذلک الشیء أو بصورة وجود جوهری متوقف علیه، علی کلّ حال معلول آخر واللّه تعالی واجب الوجود لیس بمعلول؛ بل هو القیوم؛ أی القائم بذاته وقیام الآخرین به.
ثم أشار علیه السلام إلی أفعاله وتدبیره وغناه فقال:
«فَاعِلٌ لَابِاضْطِرَابِ آلَة، مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ(1) فِکْرَة، غَنِیٌّ لَابِاسْتِفَادَة».
لأنّ الشخص إنّما یستعین فی عمله بالوسائل والأدوات من حیث کانت قدرته محدودة ولابدّ له من الاستفادة والاستعانة بتلک الوسائل ومن یحتاج فی تدبیره الفکر والمطالعة فإنّما یعزی ذلک لمحدودیة علمه وهذا ما یدفعه لزیادة فکره ومطالعاته؛ أمّا من کان علمه وقدرته لامتناهیان فهو غنی عن کلّ ذلک کما أنّ جمیع الأغنیاء غیره یصبحون أغنیاء عن طریق کسب المال والمقام وأمثال ذلک من خارج وجودهم أمّا اللّه تعالی فهو الغنی بالذات.
قال تعالی فی القرآن الکریم: «یَا أَیُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَی اللّهِ وَاللّهُ هُوالْغَنِیُّ الْحَمِیدُ»(2).
ص:137
ثم واصل کلامه علیه السلام فی بیان هذه الصفات فقال:
«لَا تَصْحَبُهُ الأَوْقَاتُ، وَلَا تَرْفِدُهُ(1) الأَدَوَاتُ؛ سَبَقَ الأَوْقَاتَ کَوْنُهُ، وَالْعَدَمَ وُجُودُهُ، وَالاِْبْتِدَاءَ أَزَلُهُ».
العبارة:
«لَا تَصْحَبُهُ الأَوْقَاتُ...» تشیر إلی أنّ الزمان أمر حادث واللّه تعالی الأزلی والأبدی الذات لم ولن یقترن بالحوادث کما لم تکن الأدوات والآلات سنده ومعینه.
والفارق بین هذه العبارة والعبارة:
«فَاعِلٌ لَابِاضْطِرَابِ آلَة» یمکن أن تکون فی أنّ الکلام فی العبارة السابقة فی أفعال اللّه التی لا تتطلب الآلات والأدوات؛ بینما تشیر هذه العبارة إلی عدم استعانته بهذه الأدوات فی بقائه.
العبارة:
«سَبَقَ الأَوْقَاتَ کَوْنُهُ...» فی الواقع، شرح للعبارة
«لَا تَصْحَبُهُ الأَوْقَاتُ» لأننا حین نقرّ بأنّ وجوده أسمی من الزمان والمکان نخلص إلی نتیجة أنّ وجوده سبق الزمان وتقدم علی العدم وأنّ أزلیته مقدمة علی کلّ بدایة.
وهنا یرد هذا السؤال، وهو أنّ الإمام علیه السلام قال: وجوده سبق عدمه والحال العدم لیس بالشیء الذی یسبقه وجود اللّه والجواب یمکن القول إنّ المراد من العدم هنا هو انعدام المخلوقات أی أنّ اللّه تعالی کان موجوداً حین لم یکن أی من الموجودات.
ویقال أحیاناً هذه العبارة کنایة عن کون اللّه واجب الوجود لأنّ الذات الواجبة الوجود کائنة وستکون علی الدوام وتتغلب علی العدم ولا یعرض لها العدم بأی شکل من الأشکال.
وتشیر العبارة:
«وَالاِْبْتِدَاءَ أَزَلُهُ» إلی أنّ الذات الأزلیّة والأبدیّة أسمی من أن یکون لها ابتداء.
ثم خاض علیه السلام فی صفات أخری کلّ واحدة منها أهم من الأخری فقال:
ص:138
«بِتَشْعِیرِهِ(1) الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَامَشْعَرَ لَهُ»، لأنّ وجود الحواس من لوازم المخلوقات الممکنة الوجود ویتنزّه عن ذلک واجب الوجود، أضف إلی ذلک أنّ الحواس من عوارض الموجودات، والعرض والمعروض شیئان مختلفان بینما نعلم أن لیس للترکیب من سبیل إلی ذات اللّه.
بعبارة أخری لقد دلّ اللّه تعالی بخلقه الحواس لعباده أنّ الاحساس والحواس عارضة ومنفصلة عن ذات الأشیاء، وهنا فهم العباد أن لیس له حواس لأنّ ذاته لیست محلّاً للعوارض.
ثم قال علیه السلام:
«وبِمُضَادَّتِهِ بَیْنَ الاُْمُورِ عُرِفَ أَنْ لَاضِدَّ لَهُ، وبِمُقَارَنَتِهِ بَیْنَ الأَشْیَاءِ عُرِفَ أَنْ لَاقَرِینَ لَهُ» وتفسیر هذا الکلام أنّ وجودین متضادین یکونان قطعاً محدودین ولهما حالتان مختلفتان، والحال الذات الإلهیّة لیست محدودة ولا شیء عارض علیها، کما أنّ الموجودین المقرونین محدودان ولهما عوارض مشابهة بینما الذات الإلهیّة لامحدودة من کلّ الجهات وعاریة من کلّ العوارض.
وواصل الإمام علیه السلام کلامه بالإشارة إلی بعض المصادیق من الأمور المتضادة فقال:
«ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ، والْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ(2) ، والْجُمُودَ بِالْبَلَلِ، وَالْحَرُورَ بِالصَّرَدِ(3)».
طبعاً ینطوی هذا التضاد علی فلسفة تتمثل فی ایجاد التوازن وإزالة آثار السوء لکلّ شیء بآخر، فلو أشرقت الشمس علی جانب من الکرة الأرضیّة دائماً وغط الجانب الآخر منها فی ظلمة دائمة لزالت الحیاة عاجلاً؛ فالجانب الذی یتعرض إلی الشمس یحترق بفعل شدّة الحرارة ویهلک، کما ینجمد ویزول ذلک الذی یعیش الظلمة: «قُلْ أَرَأَیْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَیْکُمُ اللَّیْلَ سَرْمَداً إِلی یَوْمِ الْقِیَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَیْرُ اللّهِ یَأْتِیکُمْ بِضِیَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ»(4)؛ «قُلْ أَرَأَیْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَیْکُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلی یَوْمِ
ص:139
الْقِیَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَیْرُ اللّهِ یَأْتِیکُمْ بِلَیْل تَسْکُنُونَ فِیهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ»(1)؛ «وَمِنْ رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْکُنُوا فِیهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ»(2).
قد یقال هنا إنّ الظلمة أمر عدمی ولیس بالشیء الذی خلقه اللّه أو یکون مضاداً للنور.
وهوذات السؤال الذی ورد فی الآیة الشریفة: «الْحَمْدُ للّهِ الَّذِی خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ»(3).
ولکن بالإلتفات إلی هذه النقطة وهی أنّ ظلمة اللیل وأمثالها لیست ظلمة مطلقة لتکون عدمیّة، بل ضعف شدید للنور ومن هنا حین تطفأ المصابیح فی اللیل فجأة لا نکاد نری شیئاً مطلقاً، ولکن بالتدریج تعتاد عیوننا ذلک النور الضعیف فی جوف الظلمة فنبدأ برؤیة الأشیاء من حولنا، وعلیه فالظلمة مخلوق من مخلوقات اللّه مضادة للنور.
ویمکن أن تکون العبارة
«والْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ» إشارة إلی اختلاف الألوان وفلسفة ذلک تمییز الأشیاء عن بعضها البعض الآخر، فالوضوح إشارة إلی الألوان الفاتحة والبهمة إلی الألوان الغامقة والقاتمة، أو إشارة إلی الحالات شبه المضیئة وشبه المظلمة بین الطلوعین والغروبین.
«والجُمُودَ بِالْبَلَلِ» أشار إلی الیابسة والبحار والأشیاء الجامدة والمرطوبة والتی لکلّ منها فلسفته الوجودیة المختصة به.
کما تشیر
«والْحَرُورَ بِالصَّرَدِ» إلی فصول السنة أو بصورة کلیة الحرارة والبرودة والتی لکلّ منهما دوره فی حیاة ورشد الکائنات الحیة.
ثم أشار علیه السلام إلی أربع صفات أخری فقال:
«مُؤَلِّفٌ بَیْنَ مُتَعَادِیَاتِهَا، مُقَارِنٌ بَیْنَ
ص:140
مُتَبَایِنَاتِهَا، مُقَرِّبٌ بَیْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا، مُفَرِّقٌ بَیْنَ مُتَدَانِیَاتِهَا». حیث تطرق الإمام علیه السلام إلی أمور غایة فی الأهمیّة اعتمدها اللّه سبحانه وتعالی فی تدبیر عالم الوجود، فقد جمع فی أغلب الموارد بین الضدین فربط بین الروح هذا الجوهر اللطیف الذی یفوق المادة مع هذا الجسم الترابی وجعل عدّة موجودات مختلفة إلی جانب بعضها البعض الآخر الأمر الذی نلاحظه فی ترکیب بدن الإنسان والحیوان والنبات حیث جعل عشرات الفلزات وأشباه الفلزات إلی جانب بعضها البعض الآخر لیخلق منها ذلک الترکیب البدیع، والعجیب أنّه جعل الجاذبیة والتناقض بین الضدین کالقطب الکهربائی الموجب والقطب السالب وبین القطبین المتشابهین أوجد حالة من التنافر کما فی القطبین الموجبین أو القطبین السالبین کما جعل جاذبیة بین الجنس المذکر والمؤنث والتنافر بین المتجانسین.
وهکذا فقد أشار الإمام علیه السلام إلی أربعة أقسام من موجودات العالم: قسم منها متضاد کالنور والظلمة والروح والجسم، وآخر متباین کأنواع النباتات والحیوانات المتباینة غیر المتضادة وقد جعل اللّه بینها جمیعاً نوعاً من الألفة.
والقسم الثالث تلک المتباعدة وقد قرّبها اللّه کالأزواج من قومین منفصلین عن بعضهما البعض الآخر ویقترنان ببعضهما إثر الحبّ والمودّة.
وأخیراً القسم الرابع الأمور القریبة من بعضها ذاتاً، وقد ابعدها اللّه عن بعضها بتدبیره لهذا العالم مثل کرات المنظومة الشمسیة التی کانت مع بعضها البعض حسب النظریة المعروف ففصلها اللّه تعالی وخلق المنظومة الشمسیّة.
رغم أنّ الأجزاء المرکبة للنباتات وأوراقها تنفصل عنها بعد الجفاف وتتحول إلی عناصر فعالة لتنمیة سائر الأشجار والنباتات کما أنّ سحب الغیوم أحیاناً تتصل مع بعضها من مختلف المناطق بواسطة الریاح فتهطل الأمطار الحیویة، کما یأمر الریاح بحملها إلی مناطق أخری.
نعم! فربوبیّته وتدبیره تقتضی أحیاناً أن یجمع بین الضدین وأحیاناً أخری للتقریب بین المتباینین وثالثة تقریب المتباعد وإبعاد المتقارب.
ص:141
یعتقد البعض أنّ العالم مؤلف من جمع الأضداد والتضاد سبب التکامل وحسب بعض الحکماء
«لَولا التَّضادُ ما صَحَّ الْفَیْضُ عَنِ الْمَبْدَأَ الْجَوادِ». کما استدل البعض علی هذا المطلب بعبارة الإمام علیه السلام الواردة فی الخطبة:
«مُؤَلِّفٌ بَیْنَ مُتَعَادِیَاتِهَا، مُقَارِنٌ بَیْنَ مُتَبَایِنَاتِهَا...».
ویری اتباع المدرسة المادیّة الدیالکتیکیة أنّ أحد المبادئ الأربعة یتمثل فی الجمع بین الضدین ویزعمون أنّ کلّ موجود یحمل ضده فی داخله وبظهور الضد یزول الموجود السابق ویضربون علی ذلک مثال البیضة والدجاجة وأمثال ذلک لیخلصوا فی النتیجة إلی أنّ المجتمع الرأسمالی یبلور مضطراً داخله ضده الذی یتمثل فی المجتمع الاشتراکی والشیوعی وما تظهر حتی تزول الرأسمالیة، وهکذا طرحوا مبادئهم الواهیة الجوفاء علی هذا الأساس بحیث اتضح ضعفهم وعجزهم عملیاً علی مستوی الظاهر، وقد لمسنا کیفیة إنهیار هذه المدرسة.
ویجب الإلتفات إلی أنّ الجمع بین الضدین (أو النقیضین) مصطلح فلسفی یعنی الجمع فی محل واحد من جمیع الجهات بمعنی أن یکون الشیء الواحد أسوداً وأبیضاً فی آن واحد، وهذا محال؛ أو یکون مکان معین فی لحظة معینة لیلاً ونهاراً أو یکون الإنسان حیّاً ومیّتاً فی زمن معین ومن الطبیعی أنّ الجمع بین هذین النقیضین محال بهذا المعنی، ولکن أحیاناً یکون المراد الجمع العرفی: کأن یجتمع جسمان أبیض وأسود مع بعضهما فی آن واحد أو فی زمنین متصلین، فأحیاناً یکون الجسم أبیضاً وأخری أسوداً.
وهذا المعنی لیس ممکناً فقط فحسب بل شمل جوانب عظیمة من هذا العالم وعلی ضوء هذه النقطة نعود إلی أصل الموضوع فنقول: فی العالم الذی نعیش فیه فإنّ مدبّره هو الذات الإلهیّة القدسیّة التی أشاعت نظام الأضداد، وکما ورد فی کلام
ص:142
الإمام علیه السلام فقد مزج النور بالظلمة والحرارة والبرودة والیبوسة والبلل ووظف نظام اللیل والنهار والفصول الأربعة والسحب والأمطار والشمس ببعض الأعمال المهمّة، وأحیاناً یلاحظ بین الأمثال أنّ عضواً من أعضاء الإنسان أو النبات لیس فقط لا یتضادان بل هما منسجمان مع بعضهما.
علی کلّ حال فإنّ التضاد بالصیغة المذکورة من شأنه فی أغلب المواقع أن یلعب دوراً مهماً فی تطویر المجتمع البشری وتکامل الکائنات؛ والتنافس البناء فی کلّ مجتمع مدعاة للتطور وعادة ما یؤدّی إلی القوّة والمنعة فی مختلف المجالات حتی أنّ وجود الشیطان أمام المؤمنین مدعاة لتأصل ورسوخ إیمانهم.
***
ص:143
ص:144
لَا یُشْمَلُ بِحَدٍّ، وَلَا یُحْسَبُ بِعَدٍّ، وإِنَّمَا تَحُدُّ الأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا، وتُشِیرُ الاْلاَتُ إِلَی نَظَائِرُهَا. مَنَعَتْهَا «مُنْذُ» الْقِدْمَةَ، وحَمَتْهَا «قَدُ» الأَزَلِیَّةَ، وجَنَّبَتْهَا «لَولَا» التَّکْمِلَةَ! بِهَا تَجَلَّی صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ، وبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُیُونِ، وَلَا یَجْرِی عَلَیْهِ السُّکُونُ والْحَرَکَةُ، وکَیْفَ یَجْرِی عَلَیْهِ مَا هُوأَجْرَاهُ، ویَعُودُ فِیهِ مَا هُوأَبْدَاهُ، ویَحْدُثُ فِیهِ مَا هُوأَحْدَثَهُ! إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ، ولَتَجَزَّأَ کُنْهُهُ، وَلَامْتَنَعَ مِنَ الأَزَلِ مَعْنَاهُ، ولَکَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ، وَلاَلْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ. وإِذاً لَقَامَتْ آیَةُ الْمَصْنُوعِ فِیهِ، ولَتَحَوَّلَ دَلِیلا بَعْدَ أَنْ کَانَ مَدْلُولا عَلَیْهِ، وخَرَجَ بِسُلْطَانِ الاِْمْتِنَاعِ مِنْ أَنْ یُؤَثِّرَ فِیهِ مَا یُؤَثِّرُ فِی غَیْرِهِ. الَّذِی لَایَحُولُ وَلَا یَزُولُ، وَلَا یَجُوزُ عَلَیْهِ الاُْفُولُ. لَمْ یَلِدْ فَیَکُونَ مَوْلُوداً، ولَمْ یُولَدْ فَیَصِیرَ مَحْدُوداً. جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الأَبْنَاءِ، وطَهُرَ عَنْ مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ.
أشار الإمام علیه السلام فی هذا القسم إلی صفات أخری من صفات اللّه السلبیّة فقال:
«لَا یُشْمَلُ بِحَدٍّ، وَلَا یُحْسَبُ بِعَدٍّ، وإِنَّمَا تَحُدُّ الأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا، وتُشِیرُ الاْلاَتُ إِلَی نَظَائِرُهَا».
وتفسیر العبارة الأُولی والثانیة واضح لأنّ اللّه وجود لا متناهٍ من جمیع الجهات ولو کان محدوداً لما کان واجب الوجود، بل لأصبح ممکن الوجود کذلک لو حسب بعدد لکان من الممکنات التی یمکن عدّها، وقولنا إنّ اللّه واحد لا بمعنی الواحد
ص:145
العددی بل بمعنی عدم وجود مثیل له: «لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیءٌ»(1).
بینما اختلف شرّاح نهج البلاغة فی تفسیرهم للعبارتین الثالثة والرابعة بسبب الإبهام الذی یسودها ولعلّ مفتاح حلّ المشکلة فی تفسیر هاتین العبارتین یکمن فی هذا الأمر وهو أنّ القرائن تشیر إلی أنّ المرحوم السید الرضی قد حذف العبارات المرتبطة بهاتین العبارتین درجاً علی عادته فی الاقتطاف.
ورغم حرص المرحوم الرضی علی عدم بتر العبارات المرتبطة مع بعضها إلّاأنّ ذلک قد یقع سهواً ونسیاناً أحیاناً.
والشاهد علی سقوط بعض العبارات فی هذه الخطبة ما ورد فی «تحف العقول» حیث قال الإمام علیه السلام:
«لا تَفَوّتْهُ «مَتی» وَلا تَدنیهِ «قَد» وَلا تَحجُبُهُ «لَعلّ» وَلا تُقارُنُهُ «مَع» وَلا تَشتَمِلُهُ «هو» إنّما تَحدّ الأدواتُ أنفُسَها وَتشیرُ الآلةُ إلی نَظائِرِها».
فهذه الکلمات (بعض العبارات مثل متی وقد ولعل ومع وهو) تحدد نفسها (أی تستعمل فقط حین یکون للزمان والمکان وعدم العلم إلیها من سبیل) وهذه العبارات إنّما تشیر إلی نظائرها (النظائر الموجودة فی عالم الممکنات لا الذات المقدّسة التی لا نظیر لها).
ثم أکّد علیه السلام هذا الکلام بقوله:
«مَنَعَتْهَا «مُنْذُ» الْقِدْمَةَ، وحَمَتْهَا «قَدُ» الأَزَلِیَّةَ، وجَنَّبَتْهَا «لَولَا» التَّکْمِلَةَ!»(2).
توضیح ذلک: أنّ المفردة
«مُنْذُ» تستعمل حیث السیرة التاریخیة لوجود الشیء، وعلیه واستناداً إلی استعمال هذه المفردة بشأن الممکنات یمکن التوصل بسهولة إلی أنّها حادثة ولیست قدیمة، کما أنّ المفردة
«قَد» حین تستعمل فی الماضی تعنی
ص:146
وقوع الشیء القریب من الزمن الحاضر وهذا أیضاً لا ینسجم مع الأزلیة، کما تستعمل المفردة
«لَولَا» حیث المانع الذی یکمن فی طریق تکامل الشیء، کالقول الذی نقله القرآن الکریم علی لسان الکافرین حین مخاطبتهم للمستکبرین: «لَوْلَا أَنْتُمْ لَکُنَّا مُؤْمِنِینَ»(1). واستناداً إلی أزلیّته وأبدیّته سبحانه وکماله المطلق فلا تستعمل بحقّه هذه الأدوات والعبارات.
ثم قال الإمام علیه السلام فی بیانه لصفات أخری من صفات اللّه أنّه تجلی للعقل بخلقه لمخلوقاته ومن هنا تعذرت رؤیته بهذه العیون:
«بِهَا تَجَلَّی صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ، وبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُیُونِ».
نعم، فآثاره واضحة فی کلّ زاویة من زوایا عالم الوجود ومنها ندرک وجوده المقدّس؛ مع ذلک لا یمکن رؤیته بعین، لأنّ رؤیة العین تختص بالأجسام ذات الزمان والمکان والأجزاء والجهة، واللّه منزّه عن کلّ هذه الأمور.
ثم تعرض الإمام علیه السلام لمسألة مهمّة أخری لیتحدّث بشأن نفی السکون والحرکة عن الذات القدسیّة فقال علیه السلام:
«وَلَا یَجْرِی عَلَیْهِ السُّکُونُ والْحَرَکَةُ، وکَیْفَ یَجْرِی عَلَیْهِ مَا هُو أَجْرَاهُ، ویَعُودُ فِیهِ مَا هُوأَبْدَاهُ، ویَحْدُثُ فِیهِ مَا هُوأَحْدَثَهُ!».
نعم، فالحرکة والسکون من عوارض الممکنات، والحرکة أن یکون للشیء موضعین أو حالتین فی زمانین، والسکون أن یکون له فی زمانین نفس المکان والحالة، وعلیه فالسکون حادث والحرکة کذلک؛ لأنّ کلا الصفتین بیان للحالة الثانیة للشیء التی مضی علیها الزمان، بعبارة أخری فی الحالة الأولی لا سکون ولا حرکة بینما للسکون والحرکة معنی فی الحالة الثانیة، فإنّ کان فی المکان الأوّل سکون کان فی موضع آخر حرکة.
أضف إلی ذلک إن کانت الحرکة فی المکان والزمان والکیفیّة وما شابه ذلک فهی من عوارض الجسم وکذلک إن کانت الحرکة فی الجوهر، وأننا لنعلم أنّ اللّه لیس
ص:147
بجسم ولا بجوهر.
والنتیجة هی أنّ الحرکة والسکون من مخلوقات اللّه ومن الممکنات ولیس لها من سبیل قط إلی الذات القدسیّة واجبة الوجود.
ثم خاض الإمام علیه السلام لیذکر ثمانیة أدلة علی هذا الموضوع فقال:
الأوّل: لوجرت علیه الحرکة والسکون
«اِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ» ونعلم أنّه وجود ذوکمال مطلق ولیس لأیّ تغییر من سبیل إلی ذاته الثابتة.
والثانی لزم أیضاً:
«ولَتَجَزَّأَ کُنْهُهُ» لأنّ ما یلزم الحرکة بلوغ الموجود نقطة لم تکن عنده، وعلیه فوجوده مرکب ممّا ما بالفعل وما بالقوّة.
والثالث:
«ولاَمْتَنَعَ مِنَ الأَزَلِ مَعْنَاهُ»، لأنّ الحرکة والسکون کما قلنا حادثان وذاته سبحانه أزلیّة وقدیمة ویستحیل الجمع بین الحادث والقدیم.
والرابع: یلزم من الحرکة
«ولَکَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ»، لأنّ للحرکة بأی اتجاه وبأی مفهوم لها جهة تعدّ أمامیّة وما یعاکسها جهة خلفیة.
والخامس: یلزم من الحرکة البحث عن الکمال، فمن عانی النقص یبحث عن الکمال
«وَلاَلْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النِّقْصَانُ»، لأنّ الحرکة إمّا إلی النقص أو الکمال، ومهما کانت فهی تعنی عدم مطلقیة الموجود المتحرک.
السادس: لو تخللته الحرکة لظهرت فیه آیة الخلق
«وإِذاً لَقَامَتْ آیَةُ الْمَصْنُوعِ فِیهِ».
السابع: أنّه لو کان کذلک لکان دلیلاً علی وجود خالق آخر، لا أن تکون المخلوقات دلیلاً علیه:
«ولَتَحَوَّلَ دَلِیلا بَعْدَ أَنْ کَانَ مَدْلُولا عَلَیْهِ».
الثامن: فسوف لن یؤثر علیه ما یؤثر علی غیره بسبب قوّته المطلقة
«وخَرَجَ بِسُلْطَانِ الاِْمْتِنَاعِ مِنْ أَنْ یُؤَثِّرَ فِیهِ مَا یُؤَثِّرُ فِی غَیْرِهِ». إشارة إلی أنّ سلطته المقتدرة وغیر القابلة للتغییر إلّاأن یکون فی معرض الحوادث وما یؤثر فی غیره لایؤثر علیه، لأنّ ذاته القدسیّة لیست قابلة للتغییر.
ص:148
وزبدة الکلام فإنّ الحرکة سواء کانت فی العرض أو الجوهر، فی الکمیة (کنمو بدن الإنسان أو النبات) أو فی الکیفیة (کتغیر الألوان فی عالم الطبیعة وزیادة ونقصان الحرارة والبرودة فی فصول السنة) وسواء کانت نحوالکمال (کنموالطفل) أو نحوالنقصان (کالضعف والعجز لدی الکهول) لیس لها من سبیل إلی الذات القدسیّة، واجب الوجود وکمال مطلق وتختص الحرکة بالممکنات والوجودات الناقصة.
أضف إلی ذلک فإنّ الحرکة عبارة عن الجزئیّة والحدوث التی لیس لها من سبیل إلی الذات الأزلیّة.
ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی بیان سبع صفات أخری ذات علاقة قویة بمسألة الحرکة فقال:
«الَّذِی لَایَحُولُ وَلَا یَزُولُ، وَلَا یَجُوزُ عَلَیْهِ الاُْفُولُ».
فالتغییر والزوال والأفول والغروب کلّها من عوارض الموجودات الممکنة والمحدودة والناقصة ولا تتصور هذه الصفات علی اللّه.
ثم قال علیه السلام:
«لَمْ یَلِدْ فَیَکُونَ مَوْلُوداً، ولَمْ یُولَدْ فَیَصِیرَ مَحْدُوداً. جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الأَبْنَاءِ، وطَهُرَ عَنْ مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ».
لا شک فی أنّ کلّ هذه الأمور من قبیل الولادة والزواج والولد والابن من عوارض الوجودات الجسمیّة، واللّه سبحانه لیس بجسم ولیست له عوارض جسمیّة، أضف إلی ذلک کلّ هذه الأمور من علامات الحدوث وکذلک الحاجة، وهولیس بحادث ولا محتاج.
والعبارة:
«لَمْ یَلِدْ فَیَکُونَ مَوْلُوداً» إشارة إلی الوضع المعروف لدی الکائنات الحیّة التی تولد من أحد ومن جانب آخر یولد منهم أولادهم، وعلیه فلا یبدو النقض علی آدم علیه السلام أنّه صاحب ولد لکنه لم یولد من أحد لا یبدو وارداً لأنّ آدم علیه السلام کان فرداً استثنائیاً، إضافة إلی أنّ آدم إن لم یولد من إنسان فقد ولد من التراب وهذا بحدّ ذاته نوع ولادة.
***
ص:149
ص:150
لَا تَنَالُهُ الأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ، وَلَا تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ، وَلَا تُدْرِکُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ، وَلَا تَلْمِسُهُ الأَیْدِی فَتَمَسَّهُ. وَلَا یَتَغَیَّرُ بِحَال، وَلَا یَتَبَدَّلُ فِی الأَحْوَالِ. وَلَا تُبْلِیهِ اللَّیَالِی والأَیَّامُ، وَلَا یُغَیِّرُهُ الضِّیَاءُ وَالظَّلاَمُ. وَلَا یُوصَفُ بِشَیء مِنَ الأَجْزَاءِ، وَلَا بِالْجَوَارِحِ وَالأَعْضَاءِ، وَلَا بِعَرَض مِنَ الأَعْرَاضِ، ولَا بِالْغَیْرِیَّةِ والأَبْعَاضِ. وَلَا یُقَالُ: لَهُ حَدٌّ وَلَا نِهَایَةٌ، وَلَا انْقِطَاعٌ وَلَا غَایَةٌ؛ وَلَا أَنَّ الأَشْیَاءَ تَحْوِیهِ فَتُقِلَّهُ أَوتُهْوِیَهُ، أَوأَنَّ شَیْئاً یَحْمِلُهُ، فَیُمِیلَهُ أَویُعَدِّلَهُ. لَیْسَ فِی الأَشْیَاءِ بِوَالِج، وَلَا عَنْهَا بِخَارِج. یُخْبِرُ لاَ بِلِسَان ولَهَوَات، ویَسْمَعُ لاَ بِخُرُوق وأَدَوَات. یَقُولُ وَلَا یَلْفِظُ، ویَحْفَظُ وَلَا یَتَحَفَّظُ، ویُرِیدُ وَلَا یُضْمِرُ.
یُحِبُّ ویَرْضَی مِنْ غَیْرِ رِقَّة، ویُبْغِضُ ویَغْضَبُ مِنْ غَیْرِ مَشَقَّة. یَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ کَوْنَهُ: (کُنْ فَیَکُونُ)، لَابِصَوْت یَقْرَعُ، وَلَا بِنِدَاء یُسْمَعُ؛ وإِنَّمَا کَلاَمُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ ومَثَّلَهُ، لَمْ یَکُنْ مِنْ قَبْلِ ذلِکَ کَائِناً، ولَوکَانَ قَدِیماً لَکَانَ إِلهاً ثَانِیاً.
إنّ من النقاط المهمّة الواضحة والمتجلیة فی کلمات الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة هی نفیه علیه السلام عن اللّه تعالی أی صفة من الصفات المادیّة والجسمیّة بعبارات متنوعة؛ ذلک لأنّ أغلب الناس یعانون من التشبیه فی معرفة اللّه ویصورون له فی أذهانهم بعض صفات المخلوقات وهذا خطأ جسیم لا یغفر.
ص:151
وقد رکز هذا الموحد العارف باللّه کراراً علی هذه المسألة لینقذ مخاطبیه من هوة التشبیه بعبارات غایة فی الجمال والروعة والدقّة.
ومن هنا قال فی مواصلته للأبحاث السابقة فی هذا الجانب من الخطبة:
«لَا تَنَالُهُ الأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ، وَلَا تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ، وَلَا تُدْرِکُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ، وَلَا تَلْمِسُهُ الأَیْدِی فَتَمَسَّهُ. وَلَا یَتَغَیَّرُ بِحَال، وَلَا یَتَبَدَّلُ فِی الأَحْوَالِ. وَلَا تُبْلِیهِ اللَّیَالِی والأَیَّامُ، ولَا یُغَیِّرُهُ الضِّیَاءُ وَالظَّلاَمُ».
«اَوْهام» جمع
«وَهْم» بمعنی قوّة الخیال التی تتعلق بالمادة والمحسوسات ولو أحاط الوهم باللّه لکان له مکان وزمان وکیفیّة وکمیّة، بینما ذاته المقدّسة منزّهة عن هذه الأمور فللجسم أجزاء والزمان والمکان والتغییر والحرکة أمور لیست لها من سبیل إلی ذاته اللامتناهیّة.
«فِطَن» جمع
«فِطْنه» قوّة العقل ویقال
«الفَطِن» وتنشط قوّة العقل أیضاً بمساعدة الواهم والتصورات الذهنیة المتعلقة بالأجسام، وعلیه فلو أدرک بالعقل وبمساعدة الوهم لظهرت ثانیة قضیة العوارض الجسمیّة.
العبارة:
«ولا تَلْمِسُهُ...» بالنظر إلی أنّ اللمس یختلف عن المس، حیث یطلق المس علی التماس بالأجسام بینما یطلق اللمس علی الطلب والسعی للتماس - إشارة إلی أنّه مهما یسعی الإنسان للمسه تعالی بیده لما أمکن ذلک لأنّه لیس بجسم فیلمس.
وأمّا بالإلتفات إلی ثبات ذاته فإنّ تغییره بمرور الزمان والحوادث کالنور والظلمة لیس بممکن؛ لأننا قلنا کراراً أنّه وجود کامل ولا متناهٍ من جمیع الجهات ویفوق المکان والزمان والحرکة، ومثل هذه الذات لا تتأثر بالحوادث والتغییرات کما لا یجری علیها لیل ونهار ونور وظلمة.
ثم أردف ذلک علیه السلام بقوله:
«وَلَا یُوصَفُ بِشَیء مِنَ الأَجْزَاءِ، وَلَا بِالْجَوَارِحِ وَالأَعْضَاءِ، ولَا بِعَرَض مِنَ الأَعْرَاضِ، وَلَا بِالْغَیْرِیَّةِ والأَبْعَاضِ».
ص:152
من الواضح أنّ جمیع هذه الأمور أی الاشتمال علی الأجزاء وأعضاء البدن وقبول العوارض - مثل الألوان والکمیّة المتفاوتة والکیفیّة - کلّها من خواص الجسم والجسمانیات والمادة والممکنات وکذلک التفاوت مع الأشیاء الأخری، لأنّه یلزم من ذلک الترکب من قدر مشترک وما به الامتیاز، وکل ترکب دلیل علی احتیاج المرکب إلی أجزائه والموجود المحتاج لا یکون واجب الوجود.
ثم بین الإمام علیه السلام صفات أخری فی مواصلته لبیان صفاته السلبیّة فقال:
«وَلَا یُقَالُ: لَهُ حَدُّ وَلَا نِهَایَةٌ، وَلَا انْقِطَاعٌ وَلَا غَایَةٌ؛ وَلَا أَنَّ الأَشْیَاءَ تَحْوِیهِ فَتُقِلَّهُ(1) أَو تُهْوِیَهُ(2) ، أَوأَنَّ شَیْئاً یَحْمِلُهُ، فَیُمِیلَهُ أَویُعَدِّلَهُ».
هذه الصفات الست (الحد والنهایة والانقطاع والغایة والاحاطة والحمل) کلّها من صفات الأجسام واللّه منزّه عن الجسمیة فلیس لهذه الصفات من سبیل إلی ذاته المقدّسة.
وعلی فرض أنّ بعض هذه الصفات صادقة علی غیر الموجودات المادیّة، فمما لا شک فیه أنّها من صفات ممکن الوجود المحدود من کلّ جهة دائماً، وقلنا کراراً أنّ ذات واجب الوجود لامتناهیة من جمیع الجهات وعلیه فلا تجری أی من هذه الصفات علی تلک الذات.
أضف إلی ذلک فإنّ للصفات المذکورة لوازم هی الأخری مرتبطة بعالم الأجسام، فالاحاطة بالشیء تؤدّی إلی رفعه أو خفضه، وحمل الشیء یسبب أحیاناً میله إلی جانب معین أو ثباته وکل ذلک من صفات الأجسام.
بل ذهب بعض الفلاسفة إلی أنّه لا یمکن وصف اللّه تعالی باللانهایة لأنّه قد یتداعی منه اللانهائیة الجسمیّة، علی کلّ حال سعی الإمام علیه السلام فی جوانب هذه
ص:153
الخطبة لانتشال مخاطبیه من الوقوع فی فخ التشبیه فنزه اللّه تعالی عن کلّ صفة من صفات مخلوقاته.
ثم أردف حدیثه عن الصفات بذکر صفات أخری فقال علیه السلام:
«لَیْسَ فِی الأَشْیَاءِ بِوَالِج(1) ، وَلَا عَنْهَا بِخَارِج».
قد یتصور البعض من هذه العبارات التی وردت بشأن إحاطة اللّه تعالی بجمیع الأشیاء فی هذه الخطبة وسائر الخطب والروایات أنّ هنالک شیئاً من التناقض فکیف یکون هنالک وجود لا داخل فی الأشیاء ولا خارج عنها، إلّاأنّ هذه حقیقة واقعة، ففی تشبیه ناقص یمکن القول إنّ ذاته المقدّسة هی روح عالم الوجود، وروح الإنسان فی بدنه لا بمعنی أنّها جزء من البدن کما أنّها خارجة من البدن لا بصفتها غریبة عنه بل لها احاطة تدبیر وتصرف فی الجسم، وإن خرجت هذه الروح من الجسم قطعت علاقة تدبیرها وتصرفها؛ فیموت. فاللّه تعالی بمنزلة عالم الوجود.
ثم خاض علیه السلام فی بیان خمس صفات أخری فقال:
«یُخْبِرُ لَابِلِسَان ولَهَوَات(2) ، ویَسْمَعُ لَابِخُرُوق(3) وأَدَوَات. یَقُولُ وَلَا یَلْفِظُ، ویَحْفَظُ وَلَا یَتَحَفَّظُ، ویُرِیدُ وَلَا یُضْمِرُ».
إشارة إلی اطلاق بعض الصفات علی اللّه تعالی کالسمیع والحفیظ والمتکل والمرید؛ لکنه مجرّد من العوارض الجسمیّة والأسباب المادیّة، لأنّه لیس بجسم ولا مادة، والسمیع أو الحفظ بمعنی علمه بجمیع الأقوال والکلمات وحفظه لجمیع الحوادث الماضیة وهی نتیجة للحفظ والسمع والإرادة، بعبارة أخری فإنّ هذه العبارات من قبیل المجازات التی تفوق الحقیقة ولا ینبغی أبداً حین نسمع هذه
ص:154
الألفاظ التی ابتدعها البشر لحیاته الیومیّة وتتصف عادة بالجسمیة والمادیّة أن نتصور أنّها تجری کذلک علی الذات القدسیّة، بل لابدّ من التخلص من الأغطیة الجسمیّة والمادیّة کافّة حین استعمال هذه الألفاظ بشأن اللّه تعالی، وهی بالتالی من قبیل:
«خُذِ الْغایاتِ واتْرُکِ الْمَبادِیء» لیمکن استعمالها بشأن اللّه تعالی.
احتمل بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ المراد فی العبارة
«یَحْفَظُ ولا یَتَحَفَّظُ» أنّ اللّه تعالی یحفظ الموجودات من الحوادث وهو لا یحتاج إلی حافظ، ولکن بالإلتفات إلی سائر الصفات التی وردت قبل هذه الصفة یتّضح أنّ المفهوم الصحیح لهذا الکلام ما ورد سابقاً بمعنی الإشارة إلی قوّة الحافظة.
ثم أشار علیه السلام إلی صفتین فقال:
«یُحِبُّ ویَرْضَی مِنْ غَیْرِ رِقَّة، ویُبْغِضُ ویَغْضَبُ مِنْ غَیْرِ مَشَقَّة».
رغم أنّ البعض تصور معنیین مختلفین لِ
«یُحِبُّ ویَرضی» وکذلک
«یُبْغِضُ وَیَغْضَبُ» غیر أنّ سیاق کلام الإمام علیه السلام یفید أنّهما ذات معنی واحد أو استعملتا بمعنی واحد.
علی کلّ حال فهاتان الصفتان تشبهان الصفات المذکورة سابقاً، لأسبابهما بعد سماوی، لکن نتیجتهما تصدق علی اللّه فمحبّتنا ورضانا ممزوجة برقة القلب ونوع من الرغبة الباطنیّة کما أنّ بغضنا وغضبنا لألم ومعاناة باطنیّة مقرونة بإثارة الأعصاب وارتفاع ضغط الدم، ومن البدیهی أنّ هذه المعانی لیست صادقة علی اللّه، ولذلک فسّروا هذه الأوصاف بالنتیجة، فقالوا إنّ حبّ اللّه لعباده ورضاه عنهم بهذه الصیغة أنّه یشملهم عملیاً بنعمه وتوفیقاته وبغضه وغضبه علی شخص فی أن یسلبه النعمة والتوفیق والسعادة.
هذا النوع من التفسیر بالنتیجة أحد المبادئ الأساسیّة الذی یستعمل بشأن العدید من صفات اللّه.
ص:155
ثم قال علیه السلام:
«یَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ کَوْنَهُ : «کُنْ فَیَکُونُ» (1)
،لَابِصَوْت یَقْرَعُ، وَلَا بِنِدَاء یُسْمَعُ؛ وإِنَّمَا کَلاَمُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ ومَثَّلَهُ، لَمْ یَکُنْ مِنْ قَبْلِ ذلِکَ کَائِناً، ولَوکَانَ قَدِیماً لَکَانَ إِلهاً ثَانِیاً».
مراد الإمام علیه السلام من هذا الکلام أنّ العبارة
«کُنْ فَیَکُونُ» وردت فی الآیات القرآنیّة بمعنی الأمر اللفظی؛ لیس من قبیل أوامر الملوک والسلاطین لمن دونهم بحیث یجرون بعض الألفاظ علی ألسنتهم ویسمعون مخاطبیهم، وربّما یدفعهم الحرص أحیاناً للصراخ حتی لیسمع صوتهم من مکان بعید، بل أوامر اللّه تعالی هی أوامر تکوینیّة وبتعبیر آخر هی فعل، فإنّ أراد شیئاً (الإرادة أیضاً بمعنی العلم بالنظام الأصلح) یوجد مباشرة، فلو أراد لوجدت الکائنات فی لحظة واحدة کما توجد فی تلک اللحظة السماء والأرض والنجوم والمجرّات ولو أراد أیضاً لوجدت بصورة تدریجیّة خلال ألف سنة أو ملایین السنین دون زیادة أو نقیصة.
وفعل اللّه هوخلق الموجودات لیس علی سبیل شبیه سابق؛ لأنّ الأمر لوکان کذلک للزم تعدد الوجود الأزلی وتعدد الإله والمعبود، وکما ذکرنا فی أبحاث التوحید فإنّ التعدد فی هذا المورد محال لأنّ الوجود اللامتناهی واللامحدود من جمیع الجهات یأبی التعدد.
***
ص:156
لَا یُقَالُ: کَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ یَکُنْ، فَتَجْرِیَ عَلَیْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ، وَلَا یَکُونُ بَیْنَهَا وبَیْنَهُ فَصْلٌ، وَلَا لَهُ عَلَیْهَا فَضْلٌ، فَیَسْتَوِیَ الصَّانِعُ وَالْمَصْنُوعُ، ویَتَکَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَالْبَدِیعُ. خَلَقَ الْخَلاَئِقَ عَلَی غَیْرِ مِثَال خَلاَ مِنْ غَیْرِهِ، ولَمْ یَسْتَعِنْ عَلَی خَلْقِهَا بِأَحَد مِنْ خَلْقِهِ. وأَنْشَأَ الأَرْضَ فَأَمْسَکَهَا مِنْ غَیْرِ اشْتِغَال، وأَرْسَاهَا عَلَی غَیْرِ قَرَار، وأَقَامَهَا بِغَیْرِ قَوَائِمَ، ورَفَعَهَا بِغَیْرِ دَعَائِمَ، وحَصَّنَهَا مِنَ الأَوَدِ وَالاِْعْوِجَاجِ، ومَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَالاِْنْفِرَاجِ. أَرْسَی أَوْتَادَهَا، وضَرَبَ أَسْدَادَهَا، وَاسْتَفَاضَ عُیُونَهَا، وخَدَّ أَوْدِیَتَهَا؛ فَلَمْ یَهِنْ مَا بَنَاهُ، وَلَا ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ. هُوالظَّاهِرُ عَلَیْهَا بِسُلْطَانِهِ وعَظَمَتِهِ، وهُوالْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ ومَعْرِفَتِهِ، والْعَالِی عَلَی کُلِّ شَیء مِنْهَا بِجَلاَلِهِ وعِزَّتِهِ. لَایُعْجِزُهُ شَیٌْ مِنْهَا طَلَبَهُ، وَلَا یَمْتَنِعُ عَلَیْهِ فَیَغْلِبَهُ، وَلَا یَفُوتُهُ السَّرِیعُ مِنْهَا فَیَسْبِقَهُ، وَلَا یَحْتَاجُ إِلَی ذِی مَال فَیَرْزُقَهُ. خَضَعَتِ الأَشْیَاءُ لَهُ، وذَلَّتْ مُسْتَکِینَةً لِعَظَمَتِهِ، لَاتَسْتَطِیعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَی غَیْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وضَرِّهِ، وَلَا کُفءَ لَهُ فَیُکَافِئَهُ، وَلَا نَظِیرَ لَهُ فَیُسَاوِیَهُ.
أشار الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة إلی صفات أخری من صفات اللّه لیکمل ما تطرق إلیه سابقاً، فاتّجه بادئ الأمر صوب أزلیّة اللّه تعالی فقال علیه السلام:
«لَا یُقَالُ: کَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ یَکُنْ، فَتَجْرِیَ عَلَیْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ، وَلَا یَکُونُ بَیْنَهَا وبَیْنَهُ
ص:157
فَصْلٌ، وَلَا لَهُ عَلَیْهَا فَضْلٌ، فَیَسْتَوِیَ الصَّانِعُ وَالْمَصْنُوعُ، ویَتَکَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَالْبَدِیعُ(1)».
ثم خاض فی شرح صفة أخری من صفاته البارزة تعالی أی قدرته فتعرض لمسألة الابدع والخلق دون سابقة فقال:
«خَلَقَ الْخَلاَئِقَ عَلَی غَیْرِ مِثَال خَلاَ مِنْ غَیْرِهِ، ولَمْ یَسْتَعِنْ عَلَی خَلْقِهَا بِأَحَد مِنْ خَلْقِهِ». فحین نتأمّل عالم الخلقة تطالعنا أنواع لا تحصی من المخلوقات فی عالم الحشرات والنباتات والجمادات التی یمتاز کلّ منها ببنیته البدیعة وخلقه الرائع الخاص، وهی الموجودات التی لیس لها من سابقة وقد کساها اللّه سبحانه حلّة الوجود من طیات العالم وساقها لمسیرتها التکاملیّة، والحال لو کان للإنسان بعض الصناعات لاکتسبها من الآخرین، فمثلاً تأمّل الإنسان أجنحة الطیور وکیفیة طیرانها ففکّر فی صنع طائرة غایة فی البساطة، ثم جاء العلماء فی زمان لاحق الواحد تلو الآخر لیستفیدوا من الاختراع السابق ویجدوا فی إتمامه حتی بلغ الأمر ذروة تکامله فی عصرنا الراهن.
وعلی هذا الأساس فإنّ علماءنا إمّا یستلهمون من الطبیعة فی اختراعاتهم أو من الآخرین فهم لا یقومون بعمل دون سابقة ولا یقومون به دون الاستعانة بالآخرین والحال أعمالهم محدودة بینما اللّه تعالی وفی ایجاده لهذه المخلوقات المتنوعة کافّة والتی لا تعدّ ولا تحصی لیس بحاجة إلی سابقة ولا لمعونة أحد.
ثم اتّجه علیه السلام إلی جانب آخر من قدرته اللامتناهیة فقال:
«وأَنْشَأَ الأَرْضَ فَأَمْسَکَهَا مِنْ غَیْرِ اشْتِغَال، وأَرْسَاهَا عَلَی غَیْرِ قَرَار، وأَقَامَهَا بِغَیْرِ قَوَائِمَ، ورَفَعَهَا بِغَیْرِ دَعَائِمَ، وحَصَّنَهَا مِنَ الأَوَدِ(2) وَالاِْعْوِجَاجِ، ومَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ(3) وَالاِْنْفِرَاجِ(4)».
ص:158
من المسلم به الیوم من قِبل الجمیع أنّ الکرة الأرضیّة تدور منذ ملایین السنین حول نفسها والشمس فی مدار معین فی الحرکة وهذه الحرکة علی درجة من السرعة المنتظمة والهادئة بحیث لایشعر بها سکان الأرض ممّا دفع العلماء السابقین لاعتبار الأرض ثابتة ومرکز العالم، تری ماهذه القدرة العظیمة التی حفظت ثبات الکرة الأرضیّة منذ ملایین السنین ورغم تعدد حرکاتها دون دعائم وأعمدة، ودون أدنی تشقق وتحطم أجزاء رغم مضی کلّ هذه المدّة الزمانیّة؛ وهل من قدرة غیر القدرة الإلهیّة من شأنها القیام بهذا العمل؟ إننا لنعلم الیوم أنّ المسافة التی جعلت الأرض بهذا البعد عن الشمس وفی وضع طبیعی معلول للتعادل بین قوّة الجاذبة والدافعة، وعلی أساس الجاذبیّة فإنّ کلّ کتلتین تجذب إحداهما الأخری بقوة تتناسب طردیاً مع حاصل ضرب الکتلتین وعکسیاً مع مربع المسافة بینهما. فهذه القوّة تجعل الأرض تندفع بسرعة نحو الشمس فتنجذب إلیها وتتحول إلی بخار، ومن جانب آخر فإنّ الحرکة الدورانیّة حول المرکز تسبب فرار ذلک الجسم من المرکز والتی تسمی قوّة الطرد المرکزیة وکلّما کانت الحرکة أسرع کانت القوّة الطاردة أکبر، ولذلک حین یدور القلاب الحجری بسرعة ویترک فجأة فإنّه یقذف إلی نقطة بعیدة، وعلیه وبغیة دوران الأرض فی مدارها لملایین السنین بصورة طبیعیة لابدّ من مساواة قوّة الجاذبیة للقوّة الطاردة، وتختل لهذه المعادلة لو إزدادت أو قلت المسافة وکذلک لوازدادت أو قلت الحرکة فتتیه الأرض فی الفضاء أو تنجذب باتجاه الشمس.
وهنا یرد هذا السؤال: لم کلّ هذه العبارات المختلفة؟
ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّها من قبیل العطف التفسیری؛ ولکن یبدو أنّ الإمام علیه السلام استعمل کلّ عبارة بمعنی معین لیوضح جوانب الموضوع کافّة، توضیح ذلک إن أرید ثبات جسم فلابدّ من موضع یستند إلیه، ومن ثم حاجته لدعائم وأعمدة قویة ومحکمة، وقد قال الإمام علیه السلام إنّ اللّه أثبت الأرض دون الحاجة إلی
ص:159
هذه الأمور، فهی تسبح فی الفضاء بانتظام دون موضع وأعمدة، ثم أشار فی العبارة اللاحقة إلی أنّ اللّه حال دون إعوجاج الأرض أو تهافتها وانفراجها وأودها، ولکلّ من هذه المفردات معنی معین، فالأود إشارة إلی الثقل والضغط الذی یؤدّی إلی الإعوجاج، کما یوجب أحیاناً التهافت أو الانفراج فی البناء، واللّه حفظ الأرض من کلّ ذلک.
ثم تطرق علیه السلام إلی سائر عجائب الأرض والتدبیر الإلهی لإعدادها للحیاة البشریّة فقال علیه السلام:
«أَرْسَی أَوْتَادَهَا، وضَرَبَ أَسْدَادَهَا(1) ، وَاسْتَفَاضَ عُیُونَهَا، وخَدَّ(2) أَوْدِیَتَهَا؛ فَلَمْ یَهِنْ مَا بَنَاهُ، وَلَا ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ».
فالعبارة الأُولی إشارة إلی العدید من الآیات القرآنیّة الواردة بشأن الجبال وأنّ اللّه وتد بها الأرض وجعلها کالمسامیر، فقد جاء فی سورة النبا: «وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً»(3)(4) ولما کان أحد آثار الجبال أنّها تکمن بصورة سد فی مقابل السیول والعواصف فقد عبّر عنها بالأسداد، وبالنظر إلی أنّ الخلل والشقّ فی الجبال والمواضع الخالیة فی بعض أقسامها یؤدّی إلی خزن الماء ومن ثم جریان العیون، وکذلک شقوق الجبال التی تؤدّی إلی ظهور الأودیة وانحدار میاه الأمطار إلی الأودیة فقد رکز علیها الإمام علیه السلام فی خطبته.
ولما أراد علیه السلام الإشارة إلی ربوبیة اللّه وتدبیره والتی تعدّ من صفات أفعاله فقد تطرق إلی صفات الذات وأشار بعبارات غایة فی الروعة والدقّة إلی علم اللّه وقدرته ووحدانیته فقال:
«هُوالظَّاهِرُ عَلَیْهَا بِسُلْطَانِهِ وعَظَمَتِهِ، وهُوالْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ ومَعْرِفَتِهِ، والْعَالِی عَلَی کُلِّ شَیء مِنْهَا بِجَلاَلِهِ وعِزَّتِهِ. لَایُعْجِزُهُ شَیٌْ مِنْهَا طَلَبَهُ، وَلَا
ص:160
یَمْتَنِعُ عَلَیْهِ فَیَغْلِبَهُ، وَلَا یَفُوتُهُ السَّرِیعُ مِنْهَا فَیَسْبِقَهُ، وَلَا یَحْتَاجُ إِلَی ذِی مَال فَیَرْزُقَهُ».
أساس کلّ هذه الصفات فی الواقع علمه وقدرته اللامتناهیّة، ومن له القدرة اللامتناهیّة یغلب کلّ شیء ویسمو علی کلّ موجود، لا یغلبه شیء ولا یفر من قدرته وبالطبع غنی عن الکلّ، لأنّه القادر علی کلّ شیء.
کما أنّ من کان علمه لامتناهیاً فهو علیم ببواطن الأشیاء وظواهرها بل الظاهر والباطن لدیه علی حد سواء، کما یتساوی لدیه القوی والضعیف والبعید والقریب والأعلی والأسفل.
ولا یخفی الدور الذی یلعبه الإلتفات إلی هذه الصفات فی تربیة الإنسان وتزکیته بغض النظر عن الارتقاء بمستوی معرفته.
ثم واصل کلامه علیه السلام فی شرحه لقدرة اللّه تعالی فی عالم الوجود فقال:
«خَضَعَتِ الأَشْیَاءُ لَهُ، وذَلَّتْ مُسْتَکِینَةً لِعَظَمَتِهِ، لَاتَسْتَطِیعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَی غَیْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وضَرِّهِ».
نعم فالعالم کلّه ملک اللّه وقوانینه حاکمة فی کلّ مکان وأینما اتّجهنا فإنّما نحن خاضعین لسلطانه ولیس خارج ذلک إلی العدم ولا معنی للفرار من سلطته.
وهنا یتساءل شرّاح نهج البلاغة أنّ الفرار من الضرر ممّا لا شک فیه؛ ولکن ما المراد بالهروب من المنفعة؟
فأجابوا: إنّ المراد بأنّ الشخص إذا لم یرد أن یکون مدیناً لآخر لکی لا یخضع له أو بعبارة أخری یهرب من منافعه وعطایاه لکی لا یضطر للخضوع له؛ فإنّ مثل هذا العدد لا معنی له إزاء اللّه ولطفه وقهره.
قال تعالی: «قُلْ مَنْ ذَا الَّذِی یَعْصِمُکُمْ مِّنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِکُمْ سُوءاً أَوأَرَادَ بِکُمْ رَحْمَةً»(1).
ص:161
ثم جری الکلام هنا عن الامتناع عن قبول رحمة اللّه وعقابه فأشار علیه السلام إلی أن لا سبیل أمامکم سوی القبول سواء أراد بکم رحمة أو مصیبة إزاء رحمته؛ ففی کلّ الأحوال أنتم مدینون له.
ثم اختتم علیه السلام الخطبة بالتأکید علی وحدانیته سبحانه فقال:
«وَلَا کُفءَ لَهُ فَیُکَافِئَهُ، ولَا نَظِیرَ لَهُ فَیُسَاوِیَهُ».
قلنا مراراً، إنّ الذات الإلهیّة لامتناهیة من جمیع الجهات، ومن الطبیعی أن تستحیل الأثنیة فی الوجود اللامتناهی، لأنّ التعدد إنّما یقترن دائماً بالمحدودیة، لأنّ کلّ واحد منهما فاقد لوجود الآخر، أو بعبارة أخری فإنّ حد کلّ واحد منهما نقطة نهایته وهذا ما لا ینسجم مع الذات الإلهیّة اللامتناهیّة وغیر المحدودة.
والجدیر بالذکر أنّ هذا القسم ینطلق بالتوحید ویختتم بالتاکید علیه بعد ذکر سلسلة من صفات الذات وصفات الأفعال.
***
ص:162
هُوالْمُفْنِی لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، حَتَّی یَصِیرَ مَوْجُودُهَا کَمَفْقُودِهَا. ولَیْسَ فَنَاءُ الدُّنْیَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَاخْتِرَاعِهَا. وکَیْفَ وَلَواجْتَمَعَ جَمِیعُ حَیَوَانِهَا مِنْ طَیْرِهَا وبَهَائِمِهَا، ومَا کَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وسَائِمِهَا، وأَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وأَجْنَاسِهَا، ومُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وأَکْیَاسِهَا، عَلَی إِحْدَاثِ بَعُوضَة، مَا قَدَرَتْ عَلَی إِحْدَاثِهَا، وَلَا عَرَفَتْ کَیْفَ السَّبِیلُ إِلَی إِیجَادِهَا، ولَتَحَیَّرَتْ عُقُولُهَا فِی عِلْمِ ذلِکَ وَتَاهَتْ، وعَجَزَتْ قُوَاهَا وَتَنَاهَتْ، ورَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِیرَةً، عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ، مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا، مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا!
تحدّث الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة عن قضیة فناء العالم وقدرة اللّه المطلقة علی خلق العالم وعدمه بعد أن فرغ من أبحاثه العمیقة فی الأقسام السابقة من هذه الخطبة بشأن خلق العالم ولا سیما الأرض وعجائبها فقال:
«هُوالْمُفْنِی لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، حَتَّی یَصِیرَ مَوْجُودُهَا کَمَفْقُودِهَا».
ثم واصل کلامه فقال:
«ولَیْسَ فَنَاءُ الدُّنْیَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَاخْتِرَاعِهَا. وکَیْفَ وَلَو اجْتَمَعَ جَمِیعُ حَیَوَانِهَا مِنْ طَیْرِهَا وبَهَائِمِهَا، ومَا کَانَ مِنْ مُرَاحِهَا(1) وسَائِمِهَا(2) ، وأَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا(3) وأَجْنَاسِهَا، ومُتَبَلِّدَةِ(4) أُمَمِهَا وأَکْیَاسِهَا،
ص:163
عَلَی إِحْدَاثِ بَعُوضَة، مَا قَدَرَتْ عَلَی إِحْدَاثِهَا، وَلَا عَرَفَتْ کَیْفَ السَّبِیلُ إِلَی إِیجَادِهَا».
فهذا الکلام لا یعد حقیقة إبان صدوره من الإمام علیه السلام آنذاک، بل هوحقیقة واقعة الیوم، ذلک أنّه لو اجتمع علماء العالم کافّة لخلق بعوضة لعجزوا عن ذلک، لأنّ قضیة بعث الحیاة فی الجمادات مستحیلة، أضف إلی ذلک فإنّ بنیة البعوضة من حیث الأجنحة والأرجل والدماغ والأعصاب وجهاز الهضم والانجاب علی درجة من التعقید والدقّة فغیر الخالق سبحانه لا یستطیع المخلوق خلق بعوضة.
وتشیر کلّ عبارة من العبارات:
«مَا قَدَرَتْ عَلَی إِحْدَاثِهَا، وَلَا عَرَفَتْ کَیْفَ السَّبِیلُ إِلَی إِیجَادِهَا» إلی نقطة معینة، فالعبارة الأولی تشیر إلی عجز الإنسان والحیوان عن خلق بعوضة، بینما تشیر العبارة الثانیة إلی الجهل بتلک الأسباب والعوامل.
وقد ورد مثل هذا المعنی فی القرآن الکریم بشأن خلق الذباب حیث قال تعالی:
«اِنَّ الَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ یَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَواجْتَمَعُوا لَهُ»(1).
ثم قال علیه السلام:
«ولَتَحَیَّرَتْ عُقُولُهَا فِی عِلْمِ ذلِکَ وَتَاهَتْ، وعَجِزَتْ قُوَاهَا وَتَنَاهَتْ، ورَجَعَتْ خَاسِئَةً(2) حَسِیرَةً(3) ، عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ، مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا، مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا!».
نعم لو عزمت هذه البعوضة الصغیرة علی أذی الإنسان وسائر الحیوانات ولم یحد اللّه من انجابها لتکاثرت بشکل یضیّق الحیاة علی الإنسان ولعجزت کلّ المبیدات عن مواجهتها، وما نشاهده الیوم من القضاء علیها فی بعض المناطق بفعل المواد السامة فذلک لأنّها محدودة فی انجابها وإلّا لکانت کالجراد فی خروجها عن
ص:164
السیطرة ولشکلت أسراباً عظیمة تملأ أرکان الفضاء، وهذه البعوضة التی تبدو فی ظاهرها ضعیفة قد کشفت فی بعض الأحیان عن قدرتها - بإذن اللّه - لتهاجم أحیاناً بصورة جماعیة فیلاً فتقضی علیه.
ویمتاز بعضها - فی ظروف معینة - بنقلها للمیکروبات الخطیرة أو السموم القاتلة فتشعر الإنسان بعجزه عن مواجهتها لتثبت له مدی قدرتها.
تحدّث بعض شرّاح نهج البلاغة بشأن المعاد الجسمانی عند العبارة
«هُوالْمُفْنِی لَها بَعْدَ وُجُودِها» التی تصدر بها هذا الجانب من الخطبة واستشهدوا علی ذلک بهذه الآیة: «یَوْمَ نَطْوِی السَّمَاءَ کَطَیِّ السِّجِلِّ لِلْکُتُبِ کَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْق نُّعیِدُهُ»(1).
ثم أضافوا أنّ جمیع الأنبیاء وخاصة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أخبر عن فناء هذا العالم، وأضافوا أنّ الفلاسفة خالفوا هذا الأمر لا علی أساس عدم إمکانیّة فناء العالم، بل علی أساس استحالة انعدام العالم مع بقاء العلّة وهی الذات الإلهیّة المقدّسة.
ثم خاضوا فی شرح مسألة امتناع إعادة المعدوم وأشاروا إلی شکّ البعض فی مسألة المعاد الجسمانی، والحقّ فناء العالم لیس بمحال، لأنّ اللّه فاعل مختار وإن رآی المصلحة خلق الشیء أو عدمه، کما لیس هنالک من شکّ فی المعاد الجسمانی، فقد صرّح القرآن فی العدید من آیاته بهذا الأمر، کما أنّه لیس هنالک من دلیل عقلی علی امتناعه(2).
ولیست هنالک من علاقة بین مسألة استحالة إعادة المعدوم ومسألة المعاد، لأننا إن قلنا إعادة المعدوم مستحیلة؛ یعنی ذلک أنّ إعادة ذلک الشیء بجمیع خصوصیاته حتی الزمان والمکان محال وبالطبع لیست هنالک من عودة للزمان الذی مضی، إلّا
ص:165
أنّ عودة الإنسان فی المعاد یوم القیامة لا تعنی عودة الزمان والمکان الماضیین، فلیس هنالک من عاقل یزعم بعودة ذلک الزمان الذی عاشه فی الدنیا یوم القیامة، بل المراد عودة إنسان بجمیع خصائصه فی زمان ومکان آخر، مثلاً حین یحیی المسیح علیه السلام میتاً فسیکون ذلک الشخص السابق قطعاً وإن أحیاه فی زمان ومکان آخر، وهکذا إحیاء الأموات فی القیامة.
وزبدة الکلام فما جاء فی هذه الخطبة هو بعینه ما ورد فی القرآن الکریم، بل شرح الإمام علیه السلام فی الواقع آیات المعاد هنا بعبارات رائعة وعمیقة.
صرّح الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة لواجتمعت الکائنات کافّة لخلق بعوضة لما استطاعت، ولواطلق اللّه العنان للبعوض فی التکاثر لما کانت هنالک من قوّة فی العالم قادرة علی القضاء علیها وکما أسلفنا فإنّ هذا الکلام لا یبدو حقیقة علی عهد نزول القرآن وعصر الإمام فحسب بل هو کذلک حتی فی عصرنا الراهن.
فللبعوضة خلقة معقدة؛ أغلبها لا تعیش سوی فی المیاه الراکدة فی حافات الأنهار والمستنقعات وما شابه ذلک، وتضع انثی البعوض ما یقرب من 150 بیضة فی کلّ مرّة لتفقس عن بعوضة ولکلّ بعوضة ولیدة انبوب تنفسی نحیف للغایة یرتبط بسطح المیاه تتعلق به البعوضة، ثم تظهر بعد بضعة أیّام قشرة علی جوانبه کما یحدث الکثیر من التغییرات فی بنیتها داخل القشرة التی تبدو ظاهراً عدیمة الحرکة، وبعد عدّة أیّام تخرج البعوضة غیر الکاملة من تلک القشرة فتطیر وتقضی سائر عمرها لتعیش فی الهواء.
والتغییرات التی تطرأ خلال هذه المدّة القصیرة علی بنیة البعوضة وتحولها من کائن مائی إلی طائر حقّاً لمذهلة وعجیبة.
یقول العلماء إنّ ذکور البعوض تتغذی علی عصارة الفواکه وسوائل النباتات؛
ص:166
بینما تتغذی الاناث علی امتصاص الدم فهی تلسع الإنسان وتمتص دمه کمادة غذائیة.
والبعوض حشرات صغیرة لها جناحان ولو وُضعت تحت المجهر لشوهدت بنیتها الظریفة والعجیبة ویستحیل علی الإنسان صنع مثلها فضلاً عن کائن حی قادر علی التغذیة والنمو والانجاب.
والعجیب أنّ بعضها عدیمة اللون بحیث لا تری بالعین المجردة.
والبعوض العادی وإن کانت حشرات مؤذیة قد تسلب الإنسان القوی والشدید البنیة نومه لیلة کاملة، لکنها غالباً لیست خطیرة، مع ذلک هنالک بعض البعوض خطیر وسام بحیث یستطیع القضاء علی أقوی الحیوانات(1).
***
ص:167
ص:168
وإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ، یَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْیَا وَحْدَهُ لَاشَیَْ مَعَهُ کَمَا کَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، کَذلِکَ یَکُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا، بِلاَ وَقْت وَلَا مَکَان، وَلَا حِین وَلَا زَمَان.
عُدِمَتْ عِنْدَ ذلِکَ الآجَالُ وَالأَوْقَاتُ، وزَالَتِ السِّنُونَ والسَّاعَاتُ. فَلاَ شَیءَ إِلَّا اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِی إِلَیْهِ مَصِیرُ جَمِیعِ الاُْمُورِ. بِلاَ قُدْرَة مِنْهَا کَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا، وبِغَیْرِ امْتِنَاع مِنْهَا کَانَ فَنَاؤُهَا، ولَوقَدَرَتْ عَلَی الاِْمْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا.
لَمْ یَتَکَاءَدْهُ صُنْعُ شَیء مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ، ولَمْ یَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا خَلَقَهُ وَبَرَأَهُ، ولَمْ یُکَوِّنْهَا لِتَشْدِیدِ سُلْطَان، وَلَا لِخَوْف مِنْ زَوَال ونُقْصَان، وَلَا لِلاِْسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَی نِدٍّ مُکَاثِر، وَلَا لِلاِْحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِر، وَلَا لِلاِْزْدِیَادِ بِهَا فِی مُلْکِهِ، وَلَا لِمُکَاثَرَةِ شَرِیک فِی شِرْکِهِ، وَلَا لِوَحْشَة کَانَتْ مِنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ یَسْتَأْنِسَ إِلَیْهَا.
قال الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة ومواصلة لکلامه السابق بشأن وجود العالم وعدمه:
«وإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ، یَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْیَا وَحْدَهُ لَاشَیءَ مَعَهُ. کَمَا کَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، کَذلِکَ یَکُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا، بِلاَ وَقْت وَلَا مَکَان، وَلَا حِین وَلَا زَمَان».
ثم واصل کلامه فقال:
«عُدِمَتْ عِنْدَ ذلِکَ الآجَالُ وَالأَوْقَاتُ، وزَالَتِ السِّنُونَ والسَّاعَاتُ».
ثم استنتج من ذلک:
«فَلاَ شَیءَ إِلَّا اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِی إِلَیْهِ مَصِیرُ جَمِیعِ
ص:169
الاُْمُورِ. بِلاَ قُدْرَة مِنْهَا کَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا، وبِغَیْرِ امْتِنَاع مِنْهَا کَانَ فَنَاؤُهَا، ولَوقَدَرَتْ عَلَی الاِْمْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا».
إشارة إلی تسلیم جمیع عالم الخلقة لإرادة اللّه سبحانه وتعالی، فلیس له من اختیار فی بدایة خلقه ولا حین زواله ونهایة حیاته، فلو کان خلقه وفناؤه بیده لعاش الخلود، فمما لا شک فیه کلّ کائن یسعی لبقائه.
طبعاً هذا الکلام لا یتنافی مع کون الإنسان مختاراً فی أفعاله، لأنّ مراد الإمام علیه السلام بیان بدایة الخلقة وختامه الخارج عن الإرادة والاختیار والذی یتم وفق الحکمة والمصلحة.
ثم أشار علیه السلام إلی هذه النقطة فقال:
«لَمْ یَتَکَاءَدْهُ(1) صُنْعُ شَیء مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ، ولَمْ یَؤُدْهُ(2) مِنْهَا خَلْقُ مَا خَلَقَهُ وَبَرَأَهُ».
لأنّ التعب والضعف والعجز من خصائص الإنسان المحدود القدرة، فإنّ أراد القیام بعمل یفوق طاقته فإنّه یعجز، وإن کان بمستوی طاقته فإنّه یشعر بالتعب أمّا بالنسبة لمن کانت قدرته مطلقة فحمل القشة من الأرض والجبل العظیم لدیه علی حد سواء فهو لیس بحاجة لوسیلة أو أداة لیستعین بها وإرادته تکفی فی ذلک: «اِذَا أَرَادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ»(3).
وینسجم کلام الإمام علیه السلام هذا مع ما ورد فی جانب من آیة الکرسی: «وَسِعَ کُرْسِیُّهُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا یَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا»(4): وقال فی موضع آخر بعد الإشارة إلی خلق السماء والأرض «وَلَمْ یَعْیَ بِخَلْقِهِنَّ»(5).
ثم خاض علیه السلام فی بیان هذه النقطة المهمّة فی أن خلقه لعالم الخلقة لم یکن لجلب
ص:170
نفع أو دفع ضرر لأنّه غنی بالذات ولا فناءَه بعد خلقه لتعب منه، وهکذا ینفی أی حاجة تحتاجها الذات القدسیّة فی خلق العالم ومن ثم فی فنائه.
فقد أشار علیه السلام فی القسم الأوّل إلی الأهداف السبعة التی یتطلع إلیها الإنسان عادة فی قیامه بأعماله ثم نفاها جمیعاً عن اللّه تعالی کونها دلالات علی الضعف والعجز والنقص فقال إنّه لم یخلق الموجودات لتوطید حکومته کونه وجوداً لا متناهی وغنی من جمیع الجهات:
«ولَمْ یُکَوِّنْهَا لِتَشْدِیدِ سُلْطَان».
کما أنّه واجب الوجود الذی لیس للزوال والنقصان من سبیل إلیه
«وَلَا لِخَوْف مِنْ زَوَال ونُقْصَان».
کما لیس له مثیل:
«وَلَا لِلاِْسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَی نِدٍّ مُکَاثِر(1)».
وبما أنّه لا ضد له ولا عدو والکلّ خاضع لسیطرته
«وَلَا لِلاِْحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِر(2)».
کما أنّه لیس بحاجة لمخلوقاته لیقضی بها حاجته
«وَلَا لِلاِْزْدِیَادِ بِهَا فِی مُلْکِهِ».
وحیث له شریک ولا قرین
«وَلَا لِمُکَاثَرَةِ شَرِیک فِی شِرْکِهِ».
وکذلک:
«وَلَا لِوَحْشَة کَانَتْ مِنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ یَسْتَأْنِسَ إِلَیْهَا».
لأنّ الوحشة حیث الشعور بالخطر من جانب العدو أو بروز المشاکل والمصائب ولا عدوله ولا مشکلة تجری علیه، ومن الطبیعی أنّ هذه الأهداف السبعة إنّما تعود لجلب المنفعة ودفع الضرر، لکن الإمام علیه السلام شرحها بأسلوب رائع ورکز علی جمیع المصادیق بما لا یتصور أبلغ وأفصح منه ومن الواضح حین تنتفی کلّ هذه الأهداف یثبت أنّ اللّه خلق الخلق إفاضة ولطفاً بالمخلوقات لا لجلب منفعة، لأنّ جلب المنفعة ودفع الضرر من لوازم الممکنات وهو واجب الوجود.
ص:171
ما ذکره الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة حول فناء الدنیا فی البدایة والنهایة حیث إنّ اللّه واحدٌ أزلیٌّ أبدیٌّ لیس له بدایة ولا نهایة، آثار سؤالاً لدی شرّاح نهج البلاغة وهو کیف مرت مدّة لم یظهر فیها الفیض من الذات الإلهیّة الفیاضة علی الدوام وأجابوا بأنّ المراد لیس إنعدام وجود الأشیاء بصورة مطلقة بل فی مرحلة الذات الإلهیّة، أی کانت هنالک موجودات لکنها لیست مستقلة عنه (طبعاً هذا الجواب لا یبدو مقنعاً).
إن السؤال الأهم الذی نطرحه هنا هو: کیف ینسجم ما طرحه الإمام علیه السلام بشأن فناء العالم مع ظاهر الآیات القرآنیّة؟ فقد صرّح القرآن فی عدّة آیات أنّ هذا العالم سیتعرض إلی الدمار فی خاتمة المطاف لا أنّه یعدم بالمرّة إذ قال: «اِذَا الشَّمْسُ کُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انکَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُیِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ»(1).
وقال فی موضع آخر: «یَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَیْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ»(2).
کما قال: «وَیَسْأَلُونَکَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ یَنسِفُهَا رَبِّی نَسْفاً * فَیَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَی فِیهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً»(3).
إضافة إلی ذلک یقول إنّ الموتی یخرجون من قبورهم، ویعتقد أغلب العلماء أنّ الجنّة والنار موجودتان الآن طبق ظاهر الآیات والروایات وأعمالنا هی التی تبلورهما، فکیف والحال هذه یصرّح بانعدام جمیع الأشیاء بنهایة العالم ولا یبقی سوی اللّه فیزول حتی الزمان والمکان؟ کما ورد فی الخطبة المذکورة، والذی یقال
ص:172
فی جواب السؤال الأوّل: کما أنّ اللّه فیاض فهو حکیم علی الاطلاق وفاعل لیس بمجبر فممکن أن تقتضی حکمته أن لا یکون شیء فی البدایة ثم یوجد، وعلیه فإنّ فیضه لا یمنع من انعدام الإشیاء قبل خلقها.
ویقال فی الجواب علی السؤال الثانی، إنّ العالم یتحطم فی البدایة کما ورد فی الآیات المذکورة، لکنه یعدم بعد ذلک بصورة کلیة بحیث لا یبقی سوی الذات القدسیّة ثم یکتسب کلّ ما فُنِی - بطریقة إعادة المعدوم وبالطبع بشکلها المعقول (1)- حلة الحیاة وکما کان فی السابق بالضبط من تلک الجنّة والنار والإنسان والقبور وهذا أمر معقول وسنشیر إلی هذا المطلب فی القسم القادم من الخطبة أیضاً.
***
ص:173
ص:174
ثُمَّ هُو یُفْنِیهَا بَعْدَ تَکْوِینِهَا، لَالِسَأَم دَخَلَ عَلَیْهِ فِی تَصْرِیفِهَا وتَدْبِیرِهَا، وَلَا لِرَاحَة وَاصِلَة إِلَیْهِ، وَلَا لِثِقْلِ شَیء مِنْهَا عَلَیْهِ. لاَ یُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَیَدْعُوَهُ إِلَی سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا، ولکِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ، وأَمْسَکَهَا بِأَمْرِهِ، وأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ، ثُمَّ یُعِیدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَیْرِ حَاجَة مِنْهُ إِلَیْهَا، وَلَا اسْتِعَانَة بَشَیء مِنْهَا عَلَیْهَا، وَلَا لاِنْصِرَاف مِنْ حَالِ وَحْشَة إِلَی حَالِ اسْتِئْنَاس، وَلَا مِنْ حَالِ جَهْل وعَمیً إِلَی حَالِ عِلْم وَالْتِمَاس، وَلَا مِنْ فَقْر وحَاجَة إِلَی غِنیً وکَثْرَة، وَلاَ مِنْ ذُلٍّ وَضَعَة إِلَی عِزٍّ وقُدْرَة.
لما فرغ الإمام علیه السلام من بیانه لأهداف عالم الخلق تحدّث فی هذا الجانب من الخطبة عن فناء العالم والهدف من ذلک فقال:
«ثُمَّ هُویُفْنِیهَا بَعْدَ تَکْوِینِهَا، لَالِسَأَم(1) دَخَلَ عَلَیْهِ فِی تَصْرِیفِهَا وتَدْبِیرِهَا، وَلَا لِرَاحَة وَاصِلَة إِلَیْهِ، وَلَا لِثِقْلِ شَیء مِنْهَا عَلَیْهِ.
لاَ یُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَیَدْعُوَهُ إِلَی سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا».
فجمیع هذه الأمور کالتعب والعجز والملالة وطلب الراحة، ناشئة من محدودیة القوّة وقدرة الفاعل ولیس لهذه الحوادث من سبیل إلی صاحب القدرة المطلق، فهذه کلّها صفات الممکنات ومن توهم مثل هذه الصفات علی اللّه فقد وقع فی هوة
ص:175
التشبیه (الواجب بالممکن).
والسؤال الذی یطرح نفسه هنا أو هنالک من یحتمل هذه الأمور علی اللّه لینفیها الإمام علیه السلام؟
لا شک فی أنّ أصحاب العقول السلیمة لا یتصورون مثل هذا الاحتمال، إلّاأنّ هذه الوسوسة قد تساور أذهان بعض الأفراد العادیین، أولئک الذین یرون اللّه جسماً ویرون له أذناً وعیناً ویداً ورجلاً وظفیرة ویا له من وهم ساذج! والسؤال الآخر الذی یرد هنا أنّ الإمام علیه السلام یذکر هذه الأهداف لنفی فناء الدنیا إلّاأنّه لم یذکر بدل ذلک أی هدف ایجابی والجواب علی هذا السؤال واضح: أنّ اللّه حکیم وکلّ أفعاله تستند إلی الحکمة والتی تعود آثارها وفوائدها علی الإنسان وسائر الموجودات، لا إلی ذاته القدسیّة الغنیة عن کلّ شیء، ولعل الهدف الأصلی من هذا الفناء حتی لا یشتبه الإنسان فیتصور وجوده من نفسه ویعتقد بأزلیّة وأبدیّة السماء والأرض ولیعلم أنّ کلّ شیء متوقف علی إرادة اللّه.
ثم قال علیه السلام فی مواصلته لکلامه وفی خلاصة للأبحاث السابقة:
«ولکِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ، وأَمْسَکَهَا بِأَمْرِهِ، وأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ، ثُمَّ یُعِیدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَیْرِ حَاجَة مِنْهُ إِلَیْهَا، وَلَا اسْتِعَانَة بَشَیء مِنْهَا عَلَیْهَا، وَلَا لاِنْصِرَاف مِنْ حَالِ وَحْشَة إِلَی حَالِ اسْتِئْنَاس، وَلَا مِنْ حَالِ جَهْل وعَمیً إِلَی حَالِ عِلْم وَالْتِمَاس(1) ، وَلَا مِنْ فَقْر وحَاجَة إِلَی غِنیً وکَثْرَة، وَلاَ مِنْ ذُلٍّ وَضَعَة(2) إِلَی عِزٍّ وقُدْرَة».
فما بیّنه الإمام علیه السلام فی ختام هذه الخطبة وضمن ست عبارات نفی الأهداف التی لا تلیق بذاته الطاهرة بالنسبة لخلق العالم؛ باختلاف طفیف مع الأهداف السبعة التی مضت فی الأقسام السابقة فذکرها الإمام علیه السلام هنا بصیغة خلاصة وبعبارات جدیدة وخلاصتها أنّه لم تکن لدیه من حاجة لإیجاد عالم الخلق ولا فی فنائه ولا فی
ص:176
الخلق الجدید بعد الفناء.
وهنا یطرا هذا السؤال أیضاً: إن کان خلق اللّه للعالم ثم إفناؤه ثم الخلق الجدید لا لنفعٍ ولا حاجة ودفع نقص فماذا کان هدفه من ذلک ولماذا لم یشر الإمام علیه السلام إلی ذلک الهدف؟
والجواب علی عن هذا السؤال هو ما ذکرناه سابقاً فهو وجود کامل من جمیع الجهات، ولیس هنالک لقیامه بأفعاله ما یعود إلیه، بل یعود عادة علی المخلوقات والممکنات دون أن یعود علیه بشیء، وبعبارة أخری کلّ ما لدی مخلوقاته منه ولیس لدیهم من شیء فیهبوه للّه: «وَإِنْ مِّنْ شَیء إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَر مَّعْلُوم»(1).
***
ص:177
ص:178
وَهِیَ فِی ذِکْرِ المَلَاحِمِ(1)
تتکون هذه الخطبة فی الواقع من قسمین، تطرق الإمام علیه السلام فی القسم الأوّل إلی قوم سیتصدون فی المستقبل للدفاع عن الحقّ والقیام من أجل بسط القسط والعدل فی عصر یُملأ فیه العالم بالمفاسد ویضیق فیه الناس والذی یتناسب مع ظهور المهدی علیه السلام وصحبه.
وفی القسم الثانی وعظ أصحابه وأهل زمانه فی اجتناب الفتن وعدم التفرق عن إمامهم.
وجدیر ذکره أنّ المدائنی - کما ورد فی سند الخطبة - ذکر فی کتابه (صفین) أقسام أخری من هذه الخطبة التی لم یذکرها المرحوم السید الرضی وقال فی
ص:179
آخرها: إنّ رجلاً من أهل البصرة قال لرجل من أهل الکوفة إلی جانبه: أشهد أنّه کاذب علی اللّه ورسوله. قال الکوفی: وما یدریک؟ (فلم یجبه) ثم أضاف، قال الکوفی: واللّه ما نزل من المنبر حتی شلت ید الرجل البصری ورجله فحملوه إلی بیته ومات فی تلک اللیلة(1).
***
ص:180
أَلَا بِأَبِی وأُمِّی، هُمْ مِنْ عِدَّة أَسْمَاؤُهُمْ فِی السَّماءِ مَعْرُوفَةٌ وفِی الأَرْضِ مَجْهُولَةٌ. أَلَا فَتَوَقَّعُوا مَا یَکُونُ مِنْ إِدْبَارِ أُمُورِکُمْ، وَانْقِطَاعِ وُصَلِکُمْ، وَاسْتِعْمَالِ صِغَارِکُمْ. ذاکَ حَیْثُ تَکُونُ ضَرْبَةُ السَّیْفِ عَلَی الْمُؤْمِنِ أَهْوَنَ مِنَ الدِّرْهَمِ مِنْ حِلِّهِ. ذَاکَ حَیْثُ یَکُونُ الْمُعْطَی أَعْظَمَ أَجْراً مِنَ الْمُعْطِی. ذَاکَ حَیْثُ تَسْکَرُونَ مِنْ غَیْرِ شَرَاب، بَلْ مِنَ النِّعْمَةِ والنَّعِیمِ، وتَحْلِفُونَ مِنْ غَیْرِ اضْطِرَار، وتَکْذِبُونَ مِنْ غَیْرِ إِحْرَاج. ذَاکَ إِذَا عَضَّکُمُ الْبَلاَءُ کَمَا یَعَضُّ الْقَتَبُ غَارِبَ الْبَعِیرِ. مَا أَطْوَلَ هذَا الْعَنَاءَ، وأَبْعَدَ هذَا الرَّجَاءَ!
استهل الإمام علیه السلام هذه الخطبة بالحدیث عن طائفة من خواص اللّه تعالی الذین ینهضون بمهمّة خاصة فقال:
«أَلَا بِأَبِی وأُمِّی(1) ، هُمْ مِنْ عِدَّة أَسْمَاؤُهُمْ فِی السَّماءِ مَعْرُوفَةٌ وفِی الأَرْضِ مَجْهُولَةٌ».
والسؤال من هی هذه الطائفة وما مهمتها؟ مرّ ذلک مجملاً فی متن الخطبة ومن هنا کان هنالک اختلاف بین شرّاح نهج البلاغة، فالبعض یعتقد أنّهم الأحد عشر معصوماً من ولد علی علیه السلام الذین هم أسماؤهم فی السماء معروفة، بینما لا یعرفهم فی الأرض سوی طائفة معینة.
ص:181
وذکر بعض علماء أهل السنّة أنّ المراد بهم طائفة من المؤمنین والأولیاء الذین عبّر عنهم بالقطب والأبدال، وهی العبارات التی عادة ما یستخدمها المتصوفة فی کلماتهم، إلّاأنّ العدید من القرائن تشیر إلی أنّ المراد بهم الإمام المهدی علیه السلام وخواص أصحابه لأنّ الإمام علیه السلام، أخبر بعد هذه العبارة عن حوادث خطیرة تذکر الإنسان بعلامات آخر الزمان وظهور المهدی علیه السلام. أضف إلی ذلک فقد ورد فی جانب من الخطة التی رواها المدائنی فی کتاب (صفین)(1) إشارة إلی الخسف فی البیداء وهروب طائفة منها وأننا لنعلم أنّ الخسف فی البیداء من علامات الظهور التی أشارت إلیها الروایات(2).
ویتّضح منها أنّ مهمتهم هی تلک المهمّة التی أشارت من الروایات فی مصادر الفریقین ومنها
«یَمْلاَُ الأرْضَ عَدْلا وقِسْطاً کَما مُلِئَتْ ظُلْماً وجَوْراً»(3).
وطرح البعض هذا السؤال: کیف یقول الإمام علیه السلام (بأبی أنتم وأمی) والحال أنّ المهدی أحدهم بینما البقیة هم أصحابه؟
والجواب علی هذا السؤال أنّه صدرت مثل هذه العبارات من الأئمّة علیهم السلام بشأن من لهم مهمّات خاصة، ومن ذلک ما ورد ذیل زیارة وارث
«بِأبی أنْتُم وأُمّی طِبْتُمْ وطابَتِ الأَرْضُ الَّتی فیها دُفِنْتُمْ» التی وردت عن بعض الأئمة علیهم السلام حین قرأوا هذه الزیارة علی قبور شهداء کربلاء.
ونقل المرحوم الأربلی فی کشف الغمة عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: رأیت عمی الحمزة وأخی جعفر بن أبی طالب فی المنام فقلت لهما:
«بِاَبی وأُمّی أنْتُما أَیُّ الأعْمالِ وَجَدْتُما أَفْضَلُ؟» فقالا: فدیناک بآبائنا وأمهاتنا:
«وَجَدْنا أَفْضَلَ الأَعْمالِ الصَّلاةُ عَلَیْکَ وسَقْیَ الْماءِ وحُبّ عَلیّ بنِ أَبی طالب»(4).
ص:182
ثم تنبأ الإمام علیه السلام بالحوادث الخطیرة مُستقبلاً والتی تنتظر الناس، وهی الحوادث التی تشبه العلامات التی ذکرت فی الظهور فقال علیه السلام:
«أَلَا فَتَوَقَّعُوا مَا یَکُونُ مِنْ إِدْبَارِ أُمُورِکُمْ، وَانْقِطَاعِ وُصَلِکُمْ، وَاسْتِعْمَالِ صِغَارِکُمْ».
ومن الطبیعی أن تبدأ مسیرة التخلف وتقطع الأواصر الاجتماعیّة حین یتزعم بعض الأفراد قلیلی الخبرة والسذج والذین یفتقرون إلی الکفاءة، لکن لماذا تتجه طائفة من الزعامات إلی الصغار وقلیلی التجربة فی الإدارة والتدبیر؟ لا شک فی کونهم فئة من المهزوزین والآذان الصاغیة لکلّ أمر وهذا من أکبر عوامل البؤس والشقاء.
ثم خاض علیه السلام فی شرح هذه الحوادث الألیمة فقال:
«ذاکَ حَیْثُ تَکُونُ ضَرْبَةُ السَّیْفِ عَلَی الْمُؤْمِنِ أَهْوَنَ مِنَ الدِّرْهَمِ مِنْ حِلِّهِ. ذَاکَ حَیْثُ یَکُونُ الْمُعْطَی أَعْظَمَ أَجْراً مِنَ الْمُعْطِی».
فقد ذکر الإمام علیه السلام بادئ ذی بدئ فی هذا الجانب من الخطبة مسألة حلیة وحرمة الأموال وذلک لتوقف المصیر المادی والمعنوی للمجتمعات علیها حیث أشار علیه السلام إلی أنّ جمع الأموال الملوثة بالحرام والغصب والرشوة والغش إنّما یبلغ درجة فی المجتمع بحیث یکون تحصیل الدرهم من الحلال أعقد من تحمل ضربة السیف فی المعرکة، ومن هنا قلّما یتعرض من ینفق أمواله فی سبیل اللّه آنذاک إلی الأجر والثواب لأنّهم یعلمون أنّ أموالهم لیست طاهرة، إلّاأنّ الآخذین لا یعلمون ذلک، أو أنّهم یعلمون لکنهم یضطرون لأخذ تلک الأموال المشکوکة أو المحرمة، وعلیه فلا مسؤولیة علیهم أمام اللّه وأجرهم وثوابهم ثابت عنده بینما تبدو القضیة معکوسة لو کان المجتمع سلیماً وعلی ضوء الحدیث النبوی المعروف:
«اِنَّ الْیَدَ الْعُلْیا خَیْرُ مِنَ الْیَدِ السُّفْلی»(1) فیکون أجر المعطی أعظم من المعطی له.
علی کلّ حال فما ورد فی کلام الإمام علیه السلام بشأن کثرة الأموال الحرام فی آخر الزمان صرحت بها بعض الروایات ومن ذلک ما ورد فی الحدیث النبوی الشریف:
ص:183
«أَقلُّ ما یَکُونُ فی آخِرِ الزَّمانِ أَخٌ یُوثَقُ بِهِ اودِرْهَمٌ مِنْ حَلال»(1).
ویتّضح ممّا ذکرنا آنفا أنّ العبارة لا تنطوی علی مفهوم معقد ومجهول کما ذهب إلی ذلک بعض شرّاح نهج البلاغة فقدموا عدّة احتمالات مستبعدة وضعیفة.
ثم خاض علیه السلام فی سائر المشکلات التی یعانی منها ذلک المجتمع الفاسد والذی ینتظره الناس بحکم الإجبار فقال:
«ذَاکَ حَیْثُ تَسْکَرُونَ مِنْ غَیْرِ شَرَاب، بَلْ مِنَ النِّعْمَةِ والنَّعِیمِ، وتَحْلِفُونَ مِنْ غَیْرِ اضْطِرَار، وتَکْذِبُونَ مِنْ غَیْرِ إِحْرَاج».
فأیّ مجتمع إنّما یؤول إلی الإنهیار إن شهد هذه البلایا الثلاث، الأثریاء یسکرون بالثروة فینسون اللّه وخلقه، وبالطبع فإنّ سکر النعمة أخطر من سکر الشراب، فسکر الشراب قد ینتهی بعد مرور لیلة بینما قد یستمر سکر النعمة طیلة العمر، کذلک القسم من غیر اضطرار والذی یوهن من شأن اللّه تعالی، والکذب من دون احراج الذی یزیل الثقة والاطمئنان وبالتالی تتعقد الحیاة فی ظلّ هذا المجتمع.
وقال علیه السلام فی اختتامه لهذا التکهن:
«ذَاکَ إِذَا عَضَّکُمُ(2) الْبَلاَءُ کَمَا یَعَضُّ الْقَتَبُ(3) غَارِبَ(4) الْبَعِیرِ مَا أَطْوَلَ هذَا الْعَنَاءَ، وأَبْعَدَ هذَا الرَّجَاءَ!».
یعتقد أغلب الشرّاح أن هذه العبارة منفصلة عن العبارات السابقة فإنّ السید الرضی - طبق عادته - أسقط بعض العبارات حین اقتطافه لبعض العبارات الرائعة لخطب الإمام علیه السلام.
ولا یبدو هذا الکلام مستبعداً، لأنّ
«ذاکَ» تشیر ظاهراً إلی النجاة والفرج الذی سیحصل للمؤمنین بعد کلّ ذلک البلاء، والعبارة
«ما أَطْوَلَ هذَا الْعَنَاءَ وأَبْعَدَ هذَا الرَّجاءَ» شاهد متین علی هذا المعنی حیث قال علیه السلام: هنالک أمل فی النجاة بعد کلّ هذا البلاء.
ص:184
کما تشیر العبارة
«ألا بِأَبی وأُمّی» أنّ الإمام علیه السلام کان ینتظر تلک الفئة التی تنتشل المجتمع الإسلامی من الشر والفساد، وعلی کلّ حال فإنّ أنسب تفسیر لمجموع هذا البحث ما ذکر سابقاً وقلنا إنّه ناظر لحوادث آخرالزمان المریرة ونجاة المجتمع البشری منها بواسطة الإمام المهدی علیه السلام.
وهنا لابدّ من الإشارة إلی نقطتین ضروریتین: الأُولی أنّه لماذا شبّه الإمام علیه السلام البلاء بالقتب (خشبة توضع علی الناقة لحل مشکلة سنامها الذی یؤذی ظهر الناقة)؟ لا یستبعد أنّ هذا التشبیه علی أساس أنّ القتب یوضع لانقاذ الناقة من مشکلة بروز السنام، لکنه یخلق مشکلة أخری فی أنّه یؤذی ظهر الناقة ورقبتها ویجرحها أحیاناً، والبلاء فی ذلک الزمان والحوادث هکذا فی أنّ التفکیر بالسبیل للخلاص منها یخلق مشکلة أخری للناس.
والسؤال الذی یطرح نفسه کیف یصرح علیه السلام باستبعاد الأمل بالنجاة بینما تورد الروایات قرب ذلک الأمل؟
والجواب أنّ ظهور الإمام علیه السلام مشروط بشرائط إن تحققت کان الفرج قریباً وإن لم تتحقق فهو بعید؛ وبعبارة أخری یمکن للمؤمنین بتوفیرهم لشرائط الظهور من قبیل التزکیة والتهذیب والاستعداد الکامل والأدعیة المتواصلة أن یقربوا ظهور الإمام علیه السلام بینما إن ترکت هذه الأمور تأخر الظهور، وعلیه فالظهور قریب من جهة وبعید من جهة والذی نأمّل أن یکون قریباً بلطف اللّه ورحمته.
وردت فی هذه الخطبة وبعض خطب نهج البلاغة وروایات النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام بعض الأخبار عن المستقبل المظلم والمعقد الذی ینتظر المؤمنین.
ومن خصائص ذلک الزمان عدم إکتراث أغلب الناس بالحلال والحرام. فیرون
ص:185
کلّ ما یقع فی أیدیهم حلالاً کیفما حصلوا علیه ومن أی شخص اقتنصوه وهذه القذارة تلوث جمیع حیاتهم.
الخاصیة الأخری سکر النعمة الذی یؤدّی إلی نسیان المبدأ والمعاد فیعیش الإنسان فی عالم من الجهل علی غرار من یسکر من الشراب، کما أنّ الإبتعاد عن الأحکام والتمسک بالحجج الواهیة لممارسة الأفعال غیر المباحة والتعویل علی الحیل الشرعیّة من الخصائص الأخری لذلک الزمان وبالتالی تتحول البدع إلی سنن وتلبس السنن ثوب البدع.
جاء فی الحدیث النبوی الشریف:
«یَأْتی عَلَی النّاسِ زَمانٌ لا یَبْقی أحَدٌ إِلَّا أکلَ الرِّبا فَإنْ لَمْ یَأْکُله أَصابَهُ مِنْ غُبارِهِ»(1).
کما ورد فی حدیث آخر فی وصایا الرسول صلی الله علیه و آله إلی ابن مسعود أنّه یأتی علی الناس زمان یتناولون فیه الأطعمة اللذیذة ویرکبون المراکب الفارهة ویتزین الرجال لنسائهم وتخرج النساء دون حجاب ویشارکن فی التجمعات حتی وصفهم النّبی صلی الله علیه و آله بأنّهم منافقو الأُمّة فی آخر الزمان ثم قال:
«یَاابْنَ مَسْعُودُ یَأْتی عَلَی الناسِ زَمانٌ الصّابِرُ عَلی دینِهِ مِثْلُ الْقابِضِ عَلَی الْجَمْرَةِ بِکَفِّهِ»(2)، وسائر الحوادث الألیمة التی یطول ذکرها.
هذه النبوءات وبالإضافة إلی جانبها الاعجازی هی تحذیر للمسلمین المخلصین للإسلام فی ضبط أنفسهم ویعلم أنّ هذا العصر سینتهی بظهور المهدی الموعود (أرواحنا فداه).
***
ص:186
أَیُّهَا النَّاسُ، أَلْقُوا هذِهِ الأَزِمَّةَ الَّتِی تَحْمِلُ ظُهُورُهَا الأَثْقَالَ مِنْ أَیْدِیکُمْ، ولَا تَصَدَّعُوا عَلَی سُلْطَانِکُمْ فَتَذُمُّوا غِبَّ فِعَالِکُمْ. وَلَا تَقْتَحِمُوا مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ فَوْرِ نَارِ الْفِتْنَةِ، وأَمِیطُوا عَنْ سَنَنِهَا، وخَلُّوا قَصْدَ السَّبِیلِ لَهَا: فَقَدْ لَعَمْرِی یَهْلِکُ فِی لَهَبِهَا الْمُؤْمِنُ، ویَسْلَمُ فِیهَا غَیْرُ الْمُسْلِمِ.
إِنَّمَا مَثَلِی بَیْنَکُمْ کَمَثَلِ السِّرَاجِ فِی الظُّلْمَةِ، یَسْتَضِیُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا.
فَاسْمَعُوا أَیُّهَا النَّاسُ وَعُوا، وأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِکُمْ تَفْهَمُوا.
ما أن فرغ الإمام علیه السلام من کلامه عن الحوادث الألیمة فی المستقبل فی الجانب السابق من هذه الخطبة حتی ذکّر أصحابه هنا ببعض الوصایا التی تنجیهم من أخطار تلک الأحداث فقال علیه السلام:
«أَیُّهَا النَّاسُ، أَلْقُوا هذِهِ الأَزِمَّةَ(1) الَّتِی تَحْمِلُ ظُهُورُهَا الأَثْقَالَ مِنْ أَیْدِیکُمْ».
هذه العبارة کنایة عن أنّ الحوادث ستقع حولکم وتحمل آثار الفتنة والفساد فعلیکم أن لا تتزعموها ولا تسهموا فی تطورها، فالواقع أنّه یذکّرهم بما أمر به القرآن الکریم حین یقول: «وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَی الاِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(2).
ص:187
ثم أضاف:
«وَلَا تَصَدَّعُوا(1) عَلَی سُلْطَانِکُمْ فَتَذُمُّوا غِبَّ(2) فِعَالِکُمْ. وَلَا تَقْتَحِمُوا(3) مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ فَوْرِ(4) نَارِ الْفِتْنَةِ، وأَمِیطُوا(5) عَنْ سَنَنِهَا(6) ، وخَلُّوا قَصْدَ السَّبِیلِ(7) لَهَا».
هذا الکلام إشارة إلی أنّ الناس إن لم یسهموا فی استفحال الفتن ولم یلجوها وابتعدوا عنها وقطعوا دابرها فسوف لن تتنامی مخلفاتها والقضیة بالضبط أشبه بسیل الماء العظیم الذی یعجز الناس عن السیطرة علیه، لکنهم إن فسحوا المجال لکی ینحدروا إلی الودیان والسهول فإنّ الاضرار التی تصیبهم ستکون أقل ممّا لو ولجوه وکانوا فی وسطه.
ثم ذکر علیه السلام علّة ذلک فقال:
«فَقَدْ لَعَمْرِی یَهْلِکُ فِی لَهَبِهَا الْمُؤْمِنُ، ویَسْلَمُ فِیهَا غَیْرُ الْمُسْلِمِ».
إشارة إلی أنّ موج الفتنة علی درجة من القوّة بحیث لو انبری المؤمنون لمواجهته لهلکوا ولسلم غیرهم من نحّی نفسه عنها، وعلیه لا ینبغی تبدید الطاقات عبثاً فی مثل هذه الموارد، بل لابدّ من الحفاظ علیها والتربص حتی تحین الفرصة المناسبة وهذا بالضبط الفلسفة الأصلیّة للتقیة فی المسائل الدینیّة والاجتماعیّة والسیاسیّة والتی تعنی ببساطة حفظ الطاقات وانتظار الفرصة.
ثم اختتم الإمام علیه السلام الخطبة بالإشارة إلی موقعه بغیة فواق الغافلین والانتفاع بفیوضاته علیه السلام فقال:
«اِنَّمَا مَثَلی بَیْنَکُمْ کَمَثَلِ السِّرَاجِ فِی الظُّلْمَةِ، یَسْتَضِیُ بِهِ مَنْ
ص:188
وَلَجَهَا. فَاسْمَعُوا أَیُّهَا النَّاسُ وَعُوا(1) ، وأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِکُمْ تَفْهَمُوا».
نعم، فالإمام علیه السلام حین یتکهن بحوادث المستقبل المریرة وظلمات الفتن یشیر إلی سبیل النجاة فیقول: إنّکم إنّما تنجون من شر الأشرار والفتن التی یثیرها المفسدون إن سمعتم ما أقول لکم وحفظتموه وفکرتم فیه کما ینبغی.
وقد شبّه الإمام علیه السلام نفسه هنا بالسراج المنیر فی أمواج الظلمة ثم أمر الناس بالاستضاءة بنور هذا السراج، فقد أمر أولاً بسماع کلامه وحفظه ثم أردفه بالأمر للتعمق به وإدراک حقیقته (وهذا هو الفارق بین مفهوم العبارة
«فَاسْمَعُوا أَیُّهَا النَّاسُ وَعُوا»، والعبارة
«وأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِکُمْ تَفْهَمُوا» حیث الأولی سماع وإدراک وحفظ والأخری دقّة وتعمق).
أحیاناً تظهر فی المجتمعات البشریّة بعض الفتن التی لا یقوی الأفراد المؤمنون علی مواجهتها، کما لا یستطیعون تشکیل خلیة للوقوف بوجهها ولیس للأفراد الذین یقفون مباشرة إزاء هذه الفتن ویقتحمونها من مصیر سوی الهزیمة والانکسار.
فأفضل سبیل فی ظلّ هذه الظروف هو الانسحاب من أمام سیول الفتنة والتربص بالفرصة المناسبة بغیة مواجهتها، وبالطبع فإنّ الاجراءات المتهورة لا تنطوی علی نتیجة سوی التضحیة بالطاقات والقضاء علی الفرص المستقبلیة، وهذه هی فلسفة النهی عن النهضات فی عصر أئمّة العصمة علیهم السلام وهذا فی الواقع فرع من فروع التقیة التی تهدف إلی حفظ القوی واستغلالها فی الوقت المناسب.
فقد أکّد الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام فی هذه الخطبة علی هذه النقطة وأکّد علیها مع أنّه أشجع فرد فی الأمة ومن ابطال مواجهة أعداء الإسلام وخصوم الدعوة.
ص:189
ص:190
فِی الْوَصِیَّةِ بِأُمُور(1)
أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی ثلاثة أمور مهمّة: أوصی أولاً بالورع والتقوی واجتناب المعصیة وذکرهم بنعم اللّه لتکون لهم دافعاً نحوالتقوی والطاعة.
ثم ذکرهم بالموت والانتقال من الدنیا وکیفیة هذا الانتقال بعبارات تهز النفس لتکون عاملاً نحوالطاعة وترک المعصیة.
وأخیراً حذّر من سرعة انقضاء الأیّام واللیالی والساعات ولابدّ من الجد والمثابرة للتزود للدار الآخرة.
***
ص:191
ص:192
أُوصِیکُمْ، أَیُّهَا النَّاسُ، بِتَقْوَی اللّهِ وکَثْرَةِ حَمْدِهِ عَلَی آلاَئِهِ إِلَیْکُمْ، ونَعْمَائِهِ عَلَیْکُمْ، وبَلاَئِهِ لَدَیْکُمْ. فَکَمْ خَصَّکُمْ بِنِعْمَة، وتَدَارَکَکُمْ بِرَحْمَة! أَعْوَرْتُمْ لَهُ فَسَتَرَکُمْ، وتَعَرَّضْتُمْ لاَِخْذِهِ فَأَمْهَلَکُمْ!
دعا الإمام علیه السلام جمیع مخاطبیه فی هذا القسم من الخطبة کما أشرنا سابقاً إلی التقوی وشکر اللّه علی نعمه فقال:
«أُوصِیکُمْ، أَیُّهَا النَّاسُ، بِتَقْوَی اللّهِ وکَثْرَةِ حَمْدِهِ عَلَی آلاَئِهِ إِلَیْکُمْ، ونَعْمَائِهِ عَلَیْکُمْ، وبَلاَئِهِ(1) لَدَیْکُمْ».
رغم أنّ
«آلاء» و «نعماء» تستعمل فی أغلب الموارد بمعنی واحد هو النعمة، إلّا أنّ البعض یعتقد أن آلاء إشارة إلی النعم المعنویّة ونعماء إشارة إلی النعم المادیّة؛ سیما إن وردت المفردتان مع بعضهما.
وتستعمل کلمة
«البلاء» بمعنی الامتحان والاختبار أو بمعنی الحوادث السارّة والألیمة وفی العبارة السابقة وبالنظر إلی تناسق العبارات فهی بمعنی الحوادث السارّة، وقال البعض: المقصود هو الحوادث الألیمة التی یختبر اللّه الإنسان بها وتسبب ارتقاء رتبته وزیادة ثوابه عند اللّه وتعتبر نعمة بالنظر إلی هذا الأمر.
ص:193
علی کلّ حال فکلام الإمام علیه السلام هذا شبیه ما إستند إلیه علماء الکلام فی بحث معرفة اللّه، وقالوا: الدافع الرئیسی لهذا البحث هو مسألة شکر المنعم، لأنّ الإنسان یری نفسه غارقاً فی النعم وحیث إنّ شکر منعم النعمة کامن فی فطرة الإنسان فإنّه یفکر فی واهب النعمة فیتجه إلیه لیتعرف علیه ومن شأن هذا الأمر أن یکون سبباً لطاعته وترکه للمعصیة.
ثم خاض الإمام علیه السلام فی شرح بعض هذه النعم فقال:
«فَکَمْ خَصَّکُمْ بِنِعْمَة، وتَدَارَکَکُمْ بِرَحْمَة! أَعْوَرْتُمْ(1) لَهُ فَسَتَرَکُمْ، وتَعَرَّضْتُمْ لاَِخْذِهِ(2) فَأَمْهَلَکُمْ!».
فقد أشار الإمام علیه السلام بادئ الأمر إلی النعم والرحمة المختصة بهذه الأمّة مثل خاتمیة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وکونها خیر أمّة وعدم نزول البلاء علی الأمّة ما دام النّبی فیهم أو هم یستغفرون، ثم خاض علیه السلام بعد ذلک إلی مسألة ستر اللّه تعالی مقابل خرق هذا الستر من قبل العصاة وکذلک إعطاء المهلة الکافیة من أجل التوبة والعودة إلی النفس وعدم العجلة فی معاقبتهم وکل واحدة منها نعمة عظیمة للغایة.
***
ص:194
وأُوصِیکُمْ بِذِکْرِ الْمَوْتِ وإِقْلاَلِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ. وکَیْفَ غَفْلَتُکُمْ عَمَّا لَیْسَ یُغْفِلُکُمْ، وطَمَعُکُمْ فِیمَنْ لَیْسَ یُمْهِلُکُمْ! فَکَفَی واعِظاً بِمَوْتَی عَایَنْتُمُوهُمْ، حُمِلُوا إِلَی قُبُورِهِمْ غَیْرَ رَاکِبِینَ، وأُنْزِلُوا فِیهَا غَیْرَ نَازِلِینَ، فَکَأَنَّهُمْ لَمْ یَکُونُوا لِلدُّنْیَا عُمَّاراً، وکَأَنَّ الاْخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً. أَوْحَشُوا مَا کَانُوا یُوطِنُونَ، وأَوْطَنُوا مَا کَانُوا یُوحِشُونَ، وَاشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا، وأَضَاعُوا مَا إِلَیْهِ انْتَقَلُوا. لَاعَنْ قَبِیح یَسْتَطِیعُونَ انْتِقَالا، وَلَا فِی حَسَن یَسْتَطِیعُونَ ازْدِیَاداً. أَنِسُوا بِالدُّنْیَا فَغَرَّتْهُمْ، ووَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ.
أشار الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة إلی نقطة مهمّة من شأنها أن تکون دافعاً قویاً للتقوی آنفة الذکر؛ والتی تکمن فی ذکر الموت، فأوصی بصورة عامة إلی ذکر الموت فقال:
«وأُوصِیکُمْ بِذِکْرِ الْمَوْتِ وإِقْلاَلِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ. وکَیْفَ غَفْلَتُکُمْ عَمَّا لَیْسَ یُغْفِلُکُمْ، وطَمَعُکُمْ فِیمَنْ لَیْسَ یُمْهِلُکُمْ!».
نعم! فلیس هنالک من عقل یسوغ للإنسان الغفلة عن حادثة لابدّ له من الوصول إلیها، وعدم الإکتراث للشیء الذی لا أمل فی الفرار منه، فالعاقل مَن یقرّ بهذه الحقیقة فی أنّ الموت مصیر حتمی لجمیع الناس، بل الموجودات کافّة، وما أعظم ما قال الشاعر:
کُلُّ ابنُ انثی وإنْ طَالتْ سَلامَتُهُ
یَوماً عَلی آلةِ حَدباءِ مَحمُولُ
ثم خاض الإمام علیه السلام فی شرح دقیق یهزّ الأعماق فی تفاصیل لحظات الموت خلال 12 عبارة صغیرة وعمیقة المعنی فقال:
«فَکَفَی واعِظاً بِمَوْتَی عَایَنْتُمُوهُمْ، حُمِلُوا إِلَی قُبُورِهِمْ غَیْرَ رَاکِبِینَ، وأُنْزِلُوا فِیهَا غَیْرَ نَازِلِینَ».
نعم! فقد حملوا علی أکتاف الناس لیتجهوا بهم صوب موطنهم الأبدی دون رغبتهم وأوردوهم حفرة القبر دون إرادتهم.
ثم کشف علیه السلام عن مصیرهم ببیانه لصفتین فقال:
«فَکَأَنَّهُمْ لَمْ یَکُونُوا لِلدُّنْیَا عُمَّاراً(1) ، وکَأَنَّ الاْخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً».
إشارة إلی أنّ کلّ شیء ینتهی فی لحظة فیبلغ بهم البعد عن الدنیا درجة کأنّهم لم یعیشوا فیها ویقتربوا من الآخرة وکأنّهم عاشوا فیها منذ الأزل.
ثم قال علیه السلام:
«أَوْحَشُوا مَا کَانُوا یُوطِنُونَ، وأَوْطَنُوا مَا کَانُوا یُوحِشُونَ».
أجل! کانوا یشعرون بالوحشة حین یمرون بتلک القبور الهامدة فیشیحون عنها بوجوههم، سیما إن کان مرورهم باللیل، بینما أصبحت الآن وطنهم ولو عادوا الیوم بهذه الحال إلی بیوتهم ومساکنهم لاستوحش منهم الناس وبالعکس سیعیشون هم أیضاً تلک الوحشة - إن کان لهم إدراک وشعور -.
من جانب آخر فإنّ مشکلتهم الرئیسیّة أنّهم لم یعمروا دار الآخرة واستفرغوا کلّ طاقاتهم فی عمران الدنیا حیث وصف ذلک الأمم علیه السلام فی مواصلته لکلامه فقال:
«وَاشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا، وأَضَاعُوا مَا إِلَیْهِ انْتَقَلُوا».
والأسوأ من ذلک لا مجال هنا لتلافی ما فرط منهم وهذا ما أکّده الإمام علیه السلام بقوله:
«لَا عَنْ قَبِیح یَسْتَطِیعُونَ انْتِقَالا، وَلَا فِی حَسَن یَسْتَطِیعُونَ ازْدِیَاداً».
فهل لثمار الشجرة إن انفصلت عنها من عودة إلیها ومواصلة حیاتها ناضجة کانت أم فاسدة؟ وهل الولید الذی یخرج من بطن أُمه سواء کان جنیناً کاملاً أم ناقصاً یستطیع العودة إلی رحمها ویواصل نموه؟ کلا، نعم هذا هو حال أصحاب الدار
ص:195
ص:196
الآخرة لیس لهم من سبیل إلی العودة ولذلک تغلق صحیفة أعمالهم وإلی الأبد، فلا یسعهم تلافی سیئة ولا إضافة حسنة، ولعل هذه أعظم مصیبة یفجع بها أصحاب الدنیا الآثمین، وإلّا فإنّ اقترن الموت بالأعمال الصالحة فلا یعدّ مصیبة فحسب بل سعادة ورحمة فهو لا یعنی سوی تحطیم القفص وانطلاق الروح الإنسانیّة وتحلیقها فی الفضاء العلوی، ومن هنا حین نزلت ضربة أشقی الأولین والآخرین عبد الرحمن بن ملجم علی رأس مولی المتّقین علی علیه السلام قال:
«فُزْتُ ورَبِّ الْکَعْبَةِ».
ثم تناول علیه السلام سبب ذلک البؤس والشقاء فقال:
«أَنِسُوا بِالدُّنْیَا فَغَرَّتْهُمْ، ووَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ(1)».
نعم! فالوثوق بالدنیا کالوثوق بالسراب الذی یدعو الإنسان فی الصحراء المحرقة نحوه فلا یزیده إلّاعطشاً ویحیل أمله یأساً، أو کالاعتماد علی الجدار الرخو الذی ینهار عاجلاً أم أجلاً فیبقی الإنسان تحت أنقاضه.
لم یقتصر التأکید علی ذکر الموت ونهایة الحیاة علی أمیر المؤمنین علیه السلام بل هذا ما أکّده اساتذة الأخلاق والهداة إلی الصراط وفی مقدمتهم جمیعاً القرآن الکریم بغیة إیقاظ الغافلین الموتی فی أنّ هذه الحیاة زائلة ولیست خالدة، فأطفال الأمس هم شباب الیوم وشباب الیوم هم کهول الغد وکهول الغد کأوراق الخریف التی تتساقط بریاح الأجل لتلتحق بصفوف الأسلاف.
ویبدو الإلتفات إلی هذه الحقیقة مدعاة للیقظة والاعتبار، فأغلب الناس یجدّون فی العمل وکأنّهم مخلدون فی هذه الدنیا، والحال لیس هنالک م من طمأنینة لاستمرار هذه الحیاة ولولساعة أخری، ویکفی الإلتفات إلی هذه النقطة فی انزال
ص:197
الإنسان من مرکب الغرور وفتح عینه علی الحقائق وإنارة الطریق أمامه.
ویبدو ذکر الموت وختام الحیاة مفیداً نافعاً حین یتأمّل الإنسان تلک الأحداث التی تواجهه حین الموت والانفتاح علی العبارات والأمور التی رکز علیها أمیر المؤمنین فی هذه الخطبة؛ فالانفصال عن الأعزة، ومغادرة الثروة والقصور والمقامات، والإبتعاد عن الأحبّة، ونزول تلک الحفرة تحت التراب، والأهم من کلّ ذلک غلق صحیفة الأعمال واستحالة تلافی الأخطاء کلّ هذه الأمور تعدّ أعظم واعظ وأفضل ناصح.
ومن هنا جاء فی الحدیث النبوی الشریف:
«إنّ أَکْیَسَ الْمُؤْمِنینَ، أکْثَرُهُم ذِکْراً لِلْمَوْتِ وأَشَدُّهُمْ لَهُ اسْتِعْداداً»(1).
وفی حدیث آخر أنّه صلی الله علیه و آله سئل:
«هَلْ یَحْشُر مَعَ الشُّهَداءِ أَحَدٌ» فقال:
«نَعَمْ مَنْ یَذْکُر الْمَوْتَ فِی الْیَوْمِ واللَّیْلَةِ عِشْرینَ مَرَّةً»(2).
ونختتم هذا البحث بحدیث ینطوی علی الدروس والعبر ورد بهذا الشأن عن أمیرالمؤمنین علیه السلام حیث قال:
«إِنّ ابنَ آدَم إذا کَانَ فِی آخِرِ یَومٍ مِنْ أیّامِ الدُّنیا وَأوَّلِ یَومٍ مِنْ أیّامِ الآخرةِ مَثّلَ لَهُ مَالُهُ وَعَملُهُ وَوُلدُهُ، فَیلتَفت إلی مَالِهِ وَیقولُ: وِاللّهِ إنِّی کُنتُ عَلَیکَ حَریصاً شَحِیحاً فَما لِی عِندَکَ؟ فَیقُول: خُذْ مِنّی کَفَنَکَ، قَالَ: فَیلتَفِت إلی وُلدِهِ فَیقَول: وَاللّهِ إنِّی کُنتُ لُکُم مُحبّاً وَعَلَیکُم مُحامِیاً فَماذا لِی عِندَکُم، فَیقُولُون:
نُؤدّیکَ إلی حُفرتِکَ وَنُوارِیکَ فِیها، قَالَ فَیلتَفِت إلی عَملِهِ فَیقُول: إنِّی وَاللّهِ کُنتُ فِیکَ لَزاهِداً وإنْ کُنتَ علیَّ لَثقِیلاً فَماذا عِندَکَ؟ فَیقُول: أنا قَرینُکَ فِی قَبرِکَ وَیَومَ نَشرِکَ حَتّی أعرض أنا وأنتَ عَلیْ رَبِّکَ»(3).
***
ص:198
فَسَابِقُوا رَحِمَکُمُ اللّهُ إِلَی مَنَازِلِکُمْ الَّتِی أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا، والَّتِی رَغِبْتُمْ فِیهَا، ودُعِیتُمْ إِلَیْهَا. وَاسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللّهِ عَلَیْکُمْ بِالصَّبْرِ عَلَی طَاعَتِهِ، والْمُجَانَبَةِ لِمَعْصِیَتِهِ، فَإِنَّ غَداً مِنَ الْیَوْمِ قَرِیبٌ. مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِی الْیَوْمِ، وأَسْرَعَ الأَیَّامَ فِی الشَّهْرِ، وأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِی السَّنَةِ، وأَسْرَعَ السِّنِینَ فِی الْعُمُرِ!
کشف الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة سبیل النجاة بعد أن فرغ من التذکیر بالموت ونهایة الحیاة الدنیا والانتقال السریع إلی عالم الآخرة والحسرة علی ما بدر من تقصیر واسراف فقال علیه السلام:
«فَسَابِقُوا رَحِمَکُمُ اللّهُ إِلَی مَنَازِلِکُمْ الَّتِی أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا، والَّتِی رَغِبْتُمْ فِیهَا، ودُعِیتُمْ إِلَیْهَا».
قطعاً المراد من المنازل منازل الآخرة التی ورد الحث فی الآیات والروایات علی إعمارها کما ورد الحض علی الرغبة فیها والدعوة إلیها، حیث قال اللّه تعالی فی کتابه الکریم: «وَسَارِعُوا إِلَی مَغْفِرَة مِّنْ رَّبِّکُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِینَ»(1).
وقال فی موضع آخر: «وَاللّهُ یَدْعُوا إِلَی دَارِ السَّلاَمِ وَیَهْدِی مَنْ یَشَآءُ إِلی صِرَاط
ص:199
مُّسْتَقِیم».(1) وقال فی سورة البقرة: «وَاللّهُ یَدْعُوا إِلَی الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ»(2).
ثم أشار علیه السلام إلی سبیل آخر من سبل النجاة فقال:
«وَاسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللّهِ عَلَیْکُمْ بِالصَّبْرِ عَلَی طَاعَتِهِ، والْمُجَانَبَةِ لِمَعْصِیَتِهِ».
ویمکن أن یکون هذا الکلام إشارة إلی إکمال النعم المادیّة الدنیویّة أو إتمام هذه النعم مع زیادة نعم اللّه الکبری فی القیامة، لأنّ الصبر علی الطاعة والإبتعاد عن المعصیة بمقتضی الآیة الشریفة: «لَئِنْ شَکَرْتُمْ لاََزِیدَنَّکُمْ»(3) سبب زیادة النعم المادیّة والمعنویّة الدنیویّة والأخرویّة، ونعلم أنّ الشکر الحقیقی فی أن یستعین الإنسان بنعم اللّه علی طاعته ولا یستغلها أبداً ویتقوی بها علی معصیته.
ونقرأ فی حدیث عن علی علیه السلام أنّه قال:
«أَقَلُّ ما یَلْزِمُکُم اللّهِ أنْ لا تَسْتَعینُوا بِنِعْمَتِهِ عَلی مَعاصیهِ»(4).
ثم قال فی الختام کدلیل علی ما ذکر:
«فَإِنَّ غَداً مِنَ الْیَوْمِ قَرِیبٌ. مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِی الْیَوْمِ، وأَسْرَعَ الأَیَّامَ فِی الشَّهْرِ، وأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِی السَّنَةِ، وأَسْرَعَ السِّنِینَ فِی الْعُمُرِ!(5)».
والمراد من الغد فی هذه العبارة إمّا الموت کما قال الشاعر:
عَلَی المَوْتِ إعْدادُ النُّفُوسِ ولا أریبَعیداً غَدَاً ما أَقْرَبَ الْیَوْمَ مِن غَدِ
أو المراد یوم القیامة کما ورد فی الخطبة 28:
«ألا وإنَّ الْیَوْمَ الْمِضمارُ وغَداً السِّباقُ».
ولکن بالإلتفات إلی أنّ جانباً مهمّاً من هذه الخطبة رکز علی الموت ونهایة
ص:200
الحیاة الدنیا وغلق صحیفة الأعمال؛ فالمعنی الأوّل هو الأمثل والعبارات الواردة بشأن سرعة مضی الأیّام والشهور والسنوات والعمر شاهد آخر علی هذا المعنی.
والطریف فی الأمر أنّ الإمام علیه السلام ولتوضیح سرعة مضی العمر انطلق من أجزائه الصغیرة فأشار فی البدایة إلی سرعة مضی الساعات فی الیوم ثم مضی الأیّام فی الشهر والشهور فی السنة والسنوات فی العمر لیتّضح تماماً هذا المرور السریع والحقّ أنّ الأمر کذلک. فأغلب الکهول حین یسألون: کیف مضی عمرکم؟ یجیبون:
أسرع من البرق أو کطرفة العین، کأننا بالأمس کنّا نلعب مع الصبیة فی الأزقة ونسرح ونمرح مع الشباب، ولم نکد ننظر فی المرآة حتی طالعتنا علامات الکهولة وبدت واضحة علی رؤوسنا ووجوهنا، فضعف البدن وشلت الأعضاء عن الحرکة وانحنت القامة وتقطعت الأنفاس.
والحقّ أنّ الخطبة برمتها سیما الجانب الأخیر منها تحذیر غایة فی التأثیر لإیقاظ العقول النائمة، قال ابن أبی الحدید فی ختام هذه الخطبة:
«کَلامٌ شَریفٌ وَجیزٌ بالغٌ فی مَعْناه والْفَصْلُ کُلُّه نادِرٌ لا نَظیرَ لَهُ»(1).
***
ص:201
ص:202
فِی الإیمانِ ووُجُوبِ الْهِجْرَةِ(1)
رغم قصر هذه الخطبة إلّاأنّها عظیمة المضامین ومؤلفة من أربعة أقسام، خاض القسم الأوّل فی أقسام الإیمان (الإیمان الراسخ والمتقلب) وتطرق الثانی إلی مفهوم الهجرة فی الإسلام علی أنّها من المفاهیم المستمرة والدائمة، وأشار فی القسم الثالث إلی صعوبة إدراک بعض أحادیث المعصومین أو تعذر تحملها، وأخیراً أشار القسم الرابع إلی سعة علمه علیه السلام داعیاً الجمیع للانتهال من منبعه الفیاض قبل فقده.
***
ص:203
ص:204
فَمِنَ الاِْیمَانِ مَا یَکُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِی الْقُلُوبِ، ومِنْهُ مَا یَکُونُ عَوَارِیَ بَیْنَ الْقُلُوبِ والصُّدُورِ، إِلَی أَجَل مَعْلُوم، فَإِذَا کَانَتْ لَکُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَد فَقِفُوهُ حَتَّی یَحْضُرَهُ الْمَوْتُ، فَعِنْدَ ذلِکَ یَقَعُ حَدُّ الْبَرَاءَةِ.
کما أشیر سابقاً فقد أشار الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة إلی أقسام الإیمان الثابت منه وغیر الثابت، فقال:
«فَمِنَ الاِْیمَانِ مَا یَکُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِی الْقُلُوبِ، ومِنْهُ مَا یَکُونُ عَوَارِیَ بَیْنَ الْقُلُوبِ والصُّدُورِ، إِلَی أَجَل مَعْلُوم».
فتقسیم الإیمان إلی ثابت ومستقر وأجوف ومتزلزل وبعبارة أخری عارٍ ممّا وردت الإشارة إلیه فی الأخبار والروایات.
فقد جاء عن الإمام الصادق علیه السلام فی تفسیر الآیة الشریفة: «وَهُوالَّذِی أَنشَأَکُمْ مِّنْ نَّفْس وَاحِدَة فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ»(1):
«فَالْمُسْتَقَرّ الإیمانُ الثابِتُ والْمُسْتَوْدَعُ الْمُعارُ»(2).
وفی حدیث آخر عن أبی الحسن علیه السلام فی تفسیر الآیة السابقة:
«ما کانَ مِنَ الإیمانِ الْمُسْتَقَرِّ فَمُسْتَقَرٌّ إلی یَوْمِ الْقِیامَةِ وأبداً وما کانَ مُسْتَودَعاً سَلَبَهُ اللّهُ قَبْلَ الْمَماتِ»(3).
ص:205
ورغم الاختلاف فی تفسیر الآیة المذکورة؛ ومن ذلک ما قیل أنّ المراد من المستقر أولئک الذین قرّوا فی الدنیا من الرحم والمستودع أولئک الذین ما زالوا فی الأرحام، إلّاأنّ ذلک لا یمنع من أن یکون للآیة عدّة تفاسیر.
علی کلّ حال فإن کان للإنسان نفس مطمئنة ورسخ الإیمان فی أعماقه کان إیمانه مستقراً ولا یتزلزل مهما تغیرت الظروف وتعرض للترغیب والترهیب؛ بینما یمکن زواله بسهولة إزاء المغریات ما لم یکن راسخاً.
وأسباب تزلزل الإیمان متعددة؛ منها عدم الانفتاح علی الأدلة المحکمة واتباع الهوی وضعف النفس ومقارفة الذنوب والمعاصی، فکلّ من هذه الأمور قد یزلزل الإنسان آواخر عمره لیغادر الدنیا فی خاتمة المطاف بلا إیمان.
والعبارة:
«عَوَارِیَ بَیْنَ الْقُلُوبِ والصُّدُورِ» کنایة عن أنّ الإیمان لم یتسلل لحدّ إلی قلب الإنسان وروحه ولذلک لم یستقر، أشبه بالإنسان الذی یبلغ جدار منزل ولا یدخله، فبالطبع لیس لهذا الشخص من استقرار.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه فحذر من البراءة من الأفراد قبل اختتام عمرهم، ذلک لأنّ مصیر الإنسان یتّضح آخر عمره؛ فقال علیه السلام:
«فَإِذَا کَانَتْ لَکُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَد فَقِفُوهُ حَتَّی یَحْضُرَهُ الْمَوْتُ، فَعِنْدَ ذلِکَ یَقَعُ حَدُّ الْبَرَاءَةِ».
وعلی هذا الضوء فلا یمکن إصدار الأحکام القطعیّة بحقّ أی شخص، لا بشأن الفرد المؤمن ولا غیر المؤمن، لإمکانیّة عودة کلّ منهما آخر الطریق بفعل بعض العوامل المختلفة، وإن کان هنالک من حکم فهو حکم مرحلی ومؤقت.
أشار الإمام علیه السلام فی القسم الأوّل من هذه الخطبة المذکورة آنفاً إلی تصنیف الإیمان إلی صنفین مستقر ومتزلزل، والسؤال الذی یطرح نفسه هنا: ما هی العناصر
ص:206
التی تقف وراء زعزعة الإیمان وثباته؟
وتبدو الإجابة عن هذا السؤال واضحة إجمالاً، فالکبائر والاستخفاف بالوظائف الشرعیّة لمن دواعی زعزعة الإیمان وسوء العاقبة؛ إلّاأنّ الآیات والروایات أکّدت علی أمور معینة، منها:
مجالسة رفاق السوء والمنافقین؛ ففی الآیة 28 و 29 من سورة الفرقان یُعرب بعض أصحاب النار یوم القیامة عن أسفهم لاتخاذهم بعض الأصدقاء فیقولون: «یَا وَیْلَتی لَیْتَنِی لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِیلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِی عَنِ الذِّکْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِی».
وفی الآیة 56 و 57 من سورة الصافات ینادی أحد أصحاب الجنّة صاحبه الضال فی جهنم: «تَاللّهِ إِنْ کِدْتَّ لَتُرْدِینِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّی لَکُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِینَ».
وسئل الإمام الصادق علیه السلام عمّا یثبت الإیمان فی قلب الإنسان؟ فقال:
«الَّذی یُثْبِتُهُ فیهِ الْوَرَعُ، والَّذی یُخْرِجُهُ مِنْهُ الطَّمَعُ»(1).
وروی عنه علیه السلام أنّه قال:
«مَنْ کانَ فِعْلُهُ لِقَوْلِهِ مُوافِقاً فَاثْبُتْ لَهُ الشَّهادَةُ بِالنَّجاةِ ومَنْ لَمْ یَکُنْ فِعْلُهُ لِقَوْلِهِ مُوافِقاً فَإنَّما ذلِکَ مُسْتَوْدَعٌ»(2).
کما بین أمیرالمؤمنین علی علیه السلام لکمیل سبیل ثبات الإیمان فقال:
«یا کُمَیلَ! إِنَّما تَسْتَحِقّ أنْ تَکُونَ مُسْتَقَراً إذا لَزِمْتَ الْجادَّةَ الْواضِحَةَ الَّتی لا تُخْرِجُکَ إلی عِوْجَ ولا تُزیلُکَ عَنْ مِنْهَج ما حَمَلْناکَ عَلَیْهِ وهَدَیْناکَ إلَیْهِ»(3).
طبعاً لا تقتصر عناصر ثبات وزعزعة الإیمان علی ما ذکر سالفاً، غیر أنّها تمثّل أهم تلک العناصر.
***
ص:207
ص:208
وَالْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَی حَدِّهَا الأَوَّلِ. مَا کَانَ للّهِ فِی أَهْلِ الأَرْضِ حَاجَةٌ مِنْ مُسْتَسِرِّ الاْمَّةِ ومُعْلِنِهَا. لَایَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَةِ عَلَی أَحَد بِمَعْرِفَةِ الْحُجَّةِ فِی الأَرْضِ. فَمَنْ عَرَفَهَا وأَقَرَّ بِهَا فَهُومُهَاجِرٌ. وَلَا یَقَعُ اسْمُ الاِْسْتِضْعَافِ عَلَی مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ ووَعَاهَا قَلْبُهُ.
إِنَّ أَمْرَنا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لَایَحْمِلُهُ إِلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللّهُ قَلْبَهُ لِلإِیمَانِ، وَلَا یَعِی حَدِیثَنَا إِلَّا صُدُورٌ أَمِینَةٌ، وأَحْلاَمٌ رَزِینَةٌ.
أَیُّهَا النَّاسُ، سَلُونِی قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِی، فَلاََنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّی بِطُرُقِ الأَرْضِ، قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِی خِطَامِهَا، وتَذْهَبُ بِأَحْلاَمِ قَوْمِهَا.
أشار الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة إلی ثلاثة أمور مهمّة: الأوّل تفسیر واضح لمفهوم الهجرة، فنحن نعلم أنّ الهجرة کانت من علامات الإیمان أوائل الدعوة؛ أی أنّ من آمن وکان فی سائر المناطق غیر المدینة ومنها مکة وجب علیه الإلتحاق بالنّبی صلی الله علیه و آله فی المدینة؛ لینهل من تعالیم الإسلام ویشد بحضوره شوکة المؤمنین، إلّاأنّ الهجرة فقدت مفهومها کما یبدو بعد بسط الإسلام لنفوذه علی الجزیرة العربیة، وعلیه فلم یعد من ضرورة لأنّ یلتحق بالنّبی من آمن فی سائر المناطق، غیر أنّ الهجرة بمفهومها الواقعی أی جوهر الهجرة وروحها ما زال باقیاً
ص:209
فقد أشار الإمام علیه السلام إلی هذا المعنی من الهجرة فقال:
«وَالْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَی حَدِّهَا الأَوَّلِ. مَا کَانَ للّهِ فِی أَهْلِ الأَرْضِ حَاجَةٌ مِنْ مُسْتَسِرِّ(1) الاِْمَّةِ ومُعْلِنِهَا»(2).
«إمّة»: بکسر الهمزة فی العبارة المذکورة بمعنی (الحالة) وتشیر هنا إلی الإیمان، أی الشخص الذی یکتم إیمانه، إلّاأنّ البعض قرأها بضم الهمزة لیصبح معنی العبارة، أولئک الأفراد من الأمّة الإسلامیّة الذین کتموا إیمانهم وأولئک الذین أعلنوه.
ثم تطرق الإمام علیه السلام بعد هذا البیان الإجمالی إلی شرح معنی الهجرة بکلام رقیق فقال:
«لَا یَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَةِ عَلَی أَحَد بِمَعْرِفَةِ الْحُجَّةِ فِی الأَرْضِ. فَمَنْ عَرَفَهَا وأَقَرَّ بِهَا فَهُومُهَاجِرٌ. وَلَا یَقَعُ اسْمُ الاِْسْتِضْعَافِ عَلَی مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ ووَعَاهَا قَلْبُهُ»(3).
وزبدة کلام الإمام علیه السلام أنّ الهجرة باقیة فی کلّ زمان ومکان علی غرار عصر النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله، لکن لیس بمعنی انتقال المؤمن من مکان إلی آخر، بل بمعنی معرفة حجّة اللّه أی خلیفة رسول اللّه الحقّ، وحسب تعبیر الحدیث النبوی الشریف معرفة إمام الزمان والإیمان به، سواء حصل هذا الأمر عن طریق الهجرة المکانیّة أو بدونها، فالمهاجر الحقّ من عرف إمام زمانه، لأنّ الهدف من الهجرة الذی یتمثل فی معرفة حجّة اللّه فی الأرض قد حصل علیه، ومن لم یکن کذلک فهو مستضعف قد یکون معذوراً وقد لا یکون کذلک.
فأولئک الذین تعذر علیهم السبیل إلی المعرفة هم من الطائفة الأُولی (معذورون) وأولئک الذین اتیح لهم سبیل المعرفة ولم یغتنموه فهم من الطائفة الثانیة (غیر معذورین).
ص:210
ویطلق «المستضعف» فی القرآن والروایات الإسلامیّة علی معنیین: الأوّل:
الأفراد الذین یعانون من الضیق فی الحیاة المادیّة کما ورد فی الآیة 5 من سورة القصص: «وَنُرِیدُ أَنْ نَّمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِینَ». هذه الآیة إشارة إلی قصة بنی اسرائیل والفراعنة وتشیر إلی أصل کلّی فی باب المستضعفین.
الثانی: الأفراد الذین یعانون من الضیق من الناحیة الدینیّة ولا یستطیعون الهجرة من مناطقهم وقد قال القرآن الکریم فیهم: «وَمَا لَکُمْ لَاتُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْیَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنْکَ وَلِیّاً وَاجْعَل لَّنَا مِنْ لَّدُنْکَ نَصِیراً»(1). فهذه الآیة تتحدّث عن مسلمی مکة الذین تعذرت علیهم الهجرة وضیّق علیهم المشرکون فی أداء مناسکهم الدینیّة بحریة وقد شجع القرآن مسلمی المدینة علی إنقاذهم من مخالب المشرکین واطلق علیهم اسم الاستضعاف.
ولهذه المفردة معنی ثالث فی الروایات حیث یراد بها الشخص العاجز عن تحری الحقّ ومعرفته؛ سواء بسبب الضعف الفکری أو بعده عن مصادر التحقیق.
ففی الخبر سئل الإمام الباقر علیه السلام عن المستضعف فقال:
«هُو الَّذی لا یَهْتَدی حیلَةً إلَی الْکُفْرِ فَیَکْفُرُ ولا یَهْتَدی سَبیلاً إلی الإیمانِ، لا یَسْتَطیعُ أنْ یُؤْمِنَ ولا یَسْتَطیعُ أَنْ یَکْفُرَ»(2).
ومراد الإمام علیه السلام فی الخطبة هو المعنی الثالث.
وسنقدم شرحاً وافیاً فی بحث التأملات بشأن حقیقة الهجرة.
ثم أشار علیه السلام إلی الأمر الثانی فقال:
«اِنَّ أَمْرَنا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ(3) ، لَایَحْمِلُهُ إِلَّا عَبْدٌ
ص:211
مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللّهُ قَلْبَهُ لِلإِیمَانِ، وَلَا یَعِی(1) حَدِیثَنَا إِلَّا صُدُورٌ أَمِینَةٌ، وأَحْلاَمٌ رَزِینَةٌ(2)».
لقد ورد مثل هذا التعبیر فی سائر الروایات عن الأئمّة المعصومین علیهم السلام وربّما یکون إشارة إلی الروایات التوحیدیة العمیقة المتعلقة بصفات اللّه الجمالیّة والجلالیّة ومقامات النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام وأفعالهم فی عالم التکوین بإذن اللّه وشفاعتهم الواسعة لمذنبی الأمّة وعلمهم بالغیب وحوادث المستقبل بتعلیم اللّه تعالی والتی لا یحتملها کلّ شخص؛ ذلک لأنّ أغلب الجهّال یرون صفات اللّه علی غرار صفات المخلوق ویرون النّبی والإمام المعصوم کسائر الناس العادیین، فمن الطبیعی أن لا یتحمل أمثال هؤلاء الأفراد استیعاب تلک الأحادیث، علی غرار ما جاء فی بعض خطب نهج البلاغة حیث إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام حین أشار إلی جانب من الأخبار الغیبیّة اتّهمه بعض الجهّال الذین ضاق علیهم قبول ذلک الکلام بالکذب والعیاذ باللّه.
وسنتطرق إلی جانب من هذه المقامات فی آخر هذه الخطبة وبالتأکید سوف لن یتحمله الجمیع.
والعلاقة بین هذا القسم من الخطبة وما ذکره الإمام علیه السلام بشأن الهجرة أنّ من یهاجر لمعرفة إمام زمانه علیه أن یتحلی بصدر رحب وروح واسعة وفکر رصین لیتسنی له الانتهال من فیض هذه العیون الربانیّة الجیاشة.
ثم قال علیه السلام فی الأمر الثالث:
«أَیُّهَا النَّاسُ، سَلُونِی قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِی، فَلاََنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّی بِطُرُقِ الأَرْضِ، قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ(3) بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِی خِطَامِهَا(4) ،
ص:212
وتَذْهَبُ بِأَحْلاَمِ(1) قَوْمِهَا».
هذا الکلام هو الآخر من الأحادیث الصعبة والمستصعبة بشأن مقامات المعصومین التی لا یتحملها الجهّال؛ إلّاأنّ علیّاً علیه السلام قالها کراراً وأجاب کلّ شخص بما سأل.
والجدیر بالذکر أنّ هذا الکلام لم یقتصر علی مصادر الشیعة بل رواه علماء العامّة أیضاً، قال یحیی بن سعید بن المسیب حسب نقل الاستیعاب:
«ما کانَ أَحَدٌ مِنَ النّاسِ یَقُولُ سَلُونی غَیْرَ عَلیِّ بنِ أبی طالِب رَضِیَ اللّهُ تَعالی عَنْهُ»(2).
کما روی فی ذلک الکتاب عن أبی الطفیل قال: رأیت علیّاً علیه السلام خطب وقال:
«سَلُونی فَوَاللّهِ لا تَسْأَلُوننی عَنْ شَیْ إِلَّا أخْبَرْتُکُمْ؛ وسَلُونی عَنْ کِتابِ اللّهِ فَوَاللّهِ ما مِن آیَة إِلَّا وأنَا أَعْلَم أَبِلیل نُزِّلَتْ أمْ بِنَهار أمْ فی سَهْل أمْ فی جَبَل»(3).
کما ورد عن عبد اللّه بن عباس فی کتاب الاستیعاب أنّه قال:
«وَاللّهِ لَقد اعْطِیَ عَلیُّ بْنُ أبی طالِب تِسْعَةُ أعْشارِ الْعِلْمِ وأیْمُ اللّهِ لَقَدْ شارَکَکُمْ فِی الْعُشْرِ الْعاشِرِ»(4).
ونختتم هذا الکلام بحدیث آخر ذکره محمدبن یوسف البلخی فی کتابه، فقد روی:
أنّ علیّاً علیه السلام خطب الناس فقال:
«سَلُونی قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونی...» سلونی عن طرق السماوات فإنی أعرف بها من طرق الأرض، فقام إلیه رجل من وسط القوم وقال له:
أین جبرئیل فی هذه الساعة. فرمق بطرفه إلی السماء ثم رمق بطرفه إلی المشرق ثم رمق بطرفه إلی المغرب فلم یجد موطناً فالتفت إلیه وقال: یا هذا الشیخ أنت جبرئیل. فقال الرجل: بخ بخ لک یا علی بن أبی طالب إنّ اللّه یباهی بک ملائکته.
قال ذلک ثم صفق طائراً من بین الناس(5).
وضمنیاً فإنّ أعلمیّته علیه السلام بطرق السماء بالنظر لأهمیّتها بالنسبة للأرض.
ص:213
نعلم أنّ التاریخ الإسلامی کتب علی أساس الهجرة أی أنّ المسلمین لم یعتمدوا میلاد النّبی صلی الله علیه و آله کمبدأ للتاریخ ولا بعثته، بل جعلوا المبدأ عام الهجرة وهذا یدل علی أنّ أهم فصل فی حیاة المسلمین کان الهجرة، والواقع أنّ الهجرة هی التی فتحت صفحة جدیدة فی تاریخ الإسلام لتکون انطلاقة للحکومة الإسلامیّة وتقدم المسلمین فی جمیع المجالات.
فالوسط المکی لم یستطع استیعاب الرسالة بصورة تامة رغم الدعوة النبویّة التی استمرت ثلاث عشرة سنة، لأنّ زعماء قریش الطغاة سعوا للقضاء علی کلّ حرکة تهدد کیانهم فی مهدها؛ حیث کانوا یرون الوثنیة راعیة لمصالحهم والتوحید خطراً علیها؛ إلّاأنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أعدّ خلال هذه الفترة طائفة من الفتیة المخلصین فأوفدهم إلی المدینة قبل أن یهاجر إلیها ثم التحقت بهم صفوة من أهل المدینة فاتفقوا وتعاهدوا حتی قدم رسول اللّه فاستقبل هنالک وأخذ ینشر الإسلام بکلّ حریة وتمکن من بناء مسجد.
واستمرت الهجرة کفریضة إلهیة؛ أی أنّ کلّ فرد کان یعتنق الإسلام وأینما کان فی الجزیرة العربیة ینبغی علیه الإلتحاق بالمدینة وشد ظهور المسلمین، أمّا أولئک الذین لم یهاجروا فلم یشملوا بالولایة الإسلامیّة حسب النص القرآنی الصریح «وَالَّذِینَ آمَنُوا وَلَمْ یُهَاجِرُوا مَا لَکُمْ مِّنْ وَلَایَتِهِمْ مِنْ شَیء حَتَّی یُهَاجِرُوا»(1).
ویبدو أنّ موضوع الهجرة قد انتهی إبان فتح مکة وبسط نفوذ الإسلام علی جمیع المنطقة، ولم یُعتبر الأفراد الذین قدموا إلی المدینة من مکة بعد ذلک التاریخ من المهاجرین حیث ورد فی الحدیث النبوی الشریف:
«لا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَکَّة»(2).
ص:214
ثم اتسع مفهوم الهجرة فأصبح المهاجر مَن یغادر بلاد الکفر إلی بلاد الإسلام، کما یعتبر من زمرة المهاجرین مَن یهجر منطقة إلی أخری لدفع شر خصوم الدعوة، لذلک جاء فی الحدیث النبوی الشریف:
«أیُّها النّاسُ هاجِرُوا وتَمَسَّکُوا بِالاِْسْلامِ فَإنَّ الْهِجْرَةَ لا تَنْقَطِعُ مادامَ الْجِهادُ»(1).
ثم تجاوزت الهجرة هذا المعنی لتشمل الهجرة الباطنیّة والمعنویّة بالإضافة إلی الهجرة المکانیّة والخارجیّة، فقد ورد فی الحدیث النبوی الشریف:
«وَالْمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطایا والذُّنُوبَ»(2).
کما ورد عن علی علیه السلام أنّه قال:
«یَقُولُ الرّجلُ هاجَرْتُ ولَمْ یُهاجِرْ إنّما الْمُهاجِرُونَ الَّذینَ یَهْجُرُونَ السَّیِئاتِ ولَمْ یَأْتُوا بِها»(3).
وعلی هذا الضوء فمن یهاجر من مکان إلی آخر دون أن تکون له هجرة معنویة وباطنیّة، أی لا یبتعد عن الذنوب والمعاصی، فهو لیس فی زمرة المهاجرین الواقعیین.
ویبدو دلیل هذا الاتساع فی مفهوم الهجرة واضحاً، لأنّ روح الهجرة وجوهرها الانتقال من الکفر إلی الإیمان ومن المعصیة إلی الطاعة.
ومن هنا یدخل فی دائرة الهجرة مَن عرف إمام کلّ زمانه ثم سارع إلی الإلتحاق به لنیل المعارف الدینیّة کما ورد فی الخطبة.
***
ص:215
ص:216
یَحْمَدُ اللّهَ ویُثْنی عَلی نَبِیِّهِ ویَعِظُ بِالتَّقْوی(1)
تعدّ هذه الخطبة من أبلغ خطب أمیر المؤمنین علیه السلام وتتکون من عدّة أقسام:
القسم الأوّل: فی حمد اللّه والثناء علیه والشهادة للنبی صلی الله علیه و آله بالنبوة والرسالة وتطرق وتطرق فیها لنصره صلی الله علیه و آله علی أعدائه بلطف اللّه.
القسم الثانی: تضمّن التأکید علی مسألة التقوی، فقد دعی الجمیع إلی الاستعداد لسفر الآخرة والحدیث عن نهایة الحیاة وخطورة الموت والحوادث التی تعقبه.
القسم الثالث: الحدیث عن المصیر المشرق للصالحین فی الدار الآخرة ونعم الجنّة العظیمة والسکینة التامة والثواب الأُخروی العظیم الخالد ضمن التأکید علی
ص:217
تقلب الدنیا وشرح العذاب الأخروی الذی ینتظر المجرمین فی الآخرة.
القسم الرابع: عاد الإمام علیه السلام إلی ما بیّنه فی القسم الثانی من الخطبة لیحث الجمیع بعبارات جدیدة علی التأهب للرحیل إلی عالم الآخرة.
القسم الخامس وهو القسم الأخیر من الخطبة: خاطب فیه الإمام علیه السلام أصحابه وحذرهم من التسرع والقیام بالنهضات غیر المجدیة والقرارات الساذجة بغیة نیل الشهادة وأمثال ذلک، وصرّح بأنّ الشهادة ستکون من نصیب من سار علی الطریق المستقیم وإن مات علی فراشه.
***
ص:218
أَحْمَدُهُ شُکْراً لإِنْعامِهِ، وأَسْتَعِینُهُ عَلَی وَظَائِفِ حُقُوقِهِ، عَزِیزَ الْجُنْدِ، عَظِیمَ الْمَجْدِ.
وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ دَعَا إِلَی طَاعَتِهِ، وقَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِینِهِ؛ لَایَثْنِیهِ عَنْ ذلِکَ اجْتِمَاعٌ عَلَی تَکْذِیبِهِ، والْتِمَاسٌ لإِطْفَاءِ نُورِهِ.
استهل الإمام علیه السلام هذا الجانب من الخطبة بحمد اللّه والثناء علیه فقال:
«أَحْمَدُهُ شُکْراً لإِنْعامِهِ، وأَسْتَعِینُهُ عَلَی وَظَائِفِ حُقُوقِهِ؛ عَزِیزَ الْجُنْدِ، عَظِیمَ الْمَجْدِ(1)».
التعبیر بِ
«الوظائف والحقوق» لعله إشارة إلی الواجبات الدینیّة کالصوم والصلاة والخمس والزکاة التی لا تتمّ بصورة کاملة إلّابتوفیق اللّه، ویمکن أن تکون إشارة إلی حقوق اللّه التی تفرزها نعمه کنعمة الأذن والعین والعقل والفتوة والمعافاة والتی یتطلب کل واحدة منها شکراً.
ثم خاض فی الشهادة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله بالرسالة وبعض صفاته فقال:
«وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ دَعَا إِلَی طَاعَتِهِ، وقَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِینِهِ؛ لَایَثْنِیهِ(2) عَنْ ذلِکَ اجْتَِماعٌ عَلَی تَکْذِیبِهِ، والْتِمَاسٌ لإِطْفَاءِ نُورِهِ».
ص:219
فقد أشار الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من خطبته إلی نقطتین مهمتین فی سیرة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله؛ الأولی، أنّه منتصر دائماً فی قتاله لأعدائه، وهذا دلیل واضح علی زعامته صلی الله علیه و آله وخططه فی مواجهة الأعداء وخصوم الدعوة، إلی جانب الإمداد الغیبی والعنایة الإلهیّة.
والأخری، أنّ اتحاد الأعداء ووقوفهم بوجهه لم یؤثر علی عزمه وإرادته صلی الله علیه و آله ویصرفه عن دعوته، فکان یحث الخطی - بصبرٍ علی المصاعب - نحو هدفه حتی بلغه.
ومن الحوادث التاریخیة المعروفة عندما جاء رؤوساء قریش إلی أبی طالب وأرادوا أن یکلّموا النبی صلی الله علیه و آله وقالوا له: یا محمّد إنا قد بعثنا إلیک لنکلّمک، وإنا واللّه ما نعلم رجلاً من العرب أدخل علی قومه مثل ما أدخلت علی قومک لقد شتمت الآباء، وعبت الدین، وشتمت الآلهة، وسفهّت الأحلام، وفرّقت الجماعة.. فإن کنت إنّما جئت بهذا الحدیث تطلب به مالاً جمعنا لک من أموالنا حتی تکون أکثرنا مالاً، وإن کنت إنّما تطلب به الشرف فینا فنحن نسوّدک علینا، وإن کنت ترید به ملکاً ملکناک علینا، وإن کان هذا التی یأتیتک رئیاً تراه قد غلب علیک - وکان یسمّون التابع من الجن رئیاً - فربّما کان ذلک بذلنا لک أموالنا فی طلب الطب لک حتی نبرئک منه، فقال لهم:
«ما جِئتُ بِما جِئتُکُم بِهِ أطلبُ أموالَکُم ولا الشّرف فِیکُم، ولا المُلک علیکُم، ولکنّ اللّه بَعَثَنِی إِلَیکُم رَسُولاً، وَأَنزَلَ عَلیَّ کِتابَاً، وَأَمِرنِی أنْ أکُونَ لَکُم بَشِیراً ونَذِیراً، مُبَلِّغُکُم رِسالاتِ رَبّی ونَصحتُ لَکُم، فإنْ تَقبَلُوا مِنّی ما جِئتُکُم بِهِ فَهَو حَظّکُم فِی الدُّنیا وَالآخرةِ، وإنْ تَردُّوهُ عَلیَّ أصبِر لأمرِ اللّهِ حَتّی یَحکُمَ اللّهُ بَینی وَبَینَکُم»(1).
وکذلک عندما جاء روءساء قریش إلی أبی طالب وقالوا: أنت شیخنا وکبیرنا وقد آتیناک تقضی بیننا وبین ابن أخیک، فإنّه سفّه أحلامنا، وشتم آلهتنا، فدعا أبو طالب
ص:220
رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقال: یا ابن أخی هؤلاء قومک یسألونک، فقال:
«مَاذا یَسألُونَنی؟»، قالوا: دعنا وآلهتنا ندعک وآلهک، فقال:
«أتُعطُونِنی کلِمَةً واحدَةً تَملِکُونَ بِها العربَ والعَجمَ؟»، فقال له أبوجهل: للّه أبوک نعطیک ذلک عشر أمثالها، فقال:
«قُولُوا: لاإِله إِلّا اللّه»، فقاموا وقالوا: «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَیْءٌ عُجَابٌ»(1).
وروی أنّ النبی صلی الله علیه و آله استعبر ثم قال:
«یا عَمّاهُ لَو وُضِعَتِ الشَّمْسُ فی یَمینی والْقَمَرُ فی شِمالی ما تُرِکَ هذَا الْقَوْلُ حَتّی أنْفَذَهُ أو أُقْتَلَ دُونَهُ»، فقال له أبوطالب:
امض لأمرک فواللّه لا أخذلک أبداً(2).
***
ص:221
ص:222
فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَی اللّهِ، فَإِنَّ لَهَا حَبْلاً وَثِیقاً عُرْوَتُهُ، ومَعْقِلاً مَنِیعاً ذِرْوَتُهُ.
وبَادِرُوا الْمَوْتَ وغَمَرَاتِهِ، وامْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ، وأَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ فاِنَّ الْغَایَةَ الْقِیَامَةُ؛ وکَفَی بِذلِکَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ، ومُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ! وقَبْلَ بُلُوغِ الْغَایَةِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِیقِ الأَرْمَاسِ، وشِدَّةِ الاِْبْلاَسِ، وهَوْلِ الْمُطَّلَعِ، ورَوْعَاتِ الْفَزَعِ، واخْتِلاَفِ الأَضْلاَعِ، واسْتِکَاکِ الأَسْمَاعِ، وظُلْمَةِ اللَّحْدِ، وخیفَةِ الْوَعْدِ، وغَمِّ الضَّرِیحِ، وَرَدْمِ الصَّفِیحِ.
خاض الإمام علیه السلام بعد حمد اللّه والثناء علیه والشهادة للنبی صلی الله علیه و آله بالرسالة، فی موضوع مهم ومصیری فی حیاة الإنسان ألا وهو التقوی فقال:
«فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَی اللّهِ، فَإِنَّ لَهَا حَبْلاً وَثِیقاً عُرْوَتُهُ، ومَعْقِلاً(1) مَنِیعاً(2) ذِرْوَتُهُ(3)».
فالواقع أنّ عالم الدنیا بمنزلة البئر الذی یتعذر الخلاص من مخاطره سوی من خلال التمسک بحبل متین ألا وهو التقوی، ثم شبّه التقوی بالحصن الحصین حیث ینجو مَن تحصّنَ فیه من الأخطار أو کقمة الجبل المنیعة وعلی هذا الأساس فإنّ التقوی وسیلة للنجاة من حضیض الذلّة إلی ذروة السعادة والعزّة کما أنّها الدرع الذی یقی الإنسان عواصف الشهوات والهوی والهوس.
ص:223
ثم تعرض الإمام علیه السلام إلی أهم وسائل العبرة والعظة فرسمها بصورة دقیقة ومعبرة فقال:
«وبَادِرُوا الْمَوْتَ وغَمَرَاتِهِ،(1) وامْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ، وأَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ:
فاِنَّ الْغَایَةَ الْقِیَامَةُ؛ وکَفَی بِذلِکَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ، ومُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ!».
فمن الطبیعی أنّه ینبغی للشخص المقبل علی سفر ملییء بالأخطار والذی لا عودة فیه، من التأهب التام له وتوفیر جمیع السبل التی تلزم للمسیر إلیه وهو السفر المعروف بسفر الآخرة الشاق، وممّا لا شک فیه أنّه لیس هنالک أی خشیة أو قلق إن اتجه الإنسان إلیه بصحیفة أعمال ملیئة بالحسنات وخالیة من السیئات، وهنا خاض الإمام علیه السلام فی ذکر جانب من الحوادث المریرة للموت والقبر فقال:
«وقَبْلَ بُلُوغِ الْغَایَةِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِیقِ الأَرْمَاسِ(2) ، وشِدَّةِ الإِبْلاَسِ(3) ، وهَوْلِ الْمُطَّلَعِ(4) ، ورَوْعَاتِ(5) الْفَزَعِ، واخْتِلاَفِ الأَضْلاَعِ(6) ، واسْتِکَاکِ(7) الأَسْمَاعِ، وظُلْمَةِ اللَّحْدِ، وخیفَةِ الْوَعْدِ، وغمِّ الضَّرِیحِ(8) ، وَرَدْمِ(9) الصَّفِیحِ(10)».
بالإلتفات إلی أنّ الموت لا یعنی لنا انتهاء کلّ شیء حیث تبقی الروح بعد الموت تعیش الحیاة الأخری الخالدة، فإنّ القبور الضیقة والمظلمة مقارنة بالبیوت الواسعة والجمیلة تبدو غایة فی الوحشة إلی جانب القلق المتعلق بضغطة القبر والخوف من
ص:224
المستقبل وفقد الأعزّة والأحبّة والشعور بالوحدة المطلقة وتآکل أعضاء الجسم تحت التراب وبالتالی الانتقال من الوسط الهادیء والمرفه إلی الوسط المرعب، کلّ ذلک من الأمور التی یهتز لها الإنسان لمجرّد التفکیر بها فیحذر الإمام علیه السلام من ضرورة التأهب لمثل هذا السفر الشاق والملییء بالأخطار.
جدیر ذکره أنّ الإمام علیه السلام جسّد لمخاطبیه بهذه العبارات العشر الفصیحة والبلیغة کلّ الأمور ذات الصلة بالموت والقبر وکأنّهم یرونها عیاناً؛ وهی الأمور التی ینتظرها الجمیع دون استثناء والتفکیر فیها ینتشل الإنسان من نوم الغفلة مهما کانت عمیقة فیوقظه ویجبره علی إصلاح أعماله وأقواله.
ولعل هذا هو السبب فی ما ورد من الوصایا الإسلامیّة التی توصی بوضع المیت علی الأرض قبل وضعه فی قبره حین یحمل إلیه والتریث مدّة ثم التقدم ووضعه ثانیة علی الأرض والصبر مدّة أخری وهکذا حتی یرد ذاک الموضع الموحش(1).
***
ص:225
ص:226
فَاللّهَ اللّهَ عِبَادَ اللّهِ! فَإِنَّ الدُّنْیَا مَاضِیَةٌ بِکُمْ عَلَی سَنَن، وأَنْتُمْ والسَّاعَةُ فِی قَرَن. وکَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا، وأَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا، ووَقَفَتْ بِکُمْ عَلَی صِرَاطِهَا. وکَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلاَزِلِهَا، وأَنَاخَتْ بِکَلاکِلِهَا، وانْصَرَمَتِ الدُّنْیَا بِأَهْلِهَا، وأَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا، فَکَانَتْ کَیَوْم مَضَی، أَوشَهْر انْقَضَی، وصَارَ جَدِیدُهَا رَثّاً، وسَمِینُهَا غَثًّا. فِی مَوْقِف ضَنْکِ الْمَقَامِ، وأُمُور مُشْتَبِهَة عِظَام، ونَار شَدِید کَلَبُهَا، عَال لَجَبُهَا، سَاطِع لَهَبُهَا، مُتَغَیِّظ زَفِیرُهَا، مُتَأَجِّج سَعِیرُهَا، بَعِید خُمُودُهَا، ذَاک وُقُودُهَا، مَخُوف وَعِیدُهَا، عَم قَرَارُهَا، مُظْلِمَة أَقْطَارُهَا، حَامِیَة قُدُورُهَا، فَظیعَة أُمُورُهَا. (وَسِیقَ الَّذِینَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَی الْجَنَّةِ زُمَراً) قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ، وانْقَطَعَ الْعِتَابُ؛ وَزُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ، واطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ، ورَضُوا الْمَثْوَی والْقَرَارَ. الَّذِینَ کَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِی الدُّنْیَا زَاکِیَةً، وأَعْیُنُهُمْ بَاکِیَةً، وکانَ لَیْلُهُمْ فِی دُنْیَاهُمْ نَهَاراً، تَخَشُّعاً واسْتِغْفَاراً؛ وکَانَ نَهَارُهُمْ لَیْلاً، تَوَحُّشاً وانْقِطَاعاً. فَجَعَلَ اللّهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ مَآباً، والْجَزَاءَ ثَوَاباً، (وکانُوا أَحَقَّ بِهَا وأَهْلَهَا) فِی مُلْک دَائِم، ونَعِیم قَائِم.
ما أن فرغ الإمام علیه السلام من التذکیر بالموت وشدائده حتی حث الجمیع علی الاستعداد والتأهب لهذا السفر الخطیر والمرعب فتحدث بعبارات رائعة عن بدایة القیامة واختتام الدنیا فقال:
«فَاللّهَ اللّهَ عِبَادَ اللّهِ! فَإِنَّ الدُّنْیَا مَاضِیَةٌ بِکُمْ عَلَی
ص:227
سَنَن(1) ، وأَنْتُمْ والسَّاعَةُ فِی قَرَن(2). وکَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا(3) ، وأَزِفَتْ(4) بِأَفْرَاطِهَا(5) ، ووَقَفَتْ بِکُمْ عَلَی صِرَاطِهَا. وکَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلازِلِهَا، وأَنَاخَتْ(6) بِکَلاَکِلِهَا(7)».
العبارة:
«وأَنْتُمْ والسَّاعَةُ فِی قَرَن» وبالإلتفات إلی أنّ القرن هو الحبل الذی یربط به البعیران، إشارة إلی أنّ المسافة بینکم وبین القیامة لیست بعیدة، کما یمکن أن تکون العبارة إشارة إلی القیامة الصغری أی الموت أو القیامة الکبری بمعنی یوم القیامة، ذلک لأنّ عمر الدنیا مهما کان فهوقلیل ولابدّ أن تحل القیامة، والفارق بین العبارة
«وکَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا» والعبارة
«وأَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا» هو أنّه قال فی العبارة الأُولی قد جاءت علامات الآخرة بینما تطرق فی العبارة الأخری إلی توفر مقدماتها.
وذهب البعض إلی أنّ العبارة
«وأَنَاخَتْ بِکَلاَکِلِهَا» إشارة إلی مصاعب القیامة، فالبعیر حین ینام ویلصق صدره بالأرض یقذف بثقله علی الأرض، لکن لا یبعد أن تکون إشارة قضیة الموت والقیامة کالناقة التی تنام علی عتبة أبواب الجمیع. کنایة عن أنّ أحداً؛ لا ینجو منه.
ثم قال بشأن أوضاع الدنیا:
«وانْصَرَمَتِ الدُّنْیَا بِأَهْلِهَا، وأَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا(8) ، فَکَانَتْ کَیَوْم مَضَی أَوشَهْر انْقَضَی، وصَارَ جَدِیدُهَا رَثّاً(9) ، وسَمِینُهَا غَثّاً(10)».
نعم، فأولئک الذین کانت أعمارهم قصیرة کأنّها بمثابة یوم ومن عمّر طویلاً
ص:228
فکأنّه عاش شهراً.
العبارة:
«أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا» إشارة إلی أنّ الدنیا أخذتهم مدّة بأحضانها ثم رمتهم إلی الموت وتشیر العبارات
«صَارَ جَدِیدُهَا رَثّاً، وسَمِینُهَا غَثًّا» إشارة إلی تقلب جمیع نعم الدنیا فالجدید یصبح قدیماً ویزول والسمان یضعفون ویودعون هذا العالم.
ثم واصل علیه السلام کلامه عن وضع الإنسان فی نهایة الدنیا لیخوض فی مواقف القیامة وکان هنا کلام مقدر وربّما لم یورد السید الرضی بعض العبارات علی طریقته فی الاقتطاف لیصف العصاة الظلمة حین یردون المحشر ویرون ذلک المشهد المرعب فقال:
«فِی مَوْقِف ضَنْکِ(1) الْمَقَامِ، وأُمُور مُشْتَبِهَة عِظَام، ونَار شَدِید کَلَبُهَا(2) ، عَال لَجَبُهَا(3) ، سَاطِع لَهَبُهَا، مُتَغَیِّظ زَفِیرُهَا، مُتَأَجِّج(4) سَعِیرُهَا، بَعِید خُمُودُهَا، ذَاک(5) وُقُودُهَا، مَخُوف وَعِیدُهَا، عَم(6) قَرَارُهَا، مُظْلِمَة أَقْطَارُهَا، حَامِیَة قُدُورُهَا، فَظیعَة أُمُورُهَا».
یشیر التعبیر بالموقف إلی مشهد القیامة أو مشهد جهنّم، بقرینة الصفة التی جاءت بعد ذلک وجدیر ذکره أنّ الإمام علیه السلام بیّن بهذه العبارات والصفات الاثنتی عشرة التی وصف بها نار جهنم جمیع هذه الاعجازات الإلهیّة بدقّة متناهیة وفصاحة تامة بحیث یقضّ مضاجع الآثمین.
النار المحرقة والخطیرة، النار الشدیدة اللهیب والتی تتداعی منها تلک الأصوات الرهیبة بفعل ما یحدث فیها من انفجارات، فهی لا تخمد أبداً ودخانها کثیف وقاتل تلتهم کلّ ما حولها بحیث تحیل النهار الواضح إلی ظلمة مطلقة.
ص:229
فالإمام علیه السلام یشیر إلی هذه الصفات وکأنّه یراها بأُم عینیه خلف حجب الغیب.
ثم خاض علیه السلام فی أوضاع أهل الجنّة فرسم لها صورة دقیقة بما یؤجج نیراناً من الشوق فی قلوب المؤمنین فقال مستشهداً بالآیة الکریمة: ««وَسِیقَ الَّذِینَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَی الْجَنَّةِ زُمَراً(1)»
:قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ، وَانْقَطَعَ الْعِتَابُ؛ وزُحْزِحُوا(2) عَنِ النَّارِ، واطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ، ورَضُوا الْمَثْوَی والْقَرَارَ».
حیث أشار الإمام علیه السلام بهذه العبارة القصیرة إلی خمسة امتیازات عظیمة لهذه الطائفة الورعة من أصحاب الجنّة والتی یمکن خلاصتها فی السکینة والطمأنینة المطلقة حیث الأمان من العذاب وغیاب العتاب وابتعاد عن النار والاستقرار التام فی الجنّة والرضا بهذه العاقبة.
آنذاک خاض الإمام علیه السلام فی شرح جانب من أعمال هذه الفئة فقال:
«الَّذِینَ کَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِی الدُّنْیَا زَاکِیَةً، وأَعْیُنُهُمْ بَاکِیَةً، وکانَ لَیْلُهُمْ فِی دُنْیَاهُمْ نَهَاراً، تَخَشُّعاً واسْتِغْفَاراً؛ وکَانَ نَهَارُهُمْ لَیْلاً، تَوَحُّشاً وانْقِطَاعاً».
حیث رسم الإمام علیه السلام بهذه الصفات الأربع مقامهم الرفیع بأجمل الصور لیعتبره العنصر الذی جعلهم من أصحاب الجنّة.
فمن جانب کانت أعمالهم فی الدنیا طاهرة ونقیة عن الریاء والعجب والفخر، وکانت أعینهم باکیة من خشیة اللّه وعلی مصاب المظلومین من عباد اللّه، ومن جانب آخر کانوا ینقطعون فی اللیل للتهجد والعبادة والخشوع والخضوع والاستغفار کما کان نهارهم لیلاً بسبب ابتعادهم عن أهل الدنیا والتنازع علی المتع المادیّة فلا یعیشون سوی الانقطاع إلی اللّه، نعم هذه هی صفات أصحاب الجنّة من ذوی المقامات الرفیعة والسعداء من أصحاب النجاة فاستحقوا بذلک تلک الدرجات، ومن هنا اختتم الإمام علیه السلام کلامه بالقول:
«فَجَعَلَ اللّهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ مَآباً، والْجَزَاءَ ثَوَاباً ، «وکانُوا
ص:230
أَحَقَّ بِهَا وأَهْلَهَا» (1)
فِی مُلْک دَائِم، ونَعِیم قَائِم».
وعلی هذا الضوء فقد أشار الإمام علیه السلام إلی أهلیتهم واستعدادهم بالإضافة إلی أجرهم وثوابهم العظیم، فقد حاربوا هوی أنفسهم مدّة قلیلة وأثبتوا أهلیتهم ورفعة مقامهم من خلال عبادتهم لربهم وخشیتهم منه وسهرهم اللیالی بالعبادة وإخلاصهم للّه تعالی فأفاض اللّه الجواد الکریم علیهم عظیم أجره وثوابه الذی یفوق تلک الأعمال والذی لا یعرف من معنی للزوال والفناء.
***
ص:231
ص:232
فَارْعَوْا عِبَادَ اللّهِمَا بِرِعَایَتِهِ یَفُوزُ فَائِزُکُمْ، وبِإِضَاعَتِهِ یَخْسَرُ مُبْطِلُکُمْ.
وبَادِرُوا آجَالَکُمْ بِأَعْمَالِکُمْ؛ فَإِنَّکُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ، ومَدِینُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ. وکَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِکُمُ الْمَخُوفُ، فَلاَ رَجْعَةً تَنَالُونَ، وَلَا عَثْرَةً تُقَالُونَ.
اسْتَعْمَلَنَا اللّهُ وإِیَّاکُمْ بِطَاعَتِهِ وطَاعَةِ رَسُولِهِ، وعَفَا عَنَّا وعَنْکُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ.
تابع الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة فی بیانه لمصیر الطالحین والصالحین حین الموت وفی القیامة، مطلباً یؤدّی إلی النجاة والتوفیق حین الموت والعرض علی اللّه فقال:
«فَارْعَوْا عِبَادَ اللّهِ مَا بِرِعَایَتِهِ یَفُوزُ فَائِزُکُمْ، وبِإِضَاعَتِهِ یَخْسَرُ مُبْطِلُکُمْ(1)».
من الواضح أنّ عبارة الإمام علیه السلام البلیغة هذه إشارة إلی التقوی والعمل الصالح الذی یدعو إلی الفلاح بینما یدعو التولی عنه إلی الفشل والخسران کما صرح القرآن الکریم بهذا الشأن قائلاً: «وَمَنْ یُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَیَخْشَ اللّهَ وَیَتَّقِیهِ فَأُوْلئِکَ هُمُ الْفَائِزُونَ»(2).
ثم واصل کلامه فی الحدیث عن قصر عمر الإنسان وذمّ التعویل علی ما بقی منه
ص:233
والإبهام الذی یحیط بلحظة الموت فدعی الجمیع لادّخار العمل الصالح والمسارعة للخیرات فقال:
«وبَادِرُوا آجَالَکُمْ بِأَعْمَالِکُمْ؛ فَإِنَّکُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ، ومَدِینُونَ(1) بِمَا قَدَّمْتُمْ».
یا له من تعبیر رائع (التعبیر بالرهن والدین) بالنسبة للذنوب السالفة وکأنّ الذنوب تطوق عنق الإنسان کدین لیکون بمنزلة المرهون بکلّ کیانه إزاء هذا الدین فلا ینفک عنه ما لم یتب ویبادر إلی تلافی ما فرط منه بالعمل الصالح، الأمر الذی أکّده القرآن الکریم: «کُلُّ نَفْس بِمَا کَسَبَتْ رَهِینَةٌ»(2).
ورد فی الحدیث النبوی الشریف (الخطبة الشعبانیّة فی أهمیّة شهر رمضان):
«أَیُّهَا النّاسُ إنَّ أَنْفُسَکُمْ مَرْهُونَةُ بِأَعْمالِکُمْ فَفُکُّوها بِاسْتِغْفارِکُمْ»(3).
ثم حذر الجمیع فقال:
«وکَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِکُمُ الْمَخُوفُ، فَلاَ رَجْعَةً تَنَالُونَ، وَلَا عَثْرَةً تُقَالُونَ(4)».
فالحقیقة هی أنّ الإمام علیه السلام یشیر إلی هذه النقطة وهی أنّ الموت یمکن أن یأتی الإنسان فی کلّ حادثة لا سیما أننا نری موت الفجأة أثر السکتة القلبیّة أو سائر حوادث الموت الذی لا عودة فیه والتی تعجز أمامه جمیع الأسباب الظاهریّة، ثم اختتم الإمام علیه السلام هذا الجانب من الخطبة بدعاء قصیر وجامع فقال:
«اسْتَعْمَلَنَا اللّهُ وإِیَّاکُمْ بِطَاعَتِهِ وطَاعَةِ رَسُولِهِ، وعَفَا عَنَّا وعَنْکُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ».
***
ص:234
إلْزَمُوا الأَرْضَ، واصْبِرُوا عَلَی الْبَلاَءِ. وَلَا تُحَرِّکُوا بِأَیْدِیکُمْ وسُیُوفِکُمْ فِی هَوَی أَلْسِنَتِکُمْ، وَلَا تَسْتَعْجِلُوا بِما لَمْ یُعَجِّلْهُ اللّهُ لَکُمْ. فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْکُمْ عَلَی فِرَاشِهِ وهُوعَلَی مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وحَقِّ رَسُولِهِ وأَهْلِ بَیْتِهِ مَاتَ شَهِیداً، ووَقَعَ أَجْرُهُ عَلَی اللّهِ، واسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَی مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ، وقَامَتِ النِّیَّةُ مَقَامَ إِصْلاَتِهِ لِسَیْفِهِ؛ فاِنَّ لِکُلِّ شَیء مُدَّةً وأَجَلاً.
خاطب الإمام علیه السلام فی القسم الأخیر من هذه الخطبة أولئک الذین یتطلعون إلی الشهادة بفارغ الصبرودون تروٍ ویتعجلون فی مواجهة العدو بعیداً عن تخطیط الإمام علیه السلام فقال:
«إلْزَمُوا(1) الأَرْضَ، واصْبِرُوا عَلَی الْبَلاَءِ. وَلَا تُحَرِّکُوا بِأَیْدِیکُمْ وسُیُوفِکُمْ فِی هَوَی أَلْسِنَتِکُمْ، وَلَا تَسْتَعْجِلُوا بِما لَمْ یُعَجِّلْهُ اللّهُ لَکُمْ».
فکما أنّ هنالک من یتهرب من الجهاد فی سبیل اللّه، هنالک من یتعجل ویبغی الشهادة قبیل أوانها، ورغم أنّ نیّات هؤلاء الأفراد مقدسة لکن الأعمال التی لا تخضع للتخطیط وتسبق أوانها تنطوی علی العدید من الأخطاء والانعکاسات السلبیّة.
ومن هنا نهی الإمام علیه السلام عن مثل هذه الأفعال ثم قال بصیغة دلیل لما ذکر:
«فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْکُمْ عَلَی فِرَاشِهِ وهُوعَلَی مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وحَقِّ رَسُولِهِ وأَهْلِ بَیْتِهِ مَاتَ
ص:235
شَهِیداً، ووَقَعَ أَجْرُهُ عَلَی اللّهِ، واسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَی مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ، وقَامَتِ النِّیَّةُ مَقَامَ إِصْلاَتِهِ(1) لِسَیْفِهِ».
واختتمها بالعبارة:
«فاِنَّ لِکُلِّ شَیء مُدَّةً وأَجَلاً».
وتبدو هذه العبارة مجدیة فی کلّ عصر وزمان وتشکل رداً حاسماً علی المتسرعین من الأفراد من ذوی النیات الطاهرة الذین ربّما یعشقون الجهاد والشهادة لکنهم لا یمیزون الوقت المناسب من غیر المناسب فهم یتحرقون علی الدوام ویمارسون بعض الضغوط علی زعامتهم إلّاأنّ الزعیم الحکیم من لا یستجیب للضغوط ولا یتعجل النتائج، لکنه یبشرهم بأنّ اللّه سیثیبهم علی تلک النیات إن کانوا صادقین فی دعواهم وإیمانهم بالمبدأ والمعاد والنّبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام فسیحصلون لا شک علی ثواب المجاهدین فی سبل اللّه والشهداء ولا یصدق هذا الکلام علی الجهاد والشهادة فحسب بل یشمل جمیع أفعال الخیر التی ینبغی ممارستها فی وقتها المناسب، وقد وردت مثل هذه العبارة فی الخطبة الخامسة من نهج البلاغة بتعبیر آخر إذ قال:
«ومُجْتَنِی الثَّمَرَةِ لِغَیْرِ وَقْت ایناعِها کَالزِّارعِ بِغَیْرِ أَرْضِهِ».
ویصدق هذا الکلام علی عصرنا وزماننا إذ إنّ هنالک طائفة تسعی لمواجهة المنافقین فی الداخل والأعداء فی الخارج دون التطلع إلی الفرصة المناسبة والتخطط الدقیق، أو تعیش حالة من الانتظار الممل لظهور الإمام المهدی علیه السلام والقتال بین یدیه والذی یقال لجمیع هؤلاء إنّ اللّه سیعطیکم أجر المجاهدین والشهداء إن صدقتم فی إیمانکم وأخلصتم فی نیّاتکم.
قد یضیق البعض ذرعاً فی المجتمعات التی تعیش حالة من المعاناة بفعل العدو
ص:236
الداخلی أو الخارجی فیعمد إلی القیام بالثورة فی غیر وقتها، الأمر الذی لا یؤدّی إلی فشل تلک الثورة فحسب بل یوقظ العدو ویسلب زمام المبادرة فی المستقبل، وهذه إحدی المعضلات التی تواجه القیادات الحکیمة.
وقد حفل تاریخ التشیع بالعدید من هذه الثورات المتعجلة عقب واقعة کربلاء والتی جوبهت بالنهی من جانب الأئمّة علیهم السلام، مع ذلک فقد التحق بها بعض من اشیاعهم المخلصین.
والقضیة المهمّة هی أنّ الثورة ضد العدوبغیة القضاء علیه تتطلب العدید من الشروط التی یسعی القائد الحکیم لتوفرها جمیعاً لتفضی الثورة إلی نتائجها المتوخاة منها.
فالقائد عادة یری ما لا یراه الفرد العادی ویتمتع بسعة افق تجعله یری ویفکر فی ما خلف هذا الواقع، والذی تفیده هذه الخطبة أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام ورغم کونه أعظم بطل ومجاهد فی الإسلام قد عانی من مثل هؤلاء الأفراد إلی جانب أولئک المتقاعسین عن الجهاد.
فقد عانی فی الواقع من افراط وتفریط هاتین الطائفتین.
فبعض الأفراد لا یکاد یسمع الآیات والروایات الواردة فی مقام الشهداء وثواب الشهادة ودعوة الناس لهذا المضمار حتی یعیشوا حالة عجیبة من عشق الشهادة، إلّا أنّ الإمام علیه السلام یریهم أفضل سبیل والذی تلخص فی نصحهم عدم الاستعجال والیقین بأنّ اللّه سیعطیهم أعظم الأجر والثواب إن صدقوا فی إیمانهم وأخلصوا فی نیّاتهم.
***
ص:237
ص:238
یَحْمَدُاللّهَ ویُثْنی عَلی نَبِیِّهِ ویُوصی بِالزُّهْدِ والتَّقْوی (1)
تتألف هذه الخطبة فی الواقع من ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: فی حمد اللّه والثناء علیه المقرون بذکر النعم وجانب من صفات الجلال والجمال، ثم الشهادة للنّبی صلی الله علیه و آله بالرسالة وتوضیح الظروف التی بعث فیها النّبی وهدایة الأمّة.
القسم الثانی: الحدیث عن التقوی وبرکاتها والوصیّة بالتمسک بهذه العروة الإلهیّة فی جمیع شؤون الحیاة.
القسم الثالث: تحذیر أصحاب الدنیا من الغرور بها والکشف عن الدنیا وعیوبها لیعتبر بذلک الآخرون.
***
ص:239
ص:240
ألْحَمْدُ للّهِ الْفَاشِی فِی الْخَلْقِ حَمْدُهُ، والْغَالِبِ جُنْدُهُ، والْمُتَعَالِی جَدُّهُ أَحْمَدُهُ عَلَی نِعَمِهِ التُّؤَامِ، وآلاَئِهِ الْعِظَامِ. الَّذِی عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا، وعَدَلَ فِی کُلِّ مَا قَضَی، وعَلِمَ مَا یَمْضِی ومَا مَضَی، مُبْتَدِعِ الْخَلاَئِقِ بِعِلْمِهِ، ومُنْشِئِهِمْ بِحُکْمِهِ، بِلاَ اقْتِدَاء وَلَا تَعْلِیم، وَلَا احْتِذَاء لِمِثَالِ صَانِع حَکِیم، وَلَا إِصَابَةِ خَطَأ، وَلَا حَضْرَةِ مَلاَ.
وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، ابْتَعَثَهُ والنَّاسُ یَضْرِبُونَ فِی غَمْرَة، ویَمُوجُونَ فِی حَیْرَة. قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَیْنِ، واسْتَغْلَقَتْ عَلَی أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّیْنِ.
استهل الإمام علیه السلام هذه الخطبة التی تعدّ من أفصح خطبه علیه السلام بحمد اللّه والثناء علیه ووصفه بثلاث صفات فقال:
«ألْحَمْدُ للّهِ الْفَاشِی(1) فِی الْخَلْقِ حَمْدُهُ، والْغَالِبِ جُنْدُهُ، والْمُتَعَالِی جَدُّهُ».
التعبیر
«الْفَاشِی فِی الْخَلْقِ حَمْدُهُ» التی تفید سعة حمد اللّه فی جمیع مخلوقاته یمکن أن تشیر إلی حمده من قِبل الأقوام المؤمنة والثناء علیه، أو إشارة إلی الحمد والثناء التی تعیشه موجودات العالم کافّة ولا سیما إزاء نعم اللّه بلسان الحال والقال فتسبح اللّه وتقدسه وتحمده، وغلبة جند اللّه تستند إلی أنّ جند اللّه تعالی لا
ص:241
یقتصرون علی ملائکته سبحانه بل کلّ ما فی العالم، ولیس لأحد مقاومته والوقوف بوجهه: «وَللّهِ جُنُودُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ»(1).
والعبارة:
«وَالْمُتَعَالِی جَدُّهُ» اقتباس من الآیة الشریفة: «وَأَنَّهُ تَعَالَی جَدُّ رَبِّنَا»(2) وبالإلتفات إلی أنّ الجَدّ هنا تعنی العظمة فإنّها إشارة لعظمة الذات الإلهیّة المقدّسة(3).
ثم رکز الإمام علیه السلام علی النعم المادیّة والمعنویّة لیحمد اللّه ویثنی علیه إزاء تلک النعم فقال:
«أَحْمَدُهُ عَلَی نِعَمِهِ التُّؤَامِ(4) ، وآلاَئِهِ الْعِظَامِ».
بالنظر إلی أنّ (تؤام) علی وزن (غلام) جمع (توأم) علی وزن (جوهر) بمعنی الأشیاء المقترنة مع بعضها فإنّها تشیر إلی النعم الإلهیّة التی تکون عادة متصلة ومتتالیة، فمثلاً نعمة اللسان هی وسیلة للتکلّم وکذلک عنصر لدفع الطعام تحت الأسنان بغیة مضغه من جانب کونه وسیلة مهمّة لابتلاع الطعام وتذوق الأطعمة وللاطلاع علی سلامة الطعام من فساده وهکذا سائر النعم التی لا تعدّ ولا تحصی، وهل یطیق الإنسان احصاء نعم اللّه وأفضاله؟
ویمکن أن تکون «آلاء» مقابل «نعم» إشارة إلی النعم المعنویّة فی مقابل النعم المادیّة، ثم خاض فی معرفة اللّه فحمده واثنی علیه وذکره بخمس صفات من شأن کلّ واحدة منها أن تکون دافعاً لحمد اللّه والثناء علیه فقال علیه السلام:
«الَّذِی عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا، وعَدَلَ فِی کُلِّ مَا قَضَی، وعَلِمَ مَا یَمْضِی ومَا مَضَی، مُبْتَدِعِ الْخَلاَئِقِ بِعِلْمِهِ، ومُنْشِئِهِمْ بِحُکْمِهِ».
فهذه الصفات الخمس التی تنطلق من سعة حلم اللّه تعالی وتنتهی بخلق الخلائق
ص:242
وابداع الکائنات تعدّ أهم صفات اللّه التی تشمل العلم والقدرة والعدالة واللطف والرحمة.
ثم أشار إلی هذه الحقیقة أن خلق اللّه تعالی دون أدنی سابقة تعلم وتجربة ومشورة فقال علیه السلام:
«بِلاَ اقْتِدَاء وَلَا تَعْلِیم، وَلَا احْتِذَاء(1) لِمِثَالِ صَانِع حَکِیم، وَلَا إِصَابَةِ خَطَإ، ولَا حَضْرَةِ مَلاَ».
فالواقع إنّ الشخص الذی یستلهم من الآخرین فی صناعته إنّما یستند إلی ذلک فی واحدة من طرق خمسة:
الأوّل: أن یقلد غیره، والثانی: أن یتعلم، والثالث: أن یری صناعة عالم غیره فیستفید منها فی تحقیق غرضه، والرابع: الاستفادة من أخطائه السابقة والخروج بتجربة، والخامس: أن یستشیر جماعة معینة ویتعاون معها، أمّا اللّه الصانع الحکیم فخلقه لا یستند إلی سابقة وغنی عن کلّ ما قیل سابقاً ومن هنا یطلق علی خلقه الابداع (الخلق دون سابقة).
وتبدو هذه المسألة فی غایة الأهمیّة إذ إنّ الإنسان مهما صنع ومهما ابدع وابتکر إنّما شاهد نماذج ذلک فی عالم الخلق؛ فمثلاً الذین اخترعوا الطائرة فممّا لا شک فیه أنّهم استفادوا واستلهموا تصمیمها من الطیور، ومن هنا کان هنالک شبه کبیر بین أنواع الطائرات وأنواع الطیور، وفی نفس الوقت وبغیة تحقیق أهدافهم علیهم أن یستفیدوا من علوم السابقین وتجاربهم ویقوموا باختباراتهم الواسعة والمتکررة لیتمکنوا من تلافی أخطائهم عن طریق الاختبار والتجربة، وعادة ما یعمدون إلی تشکیل بعض المجالس وعقد المؤتمرات والندوات لهذا الغرض والحال فإنّ الصانع الحکیم لیس بحاجة إلی أی من هذه الأمور فی خلقه الواسع والأنواع الخارجة عن الحدود من مخلوقاته.
ولما فرغ الإمام علیه السلام من حمد اللّه والثناء علیه خاض فی الشهادة للنبی صلی الله علیه و آله
ص:243
بالرسالة والأوضاع علی عهد بعثته لیشرحها بعبارات قصیرة وعظیمة المعنی ولیکشف النقاب عن مضمون تلک الدعوة فتبدو واضحة وجلیة وملموسة، فقال:
«وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ؛ ابْتَعَثَهُ والنَّاسُ یَضْرِبُونَ فِی غَمْرَة(1) ، ویَمُوجُونَ فِی حَیْرَة. قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَیْنِ(2) ، واسْتَغْلَقَتْ عَلَی أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّیْنِ(3)».
فقد استعار الإمام علیه السلام عدة تشبیهات لرسم صورة واضحة لِما کانت علیه الناس فی العصر الجاهلی؛ فقد شبههم أحیاناً بالشخص الذی وقع فی ورطة مرعبة فهو لا ینفک عن الصراخ وطلب النجدة، وأحیاناً أخری شبههم بأنّ أزِمَّهم انیطت بأیدی أفراد فاسدین مفسدین لا یقودونهم سوی إلی الهاویة، وأخیراً شبه قلوبهم بالمخازن المقفلة بحیث لم یلجها أی علم ومعرفة وفضیلة.
حقّاً، إنّ الإنسان ما لم یقف علی وضع الناس فی العصر الجاهلی من الناحیة الفکریّة والعقائدیّة والأخلاقیّة والاجتماعیّة والسیاسیّة لا یسعه إدراک عظمة النّبی صلی الله علیه و آله وعظمة الدعوة الإسلامیّة، ومن هنا یذکر الإمام علیه السلام فی العدید من خطب نهج البلاغة وبعبارات غایة فی الروعة والجمال الوضع آنذاک للأجیال الذین لم یدرکوا ذلک العصر أو أنّهم أدرکوا واقعه ولکنهم نسوه ومن ذلک ما قاله فی الخطبة الثانیة من النهج:
«أرْسَلَهُ بِالدّینِ الْمَشْهُورِ... والنّاسُ فی فِتَن انْجَزَمَ فیها جَعْلُ الدّینِ...».
ووقال علیه السلام فی الخطبة 26:
«إنّ اللّهَ بَعَثَ مُحَمّداً... وأنْتُمْ مَعْشَرُ الْعَرَب فی شَرِّ دین وفی شَرِّ دار...».
والخطبة 59:
«بَعَثَهُ والنّاسُ ضُلاّلٌ فی حیرَة وحاطِبُونَ فی فِتْنَة...».
ص:244
والخطبة 195:
«أَرْسَلَهُ وأعْلامُ الْهُدی دارِسَةٌ ومَناهِجُ الدّینِ طامِسَةٌ...».
حقّا لونظرنا إلی عبارات الإمام علیه السلام فی هذه الخطب مع بعضها البعض الآخر لتجسدت أمامنا صورة غایة فی الروعة عن الاوضاع فی العصر الجاهلی والمشاکل التی کان یعانی الناس منها آنذاک علی الصعید العقائدی والاجتماعی والأخلاقی وبالتالی سنقف علی مدی أهمیّة الإسلام والجهود التی بذلها رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی الإرتقاء بذلک المجتمع وتحویله من مجتمع جاهلی ذی تقالید متوحشة إلی مجتمع إسلامی ذی مبادیء إنسانیّة عالیّة.
***
ص:245
ص:246
عِبَادَ اللّهِ! أُوصِیکُمْ بِتَقْوَی اللّهِفَإِنَّهَا حَقُّ اللّهِ عَلَیْکُمْ، والْمُوجِبَةُ عَلَی اللّهِ حَقَّکُمْ، وأَنْ تَسْتَعِینُوا عَلَیْهَا بِاللّهِ، وتَسْتَعِینُوا بِهَا عَلَی اللّهِ: فَإِنَّ التَّقْوَی فِی الْیَوْمِ الْحِرْزُ والْجُنَّةُ، وفِی غَد الطَّرِیقُ إِلَی الْجَنَّةِ. مَسْلَکُهَا وَاضِحٌ، وسَالِکُهَا رَابِحٌ، ومُسْتَوْدَعُهَا حَافِظٌ. لَمْ تَبْرَحْ عَارِضَةً نَفْسَهَا عَلَی الاُْمَمِ الْمَاضِینَ مِنْکُمْ والْغَابِرِینَ، لِحَاجَتِهِمْ إِلَیْهَا غَداً، إِذَا أَعَادَ اللّهُ مَا أَبْدَی، وأَخَذَ مَا أَعْطَی، وسَأَلَ عَمَّا أَسْدَی. فَمَا أَقَلَّ مَنْ قَبِلَهَا، وحَمَلَهَا حَقَّ حَمْلِهَا! أُولئِکَ الأَقَلُّونَ عَدَداً، وَهُمْ أَهْلُ صِفَةِ اللّهِ سُبْحَانَهُ إِذْ یَقُولُ: (وقَلِیلٌ مِنْ عِبَادِیَ الشَّکُورُ).
یشکل هذا الجانب من خطبة الإمام علیه السلام هدفها الأصلی وما مضی فی القسم الأوّل یمثّل فی الواقع مقدمة وتمهیداً لهذا القسم، ذلک لأنّه لا موضوعیّة للحدیث عن الورع والتقوی ما لم یکن هناک إیمان باللّه وإیمان بنبوّة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فقال علیه السلام:
«عِبَادَاللّهِ! أُوصِیکُمْ بِتَقْوَی اللّهِ فَإِنَّهَا حَقُّ اللّهِ عَلَیْکُمْ، والْمُوجِبَةُ عَلَی اللّهِ حَقَّکُمْ».
وهذا التعبیر بشأن التقوی بدیع، فهو یمثل حقّ اللّه من جانب علی عباده ومن جانب آخر یجعل للعباد حقّاً علی اللّه تعالی، أمّا حقّ اللّه فدلیل ذلک أنّ نتیجة الورع والتقوی هو طاعة جمیع أوامر اللّه ونواهیه وطاعة حقّ اللّه لدی عباده، وأمّا حقّ العباد علی اللّه فکونهم یستحقون علی أثرها الأجر والثواب.
ص:247
وقد ذهب العدید من شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ التقوی هنا تعنی الطاعة التامة لأوامر اللّه تعالی، والحال أنّ التقوی هی خشیة اللّه الباطنیّة والالتزام بالمبادئ التی یکون أثرها طاعة أوامر اللّه.
فالتقوی تظهر فی مراحلها الابتدائیّة بصورة العدالة وفی مراحل أروع بصورة العصمة وکل ذلک من الصفات الباطنیّة.
والشخص الذی یستخف بالطاعة ولا یکترث للذنب هوشخص عدیم التقوی وذلک الشخص الملتزم یتعالیم الدین والعامل بها هو المتقی وتظهر آثار کلّ من الحالتین علی الأعمال.
ثم قال علیه السلام فی تحصیل هذه الجوهرة الثمینة:
«وأَنْ تَسْتَعِینُوا عَلَیْهَا بِاللّهِ، وتَسْتَعِینُوا بِهَا عَلَی اللّهِ».
نعم، فسلوک سبیل التقوی، التقوی التی تحیط بحیاة الإنسان، لیست میسرة إلّا بتوفیق اللّه، حتی أنبیاء اللّه وأولیاءَه یفوّضون أمورهم إلی اللّه ویسألونه الأخذ بأیدیهم ویقولون: «وَمَا تَوْفِیقِی إِلَّا بِاللّهِ عَلَیْهِ تَوَکَّلْتُ وَإِلَیْهِ أُنِیبُ»(1).
وورد فی الدعاء الذی ورد الحث علیه عقب زیارة الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام:
«کُلَّما وَفَّقْتَنی بِخَیْرٌ فَأنْتَ دَلیلی عَلَیْهِ وطَریقی إلَیْهِ»(2).
ثم أشار علیه السلام إلی معطیین مهمین من معطیات التقوی کدلیل علیها فقال:
«فَإِنَّ التَّقْوَی فِی الْیَوْمِ الْحِرْزُ والْجُنَّةُ».
نعم! فمعظم الحوادث المریرة الفردیّة والاجتماعیّة التی تعکر صفو حیاة الإنسان فی هذا العالم معلولة للمعصیة والخروج عن جادة العدل والانصاف؛ فالتقوی تنقذ الإنسان فی هذا العالم من السقوط فی مستنقع الذنب وعواقبه الخطیرة وتجعله یعیش حیاة هانئة مقرونة بالسکینة والسعادة وفخیر زادٍ یتزوّد به الإنسان
ص:248
هی التقوی کما تقول الآیة الشریفة: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوَی»(1).
التی تعنی دخول الجنّة والتلذذ بنعمها الخالدة، فهل هناک من جوهرة ثمینة أثمن من التقوی بحیث تحفظ الإنسان فی الدنیا وتنجیه فی الآخرة.
ثم أشار فی مواصلته لحدیثه إلی ثلاثة أمور مهمّة بشأن التقوی فقال علیه السلام فی الأمر الأوّل:
«وَفِی غَد الطَّرِیقُ إِلَی الْجَنَّةِ. مَسْلَکُهَا وَاضِحٌ، وسَالِکُهَا رَابِحٌ، ومُسْتَوْدَعُهَا حَافِظٌ».
إلّا أنّ وضوح جادة التقوی ومسلکها کونها من جانب منسجمة بصورة تامة مع فطرة الإنسان، ومن جانب آخر قد بین مسار هذه الجادة فی عالم التشریع فی الکتاب والسنّة النبویّة المطهرة.
وأمّا ربح السالک لهذا الطریق کونها تسوق المتّقین إلی الجنّة وفق الآیة القرآنیّة:
«تِلْکَ الْجَنَّةُ الَّتِی نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ کَانَ تَقِیّاً»(2) هذا من جانب، ومن جانب آخر تنقذ صاحبها فی الدنیا من الدنس والدنائة والحیاة المظلمة وتجعله سعیداً ذا عزّة لدی الجمیع، أمّا حفظها لمستودعها (إذا اعتبرنا مستودع بمعنی اسم المفعول) فسبب ذلک أنّ اللّه تعالی تعهد بمثوبة المتّقین والورعین، وعلیه فأمانة هؤلاء محفوظة لدی اللّه وملائکة اللّه حفظت أعمال المتّقین، وإن اعتبرنا مستودع بمعنی اسم المکان فإنّ موضع التقوی هو القلب الذی یحفظها بعناء ویصونها من کلّ شیء، واعتبر البعض (حافظ) بمعنی المحفوظ وعلیه یصبح معنی الجملة، المتّقون محفوظون فی ظلّ التقوی.
الأمر الثانی الذی أشار إلیه الإمام علیه السلام هی أنّ التقوی حقیقة خالدة لا تتأثر بالزمان والمکان فقال:
«لَمْ تَبْرَحْ(3) عَارِضَةً نَفْسَهَا عَلَی الاُْمَمِ الْمَاضِینَ مِنْکُمْ
ص:249
والْغَابِرِینَ(1) ، لِحَاجَتِهِمْ إِلَیْهَا غَداً، إِذَا أَعَادَ اللّهُ مَا أَبْدَی وأَخَذَ مَا أَعْطَوسَأَلَ عَمَّا أَسْدَی(2)».
نعم فالتقوی کالقصر الجمیل الفخم والهادئ الذی یدعو إلیه الجمیع والذی کان وما زال ماثلاً أمام أعین جمیع الناس وقد دعی إلیه الجمیع من جانب الکتب السماویة وأنبیاء اللّه وأولیائه، فقد صرح القرآن الکریم قائلاً: «وَلَقَدْ وَصَّیْنَا الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتَابَ مِنْ قَبْلِکُمْ وَإِیَّاکُمْ أَنِ اتَّقُوا اللّهَ»(3).
وقال الإمام علیه السلام فی الأمر الثالث:
«فَمَا أَقَلَّ مَنْ قَبِلَهَا، وحَمَلَهَا حَقَّ حَمْلِهَا! أُولئِکَ الأَقَلُّونَ عَدَداً، وَهُمْ أَهْلُ صِفَةِ اللّهِ سُبْحَانَهُ إِذْ یَقُولُ : «وقَلِیلٌ مِنْ عِبَادِیَ الشَّکُورُ»(4)».
والسؤال الذی یرد: لم کان طلاب التقوی قلائل مع ما لها من الأهمیّة؟ ولا یبدو الجواب علی هذا السؤال صعباً، ذلک لأنّ التقوی تعنی مخالفة هوی النفس ومخالفة هوی النفس لیس بالأمر الهیّن، فسبیل التقوی ینطوی علی الکثیر من المطبات والصعوبات وإن کانت عاقبته حلوة هنیئة، ذلک لأنّ جادة هوی النفس معبدة وللسائرین ولکنّ عاقبتها فی غایة الخطورة.
إنّ اللّه تعالی لما خلق الجنّة قال لجبرئیل: انظر إلیها. فلما نظر إلیها قال:
«یا ربِّ لا یَتْرُکُها أحَدٌ إِلَّا دَخَلَها» فلما حفّها بالمکاره قال: انظر إلیها. فلما نظر إلیها قال:
«یا رَبّ أخْشی أنْ لا یَدْخُلَها أَحَدٌ» ولما خلق النار قال: انظر إلیها. فلما نظر إلیها قال:
«یا رَبِّ لا یَدْخُلُها أحَدٌ» فلما حفّها بالشهوات قال: انظر إلیها، فلما نظر إلیها قال:
«یا رَبِّ أخْشی أنْ یَدْخُلَها کُلُّ أحَد»(5). فهذا الحدیث فی الواقع شرح لما ورد عن النّبی
ص:250
الأکرم صلی الله علیه و آله وعن وعلی علیه السلام:
«حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَکارِهِ وحُفَّتِ النّارُ بِالشَّهَواتِ»(1).
فَأَهْطِعُوا بِأَسْمَاعِکُمْ إِلَیْهَا، وأَلظُّوا بِجِدِّکُمْ عَلَیْهَا، واعْتَاضُوهَا مِنْ کُلِّ سَلَف خَلَفاً، ومِنْ کُلِّ مُخَالِف مُوَافِقاً. أَیْقِظُوا بِهَا نَوْمَکُمْ، واقْطَعُوا بِهَا یَوْمَکُمْ، وأَشْعِرُوهَا قُلُوبَکُمْ، وارْحَضُوا بِهَا ذُنُوبَکُمْ، ودَاوُوا بِهَا الأَسْقَامَ، وبَادِرُوا بِهَا الْحِمَامَ، واعْتَبِرُوا بِمَنْ أَضَاعَهَا، وَلَا یَعْتَبِرَنَّ بِکُمْ مَنْ أَطَاعَهَا. أَلاَ فَصُونُوهَا وتَصَوَّنُوا بِهَا، وکُونُوا عَنِ الدُّنْیَا نُزَّاهاً، وإِلَی الاْخِرَةِ وُلاَّهاً. وَلَا تَضَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ التَّقْوَی، وَلَا تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ الدُّنْیا. وَلَا تَشِیمُوا بَارِقَهَا، ولَا تَسْمَعُوا نَاطِقَهَا، وَلَا تُجِیبُوا نَاعِقَهَا وَلَا تَسْتَضِیئُوا بِإِشْرَاقِهَا، وَلَا تُفْتَنُوا بِأَعْلاَقِهَا، فَإِنَّ بَرْقَهَا خَالِبٌ، ونُطْقَهَا کاذِبٌ، وأَمْوَالَهَا مَحْرُوبَةٌ، وأَعْلاَقَهَا مَسْلُوبَةٌ. أَلَا وهِیَ الْمُتَصَدِّیَةُ الْعَنُونُ، والْجَامِحَةُ الْحَرُونُ، والْمَائِنَةُ الْخَؤُونُ، والْجَحُودُ الْکَنُودُ، والْعَنُودُ الصَّدُودُ، والْحَیُودُ الْمَیُودُ.
عَلَیْهَا، واعْتَاضُوهَا مِنْ کُلِّ سَلَف خَلَفاً، ومِنْ کُلِّ مُخَالِف مُوَافِقاً».
وکانت التقوی قد دعت إلی نفسها جمیع الناس وقد بیّنت للجمیع آثارها الطیبة والمحمودة ولذلک قال الإمام علیه السلام سارعوا إلیها بآذانکم لسماعها ثم انهضوا وجدوا واجتهدوا فی تحصیل مقدماتها فإن کانت لکم تقوی فسوف لن تحزنوا علی ما یفوتکم من حطام الدنیا واعلموا أنّ التقوی حافظتکم من مخالفیکم.
ویمکن أن تکون
«مُخالِف» فی العبارة إشارة إلی الذنوب السالفة التی تزول آثارها بالتقوی، أو المراد اعداءُ الإنسان ومخالفوه، لأنّ اللّه وعد المتّقین بالنصر والغلبة إذ قال تعالی فی کتابه العزیز: «اِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِینَ اتَّقَواْ وَالَّذِینَ هُمْ مُّحْسِنُونَ»(1)، وقال: «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ یَضُرُّکُمْ کَیْدُهُمْ شَیْئاً»(2).
ثم نصحنا بست عبارات أخری فقال:
«اَیْقِظُوا بِهَا نَوْمَکُمْ واَقْطَعُوا بِهَا یَوْمَکُمْ، وأَشْعِرُوهَا قُلُوبَکُمْ، وارْحَضُوا(3) بِهَا ذُنُوبَکُمْ، ودَاوُوا بِهَا الأَسْقَامَ».
وعبارة
«أَیْقِظُوا بِها نَوْمَکُمْ» یمکن أن تکون إشارة إلی النوم العادی، أی ینبغی فی ظلّ التقوی قضاء جانبٍ من اللیل فی العبادة والتفرغ لمناجاة اللّه تعالی:
«فی مقابل واقْطَعُوا بِها یَوْمَکُمْ» کما یُحتمل أن یکون المراد، الیقظة من نوم الغفلة بالتقوی، والعبارة
«اَشْعِرُوها قُلُوبکم» بالنظر إلی أنّ (شعار هی الثیاب الملاصقة للبدن) فیمکن أن تکون إشارة إلی تنویر القلب بالتقوی أو اجعلوا التقوی شعارکم وعلامتکم أو ایقظوا قلوبکم بالتقوی (حیث إنّ أشعروا من مادة شعور).
والعبارة:
«دَاوُوا بِهَا الأَسْقَامَ» إشارة إلی الأسقام الباطنیّة التی تعالج بواسطة التقوی.
وقال فی العبارة التاسعة حتی الثانیة عشرة:
«وبَادِرُوا بِهَا الْحِمَامَ(4) ، وَاعْتَبِرُوا
ص:252
بِمَنْ أَضَاعَهَا، وَلَا یَعْتَبِرَنَّ بِکُمْ مَنْ أَطَاعَهَا. أَلاَ فَصُونُوهَا وتَصَوَّنُوا(1) بِها».
وقد جاء فی القرآن الکریم قوله تعالی: «سَابِقُوا إِلَی مَغْفِرَة مِّنْ رَّبِّکُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا کَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ».(2) وقال تعالی فی موضع آخر: «وَلِبَاسُ التَّقْوَی ذَلِکَ خَیْرٌ»(3).
والعبارة
«واعتبروا...» إشارة إلی أنّ عاقبة عدم التقوی واضحة لکم فی هذه الحیاة الدنیا وترونها بأُم أعینکم کما تقرأونها فی التاریخ بشأن الأفراد والمجتمعات التی سارت إلی ذلک المصیر المشؤوم والأسود فما علیکم إلّاالاعتبار بهم ولا تکونوا ممن یعتبر بهم الآخرون، وقد أشار القرآن فی قصة یوسف وإخوته وامرأة عزیز مصر إلی النتائج السلبیّة التی عمت البعض بسبب انعدام التقوی والبرکات التی ساقتها التقوی لیوسف فقال تعالی: «لَقَدْ کَانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُِّوْلِی الأَلْبَابِ»(4).
ثم أشار الإمام علیه السلام إلی عواقب الانغماس فی الدنیا التی یفرزها انعدام التقوی فحذر من هذه الدنیا الغرور بتسع عبارات قال فیها:
«وکُونُوا عَنِ الدُّنْیَا نُزَّاهاً(5) ، وإِلَی الاْخِرَةِ وُلاَّهاً(6). وَلَا تَضَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ التَّقْوَی، وَلَا تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ الدُّنْیا. وَلَا تَشِیمُوا(7) بَارِقَهَا(8) ولَا تَسْمَعُوا نَاطِقَهَا، وَلَا تُجِیبُوا نَاعِقَهَا(9). وَلَا تَسْتَضِیئُوا بِإِشْرَاقِهَا،
ص:253
وَلَا تُفْتَنُو بِأَعْلاَقِهَا(1)».
ففی الواقع إنّ الإمام علیه السلام لفت الانتباه فی هذه العبارات العمیقة المعنی إلی طرق نفوذ الدنیا إلی فکر الإنسان وروحه لیحذر منها جمیعاً وضرورة الإبتعاد عن زخارف الدنیا وزبرجها والتوجه إلی الآخرة واسناد المتّقین وعدم الإکتراث لمقامات أصحاب الدنیا وغض الطرف عن الأموال والثروات والقصور والزینة الظاهریّة وصم الاسماع عن وساوس المتهافتین علی الدنیا وتنحیتهم جانباً وعدم الانخداع بمظاهر الدنیا البراقة والانقطاع عن جمیع الأمور التی تذل صاحبها.
والحقّ أن کلّ من امتثل هذه التحذیرات وسار علی الدرب سوف لن یقع فی شباک الشیطان وفخ طلاب الدنیا.
ثم تطرق علیه السلام إلی أدلة تحذیراته السابقة فقال:
«فَإِنَّ بَرْقَهَا خَالِبٌ(2) ، ونُطْقَهَا کاذِبٌ، وأَمْوَالَهَا مَحْرُوبَةٌ(3) ، وأَعْلاَقَهَا مَسْلُوبَةٌ».
فالواقع إنّ کلّ دلیل من هذه الأدلة الأربعة إشارة إلی جانب من التعبیرات السابقة:
فبرق الدنیا خادع لا حقیقة له ولیس وراءَه مظر وکلامها کاذب بدلیل أنّها لم تف لأحد من الناس فی أی وقت من الأوقات، وأموالها منهوبة من قِبل أصحاب الدنیا ینهبونها من غیرهم، وکونها مسروقة من غیرهم فی أنّ کلّ شخص یمتلک مالاً نفیساً علی الظاهر یجعل صاحب الدنیا یتطلع إلیه فیسلبه إیّاه فی الوقت المناسب.
ثم عاد الإمام علیه السلام ثانیة لیحذر مخاطبیه من الوقوع فی ورطة الدنیا من خلال ذکره لست رذائل من رذائلها فقال علیه السلام:
«أَلَا وهِیَ الْمُتَصَدِّیَةُ(4) الْعَنُونُ(5) ، والْجَامِحَةُ(6)
ص:254
الْحَرُونُ(1) ، والْمَائِنَةُ(2) الْخَؤُونُ(3) ، والْجَحُودُ الْکَنُودُ(4) ، والْعَنُودُ الصَّدُودُ(5) ، والْحَیُودُ(6) الْمَیُودُ(7)».
***
ص:255
ص:256
حَالُهَا انْتِقَالٌ، ووَطْأَتُهَا زِلْزَالٌ، وعِزُّهَا ذُلٌّ، وَجِدُّهَا هَزْلٌ، وعُلْوُهَا سُفْلٌ. دَارُ حَرَب وسَلَب، ونَهْب وعَطَب. أَهْلُهَا عَلَی سَاق وسِیَاق، ولَحَاق وفِرَاق. قَدْ تَحَیَّرَتْ مَذَاهِبُهَا، وأَعْجَزَتْ مَهَارِبُهَا، وخَابَتْ مَطَالِبُهَا؛ فَأَسْلَمَتْهُمُ الْمَعَاقِلُ، ولَفَظَتْهُمُ الْمَنَازِلُ، وأَعْیَتْهُمُ الْمَحَاوِلُ: فَمِنْ نَاج مَعْقُور، ولَحْم مَجْزُور، وشِلْومَذْبُوح، ودَم مَسْفُوح، وعَاضٍّ عَلَی یَدَیْهِ، وصَافِق بِکَفَّیْهِ، ومُرْتَفِق بِخَدَّیْهِ، وزَار عَلَی رَأْیِهِ، ورَاجِع عَنْ عَزْمِهِ؛ وقَدْ أَدْبَرَتِ الْحِیلَةُ، وأَقْبَلَتِ الْغِیلَةُ، (وَلَاتَ حِینَ مَنَاص) هَیْهَاتَ هَیْهَاتَ! قَدْ فَاتَ مَا فَاتَ، وذَهَبَ مَا ذَهَبَ، ومَضَتِ الدُّنْیَا لِحَالِ بَالِهَا، (فَمَا بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّمَآءُ والأَرْضُ ومَا کَانُوا مُنْظَرِینَ).
بالنظر إلی أنّ حبّ الدنیا والتعلق الشدید بالأمور المادیّة هوأساس أنواع الذنوب والمعاصی والجنایات، وبالنظر إلی أنّ عصر الإمام علیه السلام شهد بسبب الفتوحات الإسلامیّة سعة الثروات التی عمّت البلاد الإسلامیّة وانغمس بعض الناس فی حالة من الدعة والرفاهیة وبطر النعمة، فقد نهی الإمام علیه السلام فی خطبته الناس عن التکالب علی الدنیا والانغماس فی لذاتها فکشف بعبارات قلّما یری نظیرها آثار السوء للتعلق بهذه الدنیا، ولذلک أکّد الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة بخمس عبارات قصیرة علی تفاهة النعم المادیّة فقال:
«حَالُهَا انْتِقَالٌ، ووَطْأَتُهَا زِلْزَالٌ، وعِزُّهَا ذُلٌّ،
ص:257
وَجِدُّهَا هَزْلٌ، وعُلْوُهَا سُفْلٌ(1)».
أمّا تغیر حال الدنیا فلیس بخافٍ علی أحد؛ فما أکثر أولئک الذین تربعوا علی عرش السلطة لیلاً ویفکرون فی الاستیلاء علی البلدان، فلم یطلع علیهم الفجر حتی زالت عروشهم وفارقوا الحیاة فبین لحظة وأخری تتهاوی عروش الأقویاء ویحل محلهم الضعفاء فیصبح أعزّة الأمس أذلّة الیوم.
وأمّا زلزلة وطأتها وخطواتها فذلک لأنّ مقر الإنسان فی هذا العالم متزلزل علی الدوام، فعلی أی شیء إستند من قبیل المال والثروة والفتوة والصحة والسلامة فهی متقلبة ولیست ثابتة، وأمّا أنّ عزّتها عین ذلّتها، فقد فسّر ذلک بعض الشرّاح أنّ العزّة المادیّة واللامشروعة سبب الذلّة فی الآخرة، وقال البعض الآخر إنّه سبب الإبتعاد عن اللّه فی هذه الدنیا؛ إلّاأنّ التفسیر الأنسب هو أنّ العزّة المادیّة تؤدّی إلی التعلق الشدید وهو التعلق الذی یسوقه إلی الذلّة ویجعله یعیش الخنوع مقابل کائن من کان بغیة حفظها، وأمّا أنّ جدّها هزل فسبب ذلک التقلب وسرعة الزوال وعدم الاستقرار، وأمّا علوها تسافل فلأنّ الأفراد من ذوی المقامات الرفیعة یخضعون للعدید من المطبات بغیة حفظ مناصبهم ومواقعهم ویستعینون من أجل حفظ تلک القدرة بالأفراد الفاسدین والطالحین.
ثم أکمل هذا الموضوع بذکره لصفتین أُخریین فی وصف الدنیا فقال:
«دَارُ حَرَب وسَلَب، ونَهْب وعَطَب. أَهْلُهَا عَلَی سَاق وسِیَاق(2) ، ولَحَاق وفِرَاق(3)».
المفردات
«حَرَب وسَلَب، ونَهْب» وإن کانت جمیعها تشیر إلی معنی أخذ أموال الآخرین؛ لکن یبدو هنالک اختلاف دقیق بینها،
«حَرَب» أخذ جمیع أمواله لأنّها
ص:258
فسّرت لغویاً بهذه العبارة
«اَخْذُ جَمیعِ مالِهِ».
لکن
«سلب» غالباً فسّرت بمعنی أخذ ثیاب الأفراد وما فی أیدیهم ولذلک ورد فی الحدیث:
«مَنْ قَتَلَ قَتیلاً فَلَهُ سَلَبُهُ»(1).
وأمّا
«نَهْب» التی وردت لغویاً بمعنی الغنیمة فربّما تکون إشارة إلی الاغتنام الجماعی، وعلیه یصبح معنی کلام الإمام علیه السلام أنّ الدنیا تسلب الإنسان جمیع وجوده أو جانباً منه أو قد تأتی جماعة من السلّابین لیتحکموا بالأمور فیسلبوا الناس أموالهم.
نعم، فالدنیا لو نظرنا إلیها بإمعان لوجدناها میداناً لصراع السلّابین والناهبین الذین یمارسون فیها السلب والنهب بصور مختلفة وهذا العمل لا ینتهی سوی إلی الهلکة والزوال، والحال یستعد جمیع الناس إلی السفر نحو العالم الآخر ولیس هنالک من یعلم بما یصیبه غداً، ثم أشار الإمام علیه السلام بثلاث عبارات أخری إلی جانب آخر من مصائب الدنیا وعیوبها فقال:
«قَدْ تَحَیَّرَتْ مَذَاهِبُهَا، وأَعْجَزَتْ مَهَارِبُهَا(2) ، وخَابَتْ مَطَالِبُهَا».
إشارة إلی أنّ الإنسان الیقظ کلّما حاول النجاة من مصائبها لم یکن الأمر علیه سهلاً فتشخیص سبیل الفرار منها یبدو متعذراً والأعقد منه الظفر بموضع الهروب.
وقد جربنا هذه المسألة عند الأفراد الذین یتعلقون بالدنیا ثم یصحون من غفلتهم وینوون الهروب فإنّ العدید من المشاکل تعرقل حرکتهم وعلیهم بذل قصاری جهدهم بغیة الوصول إلی سبیل الخلاص، ثم أشار علیه السلام إلی مصیر أصحاب الدنیا حین یقفون علی أعتاب الموت فقال:
«فَأَسْلَمَتْهُمُ الْمَعَاقِلُ(3) ، ولَفَظَتْهُمُ(4) الْمَنَازِلُ، وأَعْیَتْهُمُ الْمَحَاوِلُ(5)».
ص:259
نعم! حین یطفح بهم الکیل ویتخلی عنهم کلّ شیء ویجعلهم وحیدین أمام الحوادث فلا یسع أقوی الأقویاء الدفاع عنهم حیث النتائج العکسیة التی تنتهی بهم إلی الموت وحالهم کما یضرب به المثل: «إذا حل الموت أعیی الطبیب».
وبالتالی سوف لن یکون مصیر من اغتروا بالدنیا إلّاکما قال الإمام علیه السلام::
«فَمِنْ نَاج مَعْقُور(1) ، ولَحْم مَجْزُور(2) ، وشِلْو(3) مَذْبُوح، ودَم مَسْفُوح(4) ، وعَاضٍّ(5) عَلَی یَدَیْهِ، وصَافِق(6) بِکَفَّیْهِ، ومُرْتَفِق(7) بِخَدَّیْهِ(8) ، وزَار(9) عَلَی رَأْیِهِ، ورَاجِع عَنْ عَزْمِهِ».
فقد بین الإمام علیه السلام عاقبة ومصیر المغرورین بالدنیا فالصور التسع الواردة فی الفقرة المذکورة لا تُبقی مجالاً لما هو أفصح وأبلغ وأدق منها فهذه الأصناف التسعة یُشعر کلّ منها بنوع من ضربات الدنیا التی تهز کیان المغرروین بها والقدر الجامع بینهم جمیعاً مصیرهم البؤس والشقاء والحسرة والندم؛ سواء أولئک الذی تلقّوا ضربات ثقیلة وسیقوا نحو الموت أو أولئک الذین بقوا ولم تعدّ أمامهم سوی الحسرة.
وقد عکس التاریخ نماذج کثیرة لکلّ من هذه الأصناف التسعة ولعل الکثیر منّا
ص:260
قد رآها خلال مدّة عمره القصیرة.
ثم اختتم الخطبة بالإشارة إلی هذه الحقیقة أنّه حین حلول الحوادث الشاقة والموت الحتمی تغلق جمیع السبل فقال:
«وقَدْ أَدْبَرَتِ الْحِیلَةُ، وأَقْبَلَتِ الْغِیلَةُ(1) ، «وَلَاتَ(2) حِینَ مَنَاص(3)»».
وأضاف علیه السلام:
«هَیْهَاتَ هَیْهَاتَ! قَدْ فَاتَ مَا فَاتَ، وذَهَبَ مَا ذَهَبَ، ومَضَتِ الدُّنْیَا لِحَالِ بَالِهَا (4) ، «فَما بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّمَآءُ والأَرْضُ ومَا کَانُوا مُنْظَرِینَ»».
نعم! فأولئک الذی رکبوا یوماً موجة الغرور وعاشوا فی تلک القصور الفارهة وضنوا أنفسهم من امراء الأرض والسماء لم یجدوا بداً حین أتاهم القضاء ونزل بهم المقدور سوی الاستسلام بکلّ ذلّة ومغادرة الدنیا وکأنّهم لم یکونوا فیها، فلم تبکهم عینٌ ولم یصدع علیهم خاطر، ثم واصلت الدنیا من بعدهم مسیرتها وأعقبهم مجیئ الأقوام والأمم المقتدرة والقویة الذین حلوا وفنوا فطواهم غبار النسیان ومحوا من صفحة التاریخ.
والعبارة: «وَلَاتَ حِینَ مَنَاص» المقتبسة من القرآن المجید(5) أوردها الإمام علیه السلام بشأن طائفة من الأقوام السابقة التی عاشت غرور الاختلاف وظنت الخلود فی الحیاة الدنیا وحین حلّ بها عذاب اللّه تعالت أصواتها طالبة النجدة إلّاأنّ وقت النجاة قد ولّی ومضی.
والعبارة: «فَمَا بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ» آیة قرآنیّة أخری(6) أشارت إلی حال الفراعنة حین غرقوا جمیعاً فی البحر وخلّفوا تلک القصور والعیون والنعم للآخرین وغادروها دون أن یبکیهم أحد.
ص:261
ولعلّ التعبیر بعدم بکاء السماء علیهم والأرض کنایة عن حقارة ودناءة قرنائهم وأصحابهم فی الحیاة الدنیا، ذلک لأنّ المعروف عند العرب أنّهم حین یریدون الإشارة إلی علو منزلة شخص بعد أن فقدوه یقولون: لقد بکته السماوات والأرض وأظلم لفقده الشمس والقمر.
کما قیل إنّه قد یکون المراد من بکاء أهل السماء والأرض ذلک لأنّ الملائکة أحیاناً تبکی علی المؤمنین والمقرّبین من اللّه تعالی، بینما لا تبکی علی الظلمة والجبارین.
***
ص:262
تُسَمّی الْقاصِعَةُ
وهِیَ تَتَضَمَّنُ ذَمَّ إبلیسَ لَعَنَهُ اللّهُ، عَلَی اسْتِکْبارِهِ وتَرْکِه السُّجُودَ لاِدَمَ علیه السلام، وأنَّه أوّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْعَصَبیَّةَ وتَبِعَ الْحَمِیَّةَ، وتَحْذیرَ النَاسِ مِنْ سُلُوکِ طَریقَتِهِ (1)
قیل فی شأن هذه الخطبة أنّ أهل الکوفة عاشوا حالة کبیرة من الفساد آواخر خلافة الإمام علیه السلام إثر ازدیاد الثروات وانتقال الثقافة الفاسدة من بعض البلدان المجاورة للبلاد الإسلامیّة والمشاکل التی خلفتها فترة الخلافة فی المجتمع
ص:263
الإسلامی، وفی مقدمتها التفاخر والتعصب القبلی والنعرات الجاهلیة حتی بلغ الأمر ببعض الفتیة الطائشین إلی التنازع فیما بینهم فإذا جرح أحدهم أو ضرب استعان بقبیلته فتهب دون أدنی تریث وتمحیص لنجدته ویراق المزید من الدماء، فانبری الإمام علیه السلام بهذه الخطبة بغیة إطفاء الفتنة فعرض بالذم للکبر والعصبیّة القبلیّة الجاهلیّة، فأدّی حقّ الکلام وبالغ فی النصح والوعظ، فهی خطبة غایة فی الفصاحة والبلاغة والإثارة ومن هنا سُمّیت بالقاصعة وإن لم ترد مفردة (القاصعة) فی هذه الخطبة.
وذکر بعض شرّاح نهج البلاغة وجوهاً أخری لسبب التسمیة علی ضوء تعدد معانی مفردة القاصعة؛ فقد ذکر المرحوم الشارح الخوئی سبعة وجوه فی تسمیة هذه الخطبة بالقاصعة إستند کلّ واحد منها إلی أحد معانی (القصع) لغویاً ویبدو ما ذکرناه هو أنسب الجمیع.
علی کلّ حال تتألف هذه الخطبة من عدّة أقسام صنفها کلّ من شرّاح نهج البلاغة حسب ذوقه وطریقته فقسمها البعض إلی خمسة أقسام وآخر إلی أحد عشر قسماً وثالث إلی تسعة عشر قسماً.
ومن الواضح أنّ جمیع أقسام هذه الخطبة تدور حول محور واحد هو ذمّ التعصب الجاهلی والتکبر والفخر، ولا سیما التعصبیات القبلیّة والعرقیّة التی تعدّ مصدراً للعدید من الاختلافات والإرباکات والمفاسد الاجتماعیّة وتتضح هذه الحقیقة من خلال التمعن فی عموم الخطبة إلی جانب سبب ایرادها من قبل الإمام علیه السلام ونحن بدورنا نقسمها إلی عشرین قسماً:
القسم الأوّل: بعد حمد اللّه والثناء علیه أشار إلی طرد الشیطان لتعصبه وتکبره علی آدم علیه السلام.
القسم الثانی: إشارة لخلق الإنسان من الطین والذی یبعث فیه روح التواضع، والتذکیر ثانیة بسوء عاقبة الشیطان بسبب کبره وتعصبه.
ص:264
القسم الثالث: تحذیر الجمیع من الوقوع فی فخ الشیطان والسیر فی طریقه.
القسم الرابع: ذم الأفراد الذین سقطوا فی شباک التکبر والفخر الجاهلی الموهوم.
القسم الخامس: تحذیر الجمیع من اجتناب طاعة وإتباع الحکّام المتکبرین والمتعصبین.
القسم السادس: الوصیة بالاعتبار بالأقوام السابقة والعاقبة السیئة التی کانت بانتظار المتکبرین منهم والسعادة التی نالها المتواضعون وفی مقدمتهم أنبیاؤهم علیهم السلام.
القسم السابع: الحدیث عن الحیاة المتواضعة لموسی بن عمران وأخیه هارون علیهما السلام وما کانا یرتدیان من ثیاب بسیطة حین دخولهما علی فرعون المتکبر المغرور وبالتالی تواضع أولیاء اللّه فی جمیع شؤون حیاتهم.
القسم الثامن: الإشارة إلی اختیار الأرض الجافة والمحرقة لبناء الکعبة بمواد البناء البسیطة لیطرد عنهم الکبر والغرور وتصویر الشعائر التی ترمز إلی البساطة والتواضع التام.
القسم التاسع: أشار فیه الإمام علیه السلام إلی مختلف شباک الشیطان ولا سیما الظلم والجور واعتبر إمتثال الفرائض الدینیّة کالصوم والصلاة والزکاة وسیلة لمقاومة الشیطان.
القسم العاشر: یشیر إلی مصادر التعصب والغرور.
القسم الحادی عشر: إشارة إلی التعصب الإیجابی وعلاماته وآثاره.
القسم الثانی عشر: اعتبر مصیر الأُمم السابقة درساً وعبرة ودعی الجمیع للنظر فی سیرة تلک الأقوام.
القسم الثالث عشر: الحدیث عن الآثار المبارکة للوحدة والألفة وعواقب السوء للفرقة والتشتت والاختلاف.
القسم الرابع عشر: أعاد مخاطبیه ثانیة إلی التاریخ الماضی والتذکیر بالآثار السلبیّة لاختلاف أبناء اسماعیل واسحاق وبنی اسرائیل.
ص:265
القسم الخامس عشر: أشار علیه السلام إلی النعمة العظیمة فی وجود النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وآثارها علی المجتمع الإسلامی.
القسم السادس عشر: عرض فیه بالذم لتلک الطائفة من الناس التی عادت القهقری بعد الدعوة إلی عادات الجاهلیّة.
القسم السابع عشر: رکز فیه علی الأفعال المشینة للناکثین والقاسطین.
القسم الثامن عشر: أشار فیه الإمام علیه السلام إلی منزلته من النّبی بصفته أوّل من آمن به من الرجال ولازمه تلک المدّة.
القسم التاسع عشر: تحدّث فیه الإمام علیه السلام عن معجزة الشجرة التی تحرکت من مکانها نحو النّبی بأمره صلی الله علیه و آله.
القسم العشرون: تحدّث فیه عن مناقب أهل البیت علیهم السلام واختتم به الخطبة بعنوانه «مسک الختام».
***
ص:266
ألْحَمْدُ للّهِ الَّذِی لَبِسَ الْعِزَّ والْکِبْرِیَاءَ؛ واخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وجَعَلَهُمَا حِمیً وحَرَماً عَلَی غَیْرِهِ، واصْطَفَاهُمَا لِجَلاَلِهِ. وجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَی مَنْ نَازَعَهُ فِیهِمَا مِنْ عِبَادِهِ. ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذلِکَ مَلاَئِکَتَهُ الْمُقَرَّبِینَ، لِیَمِیزَ الْمُتَوَاضِعِینَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَکْبِرِینَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وهُوالْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ، ومَحْجُوبَاتِ الْغُیُوبِ: (إِنِّی خَالِقٌ بَشَراً مِّنْ طِین * فَإِذَا سَوَّیْتُهُ ونَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُّوحِی فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِینَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِکَةُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِیسَ) اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِیَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَی آدَمَ بِخَلْقِهِ، وتَعَصَّبَ عَلَیْهِ لاَِصْلِهِ. فَعَدُوا للّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِینَ، وسَلَفُ الْمُسْتَکْبِرِینَ، الَّذِی وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِیَّةِ، ونَازَعَ اللّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِیَّةِ، وادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ.
ألَا تَرَوْنَ کَیْفَ صَغَّرَهُ اللّهُ بِتَکَبُّرِهِ، ووَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ، فَجَعَلَهُ فِی الدُّنْیَا مَدْحُوراً، وأَعَدَّ لَهُ فِی الاْخِرَةِ سَعِیراً؟!
کما أشیر فی سبب الخطبة أنّ الهدف الأصلی من هذه الخطبة الطویلة والمفعمة بالمواعظ والإرشادات السامیّة التی تهذب الإنسان، مواجهة الکبر والغرور والعصبیّة الجاهلیةّ والطائفیّة التی کانت مصدر النزاعات القبلیّة الدمویّة علی عهد الإمام علیه السلام، وعلی هذا الضوء استهل الإمام علیه السلام خطبته بحمد اللّه والثناء علیه، اللّه المتجلبب
ص:267
بالعظمة والکبریاء التی لا تلیق إلّابذاته القدسیّة فقال:
«ألْحَمْدُ للّهِ الَّذِی لَبِسَ الْعِزَّ والْکِبْرِیَاءَ، واخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وجَعَلَهُمَا حِمیً(1) وحَرَماً عَلَی غَیْرِهِ، واصْطَفَاهُمَا لِجَلاَلِهِ. وجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَی مَنْ نَازَعَهُ فِیهِمَا مِنْ عِبَادِهِ».
لا شک فی أنّ العزّة والعظمة مختصة بالذات الإلهیّة المقدّسة، ذلک لأنّ کلّ ما سواه کائنات ضعیفة وعاجزة أمامه، إضافة إلی أنّ کلّ ما لدیها منه، متی ما شاء أفاضه علیها ومتی شاء سلبه منها.
والعبارات الخمس الواردة فی هذه الخطبة من قبیل قوله علیه السلام: لبس العز والکبریاء والتی لا تلیق بغیره وأنّهما صفتان مختصتان باللّه تعالی ویعبر عنهما أحیاناً بالحمی والحرم (المنطقة المحظورة التی لا یحق للغیر الدخول فیها) کما یعبر عنها بأنّ اللّه تعالی اختارهما لنفسه وخص باللعن من سلک سبیل التکبر والفخر، کلّ هذه العبارات المختلفة تهدف إلی إیضاح حقیقة واحدة حیث تشیر جمیعها إلی أن لا سبیل لعباد اللّه أمام الذات الإلهیّة القدسیّة سوی التواضع تجاهها وتجاه بعضهم البعض الآخر.
والواقع هو إنّ اللّه سبحانه وتعالی لیس بحاجة إلی الکبر ولا بحاجة إلی أن یمدحه الآخرون به، فذاته القدسیّة عظیمة من جمیع الجهات، ولکن لما کان الکبر والفخر لدی العباد مصدراً للبؤس والشقاء وظلم الناس لبعضهم البعض الآخر، فقد ورد هذا التحذیر فی العبارات السابقة من هذا الأمر ودعی الجمیع للبساطة والتواضع.
وعلی هذا الأساس أشار الإمام علیه السلام فی مواصلته لکلامه إلی أول امتحان للتواضع حین خلق اللّه آدم علیه السلام فقال:
«ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذلِکَ مَلاَئِکَتَهُ الْمُقَرَّبِینَ، لِیَمِیزَ الْمُتَوَاضِعِینَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَکْبِرِینَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وهُوالْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ، ومَحْجُوبَاتِ الْغُیُوبِ : «إِنِّی خَالِقٌ بَشَراً مِّنْ طِین * فَإِذَا سَوَّیْتُهُ ونَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُّوحِی فَقَعُوا لَهُ
ص:268
سَاجِدِینَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِکَةُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِیسَ»».
وبالطبع فإنّ اختبار اللّه یختلف عن اختبار العباد؛ فإننا حین نختبر أحداً نرید أن نبدل جهلنا به إلی علم ولذلک یعبر عن هذا الامتحان بالاختبار؛ أمّا اللّه تعالی طبق ما ورد سالفاً، العالِم بمکنونات القلوب ومحجوبات الغیوب لا یرید قط بهذه الاختبارات إضافة شیء لعلمه، بل اختباره لتظهر النیات الباطنیّة والخلقیّة والأسرار الخفیة لعباده بلباس الأفعال فیستحقوا الثواب والعقاب، ذلک لأنّ النیة لوحدها لیست کافیة فی هذا الأمر، والثواب والعقاب إنّما یترتب علی الأعمال.
وهذا ما ذکره الإمام علیه السلام فی موضع آخر من نهج البلاغة إذ قال:
«إنّهُ یَخْتَبِرُهُمْ بِالاَْمْوالِ والأَوْلادِ لِیَتَبَیَّنَ السّاخِطُ لِرِزْقِهِ والرّاضی بِقِسْمِهِ وإنْ کانَ سُبْحانَهُ أعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أنْفُسِهِمْ لکِنْ لِتُظْهِرَ الأَفْعالُ الَّتی بِها یَسْتَحِقُّ الثَّوابَ والْعِقابَ»(1).
ثم خاض علیه السلام فی شرح قضیة إبلیس وسبب تمرده علی أمر اللّه تعالی فقال:
«اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِیَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَی آدَمَ بِخَلْقِهِ، وتَعَصَّبَ عَلَیْهِ لاَِصْلِهِ. فَعَدُوا للّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِینَ، وسَلَفُ الْمُسْتَکْبِرِینَ، الَّذِی وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِیَّةِ، ونَازَعَ اللّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِیَّةِ، وادَّرَعَ(2) لِبَاسَ التَّعَزُّزِ(3) ، وخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ».
فالواقع أنّ السبب الرئیسی لتمرد إبلیس عملیاً علی أمر اللّه تعالی هو تعصبه وغروره الذی أفرزه حسابه الخاطئ والذی یستند إلی الفخر والأنانیّة حیث لم یرَ فی خلق آدم سوی حیثیة التراب ولذلک عد نفسه أفضل منه فقال: «خَلَقْتَنِی مِنْ نَّار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِین»(4) بینما أغفل تماماً الجانب المهم فی وجود آدم إلّاوهو الروح الإلهیّة: «وَنَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُّوحِی فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِینَ»(5).
ص:269
نعم! فالعحب والأنانیّة أسوأ حجاب یصد الإنسان عن إدراک أوضح الحقائق.
وقد التبس الأمر علی إبلیس حتی فی تقییمه لأفضلیّة النار علی التراب، لأنّ التراب هو المصدر الأساس للحیاة ونمو النباتات وتفتح الأزهار والثمار وأنواع البرکات، وبینما تقتصر فاعلیتها علی بعض جانب من حیاة الإنسان.
علی کلّ حال فإنّ تعبیر الإمام علیه السلام إبلیس بأنّه عدواللّه إشارة إلی أنّه لم یکن عدواً لآدم فحسب، بل کان عدواً لخالق آدم ومتمرداً علی أوامره فقد أرسی أُولی لبنات العصبیة ومنهج التکبر والاستکبار، العمل الذی یعتبر فی الواقع محاربة للّه تبارک وتعالی؛ ذلک لأنّ العزّة والعظمة لا تلیق إلّابذاته المقدّسة وجمال عباد اللّه فی تواضعهم فالتکبر والغرور حسب ما ذکر علماء الأخلاق من أُمّهات الرذائل.
روی أحد أصحاب الإمام الصادق علیه السلام أنّه سأله عن أدنی مراحل الکفر والإلحاد؟ فقال علیه السلام:
«إنَّ الْکِبْرَ أَدْناهُ»(1). کما ورد فی الخبر عن الإمام الباقر والإمام الصادق علیهما السلام أنّهما قالا:
«لا یَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فی قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّة مِنْ کِبْر»(2).
ثم اتّجه الإمام علیه السلام إلی مخاطبیه لیحذّرهم من عاقبة الشیطان السیئة فقال:
«ألا تَرَوْنَ کَیْفَ صَغَّرَهُ اللّهُ بِتَکَبُّرِهِ، ووَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ، فَجَعَلَهُ فِی الدُّنْیَا مَدْحُوراً(3) ، وأَعَدَّ لَهُ فِی الاْخِرَةِ سَعِیراً؟».
فالعبارة إشارة لآیات القرآن الکریم حیث قال تعالی: «فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّکَ رَجِیمٌ * وَإِنَّ عَلَیْکَ اللَّعْنَةَ إِلَی یَوْمِ الدِّینِ»(4).
وقال تعالی فی موضع آخر: «قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لاََمْلاََنَّ جَهَنَّمَ مِنْکَ وَمِمَّنْ
ص:270
تَبِعَکَ مِنْهُمْ أَجْمَعِینَ»(1).
ولَوأَرَادَ اللّهُ أَنْ یَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُور یَخْطَفُ الأَبْصارَ ضِیَاؤُهُ، ویَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ، وطِیب یَأْخُذُ الأَنْفَاسَ عَرْفُهُ، لَفَعَلَ. ولَوفَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الأَعْنَاقُ خَاضِعَةً، ولَخَفَّتِ الْبَلْوَی فِیهِ عَلَی الْمَلاَئِکَةِ. ولکِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ یَبْتَلِی خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا یَجْهَلُونَ أَصْلَهُ، تَمْیِیزاً بِالاِخْتِبَارِ لَهُمْ، ونَفْیاً لِلاِسْتِکْبارِ عَنْهُمْ، وإِبْعَاداً لِلْخُیَلاَءِ مِنْهُمْ.
فَاعْتَبِرُوا بِمَا کَانَ مِنْ فِعْلِ اللّهِبِإبْلِیسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِیلَ، وَجَهْدَهُ الْجَهِیدَ، وکَانَ قَدْ عَبَدَاللّهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَة، لَایُدْرَی أَمِنْ سِنِی الدُّنْیَا أَمْ مِنْ سِنِی الاْخِرَةِ، عَنْ کِبْرِ سَاعَة وَاحِدَة. فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِیسَ یَسْلَمُ عَلَی اللّهِ بِمِثْلِ مَعْصِیَتِهِ؟ کَلاَّ، مَا کَانَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لِیُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بأَمْر أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَکاً. إِنَّ حُکْمَهُ فِی أَهْلِ السَّمَاءِ وأَهْلِ الأَرْضِ لَوَاحِدٌ. ومَا بَیْنَ اللّهِ وبَیْنَ أَحَد مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِی إِبَاحَةِ حِمیً حَرَّمَهُ عَلَی الْعَالَمِینَ.
قال الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة فی مواصلته لاختبار إبلیس الذی ذکر سابقاً بعد أن أشار إلی قضیة مهمّة وهی أنّ اللّه تبارک وتعالی یختبر عباده بأمور تخفی فلسفتها علیهم وربّما یشق علیهم تحملها:
«ولَو أَرَادَاللّهُ أَنْیَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُور یَخْطَفُ(2)
ص:271
الأَبْصارَ ضِیَاؤُهُ، ویَبْهَرُ(1) الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ(2) وَطِیب یَأْخُذُ الأَنْفَاسَ عَرْفُهُ(3) لَفَعَلَ ولَوفَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الأَعْنَاقُ خَاضِعَةً، ولَخَفَّتِ الْبَلْوَی فِیهِ عَلَی الْمَلاَئِکَةِ».
إشارة إلی أنّ الامتحان الإلهی إنّما یفقد أثره إذا کان منسجماً مع رغبات العباد ومیولهم؛ ذلک لأنّ الجمیع سوف یعملون علی أساسه؛ سواءً کانوا من عباد اللّه أو من عبدة الأهواء ولا ینطوی مثل هذا الامتحان علی أیة نتیجة، أما إن کان علی خلاف رغباتهم فآنذاک تمتاز صفوف المؤمنین المخلصین من العاصین المتکبرین.
فامتحان أصحاب الغرور والتکبر ینبغی أن یکون فی الأمور التی تستهدف غرورهم وتکبّرهم علی غرار الامتحان الذی حصل للملائکة وإبلیس.
ومن هنا قال الإمام علیه السلام فی مواصلته لکلامه:
«ولکِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ یَبْتَلِی خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا یَجْهَلُونَ أَصْلَهُ، تَمْیِیزاً بِالاِخْتِبَارِ لَهُمْ، ونَفْیاً لِلاِسْتِکْبارِ عَنْهُمْ، وإِبْعَاداً لِلْخُیَلاَءِ(4) مِنْهُمْ».
وعلی هذا الضوء تتضح علیة خفاء فلسفة الأحکام الشرعیّة، طبعاً تبدو واضحة لدینا فلسفة العدید من هذه الأحکام بحکم العقل والآیات والروایات الواردة بهذا الشأن، إلّاأنّ جانباً مهماً من هذه الأحکام ما زال مبهماً، وذلک لمعرفة المطیع المخلص من المتمرد العاصی. جدیر ذکره إنّ هنالک أدلة أخری غیر ما ذکر فی خفاء أسرار هذه الأحکام.
ثم أشار الإمام علیه السلام إلی عاقبة فعل إبلیس المتکبر والمتعصب لیعتبر بها الجمیع فحذرهم من مغبة اتباع خطواته حتی لا یبتلوا بما ابتلی به من عاقبة سیئة فقال:
ص:272
«فَاعْتَبِرُوا بِمَا کَانَ مِنْ فِعْلِ اللّهِ بِإِبْلِیسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِیلَ، وجَهْدَهُ(1) الْجَهِیدَ، وکَانَ قَدْ عَبَدَاللّهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَة، لَایُدْرَی أمِنْ سِنِی(2) الدُّنْیَا أَمْ مِنْ سِنِی الاْخِرَةِ، عَنْ کِبْرِ سَاعَة وَاحِدَة».
والعبارة
«لا یُدری أمِنْ سِنِی الدُّنْیا أمْ مِنْ سِنی الاْخِرَةِ» لا تعنی عدم علم الإمام بهذا الأمر، بل إشارة إلی أنّ الناس لا یعلمون بذلک، والمراد من سنوات الدنیا هذه السنوات التی نعیشها والمعلومة المقدار، کما أنّ سنوات الآخرة ما أشیر إلیه کراراً فی القرآن الکریم ومن ذلک: «وَإِنَّ یَوْماً عِنْدَ رَبِّکَ کَأَلْفِ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ»(3).
وهنا یرد هذا السؤال: کیف یمکن زوال ستة آلاف سنة من العبادة بساعة من التکبر؟ والجواب واضح؛ فالبناء عمل شاق وطویل، أمّا الهدم فعمل بسیط وسریع، فقد یستغرق بناء بیت عدّة سنوات إلّاأنّ حریقاً یحیله خراباً خلال لحظات، کما یبنی السد العظیم فی عدّة سنوات بینما ینهار بطرفة عین بفعل الزلزال أو تفجیره بالدینامیت والمواد المفجرة، ومسألة إحباط الأعمال بفعل بعض الذنوب لمن المطالب المهمّة التی سنتعرض إلیها فی مبحث التأمّلات.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه فأشار إلی أنّ مصیر المتکبرین من البشر هوذات مصیر إبلیس فقال:
«فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِیسَ یَسْلَمُ عَلَی اللّهِ بِمِثْلِ مَعْصِیَتِهِ؟ کَلاَّ، مَا کَانَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لِیُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بأَمْر أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَکاً».
ثم قال علیه السلام فی التأکید علی هذا المعنی:
«اِنَّ حُکْمَهُ فِی أَهْلِ السَّمَاءِ وأَهْلِ الأَرْضِ لَوَاحِدٌ. ومَا بَیْنَ اللّهِ وبَیْنَ أَحَد مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ(4) فِی إِبَاحَةِ حِمیً(5) حَرَّمَهُ عَلَی الْعَالَمِینَ».
إشارة إلی أنّ جمیع المکلفین سواسیة أمام اللّه تعالی ولیس لأی أحد أی امتیاز علی آخر، فلیس للّه مع أحد من قرابة، والمعصیة من أی عبدٍ صدرت هی معصیة،
ص:273
والطاعة هی الطاعة فلا ینبغی أن یتصور البعض أنّ العقاب الألیم الذی شمل إبلیس علی تکبره یختص به والآخرون بمعزل عن ذلک إن إرتکبوا نفس الفعل.
جاء فی هذا الجانب من الخطبة أنّ عبادة ستة آلاف سنة قد ذهبت هدراً بفعل ساعة من الکبر ومسألة الاحباط والتکفیر، وبعبارة أخری زوال الأعمال الحسنة أو تدارک الأعمال السیئة بالتوبة والطاعة، لمن المسائل المهمّة التی حظیت باهتمام المتکلمین والمفسرین وأرباب الحدیث.
فالذی یستفاد من بعض الآیات القرآنیّة أنّ هناک سلسلة من الأعمال السیئة التی من شأنها القضاء علی الأعمال الصالحة ومنها الکفر باللّه ورسوله والیوم الآخر الذی ورد فی الآیة 88 من سورة الأنعام: «وَلَوأَشْرَکُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا کَانُوا یَعْمَلُونَ» والآیة 147 من سورة الأعراف: «وَالَّذِینَ کَذَّبُوا بِایَاتِنَا وَلِقَاءِ الاْخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ»وصرّحت الآیة 7 من سورة العنکبوت بشأن التکفیر قائلة: «وَالَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُکَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَیِّئَاتِهِمْ».
طبعاً هذا لا یعنی جعل السیئات والحسنات أمام بعضهما البعض الآخر یوم القیامة بحیث لوکانت الحسنات أکثر لما اکترث للسیئات أو لوکانت السیئات أکثر أهملت الحسنات بصورة کلیّة، فلیس هنالک هذا النوع من الاحباط والتکفیر وهولا ینسجم مع الآیات القرآنیّة أیضاً فقد جاء فی الآیتین 7 و 8 من سورة الزلزال: «فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَیْراً یَرَه وَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً یَرَهُ».
وزبدة الکلام إنّ لکلّ عمل صالح وطالح آثاره الخاصّة عند اللّه یوم القیامة، ولکن لهذا المطلب استثناءات فهنالک بعض الأعمال الصالحة التی تغطی الأخطاء، وبعض الأعمال القبیحة التی تزیل الحسنات(1).
ص:274
جاء فی هذا القسم من الخطبة أنّ إبلیس کان من الملائکة وقد طرده اللّه من الجنّة ومن حضیرة الحقّ لتلک المعصیة الکبیرة.
ولعل هذه العبارة توحی بأنّ إبلیس کان حقّاً من الملائکة بینما یصرّح القرآن علانیّة: «کَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ»(1).
کما جاء فی القرآن من جانب آخر أنّ الملائکة معصومون ولا یقارفون المعصیة قط: «بَلْ عِبَادٌ مُّکْرَمُونَ * لَایَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ»(2). فکیف لملک معصوم أن یتمرد علی أوامر اللّه ویسلک طریق الکفر ومخالفة اللّه تعالی؟!
ومن هنا یتّضح أنّ إبلیس کان فی مصاف الملائکة بفعل عبادته الکثیرة ولم یکن حقّاً من الملائکة فهذه العبارة وإن کانت مجازیة إلّاأنّ القرائن الکثیرة والواضحة تزیل أیّ إبهام.
یستفاد من الآیات القرآنیّة والروایات الإسلامیّة وهذه الخطبة أن کبر إبلیس أدّی بالتالی إلی کفره، أقصی درجات الکفر، ذلک لأنّه اعترض علی حکمة اللّه وعدّ أمره بالسجود لآدم منافیاً للحکمة ولذلک عوقب بأشدّ العذاب وهو الطرد من حضیرة القدس وحبطت أعماله وعبادته التی استغرقت ستة آلاف سنة.
فالکلام یحمل رسالة واضحة للجمیع هی عدم الاستخفاف بالکبر والعصبیة، التی قد تقود أحیاناً إلی الکفر واحباط الأعمال والطرد من القرب الإلهی، طبعاً کان بإمکان إبلیس أن یرجع ویتوب، ولکن کان أوّل شرط فی توبته طاعة أمر اللّه فی
ص:275
السجود لآدم علیه السلام، فقد جاء فی الحدیث المروی عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:
«وَاللّهِ لَو أنّ إبْلیسَ سَجَدَ للّهِ بَعْدَ الْمَعْصِیَةِ والتَّکَبُّرِ عُمْرَ الدُّنْیا، ما نَفَعَهُ ذلِکَ ولا قَبِلَهُ اللّهُ مِنْهُ ما لَمْ یَسْجُدْ لاِدَمَ کَما أمَرَ اللّهُ أَنْ یَسْجُدَ لَهُ»(1).
إنّ أحد الدروس المهمّة فی هذا الجانب من الخطبة هی أنّ علاقة الخلق بالخالق علاقة الطاعة والعبودیة وأنّ جمیع مخلوقات اللّه سواسیة فی الأحکام فی الشرائط المتساویة أو المتشابهة وما یعتقده طائفة من الیهود والنصاری أنّهم أبناء اللّه وخواصه وسوف لن یَنالُهم سوی جانب من العقاب علی أعمالهم: «وَقَالَتِ الْیَهُودُ وَالنَّصَارَی نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ»(2) إنّما هی عقیدة خاطئة وفکرة باطلة.
وعلیه فإنّ کلّ کبر وعصبیة وعصیان سیؤدی إلی الطرد من رحمة اللّه وسوف لن یکون مصیر کلّ من ارتکب هذه المعصیة سوی مصیر إبلیس، وهذه القاعدة ساریة علی جمیع العباد علی اختلاف مراتبهم.
***
ص:276
فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللّهِ عَدُواللّهِ أَنْ یُعْدِیَکُمْ بِدَائِهِ، وأَنْ یَسْتَفِزَّکُمْ بِنِدَائِهِ، وأَنْ یُجْلِبَ عَلَیْکُمْ بِخَیْلِهِ ورَجِلِهِ. فَلَعَمْرِی لَقَدْ فَوَّقَ لَکُمْ سَهْمَ الْوَعِیدِ، وأَغْرَقَ إِلَیْکُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِیدِ، ورَمَاکُمْ مِنْ مَکَان قَرِیب، فَقَالَ: (رَبِّ بِمآ أَغْوَیْتَنِی لاَُزَیِّنَنَّ لَهُمْ فِی الأَرْضِ ولاَُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ)، قَذْفاً بِغَیْب بَعِید، ورَجْماً بِظَنٍّ غَیْرِ مُصِیب، صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِیَّةِ، وإِخْوَانُ الْعَصَبِیَّةِ، وفُرْسَانُ الْکِبْرِ والْجَاهِلِیَّةِ. حَتَّی إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْکُمْ، واسْتَحْکَمَتِ الطَّمَاعِیَّةُ مِنْهُ فِیکُمْ، فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِیِّ إِلَی الأَمْرِ الْجَلِیِّ، اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَیْکُمْ، ودَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَکُمْ، فَأَقْحَمُوکُمْ ولَجَاتِ الذُّلِّ، وأَحَلُّوکُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ، وأَوْطَؤُوکُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ، طَعْناً فِی عُیُونِکُمْ، وحَزًّا فِی حُلُوقِکُمْ، ودَقًّا لِمَنَاخِرِکُمْ، وقَصْداً لِمَقَاتِلِکُمْ، وسَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَی النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَکُمْ. فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِی دِینِکُمْ حَرْجاً، وأَوْرَی فِی دُنْیَاکُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِینَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِینَ، وعَلَیْهِمْ مُتَأَلِّبِینَ. فَاجْعَلُوا عَلَیْهِ حَدَّکُمْ، ولَهُ جَدَّکُمْ.
خاض الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة فی الاستنتاج من قصة ضلال الشیطان وطرده من الرحمة إثر کبره وعصبیته لیحذر الجمیع من سوء العاقبة والمصیر فقال:
«فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللّهِ عَدُو اللّهِ أَنْ یُعْدِیَکُمْ(1) بِدَائِهِ، وأَنْ
ص:277
یَسْتَفِزَّکُمْ(1) بِنِدَائِهِ، وأَنْ یُجْلِبَ(2) عَلَیْکُمْ بِخَیْلِهِ ورَجِلِهِ(3)». وعبارة الإمام علیه السلام هذه اقتباس من القرآن الکریم حیث قال تعالی: «وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِکَ وَأَجْلِبْ عَلَیْهِمْ بِخَیْلِکَ وَرَجِلِکَ»(4).
وخیل تعنی الفرس وکذلک الفرسان وأرید بها هنا المعنی الثانی ورجل تعنی المشاة وهی إشارة إلی کثرة الأعوان الذین یقفون إلی جانب الشیطان سواء من نوعه أو من البشر والذین یعینونه علی إضلال الآخرین؛ فبعضهم سریع کالفرسان والآخر بطیئ کالمشاة.
وبالطبع فإنّ الصفات الرذیلة وعوامل المعصیة ومراکز الفحشاء والدعایات السامة والمضلّة ووسائل الذنوب تعدّ من أعوان الشیطان وجنوده حیث حذّر الإمام علیه السلام الناس من کلّ هذه الأمور.
ثم أقسم الإمام علیه السلام بعمره لتأکید هذا الکلام فقال علیه السلام:
«فَلَعَمْرِی لَقَدْ فَوَّقَ(5) لَکُمْ سَهْمَ الْوَعِیدِ، وأَغْرَقَ(6) إِلَیْکُمْ بِالنَّزْعِ(7) الشَّدِیدِ، ورَمَاکُمْ مِنْ مَکَان قَرِیب».
ثم اسشتهد الإمام علیه السلام بقوله تعالی عن إبلیس:
«فَقَالَ : «رَبِّ بِمَآ أَغْوَیْتَنِی لاَُزَیِّنَنَّ لَهُمْ فِی الأَرْضِ ولاَُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ»».
أمّا قسم الإمام علیه السلام بعمره فیشیر إلی أنّ القضیة غایة فی الجدیة؛ ولیت شعری أی
ص:278
شیء أشرف من عمر الإمام وقوله علیه السلام إنّ الشیطان فوَّق لکم سهم الوعید واغرق إلیکم بالنزع الشدید إشارة إلی أنّ خطر الشیطان قد أحاط بکم بأخدع صوره التی قلّما تخطئ وقد دلکم علی سبله وذلک من خلال المظاهر المادیّة للدنیا وتزیین نعمها المادیّة والغرق فی مستنقع الشهوات واللذات.
وتعبیر الإمام علیه السلام بأنّ الشیطان جند طاقاته وقواه کافّة واستعد للهجوم علیکم وقد استهدفکم من مکان قریب فکنتم فی مرماه من کلّ جانب، إشارة إلی کثرة عناصر الوساوس الشیطانیّة فی باطن الإنسان وخارجة، فهوی النفس من جهة والعوامل الخارجیة للمعصیة من جهة أخری.
والعبارة «لاَُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ» التی تبدأ بلام القسم ونون التوکید الثقیلة وتنتهی بالمفردة أجمعین، شاهد علی أنّه بمنتهی الجد فی تحقیق اهدافه المشؤومة، ومن هنا لابدّ أن یعیش الناس الیقظة والحذر حتی لا یقعوا فی شباک فخّه ومصائده.
جدیر ذکره أنّ العبارة:
«رَبِّ بِمَآ أَغْوَیْتَنِی...» من أکاذیب الشیطان وافترائاته علی اللّه تعالی والتی تشیر إلی مدی تمرده ووقاحته بحیث یفتری علی اللّه مثل هذا الکذب، اللّه الذی یهدی الجمیع ویزودهم بعناصر الهدی، ولما کان کلام الشیطان واضح البطلان فالقرآن لا یرد علیه، فکیف یضلّه اللّه سبحانه وتعالی وهو الذی أمره والملائکة بقوله: «فَاِذا نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُّوحِی فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِینَ» فالشرف الذی حظی به آدم علیه السلام علی أساس روح اللّه التی نفخت فیه، إلّاأنّ الشیطان الحسود والأنانی تجاهل ذلک واکتفی بالنظر إلی خلقه من الطین! فهل الضلال کان من جانب اللّه أم من نفس الشیطان؟!
ثم قال علیه السلام فی مواصلته لکلامه:
«قَذْفاً بِغَیْب بَعِید، ورَجْماً بِظَنٍّ غَیْرِ مُصِیب».
فقد وردت العبارة
«رَجْماً بِظَنِّ غَیْرِ مُصِیب» بهذه الصیغة فی أغلب نسخ نهج البلاغة والتی یظن أحیاناً أنّها لا تنسجم مع الآیة الشریفة: «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَیْهِمْ
ص:279
إِبْلِیسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِیقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِینَ»(1) والحال إنّ الآیة الشریفة نازلة بشأن قوم سبأ لا بشأن جمیع الناس وإلّا فالمؤمنون لیسوا بقلّة فی أمم الأنبیاء.
ورجّحت طائفة من شرّاح نهج البلاغة النسخة الأخری التی لا تتضمن کلمة «غیر» وبصیغة:
«رَجْماً بِظَنِّ مُصِیب» لأنّهم قالوا إنّ ظن الشیطان بشأن الناس مطابق للواقع حیث لم ینج من وساوسه سوی قلّة قلیلة من الناس وهذا ما صرح به القرآن الکریم إذ قال: «وَقَلِیلٌ مِّنْ عِبَادِیَ الشَّکُورُ»(2) وقال فی موضع آخر: «اِلاَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِیلٌ مَّا هُمْ»(3).
أضف إلی ذلک بأنّها أکثر انسجاما مع العبارة التالیة فی هذه الخطبة التی قال فیها:
«صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِیَّةِ، وإِخْوَانُ الْعَصَبِیَّةِ، وفُرْسَانُ الْکِبْرِ والْجَاهِلِیَّةِ».
فالعبارة:
«أَبْنَاءُ الْحَمِیَّةِ» کنایة عن أنّهم عجنوا بالکبر علی درجة وکأنّهم أصبحوا أبناءه کما أنّ التعبیر إخوان العصبیّة کنایة عن علاقتهم الوثیقة بالعصبیات القبلیّة والقومیّة وما شابه ذلک.
والعبارة
«وفُرْسَانُ الْکِبْرِ والْجَاهِلِیَّةِ» کنایة عن أنّهم بلغوا درجة من الکبر والجهل والغرور وکأنّهم اعتلوا مرکباً من الجهل والکبر اندفعوا به إلی الأمام.
ثم قال الإمام علیه السلام:
«حَتَّی إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ(4) مِنْکُمْ، واسْتَحْکَمَتِ الطَّمَاعِیَّة(5) مِنْهُ فِیکُمْ، فَنَجَمَتِ(6) الْحالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِیِّ إِلَی الأَمْرِ الْجَلِیِّ. اسْتَفْحَلَ(7) سُلْطَانُهُ
ص:280
عَلَیْکُمْ، ودَلَفَ(1) بِجُنُودِهِ نَحْوَکُمْ».
إشارة إلی أنّ إبلیس یسعی بادئ الأمر إلی الهیمنة علی الأفراد الذین یتمردون علیه ثم یرسخ قاعدته لدیهم ثم یبسط نفوذه علیهم فیهجم علیهم بجنوده والحال فهم فقدوا قدرتهم الدفاعیّة وعانوا من أنواع المصائب المادیّة والمعنویّة، کما أشار الإمام علیه السلام بثمان عبارات قصیرة عمیقة المعنی إلی آثار ذلک الهجوم الشیطانی الواسع فقال:
«فَأَقْحَمُوکُمْ(2) وَلَجَاتِ(3) الذُّلِّ، وأَحَلُّوکُمْ وَرَطَاتِ(4) الْقَتْلِ، وأَوْطَؤُوکُمْ(5) إِثْخَانَ(6) الْجِرَاحَةِ، طَعْناً فِی عُیُونِکُمْ، وحَزًّا(7) فِی حُلُوقِکُمْ، ودَقّاً لِمَنَاخِرِکُمْ(8) ، وَقَصْداً لِمَقَاتِلِکُمْ، وسَوْقاً بِخَزَائِمِ(9) الْقَهْرِ إِلَی النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَکُمْ».
فهذه العبارات الغایة فی الدقة والبیان والمقرونة بمنتهی البلاغة والفصاحة تجسد عظم بؤس المهزومین أمام الشیطان، الذین إن هربوا من جنده وأعوانه ولجأوا إلی کهف فسوف لن یکون سوی کهف الذل والهوان وإن قاوموا فلیس لهم من مصیر سوی الموت والفناء کما أنّ موتهم سوف لن یکون هیناً بل ممزوج بالضرب والجرح وغرز السهام فی العیون وقطع الحناجر وتحطیم الأنوف وبالتالی سوف یجرون إلی نار الغضب الإلهیّة.
ثم خلص علیه السلام إلی استنتاج قاطع فقال:
«فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِی دِینِکُمْ حَرْجاً(10) ،
ص:281
وأَوْرَی(1) فِی دُنْیَاکُمْ قَدْحاً(2) مِنَ الَّذِینَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِینَ(3) ، وعَلَیْهِمْ مُتَأَلِّبِینَ(4).
فَاجْعَلُوا عَلَیْهِ حَدَّکُمْ(5) ، ولَهُ جِدَّکُمْ(6)».
إشارة إلی أنّ إبلیس أعدی أعدائکم فی الدین والدنیا وخطره أعظم من خطر کلّ عدو فلابد من تجنید طاقاتکم لمواجهته.
وقد عبّر الإمام علیه السلام عن الفساد بالحرج یعنی الصعوبة والمشقّة (ووردت فی بعض النسخ جرح والتی تبدوانسب للعبارة) وعن وساوس الشیطان المضلّة بالقدح (ما یشعل به النار)، لأنّ قداحة صغیرة یمکن لها أن تحرق بیتاً أو حیاً، ووساوس الشیطان قد تقود أحیاناً إلی تصدع مجتمعات وإنهیارها، ولا سیما العصبیات العمیاء والکبر والغرور کما ذُکر فی الخطبة حیث تأجیج نیران القبلیّة التی تدعو إلی مزید من سفک الدماء واغراق الأرض بها من الأفراد الأبریاء.
والتعبیر بالجد بفتح الجیم بمعنی القطع تشیر إلی قطع العلاقة مع إبلیس وعدم طاعة أوامره (وقد ورد الجد فی بعض النسخ بکسر الجیم والذی یعنی السعی والمثابرة والذی یبدو أنسب للعبارات السالفة) فالبعض یبذل قصاری جهده وسعیه فی مجاهدته لإبلیس وجنده.
***
ص:282
فَلَعَمْرُ اللّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَی أَصْلِکُمْ، ووَقَعَ فِی حَسَبِکُمْ، ودَفَعَ فِی نَسَبِکُمْ، وأَجْلَبَ بِخَیْلِهِ عَلَیْکُمْ، وقَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِیلَکُمْ، یَقْتَنِصُونَکُمْ بِکُلِّ مَکَان، ویَضْرِبُونَ مِنْکُمْ کُلَّ بَنَان. لَاتَمْتَنِعُونَ بِحِیلَة، وَلَا تَدْفَعُونَ بِعَزِیمَة، فِی حَوْمَةِ ذُلٍّ، وحَلْقَةِ ضِیق، وعَرْصَةِ مَوْت، وجَوْلَةِ بَلاَء. فَأَطْفِئُوا مَا کَمَنَ فِی قُلُوبِکُمْ مِنْ نِیرَانِ الْعَصَبِیَّةِ واَحْقَادِ الْجَاهِلِیَّةِ، فَإِنَّمَا تِلْکَ الْحَمِیَّةُ تَکُونُ فِی الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّیْطَانِ ونَخَوَاتِهِ، ونَزَغَاتِهِ ونَفَثَاتِهِ. واعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَی رُؤُوسِکُمْ، وإِلْقَاءَ التَعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِکُمْ، وخَلْعَ التَّکَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِکُمْ، وَاتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَیْنَکُمْ وبَیْنَ عَدُوِّکُمْ إِبْلِیسَ وجُنُودِهِ؛ فَإِنَّ لَهُ مِنْ کُلِّ أُمَّة جُنُوداً وأَعْوَاناً، ورَجِلاً وفُرْسَاناً، وَلَا تَکُونُوا کَالْمُتَکَبِّرِ عَلَی ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَیْرِ مَا فَضْل جَعَلَهُ اللّهُ فِیهِ سِوَی مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ، وقَدَحَتِ الْحَمِیَّةُ فِی قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ، ونَفَخَ الشَّیْطَانُ فِی أَنْفِهِ مِنْ رِیحِ الْکِبْرِ الَّذِی أَعْقَبَهُ اللّهُ بِهِ النَّدَامَةَ، وأَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِینَ إِلَی یَوْمِ الْقِیامَةِ.
عبأ الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة الجمیع للوقوف بوجه الشیطان ووساوسه وأشار إلی سوابقه السیئة وعداوته بعبارات تفیض فصاحة وبلاغة فقال:
ص:283
«فَلَعَمْرُ اللّهِ(1) لَقَدْ فَخَرَ عَلَی أَصْلِکُمْ، ووَقَعَ فِی حَسَبِکُمْ(2) ، ودَفَعَ فِی نَسَبِکُمْ، وأَجْلَبَ بِخَیْلِهِ عَلَیْکُمْوقَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِیلَکُمْ».
وهذه العبارات العمیقة المعنی هی اقتباس من الآیات القرآنیّة الشریفة؛ فالآیة 33 من سورة الحجر تشیر إلی أنّ الشیطان حقر آدم بهذه الصیغة قائلاً: «لَمْ أَکُنْ لاَِّسْجُدَ لِبَشَر خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَال مِّنْ حَمَإ مَّسْنُون» فغروره وحسده وتکبره جعله یتناسی العبارة: «نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُّوحِی» من کلام اللّه والتی تعدّ من أعظم مفاخر آدم علیه السلام، کما قال تعالی عن إبلیس فی الآیة 12 من سورة الأعراف «أَنَا خَیْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نَّار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِین» والحال لو تخلی عن کبره وغروره لأیقن أنّ التراب هو مصدر أنواع البرکات وأساس حیاة الموجودات وهو أفضل من النار، وصرّحت الآیة 64 من سورة الإسراء أنّ اللّه تعالی قال له: «وَأَجْلِبْ عَلَیْهِمْ بِخَیْلِکَ وَرَجِلِکَ» کما قال تعالی عن الشیطان فی الآیة 16 من سورة الأعراف: «لَاَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَکَ الْمُسْتَقِیمَ».
وهنا تکمن خطورة هذا العدو الذی ینبغی الحذر منه فهو لا یقرّ بشخصیة آدم الرفیعة ولا یسلم بنسبه وقد جند طاقاته کافّة من أجل اغوائه واضلاله.
ثم قال علیه السلام فی مواصلته لکلامه:
«یَقْتَنِصُونَکُمْ(3) بِکُلِّ مَکَان، ویَضْرِبُونَ مِنْکُمْ کُلَّ بَنَان(4). لَاتَمْتَنِعُونَ بِحِیلَة، وَلَا تَدْفَعُونَ بِعَزِیمَة. فِی حَوْمَةِ(5) ذُلٍّ، وحَلْقَةِ ضِیق، وعَرْصَةِ مَوْت، وجَوْلَةِ بَلاَء».
ص:284
والعبارة:
«ویَضْرِبُونَ مِنْکُمْ کُلَّ بَنَان» تشبه ما ورد فی القرآن الکریم بشأن هجوم الملائکة علی الکفار یوم بدر: «وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ کُلَّ بَنَان»(1). فإنّ قطع کلّ بنان إن کان بشأن الأیدی یؤدّی بالإنسان إلی العجز عن الإتیان بأغلب الأعمال، ذلک لأنّ لکلّ عمل وسیلة ووسائل الأعمال عادة الأصابع والأیدی، وإن کان المراد بنان الأرجل فذلک یؤدّی إلی اختلال توازن الإنسان حین المشی والعبارة الواردة فی الخطبة إشارة إلی أنّ الشیاطین یهجمون علیکم ویعیقونکم عن العمل بحیث یسلبونکم زمام التفکیر والقدرة علی اتخاذ القرار.
ثم رکز الإمام علیه السلام علی لب الموضوع فاستعار تشبیهات غایة فی الجمال وبمنتهی الفصاحة والبلاغة لیحذر الجمیع من الآثار السیئة للعصبیة العمیاء والکبر الأجوف فقال علیه السلام:
«فَأَطْفِئُوا مَا کَمَنَ فِی قُلُوبِکُمْ مِنْ نِیرَانِ الْعَصَبِیَّةِ واَحْقَادِ الْجَاهِلِیَّةِ، فَإِنَّمَا تِلْکَ الْحَمِیَّةُ تَکُونُ فِی الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّیْطَانِ ونَخَوَاتِهِ(2) ، ونَزَغَاتِهِ(3) ونَفَثَاتِهِ(4)».
فقد شبه الإمام علیه السلام بهذه العبارات العصبیات الطائشة والأحقاد الجاهلیة بالنار الکامنة فی أعماق القلوب التی تقتدح فجأة وتلتهم جمیع کیان الإنسان فتسری إلی الخارج لتعم وتحرق أمم بأسرها، ویعدّ الإمام علیه السلام هذه الصفة الرذیلة من وساوس الشیطان والتی تنتقل من الخارج إلی بواطن المسلمین أی هی قریبة من المسلم الحقّ.
ثم واصل علیه السلام کلامه قائلاً:
«واعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَی رُؤُوسِکُمْ، وإِلْقَاءَ التَعَزُّزِ
ص:285
تَحْتَ أَقْدَامِکُمْ، وخَلْعَ التَّکَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِکُمْ؛ وَاتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً(1) بَیْنَکُمْ وبَیْنَ عَدُوِّکُمْ إِبْلِیسَ وجُنُودِهِ».
فقد شبّه الإمام علیه السلام فی هذه العبارات التواضع بالتاج والتعزز بما یلقی تحت الأقدام ممّا لا قیمة له وشبّه التکبر بالغل الذی یوضع علی العنق والبساطة بالمسلحة أو بالموضع الذی یحفظ الإنسان من مکائد العدو وکلّ منها یحمل رسالة واضحة للناس ولا سیما الأفراد المؤمنین منهم.
ثم بین الإمام علیه السلام دلیلاً واضحاً لهذه الوصایا فقال:
«فَإِنَّ لَهُ مِنْ کُلِّ أُمَّة جُنُوداً وأَعْوَاناً، ورَجِلاً وفُرْسَاناً».
طبعاً لیس جمیع هؤلاء من الجن بل بعضهم من الناس الشیاطین من الضالّین والمضلّین أعوان الشیطان وأنصاره وقد قال القرآن الکریم: «وَکَذَلِکَ جَعَلْنَا لِکُلِّ نَبِیّ عَدُوّاً شَیَاطِینَ الاِْنسِ وَالْجِنِّ»(2).
وهنا تطرق الإمام علیه السلام بعبارة قصیرة وعمیقة المعنی إلی قصّة قابیل الشخص الثانی بعد الشیطان الذی إعتراه الکبر والعصبیّة فارتکب جنایة عظیمة وغاص فی وحل الندم والشقاء فقال علیه السلام:
«وَلَا تَکُونُوا کَالْمُتَکَبِّرِ عَلَی ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَیْرِ مَا فَضْل جَعَلَهُ اللّهُ فِیهِ سِوَی مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ».
العبارة
«ابن أُمّه» بدلاً من أخ إشارة إلی البعد العاطفی للموضوع، أی أنّ التکبر فعل فِعله رغم تلک العلاقة العاطفیّة بینهما فدفعه لقتل أخیه ولعلنا نلمس شبیه هذا المعنی فی قصة موسی وهارون حین نقم علی عبادة بنی إسرائیل للعجل وقد أخذ برأس أخیه هارون فناداه علی سبیل آثارة عواطفه: «یَبْنَؤُمَّ لَاتَأْخُذْ بِلِحْیَتِی وَلَا بِرَأْسِی»(3).
ص:286
والعبارة:
«سِوی ما ألْحَقَتِ» من قبیل ما یصطلح علیه بالاستثناء المنقطع وقد وردت هنا لشدة الذم کأن نقول: «لیس لفلان من فضل سوی الکذب والخیانة».
والعبارة:
«عَداوَةُ الْحَسَد» إشارة إلی أنّ الحسد یؤدّی بالإنسان إلی العداوة والخصومة؛ العداء الذی من شأنه أن یکون مدعاة لقتل الأخ لأخیه.
ثم خاض الإمام علیه السلام فی توضیح هذا الأمر فقال:
«وقَدَحَتِ الْحَمِیَّةُ فِی قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ، ونَفَخَ الشَّیْطَانُ فِی أَنْفِهِ مِنْ رِیحِ الْکِبْرِ الَّذِی أَعْقَبَهُ اللّهُ بِهِ النَّدَامَةَ، وأَلْزَمَهُ آثَامَ(1) الْقَاتِلِینَ إِلَی یَوْمِ الْقِیامَةِ».
ویستفاد من هذه العبارات أنّ الانحرافات إنّما تنطلق بادئ الأمر من باطن الإنسان ثم یعمقها الشیطان لتطال آثارها المشؤومة الإنسان وعلیه فکلّ ما هنالک یعزی إلی باطن الإنسان الملوث وهذا رد حاسم علی أولئک الذین یقولون لماذا یفعل الشیطان کل هذا ولماذا یبتلینا اللّه تعالی بکلّ تلک المصائب.
وقد نقل ابن أبی الحدید عند هذه العبارة حدیثاً عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله رواه المؤرخ المعروف الطبری أنّه قال:
«ما مِنْ نَفْس تُقْتَلُ ظُلْماً إلّاکانَ عَلی ابْن آدَمَ الأوّلَ کِفْلٌ مِنها وذلِکَ بِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ».
وأضاف ابن أبی الحدید: إنّ کلام أمیر المؤمنین علیه السلام فی هذه الخطبة یؤید ذلک(2).
وقد وردت عدّة أبحاث مطولة فی الروایات الإسلامیّة بشأن إقامة السنة الحسنة والسنة السیئة وآثارهما سنتطرق إلی ذلک إن شاء اللّه فی محله والذی یمکن قوله علی نحو الخلاصة: إنّ کلّ من سن فعل خیر وحثّ الناس علی القیام به فهو شریک لهم فی الأجر والثواب ومن سن سنة سیئة فهو شریک لهم فی الذنب والمعصیة بسبب انتهاکه للحرمات وتشجیعه الناس من ضعاف الإیمان علی المعصیة.
ص:287
ص:288
ألَا وقَدْ أَمْعَنْتُمْ فِی الْبَغْیِ، وأَفْسَدْتُمْ فِی الأَرْضِ مُصَارَحَةً للّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ، ومُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنینَ بِالْمُحَارَبَةِ. فَاللّهَ اللّهَ فِی کِبْرِ الْحَمِیَّةِ وفَخْرِ الْجَاهِلِیَّةِ! فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ الشَّنَآنِ، ومَنَافِخُ الشَّیْطَانِ، الَّتِی خَدَعَ بِهَا الاُْمَمَ الْمَاضِیَةَ، والْقُرُونَ الْخَالِیَةَ. حَتَّی أَعْنَقُوا فِی حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ، ومَهَاوِی ضَلاَلَتِهِ، ذُلُلاً عَنْ سِیَاقِهِ، سُلُساً فِی قِیَادِهِ. أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِیهِ، وتَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَیْهِ، وکِبْراً تَضَایَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ.
أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِکُمْ وکُبَرَائِکُمْ! الَّذِینَ تَکَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ، وتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ، وأَلْقَوُا الْهَجِینَةَ عَلَی رَبِّهِمْ، وجَاحَدُوا اللّهَ عَلَی مَا صَنَعَ بِهِمْ، مُکَابَرَةً لِقَضَائِهِ، ومُغَالَبَةً لاِلاَئِهِ. فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِیَّةِ، ودَعَائِمُ أَرْکَانِ الْفِتْنَةِ، وسُیُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِیَّةِ. فَاتَّقُوا اللّهَ وَلَا تَکُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَیْکُمْ أَضْدَاداً، وَلَا لِفَضْلِهِ عِنْدَکُمْ حُسَّاداً. وَلَا تُطِیعُوا الأَدْعِیَاءَ الَّذِینَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِکُمْ کَدَرَهُمْ، وخَلَطْتُمْ بِصِحَّتِکُمْ مَرَضَهُمْ، وأَدْخَلْتُمْ فِی حَقِّکُمْ بَاطِلَهُمْ، وهُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ، وأَحْلاَسُ الْعُقُوقِ. اتَّخَذَهُمْ إِبْلِیسُ مَطَایَا ضَلاَل. وجُنْداً بِهِمْ یَصُولُ عَلَی النَّاسِ، وتَرَاجِمَةً یَنْطِقُ عَلَی أَلْسِنَتِهِمْ، اسْتِرَاقاً لِعُقُولِکُمْ ودُخُولاً فِی عُیُونِکُمْ، ونَفْثاً فِی أَسْمَاعِکُمْ.
فَجَعَلَکُمْ مَرْمَی نَبْلِهِ، ومَوْطِئَ قَدَمِهِ، ومَأْخَذَ یَدِهِ.
لما فرغ الإمام علیه السلام من تلک المقدمات فی المقاطع السابقة بشأن مخاطر الکبر
ص:289
والغرور والعصبیة حذر مخاطبیه مباشرة من سوء عاقبة السیر علی هذا المسار الشیطانی وألقی باللائمة علی أولئک الذین یثیرون الخلافات والنزاعات ویؤججون نیران الصراعات تحت ذرائع واهیة تستند إلی العصبیة القبلیة والتفاخر الذی تقوم به جماعة علی أخری فقال علیه السلام:
«ألَا وقَدْ أَمْعَنْتُمْ(1) فِی الْبَغْیِ، وأَفْسَدْتُمْ فِی الأَرْضِ مُصَارَحَةً(2) للّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ(3) ، ومُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنینَ بِالْمُحَارَبَةِ».
ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المخاطب بهذه العبارات هم جند الشام واتباع معاویة ولعلهم إستندوا فی ذلک إلی خطاب الإمام علیه السلام اللاذع والشدید الذی لم یکن مناسباً لما علیه أهل الکوفة والعراق، فی حین یفهم من سبب هذه الخطبة وسائر الخطب أنّ مخاطبی الإمام علیه السلام هم طغاة الکوفة والعراق الذین کانوا یثیرون الصراعات بین القبائل وأدّوا إلی المزید من الفساد وإراقة الدماء انطلاقاً من التعصبات الجاهلیّة والقبلیّة؛ الأمر الذی یعتبر عداءً صریحاً للّه من جانب وحرباً شعواء علی المؤمنین من جانب آخر.
ثم اشتد کلام الإمام علیه السلام فخاطبهم قائلاً:
«اللّهَ فِی کِبْرِ الْحَمِیَّةِ وفَخْرِ الْجَاهِلِیَّةِ! فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ الشَّنَآنِ، ومَنَافِخُ الشَّیْطَانِ».
وبالنظر إلی أنّ
«ملاقح» جمع
«ملقح» علی وزن مجرم، فإنّ مفهوم العبارة أنّ الکبر والتعصب سبب ایجاد البغض والعداوة وکذلک
«منافخ» جمع
«منفخ» علی وزن «مصرف» وسیلة ینفخ بواسطتها ومفهومها أنّ الشیطان یوسوس فی القلوب عن هذا الطریق ویسوقهم إلی الفساد.
ثم أشار علیه السلام إلی آثار ومخاطر هذه الوساوس والنفخات الشیطانیّة فقال:
ص:290
«الَّتِی خَدَعَ بِهَا الاُْمَمَ الْمَاضِیَةَ، والْقُرُونَ الْخَالِیَةَ. حَتَّی أَعْنَقُوا(1) فِی حَنَادِسِ(2) جَهَالَتِهِ، ومَهَاوِی(3) ضَلاَلَتِهِ، ذُلُلاً(4) عَنْ سِیَاقِهِ، سُلُساً(5) فِی قِیَادِهِ».
ثم أضاف علیه السلام قائلاً:
«أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِیهِ، وتَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَیْهِ، وکِبْراً تَضَایَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ».
فی إشارة إلی أنّ مسألة الکبر والغرور وآثارها ومخاطرها الجمة أمر متجذر فی جمیع الأمم والشعوب والذی کان مصدر الحروب الدمویة والنزاعات الواسعة ومختلف أنواع الجرائم والجنایات والحماقات.
فالتکبر والتعصب صفتان سودتا وجه التاریخ البشری واللتان تعتبران من أهم شباک الشیطان فی العصور الماضیة والحاضرة والقادمة.
نقل أحد شرّاح نهج البلاغة (المرحوم محمد جواد مغنیة) فی شرحه أنّ الفیلسوف الانجلیزی المعروف (راسل) قال: إنّ کلّ إنسان یحب أن یکون إلهاً والغریب قلّ من یعتقد أنّ هذا الأمر محال، ثم یضیف هذا الشارح العالم أنّ هذا الکلام صحیح إلّاأنّ أولئک الذی یتمنون أن یکونوا آلهة ولا یبلغون ذلک یعمدون لاشباع رغباتهم الباطنیّة إلی التکبر والفخر بالعظام البالیة لآبائهم أو ما هم علیه من مقام أو ذکر أسمائهم فی الصحف.
ثم رکز الإمام علیه السلام علی الموضع الأصلی للقضیة والذی یکمن فی الطاعة العمیاء لزعماء القبائل والمفسدین والمتکبرین الأنانیین الذین یدعون الناس إلی أهوائهم وملذّاتهم ویثیرون الفتن والمفاسد فقال علیه السلام:
«أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِکُمْ
ص:291
وکُبَرَائِکُمْ! الَّذِینَ تَکَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ، وتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ، وأَلْقَوُا الْهَجِینَةَ(1) عَلَی رَبِّهِمْ، وجَاحَدُوا اللّهَ عَلَی مَا صَنَعَ بِهِمْ، مُکَابَرَةً لِقَضَائِهِ، ومُغَالَبَةً لاِلاَئِهِ(2)».
فهذا الکلام فی الواقع اقتباس من الآیة القرآنیّة الشریفة التی یظهر فیها الناس ندمهم یوم القیامة علی طاعتهم لکبرائهم وزعمائهم فیقولون: «رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَکُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِیلاَْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَیْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً کَبِیراً»(3).
وإننا کلّما تأمّلنا تاریخ البشریّة الماضی نری أنّ أحد العناصر الرئیسیّة فی الحروب والصراعات وإراقة الدماء کان یکمن فی التکبر والعصبیات القبلیة والقومیّة والتی ما زالت قائمة لحد الآن، وهی أحد العوامل المهمّة فی نشوب الحرب العالمیة الأُولی والثانیة التی حطمت دولاً من العالم وأودت بحیاة الملایین من الناس، والحال لو أمعن الإنسان النظر لأدرک أنّ أصله من التراب وأصله الآخر نطفة لا قیمة لها ونهایته جثة متعفنة، فقد نهی الإسلام عن الافتخار بالآباء والمناصب والتمسک ببعض الألقاب التی تفرز الغرور والغفلة، فقد جاء فی الحدیث النبوی الشریف:
«حُبُّ الرَّجُلِ دینُهُ، ومُرُوَّتُهُ، خُلْقُهُ، وأصْلُهُ عَقْلُهُ»(4).
فقد قاله النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله حین حاول البعض الاستخفاف بسلمان الفارسی حین سألوه عن نسبه، فرد علیهم بأنّ نسبه عتقه من العبودیة بواسطة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله.
والعبارة:
«ألْقَوُا الْهَجینَةَ عَلی رَبِّهِمْ» إشارة إلی أنّ هؤلاء رأوا أنّ نسبهم هو الأفضل ونسب الآخرین أدنی، ثم نسبوا دناءة نسب الآخرین إلی اللّه تعالی، واعتقدوا أنّ اللّه تعالی خلق خلقاً فاضلاً وکانوا هم من ذلک الخلق، وخلق تعالی خلقاً أدنی هم الآخرون کما نسبوا لأنفسهم ما نالوا من النعم الإلهیّة علی أنّها تستند
ص:292
إلی کفائتهم وجدارتهم وتنکروا لنعم اللّه وآلائه وألطافه.
ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی ذکر السبب الذی یقف وراء ضرورة عدم تبعیة مثل هؤلاء الأفراد فقال:
«فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِیَّةِ، ودَعَائِمُ أَرْکَانِ الْفِتْنَةِ، وسُیُوفُ اعْتِزَاءِ(1) الْجَاهِلِیَّةِ».
فقد شبّه الإمام علیه السلام العصبیة والفتنة بالبیت، وأعمدته دعاة الفساد، وأرکانه المتکبرون الأنانیّون، وقد نهی الجمیع عن السکن فی هذا البیت، کما شبه علیه السلام الشعارات السائدة فی زمان الجاهلیّة لإثارة القبائل وتألیبها علی بعضها البعض الآخر، بالسیوف الحادة، ثم شبه زعماء الفساد بهذه السیوف.
فقد کان السائد فی العصر الجاهلی أنّ أیة قبیلة من القبائل إذا ما تعرّضت لتهدید من الطرف الآخر عمد زعماؤها بدلاً من اعتماد الفکر والمنطق فی إصلاح الأمور وإرساء الصلح والسلام إلی تألیب الآخرین علی اطلاق شعارات الحرب مستغلین جمیع الوسائل من أجل إثارة عواطف الأفراد الجهّال بغیة تأجیج نار الحرب، سیما أنّ کل قبیلة کانت تنادی الأخری بأسماء آبائها وأجدادها السابقین فزعماء القبائل فی الواقع هنا بمنزلة السیوف.
ویشیر التاریخ إلی أنّ الزعماء المتهافتین علی المناصب والمقامات فی العصور السابقة کانوا یعبئون الجماهیر بمختلف الشعارات ویزجون بالجهّال فی أتون الحرب بغیة الحفاظ علی مصالحهم ومقاماتهم ولعلنا نلمس الیوم ما علیه وسائل الإعلام العالمیّة التی تعتمد شتی الأسالیب وبصورة واسعة بغیة الحفاظ علی الحکومات الاستکباریة ومصالح کبار رؤساء الأموال، وکما قال القرآن الکریم: «اِنَّ الْمُلُوکَ إِذَا دَخَلُوا قَرْیَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً»(2)، وهذه هی الفئة التی وقفت علی الدوام بوجه الأنبیاء الذین بعثوا لتنویر عقول الناس وهدایتهم إلی
ص:293
الصراط المستقیم وبسط القسط والعدالة الاجتماعیّة، فهبت لمعاداتهم ومواجهتهم:
«وَمَا أَرْسَلْنَا فِی قَرْیَة مِّنْ نَّذِیر الاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ کَافِرُونَ»(1).
ثم أضاف علیه السلام:
«فَاتَّقُوا اللّهَ وَلَا تَکُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَیْکُمْ أَضْدَاداً، وَلَا لِفَضْلِهِ عِنْدَکُمْ حُسَّاداً».
فی الواقع إنّ هؤلاء الذین یکفرون بنعم اللّه ویسلکون سبیل الکبر والغرور بدلاً من توظیف هذه النعم فی خدمة الخلق إنّما یهبون لمناجزة نعمهم ویحسدون أنفسهم فی ما أفاض اللّه علیهم ذلک لأنّ فعل هؤلاء بالنتیجة یتفق مع ما علیه الحساد والأعداء، فکلاهما ینشد سلب النعمة والفضل الإلهی من الآخرین.
ثم أشار الإمام علیه السلام إلی نقطة أخری فقال:
«وَلَا تُطِیعُوا الأَدْعِیَاءَ(2)».
ذهب بعض الشرّاح إلی أنّ المراد بالأدعیاء ذلک المعنی الأصلی (الأفراد الذین لا حسب لهم ولا نسب، أبناء الحرام) بینما فسّرها البعض الآخر بأنّ المراد بها المنافقین، ذلک لأنّ النفاق إنّما هو نتیجة دناءة النسب وخسة الجوهر، وأخیراً هناک من فسّرها بالوضیعین.
جدیر ذکره أنّ التکبر الذی یعدّ الموضوع الأصلی لهذه الخطبة إنّما یستند إلی عقدة الحقارة، وهذا ما صرحت به الروایة الواردة عن الإمام الصادق علیه السلام حیث قال:
«ما مِنْ رَجُل تَکَبَّرَ او تَجَبَّرَ إِلاّ لِذِلَّة وَجَدَها فی نَفْسِهِ»(3).
ثم خاض علیه السلام فی شرح أوصاف طائفة الأدعیاء فقال:
«الَّذِینَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِکُمْ کَدَرَهُمْ، وخَلَطْتُمْ بِصِحَّتِکُمْ مَرَضَهُمْ، وأَدْخَلْتُمْ فِی حَقِّکُمْ بَاطِلَهُمْ».
إشارة إلی أنّ هؤلاء المنافقین المستکبرین إنّما استغلوا حسن نیاتکم وأنفذوا
ص:294
إلیکم نیاتهم السیئة وأمراضهم النفسیّة وأعمالهم المریضة والمطالب الباطلة ورسخوها فی أوساطکم؛ وعلیه فما علیکم إلّاالتعرف علیهم والانسحاب من تبعیتهم وطرح أفکارهم الفاسدة وخططهم الشیطانیّة من أوساطکم.
ثم أفصح الإمام علیه السلام عن التعریف بهم فقال:
«وهُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ، وأَحْلاَسُ(1) الْعُقُوقِ(2)».
بالنظر إلی معنی الفسوق وهو الخروج عن الطاعة والعقوق الذی یطلق علی مطلق العصیان، فإنّ المراد بالعبارة السابقة أنّ جمیع المعاصی والمفاسد الاجتماعیّة إنّما تنبع من المفسدین والمستکبرین حیث یقوم هؤلاء الأفراد باستقطاب الناس وشدهم إلیهم کونهم مصداق للعبارة:
«النّاسُ عَلی دینِ مُلُوکِهِمْ».
ثم تحدّث الإمام علیه السلام عن العلاقة القائمة بین هذه الفئة وإبلیس ومدی ارتباط افکارهم وخططهم بوساوسه فقال:
«اتَّخَذَهُمْ إِبْلِیسُ مَطَایَا ضَلاَل. وجُنْداً بِهِمْ یَصُولُ(3) عَلَی النَّاسِ، وتَرَاجِمَةً یَنْطِقُ عَلَی أَلْسِنَتِهِمْ، اسْتِرَاقاً لِعُقُولِکُمْ ودُخُولاً(4) فِی عُیُونِکُمْ، ونَفْثاً(5) فِی أَسْمَاعِکُمْ».
فالواقع، إنّما یمتطی إبلیس هذه الفئة بالدرجة الأُولی لإضلال الناس وإغوائهم، ثم یستعین بها فی هجومه علیهم فإن استسلموا لقنهم مطالبه بلسان زعماء هذه الفئة الضالة فیعطل لدیهم جمیع مصادر الفهم والإدراک بما فیها العقل والعین والاذن؛ فیسلبهم عقلهم بأمانیه البعیدة وأهوائه ورغباته ویزین لهم الدنیا، فیصادر بصیرتهم ویقرأ فی آذانهم کلمات الخداع ویوسوس إلیهم فلا تکون عاقبتهم إلّاتلک التی
ص:295
أشار الإمام علیه السلام إلیها فی خطبته وعلی هذا الأساس فقد جعلکم أهدافاً لسهامه ووطأکم بقدمه واستحوذ علیکم:
«فَجَعَلَکُمْ مَرْمَی نَبْلِهِ(1) ، ومَوْطِئَ قَدَمِهِ، ومَأْخَذَ یَدِهِ».
فمن الطبیعی أن یتیه الإنسان تحت أرجل الشیطان ویکون بدنه عرضة لسهامه ویحکم علیه قبضته إذا ما فقد عقله وبصیرته وإدراکه.
وقد ذهب أغلب شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ العبارة «ومَأْخَذَ» إشارة إلی الأسر فی مخالب الشیطان، وعلیه یکون مفهوم العبارات الثلاث أنّ الشیطان یقضی علیکم أو یذلکم أو یأسرکم، إلّاأنّ التفسیر الذی أوردناه یبدو أنسب مع العبارات السابقة.
والواقع أنّ هذه الکلمات العمیقة للإمام علیه السلام بشأن نفوذ الشیطان فی الإنسان اقتباس من القرآن الکریم إذ قال تعالی: «وَإِنَّ الشَّیَاطِینَ لَیُوحُونَ إِلَی أَوْلِیَائِهِمْ لِیُجَادِلُوکُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّکُمْ لَمُشْرِکُونَ»(2).
وقال تعالی فی الآیة 112 من سورة الأنعام: «وَکَذَلِکَ جَعَلْنَا لِکُلِّ نَبِیّ عَدُوّاً شَیَاطِینَ الاِْنسِ وَالْجِنِّ یُوحِی بَعْضُهُمْ إِلَی بَعْض زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً» وقد مر شبیه ما ورد فی هذه العبارة فی الخطبة السابعة حین قال:
«اتَّخَذُوا الشَّیْطَانَ لاَِمْرِهِمْ مِلاَکاً واتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاکاً... فَنَظَرَ بِأَعْیُنِهِمْ، ونَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَرَکِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ، وزَیَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ».
«التکبر» یعنی الشعور بالأفضلیة من الآخرین، و
«التعصب» یعنی التعلق غیر المنطقی بشخص والتفانی فی الدفاع عنه بصورة عمیاء، أو الغلو فی الحب للقبیلة
ص:296
وتمجیدها بحقّ وبغیر حقّ، وتعصب من مادة عصب علی وزن غضب بمعنی الأوعیة الخاصّة التی تربط عضلات الإنسان بدماغه وتشکل سلسلة الأعصاب.
ثم اطلقت علی الفئة والجماعة المنسجمة فکریاً والمتعاضدة فیما بینها، ویطلق علی هذه الجماعة
«عُصبة» علی وزن
«سُفرة» وتطلق مفردة
«تعصّب» عادة علی التبعیة الهمجیة المطلقة والتی یفرزها عادة الجهل وضیق التفکیر والکبر؛ لأنّ الشخص الذی یرید أن یلصق بنفسه قیمة معینة یسعی لإکبار من یتعلق به أو یتعلق بهم، فیتجاهل نقط ضعفهم ویبالغ فی تضخیم نقاط قوتهم إن وجدت فیهم.
وهذه الرذیلة الأخلاقیّة الجاهلیّة إذا انطلقت من التعصب العرقی والقبلی فإنّها تؤدّی إلی اندلاع النزاعات والحروب والعنف والصراعات الدمویّة التی حدثت فی التاریخ القدیم والتاریخ المعاصر.
ولعل أحداً لم یأمن مخاطر الکبر والعصبیّة منذ التاریخ الجاهلی حتی تاریخنا الراهن. فقد نشب فی العصر الجاهلی قتالان عنیفان بین القبائل العربیة باسم الفجار المعروفة فی التاریخ. حیث حدثت فجار الأُولی حین کان لفرد من قبیلة بنی کنانة دین بذمة رجل من قبیلة هوازن الذی ما کان یستطیع تسدید دینه؛ فشاهد الرجل الهوازنی قرداً فی سوق عکاظ (السوق الذی کان یعقد کلّ سنة قرب الطائف) وقال:
هل مِن رجل یبیعنی هذا القرد مقابل دینی من فلان الکنانی ومراده من هذا الکلام تحقیر الرجل الکنانی الذی عجز عن تسدید دینه، وهنا قام رجل من کنانة فقتل القرد، فصرخ الهوازنی بوجه الرجل واستنجد الکنانی بقبیلته فاقتتلت القبیلتان قتالاً شدیداً.
وفجار الثانیة التی حدثت بعد وفاة عبد المطلب، وسببها أنّ فتی من قبیلة بنی غفار جلس فی زاویة من سوق عکاظ ومد رجلیه وکان یقول: أنا أفضل العرب ومن لم یقبل ذلک فلیقطع رجلیَّ، فانبری له فتی جاهل من قبیلة بنی قیس وسل سیفه وضربه علی رجلیه، فاقتتلت قبیلتیهما قتالاً شدیداً حتی تصالحا بعد مدّة من
ص:297
العداوة والخصومة(1) ، وما شهده القرن العشرین متمثلاً فی الحرب العالمیة الثانیة وکان سببها کما نعلم العصبیة الألمانیّة النازیّة والتی خلفت عشرات الملایین من القتلی وعشرات الملایین من الجرحی والعدید من المفقودین وذلک الخراب العظیم الذی حلّ بأوروبا وسائر دول العالم، وحتی الیوم فإنّ العوامل الرئیسیّة التی تقف وراء اعتداءات المستکبرین والجناة الاسرائیلیین لا تستند إلی شیء سوی إلی الکبر والتعصب.
وبالنظر لما ذکرناه سابقاً نقف علی عمق کلام الإمام علیه السلام فی إظهاره لکلّ هذا القلق من النتائج الوخیمة للکبر والعصبیّة، وفی ذلک ورد عن النّبی صلی الله علیه و آله:
«مَنْ کانَ فی قَلْبِهِ حَبّةٌ مِنْ خَرْدَل مِنْ عَصَبِیَّة، بَعَثَهُ اللّهُ یَوْمَ الْقِیامَةِ مَعَ أعْرابِ الْجاهِلِیَّةِ»(2).
کما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:
«مَنْ تَعصَّبَ او تُعصِّبَ لَهُ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَ الإیمانِ»(3).
***
ص:298
فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الاُْمَمَ الْمُسْتَکْبِرِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ مِنْ بَأْسِ اللّهِ وَصَوْلاَتِهِ، ووَقَائِعِهِ ومَثُلاَتِهِ، واتَّعِظُوا بِمَثَاوِی خُدُودِهِمْ، ومَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ، واسْتَعِیذُوا بِاللّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْکِبْرِ، کَمَا تَسْتَعِیذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ.
فَلَورَخَّصَ اللّهُ فِی الْکِبْرِ لاَِحَد مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِیهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِیَائِهِ وأَوْلِیَائِهِ؛ ولکِنَّهُ سُبْحَانَهُ کَرَّهَ إِلَیْهِمُ التَّکَابُرَ، ورَضِیَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ، فَأَلْصَقُوا بِالاَْرْضِ خُدُودَهُمْ، وعَفَّرُوا فِی التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ. وخَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِینَ، وکانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِینَ. قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللّهُ بِالْمَخْمَصَةِ، وابْتَلاَهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ، وامْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ، ومَخَضَهُمْ بِالْمَکَارِهِ. فَلاَ تَعْتَبِرُوا الرِّضَی والسُّخْطَ بِالْمَالِ والْوَلَدِ جَهْلاً بِمَواقِعِ الْفِتْنَةِ، والاِْخْتِبَارِ فِی مَوْضِعِ الْغِنَی والاِْقْتِدَارِ، فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَی:
(أَیَحْسَبُونَ أنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَّال وبَنِینَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِی الْخَیْرَاتِ بَلْ لاَّ یَشْعُرُونَ). فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ یَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَکْبِرِینَ فِی أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِیَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِینَ فِی أَعْیُنِهِمْ.
لما فرغ الإمام علیه السلام من تحذیراته فی المقطع السابق من هذه الخطبة من تبعیة المستکبرین والعصاة المتعصبین، أخذ فی هذا الجانب من الخطبة بید مخاطبیه لیغوص بهم فی أعماق التاریخ ویوقفهم علی مصیر الأمم المستکبرة وأئمّة الکبر
ص:299
والغرور فی التاریخ القدیم فقال:
«فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الاُْمَمَ الْمُسْتَکْبِرِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ مِنْ بَأْسِ اللّهِ وَصَوْلاَتِهِ،(1) ووَقَائِعِهِ ومَثُلاَتِهِ(2)».
فقد عرض لنا القرآن الکریم کیف کانت عاقبة الطغاة سیئة ومصیرهم أسود کفرعون وجنوده حیث هلکوا غرقاً فی أمواج البحر وکانت أجسامهم طعمة لحیتان البحار، وطغاة مع أقواهم هلکوا تحت الزلارل الشدیدة ومنهم مَن أُمطروا بالحجارة أو خسف بهم الأرض ومنهم مَن قلبَ اللّه بهم مدنهم فجعل عالیها سافلها کقوم لوط، وطائفة أخذهم بالطوفان والعواصف التی جعلتهم کأعجاز النخل الخاویة کقوم عاد، بینما أخذ البعض الآخر بالصاعقة لیحیلهم أجساداً خاویة بطرفة عین کما قال تعالی فی محکم کتابه العزیز: «فَکُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَیْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّیْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا کَانَ اللّهُ لِیَظْلِمَهُمْ وَلَکِنْ کَانُوا أَنْفُسَهُمْ یَظْلِمُونَ»(3).
ثم قال علیه السلام:
«واتَّعِظُوا بِمَثَاوِی(4) خُدُودِهِمْ، ومَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ،(5) واسْتَعِیذُوا بِاللّهِ مِنْ لَوَاقِحِ(6) الْکِبْرِ، کَمَا تَسْتَعِیذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ».
یبدو أنّ الوصایا الثلاث التی ذکرها الإمام علیه السلام:
«اعتبروا» و «اتَّعِظُوا» و «اسْتَعِیذُوا» إشارة إلی المراحل الثلاث التی تنتظر الإنسان الیقظ فی مسیرته نحو الحقّ حین تأمّله لسیرة الماضین: وأهمها مصیر الأمم السابقة بما کانت تمتلکه من نعم وما کانت علیه من عزة وقدرة ثم الت إلی الزوال أثر الکبر والغرور، لکی یتعلم الدروس والعبر من تاریخ حیاتهم ومماتهم فیستعیذ باللّه فی خاتمة المطاف حتی لا
ص:300
یُصاب بالکبر والغرور.
وتشیر العبارة
«کَمَا تَسْتَعِیذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ» إلی آثار الکبر المشؤومة والتی تعد من الحوادث المریرة التی لا تقل عن الزلازل والعواصف والحوادث الطبیعیة المفجعة الأخری.
ثم طرق هذا المعلم الربّانی العظیم سبیلاً آخر بغیة خلق النفرة فی قلوبهم إزاء الکبر والغرور فقال علیه السلام:
«فَلَورَخَّصَ اللّهُ فِی الْکِبْرِ لاَِحَد مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِیهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِیَائِهِ وأَوْلِیَائِهِ؛ ولکِنَّهُ سُبْحَانَهُ کَرَّهَ إِلَیْهِمُ التَّکَابُرَ، ورَضِیَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ، فَأَلْصَقُوا بِالاَْرْضِ خُدُودَهُمْ، وعَفَّرُوا(1) فِی التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ. وخَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِینَ، وکَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِینَ».
لعل بعض المتکبرین یعتقدون أنّ التکبر یکشف عن الشخصیة وأنّها بالتالی نعمة من نعم اللّه تعالی، فالإمام علیه السلام یشیر إلی أنّ هذا العمل لوکان نعمة وکرامة لأَنعم به تعالی علی أنبیائه وأولیائه قبل کلّ شخص آخر؛ بینما نری القضیة معکوسة تماماً حیث کرَّهَ تعالی إلیهم الکبر والغرور، والتواضع بمثابة تاج وضع علی رؤوسهم، وعلی هذا الأساس عاشوا الخضوع للّه تعالی فکانوا یعفّرون وجوههم بالتراب، کما عاشوا البساطة والتواضع للمؤمنین.
والعبارة:
«وَخَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ» کنایة لطیفة عن التواضع، لأنّ الطیور حین ترید أن تحنو علی فراخها تضمها تحت أجنحتها بعد أن تفتحها لها.
والعبارة:
«وَکانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِینَ» لا تفید هنا معنی الضعف والعجز، بل تعنی أنّهم کانوا لا تیکبّرون علی أبناء مجتمعهم فهم عباد بُسطاء وأنّهم یشاطرون الآخرین حیاتهم.
ثم هم الإمام علیه السلام برفع الخطأ واللبس الذی شاب بعض المستکبرین الذین اعتقدوا بأنّ المال والأولاد علامات علی القرب من اللّه تعالی، فخاض فی بعض
ص:301
التفاصیل من سیرة وحیاة خاصة أولیاء اللّه وأنبیائه وما تعرضوا له من امتحانات واختبارات بعبارات فصیحة وبلیغة لیرکز علی أربعة أنواع من الاختبارات فقال:
«قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللّهُ بِالْمَخْمَصَةِ(1) ، وابْتَلاَهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ(2) ، وامْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ، ومَخَضَهُمْ(3) بِالْمَکَارِهِ».
فطرق اللّه تعالی الامتحانیّة لا تحصی، فأحیاناً بالنعمة وکذلک بالنقمة، وتارة بالمرض والسقم وأخری بالصحة والعافیة وثالثة بالعزّة وأخری بسلبها؛ لکن یمکن تقسیم هذه الاختبارات إلی أقسام متعددة؛ الضیق فی المعیشة والجوع والعطش، الحوادث الشاقة والألیمة من قبیل المصائب التی تحملها المسلمون الأوائل فی شعب أبی طالب حتی مختلف الغزوات وحالة اللاأمن التی کان یفرضها علیهم خصوم الدعوة، إلی جانب الأمراض والمعاناة التی سادت حیاة جمیع أنبیاء اللّه، إنّما تعدّ دلیلاً علی هذه الامتحانات ومن ذلک حیاة موسی بن عمران علیه السلام منذ ولادته حتی لجوئه إلی بیت النبی شعیب علیه السلام، وحین انبری لدعوة الفراعنة وما أعقبها من حوادث ألیمة والمصائب التی عاشها فی بنی اسرائیل، وکذلک مختلف المراحل التی شهدها نبی اللّه إبراهیم علیه السلام فی حیاته من بابل حتی أرض مصر ثم مکة ولا سیما سیرة النّبی الأکرم محمد صلی الله علیه و آله والغنیة عن التوضیح، کلّها شواهد حیة علی هذا الأمر.
ثم خاض علیه السلام فی دفع خطأ مهم بعد ذکره لهذه المقدمة والذی أصیب به العدید من الناس فی الماضی والحاضر والذی یتمثل فی ظنهم بأنّ کثرة الأموال والأولاد دلیل علی التوفیق والسعادة والقرب من اللّه تبارک وتعالی فقال علیه السلام:
«فَلاَ تَعْتَبِرُوا
ص:302
الرِّضَی والسُّخْطَ بِالْمَالِ والْوَلَدِ جَهْلاً بِمَواقِعِ الْفِتْنَةِ، والاِْخْتِبَارِ فِی مَوْضِعِ الْغِنَی والاِْقْتِدَارِ».
ثم استدل علیه السلام بآیة قرآنیّة أشارت صراحة إلی هذا الأمر فقال:
«فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَی : «أَیَحْسَبُونَ أنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَّال وبَنِینَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِی الْخَیْرَاتِ بَلْ لاَّ یَشْعُرُونَ(1)»».
ثم خلص من الآیة الشریفة إلی هذه النتیجة فقال:
«فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ یَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَکْبِرِینَ فِی أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِیَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِینَ فِی أَعْیُنِهِمْ».
فالعبارة
«فِی أَنْفُسِهِمْ» بشأن المستکبرین إشارة إلی أنّهم لیسوا علی شیء من الفضیلة، بل هم عباد ضعاف وعاجزون یرون أنفسهم کباراً. والعبارة
«فِی أَعْیُنِهِمْ» (استناداً لعودة الضمیر للمستکبرین) تشیر إلی أنّ عباد اللّه لیسوا ضعافاً وعاجزین قط، بل المستکبرون یظنونهم مستضعفین بفعل زهدهم وورعهم وتقواهم وطاعتهم لأوامر اللّه، ومن هنا یتّضح اختلاف مفردة المستضعف هنا مع ما وردت فی العبارة السابقة حیث قال علیه السلام الأنبیاء مستضعفون إشارة إلی تواضعهم ووزهدهم وبساطة حیاتهم، وقوله أولیاء اللّه المستضعفین فی عین المستکبرین إشارة إلی الضعف والعجز والذلّة التی یظنونها.
أشارت العدید من الآیات القرآنیّة إلی هذا الموضوع حیث إنّه کان فی الأقوام السابقة بعض الأفراد الذین یعتقدون بأنّ کثرة الاموال والأولاد دلیل علی القرب من اللّه تعالی، وقد دفع بهم هذا التصور الخاطئ لأنّ یعتقدوا لأنفسهم ببعض المقامات المعنویّة بموازاة تلک الإمکانات المادیّة الضخمة لیوردوا هذا الأمر بصیغة مغالطة
ص:303
فیزعموا أنّ هذه نعم اللّه فمن شمله اللّه بهذه النعم فقد أحبّه، ومن أحبّه اللّه کان مقرّباً منه، وعلی هذا الأساس کانوا ینظرون باستخفاف إلی المؤمنین علی المستوی المادی والمعنوی.
وقد غفلوا عن أنّ إفاضة الإمکانات المادیّة إنّما یستند إلی عدة عوامل، فقد تکون نعمة من نعم اللّه، کما قد تکون للامتحان والاختبار أو الاستدراج للعذاب، أی أنّ اللّه سبحانه وتعالی إنّما یتابع نعمه علی بعض الأفراد الذین لا یمکن إصلاحهم فیسلبها تعالی منهم بغتة لیکون ذلک أشد وقعاً علی قلوبهم وأکثر إیلاماً. والقضیة أشبه بالضبط بذلک المعتدی الذی یتسلق شجرة مثمرة ثم یأخذ بالتسلق شیئاً فشیئاً حتی یسقط فجأة فتتحطم جمیع عظامه.
***
ص:304
ولَقَدْ دَخَلَ مُوسَی بْنُ عِمْرَانَ ومَعَهُ أَخُوهُ هَارُونَ (علیهما السلام) عَلَی فِرْعَوْنَ، وعَلَیْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ، وبِأَیْدِیهِمَا الْعِصِیُّ، فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْکِهِ، ودَوَامَ عِزِّهِ؛ فَقَالَ:
«أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ هذَیْنِ یَشْرِطَانِ لِی دَوَامَ الْعِزِّ، وبَقَاءَالْمُلْکِ؛ وهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ والذُّلِّ، فَهَلاَّ أُلْقِیَ عَلَیْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَب»؟ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وجَمْعِهِ، واحْتِقَاراً لِلصُّوفِ ولُبْسِهِ! ولَوأَرَادَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لاَِنْبِیَائِهِ حَیْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ یَفْتَحَ لَهُمْ کُنُوزَ الذِّهْبَانِ، ومَعَادِنَ الْعِقْیَانِ، ومَغَارِسَ الْجِنَانِ، وأَنْ یَحْشُرَ مَعَهُمْ طُیُورَ السَّماءِ ووُحُوشَ الأَرَضِینَ لَفَعَلَ، ولَوفَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلاَءُ، وبَطَلَ الْجَزَاءُ، واضْمَحَلَّتِ الأَنْبَاءُ، ولَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِینَ أُجُورُ الْمُبْتَلِینَ، وَلَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الُْمحْسِنِینَ، وَلَا لَزِمَتِ الأَسْمَاءُ مَعَانِیَهَا. ولکِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِی قُوَّة فِی عَزَائِمِهِمْ، وَضَعَفَةً فِیَمَا تَرَی الأَعْیُنُ مِنْ حَالاَتِهِمْ، مَعَ قَنَاعَة تَمْلاَُ الْقُلُوبَ والْعُیُونَ غِنیً، وخَصَاصَة تَمْلاَُ الأَبْصَارَ والأَسْمَاعَ أَذیً.
تابع الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة من خلال طریق آخر ینطوی علی الدروس والعبر ذم الکبر والغرور والعصبیة التی تشکل المحور الأصلی لهذه الخطبة، فأشار إلی قصّة موسی بن عمران علیه السلام حین دخل مع أخیه هارون علی
ص:305
فرعون وکانا یرتدیان تلک الثیاب البسیطة فتعرضا إثر ذلک لاستخفاف فرعون المتکبر فقال علیه السلام:
«وَلَقَدْ دَخَلَ مُوسَی بْنُ عِمْرَانَ ومَعَهُ أَخُوهُ هَارُونَ علیهما السلام عَلَی فِرْعَوْنَ، وعَلَیْهِمَا مَدَارِعُ(1) الصُّوفِ، وبِأَیْدِیهِمَا الْعِصِیُّ،(2) فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْکِهِ، ودَوَامَ عِزِّهِ».
فقد دخل موسی وهارون علیهما السلام بذلک اللباس البسیط وعصا الرعی علی فرعون لیحطما کبریاءه وطغیانه ویبیّنا له ولحاشیته أنّ العزّة لیست فی الأموال والکنوز وکثرة الخدم لیعلنا نهایة ذلک النوع من العیش وانطلاقة العهد الجدید فی الحکومة الإلهیّة بواسطة المستضعفین.
ثم واصل علیه السلام حدیثه فتطرق إلی ردود الفعل التی ابداها فرعون إزاء دعوة موسی وهارون فقال علیه السلام:
«فَقَالَ: «أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ هذَیْنِ یَشْرِطَانِ لِی دَوَامَ الْعِزِّ، وبَقَاءَ الْمُلْکِ؛ وهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ والذُّلِّ، فَهَلاَّ أُلْقِیَ عَلَیْهِمَا أَسَاوِرَةٌ(3) مِنْ ذَهَب»؟ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وجَمْعِهِ، واحْتِقَاراً لِلصُّوفِ ولُبْسِهِ!».
نعم! فالنظام المادی للجهاز الفرعونی یدور حول هذا المحور فی أنّ من کانت إمکاناته فی الذهب والجواهر أکثر کانت شخصیته أسمی، وثیاب الصوف البسیطة إنّما هی لباس الشخصیات الوضیعة فی المجتمع؛ أی لم یکن هنالک أی دور للقیم الإنسانیّة فی بیان شخصیة الإنسان فی ظلّ ذلک النظام، والقیم الاعتباریة والخیالیة هی التی تحدد معیار الشخصیة.
وقد تعرض الإمام علیه السلام لشرح هذه الحقیقة بعبارات غایة فی الروعة والبیان والتی لم تکن لها آنذاک قیمة واقعیة بینما کان یحسبها کذلک فرعون وحاشیته فقال:
«ولَوأَرَادَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لاَِنْبِیَائِهِ حَیْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ یَفْتَحَ لَهُمْ کُنُوزَ الذِّهْبَانِ(4) ، ومَعَادِنَ
ص:306
الْعِقْیَانِ(1) ، ومَغَارِسَ(2) الْجِنَانِ، وأَنْ یَحْشُرَ مَعَهُمْ طُیُورَ السَّماءِ ووُحُوشَ الأَرَضِینَ لَفَعَلَ، ولَوفَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلاَءُ، وبَطَلَ الْجَزَاءُ، واضْمَحَلَّتِ الأَنْبَاءُ، ولَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِینَ أُجُورُ الْمُبْتَلِینَ، ولَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الُْمحْسِنِینَ، وَلَا لَزِمَتِ الأَسْمَاءُ مَعَانِیَهَا».
إشارة إلی أنّ الحکیم تبارک وتعالی یستطیع أن یمد أنبیاءه بجمیع أسباب القوّة ویزینهم بمختلف صنوف الذهب والمجوهرات والثروات ویغدق علیهم القصور ووسائل الراحة، بل یجعل أنبیاءه أغنی الملوک والسلاطین - لأنّه خالق السماوات والأرض ومالک کلّ شیء - لکنه حکیم فإن فعل ذلک سیزول الهدف الأصلی لبعث الأنبیاء والدعوة إلی اللّه تعالی، بل ستکون النتیجة معکوسة وتتحول القیم والمثل إلی ما یضادها ویفسد الإیمان وتسوء الأخلاق والتربیة.
ولذلک خاض الإمام علیه السلام فی تفاصیل ست مفاسد فی بیان الآثار السیئة لمثل هذا الأمر وهی:
1. انعدام معطیات الامتحان الإلهی للعباد فی ظلّ هذه الظروف، ذلک لأنّ الأفراد غیر المؤمنین وبسبب ما علیه الأنبیاء من إمکانات وزینة سیندفعون إلیهم دون الاقتناع بمنهجهم ودعوتهم.
2. زوال ثواب المحسنین، ذلک لأنّ إیمانهم لا یکون خالصاً فی ظلّ تلک الشرائط.
3. لا یعدّ الوعد الإلهی وأخبار الوحی بشأن الحلال والحرام دافعاً لطاعة الناس، بل الدوافع المادیّة هی التی تحرکهم، کما أنّ سیرتهم سوف لن تعدّ أسوة ونموذجاً للعباد.
ص:307
4. سوف لن یحصل المؤمنون بالأنبیاء علی الأجر الجزیل الذی یناله المجاهدون فی سبیل اللّه.
5. لا یستحق المؤمنون المخلصون ثواب المحسنین ذلک لأنّهم لم یتحملوا عناءً.
6. بعض الصفات المقدّسة والأسماء من قبیل المؤمن والصالح والمجاهد والمخلص سوف تفقد مصادیقها الواقعیة کما ستفقد بعض الصفات التی تنسب إلی الأنبیاء من قبیل الزهد والورع والتقوی وعدم التعلق بالدنیا مفهومها ومعناها.
ثم قال الإمام علیه السلام فی توضیحه لهذا المعنی:
«ولکِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِی قُوَّة فِی عَزَائِمِهِمْ، وَضَعَفَةً فِیمَا تَرَی الأَعْیُنُ مِنْ حَالاَتِهِمْ، مَعَ قَنَاعَة تَمْلاَُ الْقُلُوبَ والْعُیُونَ غِنیً، وخَصَاصَة(1) تَمْلاَُ الأَبْصَارَ والأَسْمَاعَ أَذیً».
فالواقع إنّهم کانوا رجالاً أشداء باستطاعتهم اقتناء الذهب والمجوهرات ووسائل الزینة، إلّاأنّهم جعلوا کلّ أسباب الترف ومباهج الدنیا التی تعدّ مصدراً للکبر والغرور والفخر والعجب والأنانیّة وراء ظهورهم، وجعلوا الهدف الرسالی أمام عیونهم.
***
ص:308
ولَوْکَانَتِ الأَنْبِیَاءُ أَهْلَ قُوَّة لَاتُرَامُ، وعِزَّة لَاتُضَامُ، ومُلْک تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ، وتُشَدُّ إِلَیْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ، لَکَانَ ذلِکَ أَهْوَنَ عَلَی الْخَلْقِ فِی الإِعْتِبَارِ، وأَبْعَدَ لَهُمْ فِی الإِسْتِکْبَارِ، ولاَمَنُوا عَنْ رَهْبَة قَاهِرَة لَهُمْ، أَورَغْبَة مَائِلَة بِهِمْ، فَکَانَتِ النِّیَّاتُ مُشْتَرَکَةً، وَالْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً. ولکِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ یَکُونَ الاِتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ، والتَّصْدِیقُ بِکُتُبِهِ، والْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ، والاِسْتِکَانَةُ لاَِمْرِهِ، والاِسْتِسْلاَمُ لِطَاعَتِهِ، أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَاتَشُوبُهَا مِنْ غَیْرِهَا شَائِبَةٌ. وکُلَّمَا کانَتِ الْبَلْوَی والاِخْتِبَارُ أَعْظَمَ کانَتِ الْمَثُوبَةُ والْجَزَاءُ أَجْزَلَ.
أشار الإمام علیه السلام فی القسم السابق من الخطبة بوضوح إلی الحیاة المتواضعة للأنبیاء ومنهم موسی بن عمران علیه السلام، ثم واصل کلامه فی هذا الجانب من الخطبة لبیان الآثار المعنویّة والتربویّة للبساطة والتواضع فقال:
«ولَوْکَانَتِ الأَنْبِیَاءُ أَهْلَ قُوَّة لَا تُرَامُ(1) ، وعِزَّة لَاتُضَامُ(2) ، ومُلْک تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ، وتُشَدُّ إِلَیْهِ عُقَدُ(3) الرِّحَالِ(4) ، لَکَانَ ذلِکَ أَهْوَنَ عَلَی الْخَلْقِ فِی الإِعْتِبَارِ، وأَبْعَدَ لَهُمْ فِی الإِسْتِکْبَارِ،
ص:309
ولاَمَنُوا عَنْ رَهْبَة قَاهِرَة لَهُمْ، أَورَغْبَة مَائِلَة بِهِمْ، فَکَانَتِ النِّیَّاتُ مُشْتَرَکَةً، وَالْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً».
نعم، فالمحور الأصلی الذی حظی باهتمام الأنبیاء هو الإخلاص وطهارة النیّة، والحقّ أنّ الأنبیاء علیهم السلام لو کانوا ذوی قوّة قاهرة وملکوا کنوز الأرض وعاشوا حیاتهم فی القصور مترفین کالسلاطین لما اعتبر بهم الناس، وإذا آمن بهم البعض فإمّا عن خوف من سلطانهم، وإمّا عن طمع فی ملکهم، حیث
«النّاسُ عَبیدُ الدّنیا».
ثم قال علیه السلام مؤکدا هذا الکلام:
«ولکِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ یَکُونَ الاِتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ، والتَّصْدِیقُ بِکُتُبِهِ، والْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ، والاِسْتِکَانَةُ(1) لاَِمْرِهِ، والاِسْتِسْلاَمُ لِطَاعَتِهِ، أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَاتَشُوبُهَا(2) مِنْ غَیْرِهَا شَائِبَةٌ».
فقد أشار الإمام علیه السلام فی الواقع إلی خمسة أشیاء ینبغی أن تتم جمیعها علی أساس الإخلاص فی النیّة وهی: 1. قبول دعوة الأنبیاء، 2. التصدیق بالکتب السماویة، 3. الخشوع العملی للذّات الإلهیّة القدسیّة، 4. التسلیم القلبی لأوامر اللّه، 5. التسلیم العملی وإمتثال الأوامر، وعلی هذا الأساس ینبغی أن ینطلق الإیمان والعمل والأخلاق من قاعدة الإخلاص؛ فقد قال تعالی فی القرآن الکریم: «أَلَا اللّهِ الدِّینُ الْخَالِصُ»(3) وقال تعالی فی موضع آخر: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِیَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ»(4).
ثم أشار علیه السلام فی مواصلته لکلامه إلی هذه النتیجة فقال:
«وکُلَّمَا کانَتِ الْبَلْوَی والاِخْتِبَارُ أَعْظَمَ کانَتِ الْمَثُوبَةُ والْجَزَاءُ أَجْزَلَ».
ص:310
إشارة إلی أنّ بساطة حیاة الأنبیاء وانصرافهم عن زخارف الدنیا وزبرجها جعل المؤمنین إزاء امتحان أشدّ صعوبة، وبالطبع کلّ ما کان الامتحان أشق وأصعب کان الأجر والثواب أعظم وأبلغ وهذا فی الواقع درس عظیم فی الإخلاص لجمیع الأفراد الذین یسعون إلی السیر علی خط الأنبیاء حیث ینبغی أن یسیروا علی نفس النهج لیستطیعوا إعداد الأتباع المخلصین.
***
ص:311
ص:312
أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ اللّهَ، سُبْحَانَهُ، اخْتَبَرَ الأَوَّلِینَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَیْهِ، إِلَی الاْخِرِینَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ؛ بِأَحْجَار لَاتَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ.
فَجَعَلَهَا بَیْتَهُ الْحَرَامَ «الَّذِی جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِیاماً». ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الأَرْضِ حَجَراً، وأَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْیَا مَدَراً، وأَضْیَقِ بُطُونِ الأَوْدِیَةِ قُطْراً. بَیْنَ جِبَال خَشِنَة، ورِمَال دَمِثَة، وعُیُون وَشِلَة، وقُرًی مُنْقَطِعَة؛ لَایَزْکُوبِهَا خُفٌّ، وَلَا حَافِرٌ وَلَا ظِلْفٌ. ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ عَلَیْهِ السَّلاَمُ ووَلَدَهُ أَنْ یَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ، فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ، وغَایَةً لِمُلْقَی رِحَالِهِمْ. تَهْوِی إِلَیْهِ ثِمَارُ الأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَار سَحِیقَة ومَهَاوِی فِجَاج عَمِیقَة، وجَزَائِرِ بِحَار مُنْقَطِعَة، حَتَّی یَهُزُّوا مَنَاکِبَهُمْ ذُلُلاً یُهَلِّلُونَ للّهِ حَوْلَهُ، ویَرْمُلُونَ عَلَی أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ. قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِیلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمْ، ابْتِلاَءً عَظِیماً، وامْتِحَاناً شَدِیداً، واخْتِبَاراً مُبِیناً، وتَمْحِیصاً بَلِیغاً، جَعَلَهُ اللّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ، ووُصْلَةً إِلَی جَنَّتِهِ.
سلک الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة سبیلاً آخر لمتابعة الغایة الأصلیة التی تتمثل فی القضاء علی التکبر والدعوة للبساطة والتواضع لیشرحه بعبارات غایة فی الروعة والجمال والبلاغة بحیث عجز البلغاء والفصحاء أن یأتوا بمثلها فقال:
«أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ اللّهَ، سُبْحَانَهُ، اخْتَبَرَ الأَوَّلِینَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَیْهِ، إِلَی الاْخِرِینَ مِنْ
ص:313
هذَا الْعَالَمِ؛ بِأَحْجَار لَاتَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ. فَجَعَلَهَا بَیْتَهُ الْحَرَامَ «الَّذِی جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِیاماً»».
فالذی یستفاد من هذه العبارة أنّ الکعبة التی هی أقدم معبد فی العالم قد بنیت لأوّل مرّة فی زمن آدم علیه السلام (ثم جدد بناؤها علی عهد إبراهیم الخلیل علیه السلام) کما یفهم أنّ بساطتها ومواد بنائها البدائیّة تهدف إلی عدم لفت انتباه الآخرین إلی جانبها وبعدها المادی، بل الاستغراق فی أبعادها المعنویّة حیث بیّن علیه السلام: أنّ الکعبة تحظی بمرکزیة یتوجه إلیها الجمیع لیأتوا کلّ سنة لأداء شعائر الحجّ ومناسکه بما یؤدّی إلی تنامی شوکة المسلمین وقوّتهم وعزّتهم ووحدتهم وسمّوهم وعلوّ شأنهم ومبادئهم فی مختلف الاتجاهات.
فالعبارة الواردة فی کلام الإمام علیه السلام اقتباس من الآیة الشریفة: 97 من سورة المائدة التی تقول: «جَعَلَ اللّهُ الْکَعْبَةَ الْبَیْتَ الْحَرَامَ قِیَاماً لِّلنَّاسِ».
وقد ورد
«القیام» هنا کمصدر بمعنی اسم الفاعل أی تقویم حیاة الناس من الناحیة المادیّة والمعنویّة، علی غرار الدعائم القویة التی یقوم علیها البیت والخیمة.
فبیت اللّه هو رمز الوحدة وقوّة المسلمین ورفعتهم وعظمتهم من جانب ومن جانب آخر فإنّه ینطوی علی المناسک التی تطهر القلب من دنس المعصیة وتفیض علیه نور الهدی وتغمره بالرحمة الإلهیّة.
ولما فرغ الإمام علیه السلام من ذکر بساطة الکعبة، عرج علی التعرض لخصائص الأرض التی تضم البیت وهی مکة فقال:
«ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ(1) بِقَاعِ الأَرْضِ حَجَراً، وأَقَلِّ نَتَائِق(2) الدُّنْیَا مَدَراً(3). وأَضْیَقِ بُطُونِ الأَوْدِیَةِ قُطْراً(4). بَیْنَ جِبَال خَشِنَة، ورِمَال
ص:314
دَمِثَة(1) ، وعُیُون وَشِلَة(2) ، وقُرًی مُنْقَطِعَة؛ لَایَزْکُو(3) بِهَا خُفٌّ(4) ، وَلَا حَافِرٌ(5) وَلَا ظِلْفٌ(6)».
فقد کشف الإمام علیه السلام بهذه الصفات الثمان لأرض مکة عن محرومیّة هذه الأرض من مختلف الجهات؛ فقد تحدّث بادئ الأمر عن وعورتها وصعوبتها بحیث یری کلّ من تشرف بها أنّ بیت اللّه واقع فی وادٍ ضیق بین الجبال الشامخة والقاحلة والتی یصعب تسلقها، حتی استطاعوا الیوم حفر العدید من الأنفاق والمنعطفات لشقّ الشوارع التی یمکنها اختراق تلک الجبال بغیة مرور الناس علیها.
ثم أشار علیه السلام إلی قلة التربة الصالحة للزراعة؛ والحقّ أن کذلک، حیث یضطرون الیوم لحمل التربة من المناطق القریبة والنائیّة إلیها بغیة غرس بعض الأشجار، ثم تطرق علیه السلام إلی ضیق ودیانها، فنحن نعلم أنّ الودیان الواسعة التی تضم الأراضی الزراعیّة الصالحة للزراعة تعدّ من أفضل البقاع لمعیشة الإنسان، والعدید من المدن الکبیرة إنّما تقع فی مثل هذه الودیان، بینما تتعذر الحیاة والعیش بأی شکل من الأشکال فی الودیان الضیقة.
ثم أشار علیه السلام إلی جبال مکة الوعرة التی قلما ینموفیها نبات والرمال الناعمة التی یصعب السیر علیها، وتنقلها الریاح من مکان إلی آخر وعیونها قلیلة المیاه، والمناطق المعمورة المتفرقة علی تلک الصحاری الجرداء والتی تتوسطها، لیتطرق بالتالی إلی عدم صلاحیة تلک الأرض لتربیة الحیوانات الألیفة کالجمل والبقر والشاة. حقّاً لولم یکن بیت اللّه وسط تلک الجبال فإنّ أحداً سوف لن یفکر أن تکون مکة موضع سکناه إلّا أنّ اللّه تبارک وتعالی اختار هذه المنطقة کأفضل موضع للعبادة
ص:315
ودعی المستطیعین کافّة إلی التوجه إلیها للإتیان بمناسک الحج بهدف تهذیب النفوس والقضاء علی آثار الکبر والغرور.
وهذه هی الحقیقة التی أذعن لها خلیل اللّه إبراهیم علیه السلام الذی أمر بإعادة بناء الکعبة حیث قال: «رَبَّنَا إِنِّی أَسْکَنتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوَاد غَیْرِ ذِی زَرْع عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ»(1).
وحین فرغ الإمام علیه السلام من ذکر موضع البیت وخصائص أرض مکة، تطرق إلی شعیرة الحج وزیارة بیت اللّه الحرام الذی بدأ منذ خلق آدم وسیستمر حتی نهایة الخلیقة فقال:
«ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ عَلَیْهِ السَّلاَمُ ووَلَدَهُ أَنْ یَثْنُوا(2) أَعْطَافَهُمْ(3) نَحْوَهُ، فَصَارَ مَثَابَةً(4) لِمُنْتَجَعِ(5) أَسْفَارِهِمْ، وغَایَةً لِمُلْقَی رِحَالِهِمْ(6). تَهْوِی إِلَیْهِ ثِمَارُ الأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ(7) قِفَار(8) سَحِیقَة(9) ومَهَاوِی(10) فِجَاج(11) عَمِیقَة، وجَزَائِرِ بِحَار مُنْقَطِعَة».
فهذه العبارات الرائعة للإمام علیه السلام اقتباس من الآیات القرآنیّة الشریفة، حیث اعتبر الإمام علیه السلام مکة بصفتها «مثابة» علی غرار ما صرّح به القرآن الکریم: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَیْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً»(12). کما عبّر عنها بالمنتجع (الموضع الذی یقصد لتحقیق المنافع) کما جاء فی الآیة القرآنیّة الشریفة: «لِیَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ»(13). والعبارة
ص:316
«تهوی إلیه ثمار الأفئدة» اقتباس من الآیة الشریفة: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ»(1).
وتنسجم العبارة
«من مفاوز قفار» مع الآیة الشریفة: «وَأَذِّنْ فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوکَ رِجَالا وَعَلَی کُلِّ ضَامِر یَأْتِینَ مِنْ کُلِّ فَجّ عَمِیق»(2).
وهکذا تحدّث عن توجّه مختلف الأقوام من مناطق العالم إلی مکة وأردفها بالإشارة إلی مناسک الحج والأعمال التی تختزن الدروس والعبر فقال:
«حَتَّی یَهُزُّوا(3) مَنَاکِبَهُمْ ذُلُلاً یُهَلِّلُونَ للّهِ حَوْلَهُ، ویَرْمُلُونَ(4) عَلَی أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً(5) غُبْراً(6) لَهُ. قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِیلَ(7) وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وشَوَّهُوا(8) بِإِعْفَاءِ(9) الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمْ».
فقد أشار الإمام علیه السلام بهذه العبارة القصیرة إلی جانب من مناسک الحج من قبیل ارتداء ملابس الإحرام وترک ما یحرم علی المحرم من الزینة، وکذلک الطواف حول البیت والسعی بین الصفا والمروة وفق آداب معینة ینطوی کلّ واحد منها علی تعلیمات تربویة من دروس الحج، والحقّ لا یسع الإنسان الوقوف علی عمق تأثیر هذه التعلیمات ما لم یؤدّی الإنسان تلک المناسک ویطلع عن کثب علی هذا المشروع التهذیبی. ثم قال علیه السلام فی مواصلته لکلامه:
«ابْتِلاَءً عَظِیماً، وامْتِحَاناً شَدِیداً، واخْتِبَاراً مُبِیناً، وتَمْحِیصاً بَلِیغاً، جَعَلَهُ اللّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ، ووُصْلَةً إِلَی جَنَّتِهِ».
ص:317
فالتعبیر بالابتلاء والامتحان والاختبار یدل جمیعاً علی الامتحان، إلّاأنّها ذکرت مرّة بوصف عظیم وأخری شدید وثالثة مبین، والمراد الامتحان المهم للغایة الذی یکون کبیراً وشدیداً وواضحاً، وامتحان الحج ینطوی علی هذه الصفات الثلاث.
والعبارة
«تَمْحِیصاً بَلِیغاً» إشارة إلی نتیجة هذا الامتحان الذی یترک بصماته العمیقة فی تطهیر القلوب واخلاص النیات، حیث ورد فی الخبر أنّ زائر بیت اللّه بعد إتیانه بتلک المناسک العظیمة یعود کما ولدته امّه، حیث قال الإمام الصادق علیه السلام: قال أبی:
«مَنْ أَمَّ هذَا الْبَیْتَ حاجّاً أومُعْتَمِراً مِبْرِأً مِنَ الْکِبْرِ، رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ کَهیئَةِ یَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(1).
وبالطبع فإنّ کلّ هذه الکلمات فی إطار تحقیق هدف الخطبة المتمثل بمکافحة الکبر والغرور والعجب والأنانیّة، لأنّ الحج یخلع عن الإنسان ثوب الغرور والکبر ویلقنه درس التواضع والإخلاص.
***
ص:318
ولَوأَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ یَضَعَ بَیْتَهُ الْحَرَامَ، ومَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ، بَیْنَ جَنَّات وأَنْهَار، وسَهْل وقَرَار، جَمَّ الأَشْجَارِ، دَانِیَ الثِّمَارِ، مُلْتَفَّ الْبُنَی، مُتَّصِلَ الْقُرَی، بَیْنَ بُرَّة سَمْرَاءَ، ورَوْضَة خَضْرَاءَ، وأَرْیَاف مُحْدِقَة، وعِرَاص مُغْدِقَة، ورِیَاض نَاضِرَة، وطُرُق عَامِرَة، لَکَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَی حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلاَءِ. ولَوکَانَ الاِْسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَیْهَا، والأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا، بَیْنَ زُمُرُّدَة خَضْرَاءَ، ویَاقُوتَة حَمْرَاءَ، ونُور وضِیَاء، لَخَفَّفَ ذلِکَ مُصَارَعَةَ الشَّکِّ فِی الصُّدُورِ، ولَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِیسَ عَنِ الْقُلُوبِ، ولَنَفَی مُعْتَلَجَ الرَّیْبِ مِنَ النَّاسِ، ولکِنَّ اللّهَ یَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، ویَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ، ویَبْتَلِیهِمْ بِضُرُوبِ الْمَکَارِهِ، إِخْرَاجاً لِلتَّکَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وإِسْکَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِی نُفُوسِهِمْ، ولِیَجْعَلَ ذلِکَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَی فَضْلِهِ، وأَسْبَاباً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ.
واصل الإمام علیه السلام هنا ماذکره فی المقطع السابق من الخطبة، فأشار إلی هذه النقطة وهی أنّ اللّه کان قادراً علی أن یجعل البیت فی أروع البقاع مناخاً، ویشیدها ویزینها بالأحجار الکریمة؛ إلّا أنّه لم یفعل ذلک خشیة إلتفات الناس وترکیزهم علی الجوانب المادیّة فیقلّ أجرهم وثوابهم، فأشار علیه السلام لهذا الأمر بعبارات بمنتهی الروعة والجمال بما یعجز الآخرون عن الإتیان بمثله فقال علیه السلام:
«ولَوأَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ یَضَعَ
ص:319
بَیْتَهُ الْحَرَامَ، ومَشَاعِرَهُ(1) الْعِظَامَ، بَیْنَ جَنَّات وأَنْهَار، وسَهْل وقَرَار، جَمَّ(2) الأَشْجَارِ، دَانِیَ الِّثمَارِ، مُلْتَفَّ(3) الْبُنَی،(4) مُتَّصِلَ الْقُرَی، بَیْنَ بُرَّة(5) سَمْرَاءَ،(6) ورَوْضَة خَضْرَاءَ، وأَرْیَاف(7) مُحْدِقَة(8) ، وعِرَاص(9) مُغْدِقَة(10) ، ورِیَاض نَاضِرَة(11) ، وطُرُق عَامِرَة، لَکَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَی حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلاَءِ».
فقد رسم الإمام علیه السلام صورة رائعة ودقیقة لمنطقة نضرة من خلال اثنتی عشرة صفة مختلفة.
فذکر الإمام علیه السلام کلّما ینبغی ذکره بهذا الخصوص فأشار علیه السلام بدقّة متناهیة إلی جمیع مواضع الجمال التی تتصف بها الأرض الجمیلة والمعمورة فبلغ بها منتهی الفصاحة والبلاغة والبدیع والبیان، فالواقع لو کان البیت فی منطقة نظرة حسنة جمیلة المناخ، لتبدل إلی مُتنزَّه لطیف یقصده الناس من أجل الاستجمام والرفاهیة، ولزالت الدروس التربویة والأخلاقیّة للحج.
ثم قال علیه السلام بشأن بنیان الکعبة:
«ولَوکَانَ الاِْسَاسُ(12) الْمَحْمُولُ عَلَیْهَا، والأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا، بَیْنَ زُمُرُّدَة خَضْرَاءَ، ویَاقُوتَة حَمْرَاءَ، ونُور وضِیَاء، لَخَفَّفَ ذلِکَ
ص:320
مُصَارَعَةَ(1) الشَّکِّ فِی الصُّدُورِ، ولَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِیسَ عَنِ الْقُلُوبِ، ولَنَفَی مُعْتَلَجَ(2) الرَّیْبِ مِنَ النَّاسِ».
قطعاً أنّ فلسفة الحج تهدف إلی دفع الإنسان إلی مقاومة هوی النفس والوساوس الشیطانیّة، وتصبح هذه المقاومة ضعیفة إن کانت لهذه المناسک مسحة جمالیّة، بینما تصبح مقاومة الوساوس الشیطانیّة والأهواء النفسیّة أقوی حین تقام هذه المناسک بنوع من الصعوبة والمشقّة فی ذلک الوسط الجاف والبسیط؛ وعلی هذا الأساس تشتد مقاومة عباد اللّه ویصبح إیمانهم أقوی وأرسخ وتنفعهم الآثار التربویّة للحج.
والمراد من
«مُصَارَعَةَ الشَّکِّ» مبارزة وساوس الشک والهواجس التی تخطر علی قلب المؤمن وهی الوساوس الباطنیّة، والمراد من «مجاهدة إبلیس» وساوسه الخارجیّة، ومفهوم العبارة
«مُعْتَلَجَ الرَّیْبِ» تلاطم أمواج الشکوک التی تطغی علی المؤمنین فی التکالیف الدینیّة الشاقة، و
«شکّ» و «ریب» وإن فسّرت بمعنی واحد إلّا أنّ بعض أرباب اللغة ذهب إلی أنّ الریب بمعنی الشک والتردید الذی یرفع عنه الغطاء لاحقاً، بینما یمکن أن یکون الشک باقیاً.
ثم خلص الإمام علیه السلام إلی نتیجة کلّیة فقال:
«ولکِنَّ اللّهَ یَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، ویَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ، ویَبْتَلِیهِمْ بِضُرُوبِ الْمَکَارِهِ، إِخْرَاجاً لِلتَّکَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وإِسْکَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِی نُفُوسِهِمْ، ولِیَجْعَلَ ذلِکَ أَبْوَاباً فُتُحاً(3) إِلَی فَضْلِهِ، وأَسْبَاباً ذُلُلاً(4) لِعَفْوِهِ».
إشارة إلی أنّ الواجبات الشرعیّة کالصوم والصلاة والحج والزکاة والخمس
ص:321
والجهاد فی سبیل اللّه وکذلک بعض النواهی وترک الأهواء والرغبات غالباً ما تکون ثقیلة وشاقة، لتتمیز صفوف المطیعین والمتواضعین إزاء أوامر اللّه من العصاة والمتکبرین عبدة الأهواء، ولولا ذاک لما إمتازت هذه الصفوف عن بعضها البعض الآخر.
والمفردات
«شدائد» و «مجاهد» و «مکاره» وإن کانت متقاربة المفهوم والمعنی وأنّها تشیر جمیعاً إلی الأعمال الشاقّة والصعبة، لکنها تستند إلی ثلاث رؤی؛ الشدّة التی تتطلب الصبر والمشقّة التی تستلزم التحمل والحلم والکراهیة التی تقتضی الصبر والاستقامة.
جدیر ذکره أنّ الإمام علیه السلام قد بین أربع نتائج من قبیل اللازم والملزوم لهذا الأمر وهی: 1. إزالة الکبر من القلوب. 2. استبداله بالتواضع الذی یمثل الهدف الأصلی للخطبة. 3. فتح أبواب الجنّة. 4. شمول العفو والرحمة.
ما ورد آنفاً فی کلام الإمام علیه السلام هوعین ما صرحت به الروایات
«أفْضَلُ الاْعْمالِ أحْمَزُها»(1) ویشیر هذا الحدیث المروی عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله إلی أنّ الطاعة وأعمال الخیر تختزن أجراً وثواباً أعظم کلّما کانت الطاعة وأعمال الخیر شاقة علی الجسم عند الإمتثال.
«اَحْمَزَ» من مادة
«حَمْز» تعنی لغویاً الشدّة والصعوبة والمشقّة، ویفید هذا التعبیر أنّ للأعمال الشاقّة والثقیلة والمجهدة قیمة عظیمة عند اللّه تعالی. وسبب ذلک واضح فهی تتطلب قوّة وطاقة أکبر علی مستوی الروح والجسم بغیة الإتیان بها، ونعلم جمیعاً أنّ أجر الأعمال وثوابها علی قدر مشقّتها والقوّة اللازمة للإتیان بها.
ص:322
ولا تقتصر هذه القوّة علی الجانب البدنی (مثل حج بیت اللّه مشیاً علی الأقدام فی ظلّ ظروف تشیر إلی عظمة هذه السنة) فغالباً ما تتعداها إلی الجانب الروحی والمعنوی؛ فمثلاً «إخلاص النیّة» بحیث لا یقارفها أی شائبة فی التوجه لغیر اللّه لا تبدو عملیة سهلة وبالأمر الهیّن، وکذلک یبدو التواضع والخشوع الذی لا ینسجم مع روحیة الإنسان المتمردة أمراً فی غایة الصعوبة، ومن هنا شق علی إبلیس تحمله فشق علی نفسه عصی الطاعة والعبودیة وإلی الأبد.
فکلّ مشقّة من هذه المشقات توجب عظیم الثواب والأجر من جهة وتهذب النفس البشریّة وعلی هذا الضوء کانت الریاضات مدعاة لصفاء النفس وقوتها واقتدارها.
وبالطبع فإنّ مکافحة الکبر والعصبیة التی تعدّ الموضوع الأصلی لهذه الخطبة لمن أبرز مصادیق الحدیث الشریف
«أفْضَلُ الاْعْمالِ أحْمَزُها» کما أنّ حج بیت اللّه الحرام فی تلک البقعة الصعبة والوعرة والمحرقة وطبق آدابها المعروفة لتشق علی النفس البشریّة؛ من قبیل الإحرام والسعی بین الصفا والمروة وطواف بیت اللّه والوقوف بصحراء عرفة والمشعر ومنی وحلق الرأس وهی من المصادیق الأخری الواضحة للحدیث الشریف.
***
ص:323
ص:324
فَاللّهَ اللّهَ فِی عَاجِلِ الْبَغْیِ، وآجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ، وسُوءِ عَاقِبَةِ الْکِبْرِ، فَإِنَّهَا مَصْیَدَةُ إِبْلِیسَ الْعُظْمَی، ومَکِیدَتَهُ الْکُبْرَی، الَّتی تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، فَما تُکْدِی أَبَداً، وَلَا تُشْوِی أَحَداً، لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ، ولَا مُقِلاًّ فِی طِمْرِهِ. وعَنْ ذلِکَ مَا حَرَسَ اللّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِینَ بِالصَّلَوَاتِ والزَّکَوَاتِ، ومُجَاهَدَةِ الصِّیَامِ فِی الأَیَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ، تَسْکِیناً لاَِطْرَافِهِمْ، وتَخْشِیعاً لاَِبْصَارِهِمْ، وتَذْلِیلاً لِنُفُوسِهِمْ، وتَخْفِیضاً لِقُلُوبِهِمْ، وإِذْهَاباً لِلْخُیَلاَءِ عَنْهُمْ، ولِمَا فِی ذلِکَ مِنْ تَعْفِیرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً، والْتِصَاقِ کَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالاَْرْضِ تَصَاغُراً، ولُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّیَامِ تَذَلُّلاً؛ مَعَ مَا فِی الزَّکَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الأَرْضِ وغَیْرِ ذلِکَ إِلَی أَهْلِ الْمَسْکَنَةِ والْفَقْرِ.
انْظُرُوا إِلَی مَا فِی هذِهِ الأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ، وقَدْعِ طَوَالِعِ الْکِبْرِ.
واصل الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة متابعة الهدف الأصلی لهذه الخطبة والذی یتمثل بذم الکبر والغرور واستعراض سوء آثاره، غیر أنّه سلک طریقاً رائعاً بهذا الخصوص فاتجه صوب الفرائض والعبادات والواجبات لیبین مدی تأثیرها فی القضاء علی آثار الکبر والغرور.
فحذر بادئ الأمر وبصورة کلیة من العواقب السیئة للبغی والظلم فقال:
«فَاللّهَ اللّهَ
ص:325
فِی عَاجِلِ الْبَغْیِ، وآجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ، وسُوءِ عَاقِبَةِ الْکِبْرِ».
ثم تطرق علیه السلام إلی السبب الجلی علی هذا التحذیر فقال:
«فَإِنَّهَا مَصْیَدَةُ(1) إِبْلِیسَ الْعُظْمَی، ومَکِیدَتَهُ الْکُبْرَی، الَّتِی تُسَاوِرُ(2) قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، فَمَا تُکْدِی(3) أَبَداً، وَلَا تُشْوِی(4) أَحَداً، لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ، وَلَا مُقِلاًّ(5) فِی طِمْرِهِ(6)».
فالأمور الثلاثة التی حذر منها الإمام علیه السلام فی بدایة کلامه والتی تتمثل بالبغی والظلم والکبر من قبیل اللازم والملزوم لبعضها البعض الآخر.
فالأفراد المتکبرون لا یرون سوی أنفسهم ولذلک فهم لا یرون من أهمیّة لحقوق الآخرین فیرتکبون أنواع الظلم والجور والذی یعد من الشباک الخبیثة والخطیرة للشیطان والتی لا ینجومنها سوی أولیاء اللّه والصالحین من الأفراد المؤمنین.
والعبارة:
«فَمَا تُکْدِی أَبَداً...» إشارة إلی عمومیّة هذا التحذیر؛ فلا یتصور العالم أنّ بإمکانه النجاة من هذه المصیدة بما لدیه من علم ومعرفة فقط، أو ینجو من آثاره شخص فقیر بفقره، فکلّ شخص بدون استثناء معرض للتلوث بالبغی والظلم والکبر ستکون عاقبته سیئة ومریرة.
ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی العبادات الإسلامیّة لیرکز علی جانب مهم منها فشرح الانعکاسات الإیجابیة لهذه العبادات فی القضاء علی آثار الکبر والغرور وإحیاء روح التواضع والبساطة فقال:
«وعَنْ ذلِکَ مَا حَرَسَ اللّهُ(7) عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِینَ بِالصَّلَوَاتِ
ص:326
والزَّکَوَاتِ، ومُجَاهَدَةِ الصِّیَامِ فِی الأَیَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ، تَسْکِیناً لاَِطْرَافِهِمْ(1) ، وتَخْشِیعاً لاَِبْصَارِهِمْ، وتَذْلِیلاً لِنُفُوسِهِمْ، وتَخْفِیضاً(2) لِقُلُوبِهِمْ، وإِذْهَاباً لِلْخُیَلاَءِ(3) عَنْهُمْ».
إشارة إلی أنّ أحد الجوانب الفلسفیة المهمّة لهذه العبادات تحطیم دوافع الکبر والغرور الذی یفضی إلی البغی والظلم، فآداب الصلاة وأرکانها تدعو الإنسان بصورة کاملة إلی التواضع من قبیل الوقوف کالعبد الخاضع للّه ومن ثم الرکوع والأهم من کلّ ذلک السجود یربی فی الإنسان روح التواضع من جهة ومن جهة أخری یصده عن الذنب والمعصیة: «اِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْکَرِ»(4).
کما أنّ الزکاة تعدّ فی الواقع نوعاً من التقدیر والاحترام للمحتاجین، فتعمل بدورها علی إزالة الکبر والغرور عن روح الاثریاء والمتمکنین، وهکذا الصوم الذی یجعل الإنسان فی مصاف الفقراء والمحتاجین بما یشعر به الإنسان من جوع وعطش والذی یحطم بالتالی کبره وغروره؛ طبعاً لا تنحصر فلسفة هذه العبادات بما ذکرناه آنفاً، إلّاأنّ ما مضی کان جانباً من فلسفتها والتی أشار إلیها الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة.
وقد أشیر إلی هذا المعنی فی عدد من الروایات والأحادیث؛ فقد جاء فی الحدیث المروی عن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام أنّه قال:
«إنَّ عِلَّةَ الصَّلاةِ أنَّها إقْرارٌ بِالرُّبُوبِیَّةِ للّهِ تَعالی وخَلْعُ الأَنْدادِ وقِیامُ بَیْنَ یَدَیِ الْجَبّارِ جَلَّ جَلالُهُ بِالذُّلِ والْمَسْکَنَةِ والْخُضُوعِ والإعتراف...»(5).
ص:327
کما قال علیه السلام فی فلسفة الزکاة:
«وهُومَوْعِظَةٌ لاِهْلِ الْغِنی وعِبْرَةٌ لَهُمْ لِیَسْتَدَلُّوا عَلی فُقَراءِ الاْخِرَةِ بِهِمْ»(1).
کما روی عنه علیه السلام فی فلسفة الصوم:
«عِلَّةُ الصَّوْمِ عِرْفانُ مَسِّ الْجُوعِ والْعَطَشِ لِیَکُونَ ذَلیلاً مُسْتَکیناً...»(2).
ثم خاض الإمام علیه السلام فی شرح ما ذکره فی العبارات السابقة بصورة إجمالیة حول فلسفة الصوم والصلاة والزکاة فقال:
«ولِمَا فِی ذلِکَ مِنْ تَعْفِیرِ(3) عِتَاقِ(4) الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً، والْتِصَاقِ کَرَائِمِ(5) الْجَوَارِحِ بِالاَْرْضِ تَصَاغُراً(6) ، ولُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ(7) مِنَ الصِّیَامِ تَذَلُّلاً؛ مَعَ مَا فِی الزَّکَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الأَرْضِ وغَیْرِ ذلِکَ إِلَی أَهْلِ الْمَسْکَنَةِ وَالْفَقْرِ».
حقّاً إنّ ما ورد هنا، هوجانب من الجوانب الفلسفیة لهذه العبادات الإسلامیّة المهمّة، ذلک لأنّ العبادات تنطوی علی العدید من الجوانب ذات الأهمیّة وفی مقدمتها تفعیل روح التواضع والبساطة ومناهضة الکبر والغرور، وفلسفة النهی عن الفحشاء والمنکر للصلاة وکونها معراج المؤمن إلی جانب تربیة روح التقوی والإخلاص فی ظلّ الصوم ونبذ آفة التمایز الطبقی فی الزکاة وغیرها من العبادات ممّا لا یسع الإنسان التنکر لدوره وجدواه.
ص:328
وقد وردت إشارات واضحة فی الأخبار والروایات إلی هذه الأمور، من ذلک ما ورد عن الإمام الباقر علیه السلام:
«إنّ اللّهَ أوحی إلی مُوسی علیه السلام أتَعلَم لِمَ اخْتَرتُکَ مِنْ بَین خَلقِی؟ قَالَ مُوسی علیه السلام: لا، فَقَالَ تَعالی: «یا مُوسی إنّی قَلَّبْتُ عِبادِی ظَهْراً وبَطْناً فَلَمْ أَجِدْ أَحَداً أذلَّ لِی نَفْساً مِنْکَ یا مُوسی انَّکَ إذا صَلَّیْتَ وَضَعْتَ خَدَّیْکَ عَلَی التُّرابِ»(1).
ثم خلص علیه السلام إلی هذه النتیجة فقال:
«اُنْظُرُوا إِلی مَا فِی هذِهِ الأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ(2) نَوَاجِمِ(3) الْفَخْرِ وقَدْعِ(4) طَوَالِعِ الْکِبْرِ». جدیر ذکره أنّ بعض هذه العبادات تتکرر کلّ یوم حتی لا یشهد الإنسان یوماً یخلوفیه من مفهوم نبذ الکبر.
لاشک فی أنّ اللّه تبارک وتعالی غنی عن عباداتنا وعبادة الملائکة ولوسلک جمیع من فی السموات والأرض طریق الإیمان أو الکفر لما أضاف ذلک إلی جلاله شیئاً أو انتقص منه: «اِنْ تَکْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِی الأَرْضِ جَمِیعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِیٌّ حَمِیدٌ»(5).
وکذلک قال: «وَمَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِیٌّ عَنِ الْعَالَمِینَ»(6).
وکل إنسان مهما کان له من شیء فمن اللّه تعالی ونفحة من نفحاته سبحانه، وعلیه فلا یستطیع هذا المخلوق أن یقوم بفعل من شأنه زیادة عظمة اللّه، ومن هنا یمکن الاستنتاج أنّ فلسفة الأحکام وفائدتها ولا سیما العبادات إنّما تعود علی الإنسان نفسه، وللعبادات فلسفة مشترکة وفلسفة خاصّة؛ فالفلسفة المشترکة للعبادات تتمثّل فی الخضوع والتواضع للّه وتحطیم صنم الکبر والغرور والطغوی والعصیان، أضف إلی ذلک فإنّ العبادة تذکر الإنسان باللّه وتبث الروح فی قلبه ونفسه
ص:329
وتزیل عنه آثار الغفلة، وهکذا فإنّ العبادات تأخذ بالانسان دائماً إلی مسیر العبودیّة والطاعة.
ناهیک عن أنّ لکلّ عبادة فلسفتها المختصة بها؛ فالصلاة تنهی عن الفحشاء والمنکر والصوم یشد من عزم الإنسان فی مواجهة هوی النفس، والزکاة تحد أو تقضی علی التمایز الطبقی، والحج یؤدّی إلی وحدة المسلمین وتنامی قدرة الإسلام وشوکته، وقد وردت الإشارات لکلّ هذه الأمور فی الروایات الإسلامیّة بشأن فلسفة الأحکام(1).
***
ص:330
ولَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِینَ یَتَعَصَّبُ لِشَیْ مِنَ الأَشْیَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةِ تَحْتَمِلُ تَمْوِیهَ الْجُهَلاَءِ، أوحُجَّة تَلِیطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَیْرَکُمْ. فَإِنَّکُمْ تَتَعَصَّبُونَ لاَِمْر مَا یُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَلَا عِلَّةٌ. أَمَّا إِبْلِیسُ فَتَعَصَّبَ عَلَی آدَمَ لاَِصْلِهِ، وطَعَنَ عَلَیْهِ فِی خِلْقَتِهِ، فَقَالَ: أَنَا نَارِیٌّ وأَنْتَ طِینِیٌّ.
وأَمَّا الأَغْنِیَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الاُْمَمِ، فَتَعَصَّبُوا لاِثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ، فَقَالُوا: (نَحْنُ أَکْثَرُ أَمْوَالاً وأَوْلاَداً ومَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِینَ).
خاض الإمام علیه السلام هنا فی بیان نقطة أخری لمواجهة الکبر والغرور والعصبیة الجاهلیة وخلاصتها أنّ للأفراد المتعصبین أدلتهم علی ذلک وإن کانت ضعیفة وواهیة وخاطئة؛ إلّاأنّ تعصبکم القبیح أدّی إلی هذه النزاعات وسفک الدماء بما لیس له مبرر، وهذا یعنی أنّ تعصبکم أسوأ واقبح من ذلک التعصب.
فقال علیه السلام:
«ولَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِینَ یَتَعَصَّبُ لِشَیْ مِنَ الأَشْیَاءِ إِلَّا عن عِلَّةِ تَحْتَمِلُ تَمْوِیهَ(1) الْجُهَلاَءِ، أوحُجَّة تَلِیطُ(2) بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَیْرَکُمْ. فَإِنَّکُمْ تَتَعَصَّبُونَ لاَِمْر مَا یُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَلَا عِلَّةٌ».
ص:331
إشارة إلی أنّه کلّما تأمّلنا تاریخ الأسلاف والأقوام المعاصرة نخلص إلی هذه النتیجة أنّهم کانوا یمتلکون ذریعة لتعصبهم من قبیل إخفاء الحقیقة علی الجهّال أو اختراق أفکار السفهاء والسذج وبالنتیجة تحقیق سلسلة من المنافع المادیّة، بینما لیس لتعصبکم أی أثر أو فائدة ویفتقر إلی أیّ دلیل، سوی الکلمات البذیئة والجنونیّة والاقتتال الطائش الذی ینتهی إلی سفک الدماء، والفارق بین الجهّال والسفهاء هو أنّ الجهّال یفتقرون إلی أدنی علم بینما للسفهاء حض من علم، ومن شأن بعض الأسباب الواهیّة أن تسوق الطائفتین لتحقیق أهداف ومنافع المتعصبین والمستکبرین.
طبعاً لیس مراد الإمام علیه السلام أنّ تعصبکم معلول لعدم وجود علّة، ذلک لأنّ لکلّ شیء فی العالم علی ضوء النظرة الفلسفیة علّة، بل المراد أنّه کان لمن سبقکم من المتعصبین بعض الذرائع الظاهریّة الخادعة، وأنّکم لتفتقرون حتی إلی هذه الذرائع، فالمتعصبین الذین خاطبهم الإمام علیه السلام کانوا یتصفون بضحالة ثقافتهم وعقائدهم الجاهلیّة التی أفرزت ذلک التعصب والتی لا تصلح أن تکون ذریعة أبداً.
ثم أشار علیه السلام إلی نموذجین من التعصبات التی یبدو أنّها کانت معززة ظاهریاً ببعض الأدلة وإن لم تکن صائبة؛ أحدهما تعصب إبلیس واستکباره والآخر تعصب الأثریاء المستکبرین أصحاب الثروة فقال:
«أَمَّا إِبْلِیسُ فَتَعَصَّبَ عَلَی آدَمَ لاَِصْلِهِ، وطَعَنَ عَلَیْهِ فِی خِلْقَتِهِ، فَقَالَ: أَنَا نَارِیٌّ وأَنْتَ طِینِیٌّ».
لا شک فی أنّ إبلیس خلق من النار، حیث کان ینحدر من الجن الذین خلقوا من النار بینما خلق آدم من الطین والتراب، وللنار ظاهریاً نور وشعاع، بینما یمتاز الطین بالظلمة، الأمر الذی یمکن أن یکون ذریعة لإبلیس فی الکبر، والحال تمتاز النار بأنّها محرقة والطین باعث الحیاة، أضف إلی ذلک فإنّ فضیلة آدم بفعل الروح الإلهیّة التی ولجت فیه حیث قال تعالی: «فَإِذَا سَوَّیْتُهُ وَنَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُّوحِی فَقَعُوا لَهُ
ص:332
سَاجِدِینَ»(1) لکن إبلیس وبفعل أنانیّته وتعصبه لم یشأ إدراک تلک الحقیقة.
ثم خاض علیه السلام فی الطائفة الثانیة وهم الأثریاء المتکبرون من الأمم السابقة الذین ابطرتهم النعمة وکثرة عددهم حیث کانوا یتباهون بذلک والحال لیست لدیکم حتی هذه الذرائع فی تعصبکم فقال:
«وأَمَّا الأَغْنِیَاءَ مِنْ مُتْرَفَةِ(2) الاُْمَمِ، فَتَعَصَّبُوا لاِثَارِ مَوَاقِعِ(3) النِّعَمِ، فَقَالُوا : «نَحْنُ أَکْثَرُ أَمْوَالاً وأَوْلاَداً ومَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِینَ»(4)».
إشارة إلی أنّهم جعلوا نعم اللّه فی الجوانب المادیّة التی تشمل القوّة البشریّة والأموال الطائلة وسیلة للکبر والتعصب وتمردوا علی دعوة الأنبیاء حتی شملهم العقاب الإلهی، أمّا تعصب مخاطبی الإمام علیه السلام فقد دفعهم إلی الاقتتال والنزاع تحت طائلة ذراع واهیّة وطفولیّة، فهی لا تشبه تعصب الشیطان ولا تعصب المترفین المستکبرین السابقین، بل تدور حول محور بعض الأمور التی لا تصلح لأنّ تکون حجة قط، وهذا أسوأ أنواع التعصب.
***
ص:333
ص:334
فَإِنْ کَانَ لاَبُدَّ مِنَ الْعَصَبِیَّةِ فَلْیَکُنْ تَعَصُّبُکُمْ لِمَکَارِمِ الْخِصَالِ، ومَحَامِدِ الأَفْعَالِ، ومَحَاسِنِ الاُْمُورِ، الَّتی تَفَاضَلَتْ فِیهَا الْمُجَدَاءُ والنُّجَدَاءُ مِنْ بُیُوتَاتِ الْعَرَبِ ویَعَاسِیبِ الْقَبَائِلِ؛ بِالاَْخْلاَقِ الرَّغِیبَةِ، وَالأَحْلاَمِ الْعَظِیمَةِ، والأَخْطَارِ الْجَلِیلَةِ، والاْثَارِ الْمَحْمُودَةِ. فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ، والْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ، وَالطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، والْمَعْصِیَةِ لِلْکِبْرِ، والأَخْذِ بِالْفَضْلِ، والْکَفِّ عَنِ الْبَغْیِ، والاِْعْظَامِ لِلْقَتْلِ، والاِْنْصَافِ لِلْخَلْقِ، والْکَظْمِ لِلْغَیْظِ، واجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِی الأَرْضِ.
التعصّب کما ذکرنا سابقاً بمعنی التعلق الشدید بالشیء والذی یظهر بصورتین؛ بصورة سلبیّة ویراد بها التعلق الشدید الهمجی البعید عن المنطق بالمسائل ذات القیمة الدنیئة وربّما العدیمة القیمة والوهمیّة والتی تفضی إلی العدید من الخلافات والنزاعات الدمویّة.
والصورة الإیجابیة والمراد بها الصمود والإصرار علی الأمور ذات المثل والقیم الإنسانیّة والأخلاقیّة والاجتماعیّة الرفیعة، وهذا التعصب لیس فقط منزّه عن العیب والذنب، بل یعتبر من نقاط القوّة والإیجابیة، من قبیل من یصمد لحفظ الدین والإیمان أو حفظ الوطن والعرض والشرف.
ومن هنا سعی الإمام علیه السلام لدفع مخاطبیه المتعصبین للنجاة من تعصباتهم السلبیّة
ص:335
والقبیحة فاقترح علیهم العصبیة الإیجابیّة لیشبع تطلعهم العاطفی ویسوق قواهم الباطنیّة نحو المشروع الإیجابی، وهذه هی الخطة التی ینبغی أن یمارسها جمیع الزعماء الحکماء فی مجتمعاتهم بغیة إصلاح المفاسد الاجتماعیّة، فبدلاً من الوقوف بوجه الأمواج العاتیة للدوافع السلبیّة لابدّ من السعی إلی تغییر مسارها ودفعها باتجاه القنوات الإیجابیة ولذلک قال علیه السلام:
«فَإِنْ کانَ لاَبُدَّ مِنَ الْعَصَبِیَّةِ فَلْیَکُنْ تَعَصُّبُکُمْ لِمَکَارِمِ الْخِصَالِ، ومَحَامِدِ الأَفْعَالِ، ومَحَاسِنِ الاُْمُورِ، الَّتی تَفَاضَلَتْ فِیهَا الْمُجَدَاءُ(1) والنُّجَدَاءُ(2) مِنْ بُیُوتَاتِ الْعَرَبِ ویَعَاسِیبِ(3) الْقَبَائِلِ».
أی لا ینبغی أن یکون مثلکم فی هذه الأمور الجهّال الذین یفتقرون إلی المنطق، بل علیکم الإقتداء والتأسی بالعقلاء والأفراد الواعین الذین یتسابقون فی کسب الفضائل ونیل مکارم الأخلاق ویوظفون إمکاناتهم کافّة فی میدان هذا السباق الإنسانی.
ثم خاض علیه السلام فی شرح ذلک ببضع عبارات قصیرة فقال:
«بِالاَْخْلاَقِ الرَّغِیبَةِ، وَالأَحْلاَمِ الْعَظِیمَةِ، والأَخْطَارِ الْجَلِیلَةِ، والاْثَارِ الْمَحْمُودَةِ».
فالواقع إنّ هذه الصفات الأربع التی وردت فی کلام الإمام علیه السلام تبیّن أبعاد شخصیة الإنسان، التی تتمثّل فی الأخلاق الکریمة والفکر الحر والمقام الرفیع والآثار الحمیدة (کالآثار العلمیّة والخدمات الاجتماعیّة) وبالطبع فإنّ الشخص الذی ینال هذه الصفات هوإنسان فاضل یسعه أن یکون قدوة وأسوة للآخرین.
ثم رکز الإمام علیه السلام فی مواصلته لکلامه علی جزئیات وتفاصیل المسائل الأخلاقیّة لیشیر إلی عشرة نماذج من مکارم الأخلاق والصفات الإنسانیّة البارزة داعیاً الجمیع إلی التمسک بها فقال:
«فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ، والْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ،(4) وَالطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، والْمَعْصِیَةِ لِلْکِبْرِ، والأَخْذِ بِالْفَضْلِ، والْکَفِّ عَنِ
ص:336
الْبَغْیِ، والاِْعْظَامِ لِلْقَتْلِ، والاِْنْصَافِ لِلْخَلْقِ، والْکَظْمِ لِلْغَیْظِ، واجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِی الأَرْضِ».
وممّا لا شک فیه أنّ الإنسان الجامع لهذه الصفات العشر هوإنسان ماجد کما أنّ المجتمع الذی تسوده هذه الخصال هو مجتمع سلیم وسعید ومتطور من جمیع الجهات.
جدیر ذکره أنّ الصفات المذکورة علی صنفین؛ فبعضها تشیر إلی اجتناب المفاسد الفردیّة والاجتماعیّة مثل اجتناب القتل ومخالفة الکبر والإبتعاد عن الفساد فی الأرض، والبعض الآخر یشیر إلی الأفعال النافعة والبناءة مثل حفظ الحقوق والوفاء بالعهد والإتیان بالخیرات والبذل والجود.
أمّا حفظ الجوار فیعنی رعایة حقوق الجار التی ورد التأکید علیها فی الشریعة الإسلامیّة، فقد روی عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:
«حُسْنُ الْجَوارِ یَعْمُرُ الدِّیارِ ویَزیدُ فِی الأعْمارِ»(1).
وبالطبع فإنّ
«حُسْنُ الْجَوار» لا یقتصر علی کف الأذی عن الجار فحسب، بل لابدّ من نجدته ومدّ ید العون إلیه، وإن تعرض للأذی منه جابهه بکلّ رفق وود، والحقّ لو التزم الجمیع بهذه التعالیم الإسلامیّة لسادت المحبّة جمیع ربوع العالم.
والوفاء بالذمام إشارة إلی الالتزام بالعهود التی تحظی بفائق الأهمیّة فی الشریعة السمحاء. وانصاف الخلق إشارة إلی عدم التفریط بحقوق النفس والآخرین والنظر بعین واحدة، فینبغی أن یرید للآخرین ما یریده لنفسه ویرفض للآخرین ما یرفضه لنفسه.
یختزن الإنسان العدید من الدوافع المعقدة التی لو ترک لها العنان وانطلقت من
ص:337
مصادر الجهل لأدّت إلی نتائج سلبیّة للغایة وأحیاناً تکون قاتلة، ویتوجب علی قادة المجتمع فی مثل هذه الحالات أن لا ینبروا لمواجهة هذه الدوافع بغیة القضاء علیها فحسب، بل لابدّ من تصحیح مسیرتها وإعادتها إلی الطریق الصحیح، وبعبارة أخری لابدّ من توظیفها من خلال اختیار البدائل الإیجابیة دون الاقتصار علی مواجهتها.
فالسیل العظیم ربّما یؤدّی إلی القضاء علی أموال الناس وهدر طاقاتهم ما لم تتمّ السیطرة علیه، غیر أنّه یکون سبباً للعمران والبناء من قبیل انتاج الطاقة الکهربائیّة وتشغیل المصانع الکبیرة وخزن المیاه طیلة السنة وانعاش قطاع الزراعة لو بوشر ببناء سد عظیم بغیة السیطرة علی ذلک السیل.
ویبدو هذا المطلب واضحاً جلیاً فی النصوص الدینیّة؛ فقد ورد علی سبیل المثال فی خطبة النکاح:
«اَلْحَمْدُ للّهِ الَّذی أَحَلَّ النِّکاحَ وحَرَّمَ الزِّنا والسِّفاحِ» فاللّه تبارک وتعالی لم یأمر قط بقمع وکبت الغریزة الجنسیة، بل طرح موضوع النکاح الشرعی کی لا یؤدّی الأمر إلی الأعمال التی تتنافی مع العفة، وحین نصح نبی اللّه لوط علیه السلام قومه ونهاهم عن إتیان الفاحشة اقترح علیهم الزواج من بناته فقال: «هَؤُلاَءِ بَنَاتِی هُنَّ أَطْهَرُ لَکُمْ»(1).
وجاء فی سورة النور بشأن حدّ الزنا: «الزَّانِیَةُ وَالزَّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ وَاحِد مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة»(2) ثم رافقته دعوة عامّة لأبناء المجتمع إلی الزواج والتکافل الاجتماعی بهذا الشأن فقال: «وَأَنکِحُوا الأَیَامَی مِنْکُمْ وَالصَّالِحِینَ مِنْ عِبَادِکُمْ وَإِمَائِکُمْ إِنْ یَکُونُوا فُقَرَاءَ یُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِیمٌ»(3).
کما صرّحت بعض الروایات الإسلامیّة:
«فأمّا شُؤمُ الْمَرْأَةِ فکَثْرَةُ مَهْرِها...»(4).
ص:338
کما ورد فی البعض الآخر:
«وَمِن شُؤمُها شِدَّةُ مَؤُونَتِها»(1).
فقد تعارف بین الناس وجود بعض الأمور من قبیل الشؤم والتفائل ولکن بصورة خرافیة وغایة فی الضرر؛ فما کان من الإسلام إلّاأنّ کساها ثوب المنطق دون أن ینبری لاقتلاعها.
والقضیة هذه جاریة عینها علی التعصب؛ فهنالک بعض الدوافع الباطنیّة للإنسان التی تسوقه نحوالتعصب فإن خلی بینه وبینها ساقته إلی الجوانب السلبیّة التی تؤدّی إلی الکبر والغرور وربّما الاختلاف والنزاعات الدمویة؛ إلّاأنّ الإمام علیه السلام سعی توجیهه باتجاه الجوانب الإیجابیة فصرح أنّه إن کان ولابدّ لهؤلاء الأفراد والقبائل من التعصب فلیکن هذا التعصب فی مکارم الأخلاق ومحاسن الأفعال والدفاع عن المظلومین ومواجهة الظالمین ومدّ ید العون إلی المعوزین والمحتاجین.
***
ص:339
ص:340
واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالاُْمَمِ قَبْلَکُمْ مِنَ الْمَثُلاَتِ بِسُوءِ الأَفْعَالِ، وذَمِیمِ الأَعْمَالِ.
فَتَذَکَّرُوا فِی الْخَیْرِ والشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، واحْذَرُوا أَنْ تَکُونُوا أَمْثَالَهُمْ.
فَإِذَا تَفَکَّرْتُمْ فِی تَفَاوُتِ حَالَیْهِمْ، فَالْزَمُوا کُلَّ أَمْر لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ، وزَاحَتِ الأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ، ومُدَّتِ الْعَافِیَةُ بِهِ عَلَیْهِمْ، وانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ، ووَصَلَتِ الْکَرَامَةُ عَلَیْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الاِْجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ، واللُّزُومِ لِلاُْلْفَةِ، والتَّحَاضِّ عَلَیْهَا، والتَّوَاصِی بِهَا، واجْتَنِبُوا کُلَّ أَمْر کَسَرَ فِقْرَتَهُمْ، وأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ؛ مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ، وتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وتَدَابُرِ النُّفُوسِ، وتَخَاذُلِ الأَیْدِی.
دعا الإمام علیه السلام فی هذا القسم وبعض الأقسام القادمة مخاطبیه إلی تأمّل أحوال الأمم السابقة فاستعرض عناصر ضعفهم وقوتهم وعرفهم بالأسباب التی تقف وراء نجاحهم وفشلهم فی مختلف زوایا حیاتهم، حتی ینفتحوا علی تجاربهم ویشقوا طریقهم الصائب فی حیاتهم فی ظلّ الاستفادة من التاریخ، وهذا النوع من التعلیم والتعلّم عن طریق النظر فی تاریخ الأمم السالفة) ممّا أکّده القرآن الکریم فی أکثر السور القرآنیّة والذی لا یخفی مدی تأثیره ودوره.
فقال علیه السلام:
«واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالاُْمَمِ قَبْلَکُمْ مِنَ الْمَثُلاَتِ بِسُوءِ الأَفْعَالِ، وذَمِیمِ الأَعْمَالِ. فَتَذَکَّرُوا فِی الْخَیْرِ والشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، واحْذَرُوا أَنْ تَکُونُوا أَمْثَالَهُمْ».
ص:341
فقد أشار الإمام علیه السلام بهذه العبارة إلی مصیر بعض الأقوام مثل قوم عاد، وثمود وقوم نوح وقوم لوط وعاقبة الفراعنة وأمثال نمرود وما أصابهم من العذاب بفعل أعمالهم القبیحة فحذّرهم من مغبّة الإبتلاء بذات المصیر.
والعبارة:
«سُوءِ الأَفْعَالِ وذَمِیمِ الأَعْمَالِ» یمکن أن تکون تأکیداً لمعنی معین هو الأفعال القبیحة والذمیمة، وهنالک احتمال آخر أنّ سوء الأفعال إشارة إلی الأعمال السیئة وذمیم الأعمال، الأفعال المستهجنة وإن لم تبلغ مرحلة الذنب مثل الغفلة عن المحرومین وترک الانصاف والبذل والعطاء والأثرة.
ولما فرغ الإمام علیه السلام من هذا البیان الإجمالی خاض فی التفاصیل لیستفید من ذات الأسلوب القرآنی الذی طرح کراراً بغیة بیان المسائل المهمّة فقال:
«فَإِذَا تَفَکَّرْتُمْ فِی تَفَاوُتِ حَالَیْهِمْ، فَالْزَمُوا کُلَّ أَمْر لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ، وزَاحَتِ الأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ، ومُدَّتِ الْعَافِیَةُ بِهِ عَلَیْهِمْ، وانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ، ووَصَلَتِ الْکَرَامَةُ عَلَیْهِ حَبْلَهُمْ».
ثم تطرق علیه السلام إلی بیان العناصر التی تقف وراء هذه الأمور الخمسة (العزّة ودحر العدووالعافیة والنعمة والکرامة) فقال:
«مِنَ الاِْجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ، واللُّزُومِ لِلاُْلْفَةِ، والتَّحَاضِّ عَلَیْهَا، والتَّوَاصِی بِهَا».
ورغم أنّ هذه العناصر الأربعة تعود جمیعاً إلی مسألة الاتحاد والوحدة، غیر أنّ کلّ واحد یعالج نقطة معینة: فاجتناب الفرقة ناظر لنفی عناصر التفرقة والاختلاف ولزوم الإلفة لترسیخ عوامل الوحدة، والتحاض إشارة إلی الحض والتشجیع (ربّما التشجیع العلمی) والتواصی المراد به عن طریق البیان والحوار.
ثم أشار علیه السلام إلی الجانب السلبی لهذه المسألة؛ أی التفرقة وعناصرها فحذرهم بعبارات عمیقة المعنی من ضرورة نبذ عوامل الفرقة والاختلاف فقال:
«واجْتَنِبُوا کُلَّ أَمْر کَسَرَ فِقْرَتَهُمْ(1) ، وأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ(2)».
ص:342
آنذاک رکز الإمام علیه السلام علی العوامل الخاصّة بعد ذکره لهذا المبدأ الکلّی فقال:
«مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ، وتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وتَدَابُرِ النُّفُوسِ، وتَخَاذُلِ الأَیْدِی».
فهذه العناصر الأربعة هی العوامل الرئیسیّة للاختلاف والتی لبعضها جانب باطنی من قبیل الأحقاد الکامنة فی الصدور والحسد والبخل بینما لبعضها الآخر جانب ظاهری من قبیل تولی البعض عن البعض الآخر وترک الأخوة والمؤمنین عند الحوادث والشدائد، نعم! لوسادت هذه الأمور أیة أمّة لکسرت فقرتها وسلبتها قوتها وقدرتها.
***
ص:343
ص:344
وتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِینَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ قَبْلَکُمْ، کَیْفَ کَانُوا فِی حَالِ التَّمْحِیصِ والْبَلاَءِ. أَلَمْ یَکُونُوا أَثْقَلَ الْخَلاَئِقِ أَعْبَاءً، وأَجْهَدَ العِبَادِ بَلاَءً، وأَضْیَقَ أَهْلِ الدُّنْیَا حَالاً. اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِیداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، وَجَرَّ عُوهُمُ الْمُرَارَ، فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِی ذُلِّ الْهَلَکَةِ وقَهْرِ الْغَلَبَةِ، لَایَجِدُونَ حِیلَةً فِی امْتِنَاع، وَلَا سَبِیلاً إِلَی دِفَاع. حَتَّی إِذَا رَأَی اللّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَی الأَذَی فِی مَحَبَّتِهِ، والاِْحْتِمَالَ لِلْمَکْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَایِقِ الْبَلاَءِ فَرَجاً، فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَکَانَ الذُّلِّ، والأَمْنَ مَکانَ الْخَوْفِ، فَصَارُوا مُلُوکاً حُکَّاماً، وأئِمَّةً أَعْلاَماً، وقَدْ بَلَغَتِ الْکَرَامَةُ مِنَ اللّهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الاْمَالُ إِلَیْهِ بِهِمْ.
بالنظر إلی أنّ الموضوع الأصلی لهذه الخطبة یتمثّل فی مواجهة الکبر والغرور والعصبیات السلبیّة وقد بیّن الإمام علیه السلام ذلک فی الفصل السابق ولفت انتباه مخاطبیه إلی أحوال الأمم السالفة وانتصاراتهم ونجاحهم فی ظلّ وحدتهم وإلفتهم، وعاد ثانیة لیلفت أنظارهم إلی التأمّل فی سیرة الأمم السابقة وما عانوه من امتحانات شاقة وعسیرة لیستعرض لهم کیفیة نجاحهم فی تلک الامتحانات وتسلطهم علی العدو، فأفاض اللّه علیهم العزّة والعظمة ومنحهم الأمن فقال:
«وتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِینَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ قَبْلَکُمْ، کَیْفَ کَانُوا فِی حَالِ التَّمْحِیصِ والْبَلاَءِ».
ص:345
ثم تطرق علیه السلام إلی توضیح تلک الامتحانات الصعبة فقال:
«أَلَمْ یَکُونُوا أَثْقَلَ الْخَلاَئِقِ أَعْبَاءً(1) ، وأَجْهَدَ العِبَادِ بَلاَءً، وأَضْیَقَ أَهْلِ الدُّنْیَا حَالاً».
ثم غاص أکثر فی التوضیح بهذا الشأن لیرکز علی ما واجهتهم من صعوبات فی حیاتهم فقال:
«اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِیداً فَسَامُوهُمْ(2) سُوءَ الْعَذَابِ، وَجَرَّ عُوهُمُ الْمُرَارَ(3) ، فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِی ذُلِّ الْهَلَکَةِ وقَهْرِ الْغَلَبَةِ، لَایَجِدُونَ حِیلَةً فِی امْتِنَاع، وَلَا سَبِیلاً إِلَی دِفَاع».
ورغم أنّ خطوب حیاة الأقوام السابقة وامتحاناتهم الصعبة والشاقّة لا تقتصر علی زمان الفراعنة، ولکن بما أنّ القرآن أشار کراراً إلی المصائب التی عانی منها بنو إسرائیل فی زمان فرعون والتی یعرفها جمیع المسلمین، فقد أشار الإمام علیه السلام علی وجه الخصوص إلی تلک الحقبة حیث تحول فیها الجمیع إلی عبید من جانب وکانوا یضطرونهم إلی أعقد الأعمال ویزودونهم بأدنی الإمکانات وحین یشعرون بالخطر یعمدون إلی قتل رجالهم واستحیاء نسائهم واستعمالهن للخدمة، وقد مضت علیهم عدّة سنین ولم یکن لهم من سبیل للنجاة حتی تلطف اللّه علیهم فکانت معجزة اللّه فی انتصارهم علی عدوهم بهلاک الفراعنة وأعوانهم، حیث قال علیه السلام فی مواصلته لکلامه
«حَتَّی إِذَا رَأَی اللّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَی الأَذَی فِی مَحَبَّتِهِ، والاِْحْتِمَالَ لِلْمَکْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَایِقِ الْبَلاَءِ فَرَجاً».
نعم! فحین یجتاز الإنسان الامتحان یبعث اللّه علیه ما یفرج عنه مشکلاته وفتُشرق علیه شمس النصر والغلبة، الأمر الذی لمسناه فی موسی علیه السلام وقومه.
فقد أشار الإمام علیه السلام فی هذه العبارة إلی نصرهم بصورة کلیّة، ثم خاض فی التفاصیل فقال:
«فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَکَانَ الذُّلِّ، والأَمْنَ مَکانَ الْخَوْفِ، فَصَارُوا مُلُوکاً
ص:346
حُکَّاماً، وأئِمَّةً أَعْلاَماً، وقَدْ بَلَغَتِ الْکَرَامَةُ مِنَ اللّهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الاْمَالُ إِلَیْهِ بِهِمْ».
وقد ورد المزید من التوضیح فی القرآن المجید بشأن بنی إسرائیل والفراعنة بهذا الخصوص والذی یکشف النقاب عن دقائق هذا النصر فقال تعالی: «کَمْ تَرَکُوا مِنْ جَنَّات وَعُیُون * وَزُرُوع وَمَقَام کَرِیم * وَنَعْمَة کَانُوا فِیهَا فَاکِهِینَ * کَذَلِکَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِینَ»(1).
وقال تعالی فی موضع آخر: «وَنُرِیدُ أَنْ نَّمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِینَ»(2).
***
ص:347
ص:348
فَانْظُرُوا کَیْفَ کَانُوا حَیْثُ کَانَتِ الأَمْلاَءُ مُجْتَمِعَةً، والأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً، والْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، والأَیْدِی مُتَرَادِفَةً، والسُّیُوفُ مُتَنَاصِرَةً، والْبَصَائِرُ نَافِذَةً، والْعَزَائِمُ وَاحِدَةً. أَلَمْ یَکُونُوا أَرْبَاباً فِی أَقْطَارِ الأَرَضِینَ، ومُلُوکاً عَلَی رِقَابِ الْعَالَمِینَ! فَانْظُرُوا إِلَی مَا صَارُوا إِلَیْهِ فِی آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِینَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وتَشَتَّتَتِ الاُْلْفَةُ، واخْتَلَفَتِ الْکَلِمَةُ وَالأَفْئِدَةُ، وتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِینَ، وتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِینَ، قَدْ خَلَعَ اللّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ کَرَامَتِهِ، وسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ، وبَقِیَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِیکُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِینَ.
بعد أن فرغ الإمام علیه السلام من کلامه السابق بشأن الأقوام السابقة ومصیرهم الذی یختزن الدروس والعبر، خلص فی هذا المقطع من الخطبة إلی نتیجة لیرکز علی العنصر الرئیسی للنصر المتمثّل باتحاد الصفوف والعنصر الرئیسی للفشل المتمثّل بتفرّق الصفوف لیشیر إلی أبعاد وحدة الکلمة من خلال عدّة عبارات بسبع جمل فقال:
«فَانْظُرُوا کَیْفَ کَانُوا حَیْثُ کَانَتِ الأَمْلاَءُ(1) مُجْتَمِعَةً، والأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً، والْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، والأَیْدِی مُتَرَادِفَةً، والسُّیُوفُ مُتَنَاصِرَةً، والْبَصَائِرُ نَافِذَةً، والْعَزَائِمُ وَاحِدَةً.
أَلَمْ یَکُونُوا أَرْبَاباً فِی أَقْطَارِ الأَرَضِینَ، ومُلُوکاً عَلَی رِقَابِ الْعَالَمِینَ».
فالإمام علیه السلام أشار بهذه العبارات الغایة فی الروعة والعمیقة المعنی إلی الاتحاد
ص:349
والاتفاق فی جمیع مظاهره لیعده عنصر الإقتدار والرفعة، الاتفاق فی التطلعات والرغبات والخطط والمشاریع والاتفاق فی العمل والاتفاق عند الصلح والقتال وبالتالی وحدة الصفوف فی جمیع مظاهر الحیاة.
ویبدو الدلیل علی هذا الکلام واضحاً تماماً؛ ذلک لأنّه لیس للأفراد بمفردهم من قدرة کبیرة وکل واحد منهم کالقطرة بحیث لو کانت فی صحراء وأشرقت علیها أشعة الشمس أو هبت علیها الریح لحولتها إلی بخار، غیر أنّ هذه القطرات أن اجتمعت مع بعضها البعض شکلت تلک البحار العظیمة التی من شأنها أن تکون مصدر لکلّ خیر وبرکة، فخیط العنکبوت بمفرده ضعیف وایل للزوال ولایسعه الصمود أمام أدنی نسیم، غیر أنّهم الیوم یلفونها مع بعضها لیصنعوا منها بدلة مضادة للرصاص والتی تفوق مقاومتها جمیع المقاومات وهذا هو دور الاتحاد والاتفاق.
ولعل هذه العبارات واردة بشأن بنی إسرائیل حین نهض موسی بن عمران علیه السلام بالأمر ووحّد صفوفهم فشملتهم العنایة الإلهیّة والألطاف الربّانیّة فورثوا حکومة مصر والبلدان المجاورة لها، حتی تشکلت بعد موسی علیه السلام حکومات مقتدرة کحکومة داود وسلیمان علیهما السلام، وربّما یکون أصلاً کلیاً وعاماً حصل کراراً فی تاریخ الأمم السابقة، وکلّما کان هنالک اتحاد واتفاق ووحدة قرار وخطة حکیمة کان هنالک الانتصار والغلبة، علی کلّ حال فإنّ شرح الإمام علیه السلام یکشف النقاب عن هذه الحقیقة أنّه وإن کانت عدّة عوامل ضروریة للنصر والتقدم إلّاأنّ أهمها مسألة الاتحاد والاتفاق.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه فذکر العنصر الرئیسی فی الفشل والهزیمة وهو الاختلاف؛ الاختلاف فی وجهات النظر وتشتت الصفوف، ثم أشار إلی أبعاده المختلفة بخمس عبارات فقال:
«فَانْظُرُوا إِلَی مَا صَارُوا إِلَیْهِ فِی آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِینَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وتَشَتَّتَتِ الاُْلْفَةُ، واخْتَلَفَتِ الْکَلِمَةُ وَالأَفْئِدَةُ، وتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِینَ،
ص:350
وتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِینَ، قَدْ خَلَعَ اللّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ کَرَامَتِهِ، وسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ(1) نِعْمَتِهِ، وبَقِیَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِیکُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِینَ».
نعم، فحین تتجه طاقات أمّة نحو الاختلاف، وتستبدل الإلفة والمحبّة بالنفرة والعداوة وتتصاعد فیها ألسنة لهیب اختلاف الکلمة وتفرق الأفکار إنّما تخوض حربها ضد نفسها وتهدر طاقاتها بدلاً من تصدیها لعدوها الذی ینوی القضاء علیها، واللّه سبحانه وتعالی ینزع عنها لباس العزّة ویکسیها لباس الذل والهوان.
ویمکن أن یکون هذا الجانب من کلام الإمام علیه السلام إشارة إلی قصّة بنی إسرائیل بعد تلک الانتصارات المتتالیة حین فقدوا مجدهم وعزّتهم إثر الاختلاف والتشتت فتفرقوا فی الأرض، وربّما یکون إشارة إلی جمیع الأقوام التی تعیش حالة السقوط بسبب کفران النعمة والاختلاف والتشتت عقب الانتصارات الباهرة التی تحققها فی ظلّ الاتحاد ووحدة الکلمة.
***
ص:351
ص:352
فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِیلَ وبَنیِ إِسْحَاقَ وبَنِی إِسْرَائِیلَ (علیهم السلام). فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الأَحْوَالِ، وأَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الأَمْثَالِ!
تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِی حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وتَفَرُّقِهِمْ، لَیَالِیَ کَانَتِ الأَکَاسِرَةُ والْقَیَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ، یَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِیفِ الاْفَاقِ، وبَحْرِ الْعِرَاقِ، وخُضْرَةِ الدُّنْیَا، إِلَی مَنابِتِ الشِّیحِ، ومَهَافِی الرِّیحِ، ونَکَدِ الْمَعَاشِ، فَتَرَکُوهُمْ عَالَةً مَسَاکِینَ إِخْوَانَ دَبَر ووَبَر، أَذَلَّ الاُْمَمِ دَاراً، وأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً، لَایَأْوُونَ إِلَی جَنَاحِ دَعْوَة یَعْتَصِمُونَ بِها، وَلَا إِلَی ظِلِّ أُلْفَة یَعْتَمِدُونَ عَلَی عِزِّهَا. فَالاَْحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ، والأَیْدِی مُخْتَلِفَةٌ، والْکَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ؛ فِی بِلاَءِ أَزْل، وأَطْبَاقِ جَهْل! مِنْ بَنَات مَوْؤُودَة، وأَصْنَام مَعْبُودَة، وأَرْحَام مَقْطُوعَة، وغَارَات مَشْنُونَة.
تابع الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة ما ذکره فی المقاطع السابقة بشأن العناصر التی تقف وراء انتصار وفشل الأمم السابقة فرکز علی المصادیق العینیة لهذا الموضوع وأخذ بید مخاطبیه لیغوص بهم فی أعماق التاریخ فیکشف لهم النقاب عن قصة ولد إسماعیل وإسحاق علیهما السلام وبنی إسرائیل لیعتبروا بهم فقال:
«فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِیلَ وبَنیِ إِسْحَاقَ وبَنِی إِسْرَائِیلَ علیهم السلام. فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ(1) الأَحْوَالِ،
ص:353
وأَقْرَبَ اشْتِبَاهَ(1) الأَمْثَالِ!».
وعلی هذا الضوء فقد دعاهم الإمام علیه السلام لمقارنة أنفسهم بمن سبقهم لیتعرفوا علی عناصر نجاحهم وإخفاقهم لکی لا یقعوا فی شباک الشیطان ویعیشوا هوی النفس والغرور والتعصب.
وهنا لابدّ من الإلتفات إلی أنّ ولد إبراهیم علیه السلام ینقسمون إلی ثلاث طوائف؛ طائفة هم بنو إسماعیل الذین یعدون أجداد النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله، وبنو إسحاق الذین یتفرعون إلی فرعین؛ فرع هم بنو یعقوب الذین یشکلون قوم بنی اسرائیل وفرع آخر هم بنو «عیسو» ومن نسلهم «الأدومیون» (قوم من أولی القوّة کانوا یقطنون فی منطقة «أدوم» التی تمتد من جنوب البحر المیت إلی شمال الحجاز).
ویحتمل أن یکون المراد بالعبارات السابقة قد أشار إلی قانون کلّی فی أنّ التاریخ یعید نفسه باستمرار وعادة ما تعیش الشعوب والأمم ظروفاً متشابهة تستطیع من خلالها کلّ أمّة أن تحدد معالم مصیرها.
ثم تطرق علیه السلام إلی شرح هذا الکلام بأسلوب الاجمال والتفصیل الذی یلعب دوراً فی بیان الحقیقة فقال:
«تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِی حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وتَفَرُّقِهِمْ، لَیَالِیَ کَانَتِ الأَکَاسِرَةُ(2) والْقَیَاصِرَةُ(3) أَرْبَاباً لَهُمْ، یَحْتَازُونَهُمْ(4) عَنْ رِیفِ(5) الاْفَاقِ، وبَحْرِ الْعِرَاقِ، وخُضْرَةِ الدُّنْیَا، إِلَی مَنَابِتِ الشِّیحِ(6) ، ومَهَافِی(7) الرِّیحِ، ونَکَدِ(8) الْمَعَاشِ».
ص:354
إشارة إلی أنّهم سلبوهم حیاة القری والمدن المبارکة وهجّروهم إلی الصحاری والمناطق الجرداء القاحلة.
ثم قال علیه السلام:
«فَتَرَکُوهُمْ عَالَةً(1) مَسَاکِینَ إِخْوَانَ دَبَر(2) ووَبَر(3) ، أَذَلَّ الاُْمَمِ دَاراً، وأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً لَایَأْوُونَ(4) إِلَی جَنَاحِ دَعْوَة یَعْتَصِمُونَ بِها، وَلَا إِلَی ظِلِّ أُلْفَة یَعْتَمِدُونَ عَلَی عِزِّهَا».
انذاک خاض علیه السلام فی شرح معطیات هذا الوضع فقال:
«فَالاَْحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ، والأَیْدِی مُخْتَلِفَةٌ، والْکَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ، فِی بِلاَءِ أَزْل(5) ، وأَطْبَاقِ جَهْل! مِنْ بَنَات مَوْؤُودَة(6) ، وأَصْنَام مَعْبُودَة، وأَرْحَام مَقْطُوعَة، وغَارَات(7) مَشْنُونَة(8)».
إشارة إلی أنّ اختلاف الآراء وتشتت الأفکار، إنّما تفرز علی الدوام المحن والخطوب التی تصیب المجتمعات البشریّة فتطمرها فی وادی الجهل، کما یشیر تاریخ الجاهلیة إلی أنّهم کانوا یمارسون الأعمال الهمجیّة والبربریّة، وقد أشار الإمام علیه السلام إلی أربعة نماذج منها؛ فکانوا یعمدون إلی وأد بناتهم أحیاءً تحت ذریعة حفظ الحرمة وابراز الغیرة والنجاة من الفضیحة والعار، ویعبدون الأحجار التی کانوا یصنعونها بأیدیهم فکان لکلّ قبیلة صنمها ووثنها، فقریش وبنو کنانة والأوس
ص:355
والخزرج کانوا یعبدون «مناة»، وبنو ثقیف «اللاة والعزی» وهذیل «سواع» وبنو کلب «ود» وسائر الطوائف کانت تعبد سائر الأصنام، وقد نصب «هبل» کأعظم صنم لهم فی الکعبة بینما کان «اساف» و «نائلة» علی الصفا والمروة فکان الجمیع یعظم هذه الأصنام الثلاثة فتحولت الکعبة مرکز التوحید والعبودیة إلی أکبر معبد وثنی للأصنام.
وقطع الرحم الوارد فی کلام الإمام علیه السلام یمکن أن یکون إشارة إلی قتلهم أولادهم خشیة الفقر أو بصفته عبادة یتقربون بها لأصنامهم، وتشیر «الغارات المشنونة» الحروب المتعددة التی کانت تنشب بین القبائل العربیة فی العصر الجاهلی تحت مختلف الذرائع، حتی ذهب بعض المؤرخین إلی أنّ نار تلک الحروب لم تکن تطفأ حتی ظهر الإسلام فوضع حداً للاقتتال القبلی وقتل الأولاد ووأد البنات وعبادة الأوثان.
وهذا هو مصیر من یقطع أواصر الوحدة ویقبل علی الاختلاف والتشتت والنفاق والذی یتجلی بصیغة معینة فی کلّ أمّة ولا یقتصر علی العصر الجاهلی.
لعلنا سمعنا کراراً هذا الکلام فی أنّ قطرات الأمطار لیس لها من قیمة تذکر بمفردها، غیر أنّها إن اتصلت بسائر القطرات وشکلت نهراً عظیماً وتراکمت مع بعضها البعض الآخر ألفت کتلة عظیمة من شأنها القیام ببعض الأعمال الکبیرة ومن ذلک إنتاجها للقوّة الکهربائیة التی تشغل المصانع والمعامل الضخمة، وتضیئ المدن والقری وتسقی قطاعات واسعة من المزارع والحقول، وبالتالی یمکنها إضفاء الحیاة والحیویّة.
ویبدو أنّ الناس کذلک، فکلّ إنسان مهما کانت قدرته وطاقته لا یمکنه القیام ببعض الأعمال بمفرده، علی غرار قطرة المطر، ولکن ما أن تتظافر هذه الجهود الصغیرة حتی یکون لها تأثیراتها الواضحة فی هذا العالم، فهی لا تشکل درعاً
ص:356
حصیناً العدو فحسب، بل تلعب دورها فی عالم الاقتصاد والعلم والمعرفة فتؤدی إلی کلّ ذلک الرقی والتقدم والإزدهار، والحقّ لولا تلاقح قطرات علم العلماء طیلة التاریخ وفی المجتمعات البشریّة لما شهدنا لیوم کلّ هذا التقدم العلمی الهائل ولما کان التمدن یفوق مدنیة العصور الحجریة.
وفإذا دبّ الاختلاف فی صفوف المجتمعات البشریّة فلا تتوقف عجلة الرقی والتقدم فحسب، بل تنعدم کلّ القدرات والقوی فی اتون الاقتتال الداخلی والذی لا یفضی سوی إلی الدمار والخراب والتخلف.
وقد أکّد الإمام علیه السلام مراراً فی هذه الخطبة الشریفة علی هذا المعنی، فأخذ بید مخاطبیه إلی أعماق التاریخ البشری لیریهم عن کثب نتائج الاتحاد والفرقة.
من جانب آخر فقد ورد مثل هذا التأکید فی الآیات القرآنیّة والروایات الإسلامیّة؛ ولکن ما تجدر الإشارة إلیه أنّ الظفر بوحدة الصفوف لا یبدو بالأمر الهَیّن بل یحاط بالعدید من الصعوبات والعوائق، ومنها التعصب والکبر والفخر وترجیح المصالح الذاتیة الضیقة والقصیرة الأمد علی المنافع العامّة والبعیدة الأمد، وقد عدّها الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة من العقبات التی تعترض سبیل الوحدة.
وقد أکّد الإمام علیه السلام هذا المعنی فی سائر خطب نهج البلاغة أیضاً؛ ومن ذلک ما ورد فی الخطبة 127 أنّه قال:
«وإیّاکُمْ والْفُرْقَةَ فَإنَّ الشّاذَّ مِنَ النّاسِ لِلشَّیْطانِ کَما أنّ الشّاذّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ».
کما وردت إشارة رائعة إلی هذا المعنی فی الخطبة 86:
«ولا تَباغَضُوا فَإنّها الْحالِقَةُ».
ونختتم هذا الکلام بالرسالة المهمّة التی صرح بها القرآن الکریم فی قوله تعالی:
«وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِیحُکُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِینَ»(1).
***
ص:357
ص:358
فَانْظُرُوا إِلَی مَوَاقِعِ نِعَمِ اللّهِ عَلَیْهِمْ حِینَ بَعَثَ إِلَیْهِمْ رَسُولاً، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ، وجَمَعَ عَلَی دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ: کَیْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَیْهِمْ جَنَاحَ کَرَامَتِهَا، وأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِیمِهَا، والْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِی عَوَائِدِ بَرَکَتِهَا، فَأَصْبَحُوا فِی نِعْمَتِهَا غَرِقِینَ، وفِی خُضْرَةِ عَیْشِهَا فَکِهِینَ. قَدْ تَرَبَّعَتِ الاُْمُورُ بِهِمْ، فِی ظِلِّ سُلْطَان قَاهِر، وآوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَی کَنَفِ عِزٍّ غَالِب، وتَعَطَّفَتِ الاُْمُورُ عَلَیْهِمْ فِی ذُرَی مُلْک ثَابت. فَهُمْ حُکَّامٌ عَلَی الْعَالَمِینَ، ومُلُوکٌ فِی أَطْرَافِ الأَرَضِینَ. یَمْلِکُونَ الاُْمُورَ عَلَی مَنْ کَانَ یَمْلِکُهَا عَلَیْهِمْ، ویُمْضُونَ الأَحْکامَ فِیمَنْ کَانَ یُمْضِیهَا فِیهِمْ! لَاتُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ، وَلَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ.
بعد کلام الإمام علیه السلام فی القسم السابق من هذه الخطبة بشأن خطوب العصر الجاهلی والمشاکل والإرباکات والفقر وعدم الاستقرار التی اتصف بها، تناول هنا شرح المعطیات المبارکة التی حصلوا علیها فی ظلّ انبثاق دعوة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وما أصبحوا علیه من اتحاد وإلفة ومحبّة، لیشرح هذا الأمر بعبارات غایة فی الجمال والبلاغة فقال:
«فَانْظُرُوا إِلَی مَوَاقِعِ نِعَمِ اللّهِ عَلَیْهِمْ حِینَ بَعَثَ إِلَیْهِمْ رَسُولاً، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ، وجَمَعَ عَلَی دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ».
نعم؛ فقد کان کلّ قوم وقبیلة بل کلّ فرد فی العصر الجاهلی یلهث خلف مصالحه ورغباته الضیقة حتی سادهم جو من الفرقة والاختلاف والتشتت، فجمعهم اللّه
ص:359
تبارک وتعالی تحت رایة واحدة فی ظلّ الإسلام والتوحید فانقلب کلّ شیء رأساً علی عقب.
ثم تطرق علیه السلام إلی بیان هذه النعم من خلال تشبیهات واستعارات رائعة لیتطرق إلی الواحدة تلو الأخری فقال:
«کَیْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَیْهِمْ جَنَاحَ کَرَامَتِهَا، وأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ(1) نَعِیمِهَا، والْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِی عَوَائِدِ بَرَکَتِهَا، فَأَصْبَحُوا فِی نِعْمَتِهَا غَرِقِینَ، وفِی خُضْرَةِ عَیْشِهَا فَکِهِینَ(2)».
فقد شبه الإمام علیه السلام هذه النعم بالطیور التی تفتح اجنحتها لتضم إلیها صغارها فتمنحها الدفء والحنان والأمان، ثم شبهها ثانیة بالماء العذب الفرات الذی ینحدر نحو الحقول والمزارع فیجعلها خضراء نضرة، ونتیجة ذلک الغرق فی النعم والعیش بأمان فی ظلّ حیاة هانئة ودیعة.
ثم واصل کلامه علیه السلام لیشیر إلی نعمة الحکومة الإسلامیّة، الحکومة العزیزة والمقتدرة فقال:
«قَدْ تَرَبَّعَتِ(3) الاُْمُورُ بِهِمْ، فِی ظِلِّ سُلْطَان قَاهِر، وآوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَی کَنَفِ عِزٍّ غَالِب، وتَعَطَّفَتِ الاُْمُورُ عَلَیْهِمْ فِی ذُرَی(4) مُلْک ثَابت».
والتاریخ الإسلامی أفضل شاهد علی جمیع ما ذکره الإمام علیه السلام بهذه العبارات حیث انتصار العرب بالخصوص والمسلمین بصورة عامة فی ظلّ الإسلام، الأمر الذی یقرّه مؤرخو الشرق والغرب.
ثم أشار فی ختام هذا الکلام إلی النصر المطلق للمسلمین علی خصومهم بعبارة بلیغة فقال:
«فَهُمْ حُکَّامٌ عَلَی الْعَالَمِینَ، ومُلُوکٌ فِی أَطْرَافِ الأَرَضِینَ. یَمْلِکُونَ الاُْمُورَ عَلَی مَنْ کَانَ یَمْلِکُهَا عَلَیْهِمْ، ویُمْضُونَ الأَحْکامَ فِیمَنْ کَانَ یُمْضِیهَا فِیهِمْ! لَا
ص:360
تُغْمَزُ(1) لَهُمْ قَنَاةٌ(2) ، ولَا تُقْرَعُ(3) لَهُمْ صَفَاةٌ(4)».
إشارة إلی سطوة الحکام والسلاطین فی العهود السابقة علیهم إثر اختلافهم وفرقتهم وضعفهم وعجزهم حتی استعبدوهم بینما بث فیهم الإسلام روح الاتحاد والقدرة والعزّة فانحنوا لهم حیث تحولوا إلی قوّة لا تقهر.
قال أحد المستشرقین: بلغ المسلمون درجة من القوّة بحیث یوصف بالجنون کلّ من یفکر فی مواجهتهم.
***
ص:361
ص:362
أَلَا وإِنَّکُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَیْدِیَکُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ، وثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَیْکُمْ، بِأَحْکامِ الْجَاهِلِیَّةِ. فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَّ عَلَی جَمَاعَةِ هذِهِ الاُْمَّةِ فِیمَا عَقَدَ بَیْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هذِهِ الاُْلْفَةِ الَّتِی یَنْتَقِلُونَ فِی ظِلِّهَا، ویَأْوُونَ إِلَی کَنَفِهَا، بِنِعْمَة لَایَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِینَ لَهَا قِیمَةً، لاَِنَّها أَرْجَحُ مِنْ کُلِّ ثَمَن، وأَجَلُّ مِنْ کُلِّ خَطَر.
واعْلَمُوا أَنَّکُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً، وبَعْدَ الْمُوَالاَةِ أَحْزَاباً. مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الاِْسْلاَمِ إِلَّا بِاسْمِهِ، وَلَا تَعْرِفُونَ مِنَ الاِْیمَانِ إلَّارَسْمَهُ.
تَقُولُونَ: النَّارَ وَلَا الْعَارَ! کَأَنَّکُمْ تُرِیدُونَ أَنْ تُکْفِئُوا الاِْسلاَمَ عَلَی وَجْهِهِ انْتِهَاکاً لِحَرِیمِهِ، ونَقْضاً لِمِیثَاقِهِ الَّذِی وَضَعَهُ اللّهُ لَکُمْ حَرَماً فِی أَرْضِهِ، وأَمْناً بَیْنَ خَلْقِهِ. وإِنَّکُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَی غَیْرِهِ حَارَبَکُمْ أَهْلُ الْکُفْرِ، ثُمَّ لَاجَبْرَائِیلُ وَلَا مِیکائِیلُ وَلَا مُهَاجِرُونَ وَلَا أَنْصَارٌ یَنْصُرُونَکُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّیْفِ حَتَّی یَحْکُمَ اللّهُ بَیْنَکُمْ.
وإِنَّ عِنْدَکُمُ الأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللّهِ وقَوَارِعِهِ، وأَیَّامِهِ ووَقَائِعِهِ، فَلاَ تَسْتَبْطِئُوا وَعِیدَهُ جَهْلاً بِأَخْذِهِ، وتَهَاوُناً بِبَطْشِهِ، ویَأْساً مِنْ بَأْسِهِ. فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ یَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِیَ بَیْنَ أَیْدِیکُمْ إِلَّا لِتَرْکِهِمُ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْیَ عَنِ الْمُنْکَرِ. فَلَعَنَ اللّهُ السُّفَهَاءَ لِرُکُوبِ الْمَعَاصِی، والْحُلَمَاءَ لِتَرْکِ التَّنَاهِی.
أَلَا وقَدْ قَطَعْتُمْ قَیْدَ الاِْسْلاَمِ، وعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ، وأَمَتُّمْ أَحْکَامَهُ.
ص:363
أشار الإمام علیه السلام فی المقاطع السابقة إلی شؤون بنی إسرائیل وضعفهم قبل قیام موسی علیه السلام ومن ثم قوتهم واقتدارهم فی ظلّ حرکة موسی التی وحدت صفوفهم وبالتالی ضعفهم وذلتهم ثانیة حین تولوا عن الدین الجدید ودعوة موسی، فذکّر المسلمین بهذه المراحل الثلاث، المرحلة الأُولی المتعلقة بالعصر الجاهلی، والمرحلة الثانیة المرتبطة بانبثاق الدعوة الإسلامیّة وما انطوت علیه من انتصارات باهرة والذی مر علینا فی الأقسام السابقة، وخاض هنا فی تفاصیل المرحلة الثالثة التی انطوت علی تخلف المسلمین عن الوحدة والانتصارات السابقة فقال:
«أَلَا وإِنَّکُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ(1) أَیْدِیَکُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ، وثَلَمْتُمْ(2) حِصْنَ اللّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَیْکُمْ، بِأَحْکامِ الْجَاهِلِیَّةِ).
ثم خاض علیه السلام فی شرح هذا الکلام فقال:
«فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَّ عَلَی جَمَاعَةِ هذِهِ الاُْمَّةِ فِیمَا عَقَدَ بَیْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هذِهِ الاُْلْفَةِ الَّتی یَنْتَقِلُونَ فِی ظِلِّهَا، ویَأْوُونَ إِلَی کَنَفِهَا(3) ، بِنِعْمَة لَایَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِینَ لَهَا قِیمَةً، لاَِنَّها أَرْجَحُ مِنْ کُلِّ ثَمَن، وأَجَلُّ مِنْ کُلِّ خَطَر».
فکلّ هذه العبارات تشیر إلی أهمیّة الاتحاد والإلفة، الأمر الذی أکّده القرآن الکریم فی عدّة مواضع فی قوله تعالی: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ کُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً(4)»(5).
ص:364
فکشف النقاب أکثر عن الموضوع لیقول صراحة:
«وَاعْلَمُوا أَنَّکُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَبَعْدَ الْمُوَالاَةِ أَحْزَاباً. مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الاِْسْلاَمِ إِلَّا بِاسْمِهِ وَلَا تَعْرِفُونَ مِنَ الاِْیمَانِ إلَّارَسْمَهُ».
فقد أفصح الإمام علیه السلام فی هذه العبارات عن مدی قلقه علی أوضاع المسلمین آنذاک وکیف بدت علیهم آثار العصبیّة القبیلیّة التی جهد النّبی صلی الله علیه و آله علی إزالتها فی ظلّ التعالیم الإسلامیّة السمحاء، فکانت هذه العصبیة أساس الاقتتال وسفک الدماء ولذلک صرّح لهم الإمام علیه السلام: (أنّکم لتتحدثون عن الإسلام والإیمان بینما لا تحسنون من الإسلام سوی اسمه ومن الإیمان سوی شکله)، نعم! إنّکم لتنطقون بالشهادتین وتأتون ظاهریاً بالصوم والصلاة لکنکم غافلون عن تعالیم هذا الدین.
ثم شرح الإمام علیه السلام هذه العبارة فقال:
«تَقُولُونَ: النَّارَ وَلَا الْعَارَ! کَأَنَّکُمْ تُرِیدُونَ أَنْ تُکْفِئُوا(1) الاِْسلاَمَ عَلَی وَجْهِهِ انْتِهَاکاً لِحَرِیمِهِ، ونَقْضاً لِمِیثَاقِهِ الَّذِی وَضَعَهُ اللّهُ لَکُمْ حَرَماً فِی أَرْضِهِ، وأَمْناً بَیْنَ خَلْقِهِ».
عبارة هذه الشعار
«اَلنّارَ وَلَا الْعارَ» اطلقت حسب بعض الشرّاح لأول مرّة من قبل «أوس بن حارثة»(2) وهو من الشعارات التعصبیّة البعیدة عن الإسلام. فهؤلاء یزعمون أنّهم مستعدون لدخول النار، لکنهم لیسوا مستعدین لأنّ تظهر علیهم القبیلة الفلانیّة، أو یراق لهم دم ولا یردّون الصاع صاعین. فالإمام علیه السلام یصف هذا الکلام بأنّه نقض العهود والتراجع عن الإسلام.
ص:365
وقال جمع من شرّاح نهج البلاغة إنّ العبارة
«النّارَ ولَا الْعارَ» عظیمة إن کانت فی الأهداف القدسیّة، بینما تعدّ قبیحة ومذمومة إن کانت فی المفاخر القبلیّة الواهیّة.
إنّما یصح هذا الکلام إن لم تکن النار بمعنی جهنم، بل کانت بمعناها الواسع الذی یشمل نار المشاکل الدنیویة أیضاً، مثلاً یقال (نتحمل جمیع المحن وحتی الموت لکننا لا نقبل بسیطرة الکفّار علی البلاد الإسلامیّة) فالشعار بالطبع صحیح؛ أمّا أن یقال (نحن مستعدون لدخول النار لکننا لا نتحمل أفضلیة القبیلة الفلانیّة) فالشعار هنا خاطئ وینسجم مع العصبیة الجاهلیة.
وعلیه فلا یبدو صحیحاً ما ذکره المحقق التستری فی شرحه لنهج البلاغة حیث صرّح بأنّ هذا التقسیم مضحک، ذلک لأنّ من قال بهذا التقسیم إنّما فسّر النار بمعناها الواسع، رغم إنّ ما ورد فی کلام الإمام علیه السلام علی لسان المتعصبین آنذاک یراد به الجانب السلبی لذلک الشعار.
ثم أشار علیه السلام إلی العاقبة السیئة لهذا الأسلوب فقال:
«وإِنَّکُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَی غَیْرِهِ(1) حَارَبَکُمْ أَهْلُ الْکُفْرِ، ثُمَّ لَاجَبْرَائِیلُ وَلَا مِیکائِیلُ وَلَا مُهَاجِرُونَ وَلَا أَنْصَارٌ(2) یَنْصُرُونَکُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ(3) بِالسَّیْفِ(4) حَتَّی یَحْکُمَ اللّهُ بَیْنَکُمْ».
إشارة إلی أنّکم حین کنتم متمسکین آنذاک بالإسلام فقد أمدکم اللّه بنصرته بملائکته وعنایته الغیبیة التی عمت الأنصار والمهاجرین، فدحرتم الأعداء ونلتم
ص:366
النصر وعشتم العزّة والکرامة والأمن، ولکن ستسلبون کلّ ذلک إذا ولیتم ظهورکم للإسلام وعلیه فما لکم إلّاالعودة إلی الإسلام الأصیل واطردوا عن أنفسکم الکبر والغرور والعصبیة الجاهلیة واطفئوا نیران الفرقة لتشملکم عنایة اللّه وألطافه.
ثم حذرهم الإمام علیه السلام ودعاهم لمقارنة أوضاعهم بما أصاب الأمم الظالمة من قبلهم، فاستعرض لهم نماذج العقاب الإلهی کما ورد فی القرآن الکریم فقال:
«وإِنَّ عِنْدَکُمُ الأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللّهِ وقَوَارِعِهِ، وأَیَّامِهِ ووَقَائِعِهِ».
والعبارات الأربع
«بأس» و «قوارع» و
«أیّام» و
«وقائع» کلّها إشارة إلی العاقبة الثقیلة والصعبة للأمم المذنبة السالفة، ولکن لکلّ من هذه العبارات مفهومها الخاص؛ فالبأس تعنی القتال والعذاب والقوارع إشارة إلی العقوبات الشاقة من قبیل طوفان نوح والزلزلة التی أصابت قوم لوط وصاعقة قوم عاد وثمود، والأیّام إشارة إلی مجموع الأیّام التی تشهد وقوع هذه الحوادث، والوقائع هی هذه الحوادث بما فیها المقدمة وذی المقدمة وآثارها ونتائجها.
و
«أیّام اللّه» هنا إشارة إلی أیّام الأمم السابقة الصعبة والمرعبة، فقد جاء فی القرآن المجید بشأن قوم عاد: «اِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَیْهِمْ رِیحاً صَرْصَراً فِی یَوْمِ نَحْس مُّسْتَمِرّ»(1). وقال إثر ذلک: «تَنزِعُ النَّاسَ کَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْل مُّنْقَعِر»(2). وسائر الآیات الکثیرة الواردة بشأن قوم فرعون ونوح وأمثالهم.
ثم قال علیه السلام:
«فَلاَ تَسْتَبْطِئُوا(3) وَعِیدَهُ جَهْلاً بِأَخْذِهِ، وتَهَاوُناً بِبَطْشِهِ(4) ، ویَأْساً مِنْ بَأْسِهِ».
أی إن تأخر عقاب العصاة لبضعة أیّام أو بضعة شهور فلا تظنوا باستحالة وقوعه،
ص:367
فقد اثبت التاریخ وقوع هذا العذاب رغم تأخیره، وبالطبع فلیس لهذا التأخیر من أهمیّة مقارنة بعمر العالم.
ثم خاض علیه السلام فی أسباب هذا الموضوع (التشابه فی المصیر) لیرکز علی أهمها فقال:
«فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ یَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِیَ بَیْنَ أَیْدِیکُمْ إِلَّا لِتَرْکِهِمُ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْیَ عَنِ الْمُنْکَرِ. فَلَعَنَ اللّهُ السُّفَهَاءَ لِرُکُوبِ الْمَعَاصِی، والْحُلَمَاءَ(1) لِتَرْکِ التَّنَاهِی».
والکلام إشارة إلی الآیة القرآنیّة الشریفة التی تقول: «لُعِنَ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ بَنِی إِسْرَائِیلَ عَلَی لِسَانِ دَاوُدَ وَعِیسَی ابْنِ مَرْیَمَ ذَلِکَ بِمَا عَصَوْا وَّکَانُوا یَعْتَدُونَ * کَانُوا لَا یَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُّنکَر فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا کَانُوا یَفْعَلُونَ»(2).
وبالطبع وردت إشارات إلی سائر عوامل سقوطهم فی القسم القادم من الخطبة؛ إلّا أنّ عبارة الإمام علیه السلام تشیر إلی أنّ أفدح أخطائهم ترکهم فریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وذلک لأنّ تطبیق جمیع الأحکام الشرعیّة یتوقف علی إحیاء هاتین الفریضتین، فإن أُقیمتا أُقیمت جمیع الفرائض وإن ترکتا تعطلت سائر الفرائض والت إلی الفناء والزوال، ولذلک ورد عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:
«إنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْیَ عَنِ الْمُنْکَرِ... فَریضَةٌ عَظیمَةٌ بِها تُقامُ الْفَرائِضُ»(3).
وسنتطرق إن شاء اللّه فی الخطب القادمة إلی الأهمیّة الفائقة لفریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فی الإسلام فی الموضع الذی ورد الحدیث فیه صراحة عن هذه الفریضة.
ثم اختتم الإمام علیه السلام کلامه فی هذا الجانب من الخطبة بالقول:
«أَلَا وقَدْ قَطَعْتُمْ قَیْدَ الاِْسْلاَمِ، وعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ، وأَمَتُّمْ أَحْکامَهُ».
ص:368
هذه الکلمات تشیر إلی أنّ الاکتفاء بظاهر الإسلام وبعض الطقوس الظاهریّة لیس مدعاة للنجاة، بل لابدّ من الالتزام بأحکامه وتعالیمه وإقامة حدوده وتحکیم الإسلام فی جمیع المجالات وأنتم لستم کذلک، فأنتم تتشدقون باسم الإسلام وتتصرفون تصرف الجاهلیة، ومع ذلک تتوقعون العزّة والإقتدار.
***
ص:369
ص:370
أَلَا وقَدْ أَمَرَنِی اللّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْیِ والنَّکْثِ وَالْفَسَادِ فِی الأَرْضِ، فَأَمَّا النَّاکِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ، وأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ، وأَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ، وأَمَّا شَیْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ کُفِیتُهُ بِصَعْقَة سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ ورَجَّةُ صَدْرِهِ، وبَقِیَتْ بَقِیَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْیِ. ولَئِنْ أَذِنَ اللّهُ فِی الْکَرَّةِ عَلَیْهِمْ لاُدِیلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا یَتَشَذَّرُ فِی أَطْرَافِ الْبِلاَدِ تَشَذُّراً.
أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی معارکه المعروفة ضد الفئات الظالمة فی الجمل وصفین والنهروان وکیف کشف لهم عن قدرته وقوته، وکأنّه أراد بهذا الکلام أن یلوح بقوته لبعض القبائل المتمردة التی عاشت الاقتتال مع بعضها بفعل العصبیات القبلیّة ویلقمها حجراً ویفهمها أنّها إن واصلت هذه المسیرة الخاطئة ستجابه بأشدّ العذاب فقال:
«أَلَا وقَدْ أَمَرَنِی اللّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْیِ والنَّکْثِ(1) وَالْفَسَادِ فِی الأَرْضِ، فَأَمَّا النَّاکِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ، وأَمَّا الْقَاسِطُونَ(2) فَقَدْ جَاهَدْتُ، وأَمَّا الْمَارِقَةُ(3)
ص:371
فَقَدْ دَوَّخْتُ(1)».
إشارة إلی: أنّ قتالی لهذه الفئات الثلاث کان بأمر اللّه تعالی، ویستند هذا الکلام إلی الروایة الواردة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال لأمیر المؤمنین علی علیه السلام:
«وإنَّکَ سَتُقاتِلُ بَعْدی النّاکِثینَ والْقاسِطینَ والْمارِقینَ»(2).
وقد ورد هذا الکلام فی (أسد الغابة) أنّه علیه السلام قال:
«عَهْدٌ إلیَّ رَسُولِ اللّهِ أنْ أقاتِلَ النّاکِثینَ والْقاسِطینَ والْمارِقینَ»(3). هذا أولاً.
ثانیاً: إشارة إلی أننی هزمت الفئات الثلاث، أمّا أصحاب الجمل فقد تفرّقوا أیادی سبأ وکسرت شوکة خوارج النهروان، کما تحطم معاویة وصحبه یوم صفین، غیر أنّ حیلة ابن النابغة عمربن العاص قد أنقذته من الهزیمة المطلقة.
ثم واصل علیه السلام کلامه لیرکز علی زعیم الخوارج حرقوص بن زهیر وکنیته ذوالثدیة، الذی قتل شر قتلة یوم النهروان فقال:
«وأَمَّا شَیْطَانُ الرَّدْهَةِ(4) فَقَدْ کُفِیتُهُ بِصَعْقَة(5) سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ(6) قَلْبِهِ ورَجَّةُ(7) صَدْرِهِ».
وهنالک خلاف بین شرّاح نهج البلاغة بشأن هذه الصاعقة، فقد ذهب البعض إلی أنّ صاعقة من السماء نزلت حقّاً علی زعیم الخوارج ذوالثدیة فأهلکته وقذفت بجسمه فی تلک الحفرة (ردهة بمعنی حفرة ماء) بینما یعتقد البعض الآخر أنّ تلک الصاعقة هی الصراخات الشجاعة المدویة التی کانت تنطلق من الإمام علیه السلام فی بدایة المعرکة، فکانت هذه الصرخات تقض مضاجع البعض ومنهم ذو الثدیة الذی إعتراه
ص:372
الرعب فصعق وصرع أرضاً لینحدر إلی تلک الحفرة، ثم هدد ما تبقی من أولئک الأوغاد العتاة فقال:
«وبَقِیَتْ بَقِیَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْیِ. ولَئِنْ أَذِنَ اللّهُ فِی الْکَرَّةِ عَلَیْهِمْ لاَُدِیلَنَّ(1) مِنْهُمْ إِلَّا مَا یَتَشَذَّرُ فِی أَطْرَافِ الْبِلاَدِ تَشَذُّراً(2)».
وتشیر العبارة:
«أَهْلِ الْبَغْیِ» إلی ظلمة الشام وأصحاب معاویة الذین کانوا سیهلکون لولا قضیة التحکیم یوم صفین، فالإمام علیه السلام یقول: لو أُتیحت لی الفرصة لقضیت علیهم وأرسیت حکومة العدل والقسط فی ربوع البلاد الإسلامیّة کافّة.
ولعل ذکر هذا المعنی بصیغة الجملة الشرطیة یشیر إلی أنّ الإمام علیه السلام سوف لن یُوفّق لشن هجومه الکاسح علیهم، فقد طالته المنیة قبل أن یقوم بهذا العمل؛ ولکن علی کلّ حال أعلن عن استعداده التام لمواجهتهم مادام فیه عرق ینبض ویعلم ضمنیاً صحبه خططه المستقبلیّة.
اسمه حرقوص بن زهیر السعدی التمیمی المعروف بذی الخویصرة، ذی الثدیة ومُخدج، ولا یعلم وجه تسمیته بذی الخویصرة؛ ولکن بالنظر إلی اللحم الزائد فی عضده کالثدی فی الصدر لقب بذی الثدیة، کما عرف بالُمخدج الید لنقص فی یده.
جاء فی التفاسیر فی ذیل الآیة 58 من سورة التوبة: «وَمِنْهُمْ مَّنْ یَلْمِزُکَ فِی الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَّمْ یُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ یَسْخَطُونَ». والمصادر التاریخیة تؤکّد أنّه لما انتهت غزوة حنین وقف رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی موضع اسمه «جعرانة» لتوزیع الغنائم فطلب أبو سفیان وبعض المسلمین من قریش المزید من الغنائم؛ فمنحهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله أموالاً کثیرة لتألیف قلوبهم، فنهض ذو الثدیة وخاطب
ص:373
رسول اللّه قائلاً: «إعدل یا محمّد!».
فقال صلی الله علیه و آله:
«ویحک! فمن ذا یعدل إن لم أعدل؟». فاستأذنه عمر أن یضرب عنقه، فنهاه النّبی صلی الله علیه و آله وقال:
«دَعْهُ، فَسَیَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هذا قَوْمٌ یَمْرُقُونَ مِنَ الدّینِ کَما یَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرِّمْیَةِ،... تُحْتَقَرُ صَلاَتُکُمْ فی جَنْبِ صَلاَتِهِمْ، وصَوْمُکُمْ عِنْدَ صَوْمِهِمْ، یَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَایُجاوِزُ تَراقیهِمْ، آیَتُهُمْ رَجُلٌ أسْوَدٌ مُخْدَجُ الْیَدِ، إحدی یَدَیْهِ کَأنَّها ثَدْیُ امْرَأَة أو بَضْعَةٌ تَدَرْدَر»(1).
وعلی ضوء هذه النبوءة فقد ظهرت فئة فی الأمّة الإسلامیّة تقرأ القرآن وتعبد اللّه، ولکن حقیقة الأمر أنّهم خارجون عن الدین ولا یعرفون حقیقته.
وهذه الحقیقة معروفة بین المسلمین حتی أنّ عائشة المعروفة ببغضها لعلی علیه السلام قالت بعد النهروان وقتل ذی الثدیة: سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال:
«یَقْتُلُهُ خَیرُ أُمّتی مِنْ بَعدِی»(2).
وقد تحققت هذه النبوءة بعد صفین وقضیة التحکیم، حیث اجتمع الخوارج عند عبداللّه بن وهب الراسبی، فخطبهم ذوالثدیة ودعاهم للقتال وکان زعیمهم عبد اللّه بن وهب (وإن کانت الزعامة الفکریة والعقائدیة لذی الثدیة)(3).
یذکر أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام أخبرهم أنّ قوماً یخرجون من الدین ویقاتلون المسلمین وعلامتهم رجل (مُخدج الید)(4).
وکان الناس یبحثون عن ذی الثدیة، لکنهم لم یعثروا علیه، فطعنوا فی علی علیه السلام وقالوا: خدعنا ابن أبی طالب لنقاتل إخواننا(5).
ص:374
وکان علی علیه السلام یقول:
«ما کَذِبتُ وَلَا کُذِبْتُ».
فطلب ذا الثدیة طلباً شدیداً وقلب القتلی ظهراً لبطن فلم یعثر علیه، ثم قال:
اطلبوا الرجل وأنّه لفی القوم، فلم یزل یتطلبه حتی وجده وهو رجل مخدج الید کأنّها ثدی فی صدره، فکبّر علی علیه السلام وسجد شاکراً(1).
***
ص:375
ص:376
أَنَا وَضَعْتُ فِی الصِّغَرِ بِکَلاَکِلِ الْعَرَبِ، وکَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِیعَةَ ومُضَرَ. وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِی مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِیبَةِ، والْمَنْزِلَةِ الْخَصیصَةِ. وَضَعَنِی فِی حِجْرِهِ وأَنَا وَلَدٌ یَضُمُّنِی إِلَی صَدْرِهِ، ویَکْنُفُنِی فِی فِرَاشِهِ، ویُمِسُّنِی جَسَدَهُ، ویُشِمُّنِی عَرْفَهُ. وکَانَ یَمْضَغُ الشَّیْ ثُمَّ یُلْقِمُنِیهِ، ومَا وَجَدَ لِی کَذْبَةً فِی قَوْل، وَلَا خَطْلَةً فِی فِعْل.
ولَقَدْ قَرَنَ اللّهُ بِهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ مِنْ لَدُنْ أَنْ کَانَ فَطِیماً أَعْظَمَ مَلَک مِنْ مَلاَئِکَتِهِ یَسْلُکُ بِهِ طَرِیقَ الْمَکَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَیْلَهُ ونَهَارَهُ. ولَقَدْ کُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِیلِ أَثَرَ أُمِّهِ، یَرْفَعُ لِی فِی کُلِّ یَوْم مِنْ أَخْلاَقِهِ عَلَماً، ویَأْمُرُنِی بِالاِْقْتِدَاءِ بِهِ. ولَقَدْ کَانَ یُجَاوِرُ فِی کُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ، ولَا یَرَاهُ غَیْرِی. ولَمْ یَجْمَعْ بَیْتٌ وَاحِدٌ یَوْمَئِذ فِی الاِْسْلاَمِ غَیْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ وخَدِیجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا. أَرَی نُورَ الْوَحْیِ والرِّسَالَةِ، وأَشُمُّ رِیحَ النُّبُوَّةِ.
ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّیْطَانِ حِینَ نَزَلَ الْوَحْیُ عَلَیْهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ فَقُلْتُ: یَا رَسُولَ اللّهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: «هذَا الشَّیْطَانُ قَدْ أَیِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ.
إِنَّکَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وتَرَی مَا أَرَی، إِلَّا أَنَّکَ لَسْتَ بِنَبِیٍّ، ولکِنَّکَ لَوَزِیرٌ وإِنَّکَ لَعَلَی خَیْر».
أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی أمرین مهمین بغیة تقویة معنویات
ص:377
أصحابه فی مقابل الأعداء والأوباش ومثیری الفتن القبلیین؛ فتطرق إلی موقفه فی الغزوات الإسلامیّة أمام صنادید العرب والضربات الموجعة التی کان یسددها لهم، لیرعب ذلک الخصم العنید، ومن ثم عرج علی قرابته من رسول اللّه صلی الله علیه و آله والتی تنحصر به دون غیره، لیندفع المؤمنون بکلّ قوّة واخلاص لطاعة أوامره، وعلیه فلا ینبغی التصور بأنّ الإمام علیه السلام خاض فی الإشادة بنفسه فی هذا الجانب من الخطبة؛ الأمر الذی یتناقض والجوانب السابقة من الخطبة، بل الإمام یتابع هدفاً أسمی من هذه التصورات. فقال بادئ الأمر:
«أَنَا وَضَعْتُ فِی الصِّغَرِ بِکَلاَکِلِ الْعَرَبِ وکَسَرْتُ نَوَاجِمَ(1) قُرُونِ رَبِیعَةَ ومُضَرَ».
والتعبیر بالصغر فی العبارة السابقة والذی یقابل الکبر إشارة إلی شبابه علیه السلام؛ لا الطفولة، فالعبارة سائدة لدی الجمیع إذا إنّ الأفراد الذین تقدم بهم العمر حین یریدون الإشارة إلی عصر الفتوة یقولون: (لقد فعلت کذا وکذا فی الصغر).
علی کلّ حال تتداعی فی عبارة الإمام علیه السلام هذه الخواطر الرائعة للانتصارات التی تحققت فی المعارک الإسلامیّة؛ سیما الضربات التی سددها فی میدان «بَدْر» إلی «عتبة» و «الولید» و «حنظلة» وحین دفاعه المستمیت فی میدان «اُحُد» عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أمام حشود الأعداء والضربة المهلکة التی سددها یوم الأحزاب إلی أشجع شجعان العرب «عمروبن عبدود» وذاع صیته فی أرجاء الجزیرة العربیة کافّة، ثم بطولاته فی فتح «مکه» وغزوة «حنین» وسائر الغزوات الإسلامیّة والتی تکشف برمتها عن مدی إقتدار الإمام علیه السلام وشجاعته وصموده فی الحروب دفاعاً عن الإسلام ونبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله وتکشف عن الجانب المعنوی والروحی، وبالطبع فإنّ استعراض هذه الأمور یبث حالة الرعب والذعر فی صفوف الأعداء ویدفع المؤمنین لخوض الجهاد.
ص:378
وذکر بعض شرّاح نهج البلاغة کلاماً رائعاً بهذا الخصوص فبیّنوا أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أمضی ثلاثة عهود بعد البعثة؛ الأوّل: العهد الذی استغرق ثلاث عشرة سنة فی مکة والذی اکتفی فیه بإعداد صحبه لمقاومة الأعداء دون اللجوء إلی السیف. والثانی: الذی یبدأ منذ الهجرة حتی معرکة الأحزاب والذی کان موقف المسلمین فیها یقتصر علی الدفاع. والثالث: عهد فتح مکة وغزوة حنین والذی تمیز بالهجوم وإن کان الهدف إطفاء نار الفتنة.
وقد کان علی علیه السلام إلی جانب النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله یضحی بنفسه طیلة هذه العهود، حیث بات علی فراش النّبی لیفدیه بنفسه فی الفترة الأُولی، ولا تنسی مواقفه فی الفترة الثانیة یوم بدر وأحد والأحزاب، کما تقدم الصفوف فی فتح مکة وحنین فی الفترة الثالثة(1).
وقال بعض الکتّاب إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام کان یدافع عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله حتی قبل البعثة وأشار إلی قصة حدثت حین کان علیه السلام فی الثامنة من عمره فقد کان یقول:
إنّ النّبی لا یتحدّث فی بیته عن العبید ویخاطب الغلمان بالشباب ولا یغضب علیهم ولم یقل لأحدهم افٍ(2).
والتعبیر
«بکَلاَکِلْ» (جمع کلکل بمعنی عظام الصدر) إشارة إلی الأبطال والزعماء فی المجتمع آنذاک، و «قرون» جمع «قرن» کنایة عن المقتدرین من الأفراد وأنّ قرن الحیوان من أعضائه القویة.
ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی الأمر الثانی من هذا القسم؛ وهو علاقته الحمیمة بالنّبی الأکرم صلی الله علیه و آله والتی ابتدأت منذ الطفولة حتی آخر عمره حیث تربی علیه السلام فی کنفه صلی الله علیه و آله فقال:
«وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِی مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِیبَةِ، والْمَنْزِلَةِ الْخَصیصَةِ».
ص:379
ثم قال لمزید من الایضاح:
«وَضَعَنِی فِی حِجْرِهِ وأَنَا وَلَدٌ یَضُمُّنی الَی صَدْرِهِ، ویَکْنُفُنِی فِی فِرَاشِهِ، ویُمِسُّنِی جَسَدَهُ، ویُشِمُّنِی عَرْفَهُ(1). وکَانَ یَمْضَغُ الشَّیءَ ثُمَّ یُلْقِمُنِیهِ».
فالعبارة تفید أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله لم یفرق قط بینه وبین ولده، وقد احتضن الإمام علیه السلام منذ کان صغیراً وأفاض علیه من أخلاقه السامیّة وغمره بالحبّ والحنان، وأضاف علیه السلام:
«ومَا وَجَدَ لِی کَذْبَةً فِی قَوْل، وَلَا خَطْلَةً(2) فِی فِعْل».
إشارة إلی أنّه تربی فی حضن النّبی صلی الله علیه و آله بحیث کان بمنتهی الصدق والإخلاص فی القول والفعل والسیر علی الحقّ دون أدنی انحراف.
ثم تطرق علیه السلام إلی بیان هذه النقطة وهی: إنّی إن اتبعت النّبی صلی الله علیه و آله قبل البعثة واعتز بتلک الفترة وافتخر بتلک الفرصة، فذلک لأنّ النّبی صلی الله علیه و آله کان یتمتع منذ نعومة أظفاره بهدی اللّه والطافه فقال:
«ولَقَدْ قَرَنَ اللّهُ بِهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ مِنْ لَدُنْ أَنْ کَانَ فَطِیماً(3) أَعْظَمَ مَلَک مِنْ مَلاَئِکَتِهِ یَسْلُکُ بِهِ طَرِیقَ الْمَکَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَیْلَهُ ونَهَارَهُ. ولَقَدْ کُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِیلِ(4) أَثَرَ أُمِّهِ، یَرْفَعُ لِی فِی کُلِّ یَوْم مِنْ أَخْلاَقِهِ عَلَماً، ویَأْمُرُنِی بِالاِْقْتِدَاءِ بِهِ».
أی أنّ رعایة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله لی لم تکن مقتصرة علی الجوانب الظاهریّة فحسب، بل کان یعلمنی کلّ یوم درساً فی الأخلاق والکمال والفضیلة وکنت أعی ذلک.
وتشیر العبارة
«علماً» إلی العلامات التی کانت توضع سابقاً علی الطرق فی الصحاری حتی یهتدی بها المسافرون فی مسیرتهم فلا یضلون الطریق فیتجهون بکلّ ثقة إلی مقصدهم، وقد کانت لعلی علیه السلام هذه الهدایة إلی الحقّ.
ص:380
ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی أحد الفصول المهمّة فی حیاة النّبی صلی الله علیه و آله قبل البعثة؛ أی عبادته فی غار حراء فقال:
«ولَقَدْ کَانَ یُجَاوِرُ فِی کُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ، وَلَا یَرَاهُ غَیْرِی. ولَمْ یَجْمَعْ بَیْتٌ وَاحِدٌ یَوْمَئِذ فِی الاِْسْلاَمِ غَیْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ وخَدِیجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا. أَرَی نُورَ الْوَحْیِ والرِّسَالَةِ، وأَشُمُّ رِیحَ النُّبُوَّةِ».
فالعبارة تشیر إلی أنّ عبادته صلی الله علیه و آله فی غار حراء کانت تتکرر لسنوات حیث قال الإمام علیه السلام:
«ولَقَدْ کَانَ یُجَاوِرُ فِی کُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ» کما تشیر إلی أنّ علیّاً فقط کان یراه.
أضف إلی ذلک فقد مضت علی الدعوة الإسلامیّة سنوات ولم یؤمن بها إلّاثلاثة:
النّبی وخدیجة وعلی (صلوات اللّه وسلامه علیهم).
وأمّا بشأن رؤیة نور الوحی واستشمام ریح النبوّة فقد حملها بعض شرّاح نهج البلاغة علی الجوانب المعنویّة بینما ذهب البعض الآخر إلی عدم المانع علی حملها علی الجوانب الظاهریّة والمادیّة، أی أنّه حین نزول الوحی کان هنالک نور یسطع منه لا یراه سوی النّبی صلی الله علیه و آله وأمیرالمؤمنین علیه السلام کما کان الجو یتعطر برائحة زکیة لا یشمها سواهما ولا مانع من وجود بعض الکائنات المادیة التی یدرکها الأفراد من ذوی الشعور القوی بینما یتعذر إدراکها علی الآخرین، فمثلاً یقال: إنّ بعض الطیور ذات الحاسة القویة بإمکانها إدراک الأشعة فوق البنفسجیة أو الأشعة الحمراء التی یتعذر إدراکها علینا نحن البشر وسنتحدث فی مبحث التأمّلات عن عبادة النّبی صلی الله علیه و آله فی غار حراء وإیمان خدیجة علیها السلام وعلی علیه السلام بصفتهما أول من آمن باللّه وصدق بالنبی.
ثم أشار علیه السلام إلی أمر آخر بشأن علاقته بالنّبی فقال:
«ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ(1) الشَّیْطَانِ حِینَ نَزَلَ الْوَحْیُ عَلَیْهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ فَقُلْتُ: یَا رَسُولَ اللّهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ:
«هذَا الشَّیْطَانُ قَدْ أَیِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ».
ص:381
وأضاف علیه السلام فقال لی رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«اِنَّکَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وتَرَی مَا أَرَی، إِلَّا أَنَّکَ لَسْتَ بِنَبِیٍّ، ولکِنَّکَ لَوَزِیرٌ وإِنَّکَ لَعَلَی خَیْر».
لعل هنالک من یقول: هنالک من لایزال یعبد الشیطان فکیف التوفیق بین هذا الکلام وماجاء فی هذه الخطبة؟ والجواب واضح فی أنّ عری الطاعة المطلقة للشیطان وعلی جمیع المستویات التی کانت سائدة فی العصر الجاهلی والتی تشمل الوثنیة وعبودیة الأصنام والانحرافات الأخلاقیّة والمظالم الاجتماعیّة الشدیدة قد انهارت بظهور الإسلام وظهرت الفئات الخیرة الکثیرة المؤمنة فی کلّ قرن وإن لم تکن أکثر عدداً وعدّة من اتباع الشیطان فإنّ کیفیتهم الوجودیّة ومقاماتهم لأرفع وأسمی.
بعبارة أخری فقد صرح الشیطان منذ الیوم الأوّل قائلاً: «وَلاَُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ * إِلَّا عِبَادَکَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِینَ»(1). وقد زال هذا المعنی بانبثاق الدعوة الإسلامیّة، فطائفة کبیرة من المؤمنین من ذوی الإیمان القوی والعمل الصالح قد خرجوا من تبعیة الشیطان بالإضافة إلی المخلصین والمراد بهم خاصة أولیاء اللّه.
علی کلّ حال فإنّ هذه العباراة من قبیل العدید من الروایات التی سنشیر إلیها لاحقاً، والتی تشیر إلی مدی عظم منزلة علی علیه السلام بالنسبة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله فقد کان صنوه فی کلّ شیء سوی النبوّة، وهذه هی الحقیقة التی وردت فی حدیث المنزلة الذی ورد مفصلاً فی کتب الفریقین، حیث إنّ النّبی صلی الله علیه و آله استخلف علیّاً علیه السلام علی المدینة فی غزوة تبوک فلما سأله الإمام أخبره صلی الله علیه و آله بحدیث المنزلة.
والحدیث حسبما رواه ابن عباس ونقلته مصادر العامّة المعتبرة کحدیث صحیح السند أنّ علیّاً علیه السلام بکی لما استخلفه رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی المدینة حین انطلق إلی تبوک فقال له صلی الله علیه و آله:
«أما تَرْضی أنْ تَکُونَ مِنّی بِمَنْزِلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسی إِلَّا أنَّهُ لَیْسَ بَعْدی نَبِیّ». ثم قال:
«إنّهُ لا یَنْبَغی أنْ أذْهَبَ إِلَّا وأنْتَ خَلیفَتی».
ص:382
رواه الحاکم فی المستدرک وقال حدیث صحیح السند، کما رواه الذهبی فی تلخیص المستدرک وصرح بصحته؛ کما ورد فی سائر المصادر مثل: مسند أحمد، ذخائرالعقبی، مناقب الخوارزمی، الإصابة لابن حجر عسقلانی وسائر المصادر التی یضیق المقام عن ذکرها(1).
لقد کانت هذه العلاقة منذ کان علی علیه السلام فی طفولته حین تعرضت مکة لتلک الأزمة الاقتصادیة والقحط الشدید الذی أصابها، وکان لأبی طالب أولاد کثیرون فشق علیه ذلک فطلب النّبی صلی الله علیه و آله - وذلک قبل نبوته - من العباس الذهاب معه إلی بیت أبی طالب علی أن یکفل أحد أبنائه، ویکفل النّبی آخر فأتیا أبا طالب فقال لهما: اترکا لی عقیلاً واحملا من تریدان، فاختار النّبی صلی الله علیه و آله علیّاً علیه السلام والعباس جعفراً، ومنذ ذلک الحین لازم علی علیه السلام النّبی صلی الله علیه و آله حتی بعث فآمن به وصدقه(2).
وکانت الید الغیبیّة وراء تلک الحادثة لیکون علی علیه السلام منذ نعومة أظفاره إلی جنب رسول اللّه صلی الله علیه و آله فیتربی علی یدیه وقد تتلمذ علی ید رسول اللّه صلی الله علیه و آله حتی رآی نور الوحی وشم رائحته وسمع صوت جبرئیل، بل سمع حتی رنة الشیطان حین المبعث وبالتالی کانت له علاقة تامة بعالم الغیب حتی خاطبه النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:
«اِنَّکَ تَسْمَعُ ما أَسْمَعُ وتَرَی ما أَرَی إِلَّا أَنَّکَ لَسْتَ بِنَبِیٍّ»(3).
ص:383
یقع غار حراء علی سفح جبل یعرف الیوم بجبل النور، وکان هذا الجبل خارج مکة أمّا الیوم وبسبب اتساع مکة فإنّ جبل النور وغار حرا أصبحا داخلها، ویستغرق صعود هذا الجبل ما یقارب الساعة.
والغار المذکور غار صغیر یستوعب شخصین فی حال الوقوف للعبادة واثنان أو ثلاثة عند الجلوس، ولکن إلی جانبه موضع واسع یستوعب الکثیر، والجدیر بالذکر أنّ جانبی الغار مفتوحان لیدخله هواء لطیف، بحیث لایشعر الإنسان بالحرارة الشدید فی فصل الصیف، وبغض النظر عمّا سبق فهو موضع للاختلاء والملییء بالمعنویات.
وکان صلی الله علیه و آله قبل البعثة وأحیاناً حتی بعد البعثة یذهب إلی غار حراء بعیداً عن ضوضاء الجاهلیة وعبادة الأصنام والخرافات السائدة فی ذلک العصر، فیناجی اللّه ساعات وأیّاماً فی ذلک الغار، ویفکر فی خلق السماوات والأرض؛ والغریب أنّ من یدخل الغار ویتجه إلی الشمال فإنّه یستقبل الکعبة وبیت المقدس.
ویستفاد من بعض الروایات أنّه صلی الله علیه و آله کان یذهب إلی غار حراء حتی بعد النبوّة لیبتعد عن أذی المشرکین ویخوض فی عبادة اللّه ومناجاته وکان معه أحیاناً علی علیه السلام وخدیجة علیها السلام، ونعلم أنّ الوحی کان أوّل نزوله علیه هناک.
قال ابن أبی الحدید فی شرحه: وأمّا حدیث مجاورته صلی الله علیه و آله بحراء فمشهور وقد ورد فی کتب الصحاح أنّه کان یجاور فی حراء من کلّ سنة شهراً، وکان یطعم فی ذلک الشهر من جاءه من المساکین فإذا قضی جواره من حراء کان أوّل ما یبدأ به إذا انصرف أن یأتی باب الکعبة فیطوف سبعاً ثم یرجع إلی بیته، حتی جاءت السنة التی أکرمه اللّه فیها بالرسالة، فجاور فی حراء ومعه أهله خدیجة وعلی ابن أبی وطالب وخادم له. فجاءه جبرئیل بالرسالة.
(إنّ هذا الحدیث یبدو إشارة إلی النزول الدفعی للقرآن علی النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی شهر رمضان؛ ولا ینافی النزول التدریجی فی 27 من رجب)(1).
ص:384
کثیراً ما یتساءل الناس عن الدین الذی کان یعتنقه النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قبل البعثة؛ ولم ینزل آنذاک الدین الإسلامی الحنیف؟
یقال أحیاناً إنّه کان علی دین شیخ الأنبیاء، إبراهیم الخلیل علیه السلام، وهذا الکلام صائب من جانب حیث کان صلی الله علیه و آله موحداً عابداً للّه، والتوحید من أبرز خصائص دین إبراهیم علیه السلام، ورغم أنّ جمیع الأنبیاء کانوا موحدین، إلّاأنّ ذلک لیس دلیلاً علی أنّ النّبی صلی الله علیه و آله کان متعبداً بشریعة إبراهیم فی فروع الدین کافّة.
ویفهم من کتاب المرحوم ابن زهرة (غنیة) أنّ هذا السؤال کان مطروحاً منذ ذلک الوقت، وقد أفرد فصلاً فی کتابه لهذا الموضوع؛ وهو: هل کان النّبی صلی الله علیه و آله متعبداً بشریعة سالف الأنبیاء، ورغم أنّه ذکر کلاماً مختصراً بهذا الخصوص، لکنه اکتفی بأنّ النّبی صلی الله علیه و آله ربّما عمل بدینه دون أن یذکر أی دلیل علی ذلک.
وورد فی حاشیة الطبعة الأخیرة لهذا الکتاب أنّ هذا السؤال کان مطروحاً منذ عهد السید المرتضی والشیخ الطوسی، حیث صرح البعض بصورة کلیّة: أنّه صلی الله علیه و آله کان یتبع ما سبقه من أدیان، ونفی البعض الآخر ذلک، وأمسک آخرون عن الکلام، وروی عن الشیخ الطوسی أنّه قال: إنّه صلی الله علیه و آله کان علی شرعة خاصة قبل النبوّة نزلت علیه عن طریق الوحی دون أن یتبع الأنبیاء السابقین.
ویعتقد العلّامة المجلسی أنّه کان للنبی هذا المقام قبل البعثة، فکانت تحدّثه الملائکة فیسمع کلامهم وکان أحیاناً أخری یلهم فی الرؤیا الصادقة، وبلغ مقام النبوّة فی الأربعین من عمره حیث نزل علیه القرآن والشریعة الإسلامیّة؛ ثم استدل علی ذلک بستة أدلة(1).
وما أجدر علمائنا الأعلام أن یلتفتوا إلی الخطبة القاصعة وکلام أمیر المؤمنین علیه السلام بشأن ما کان علیه النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله من خلال أعظم ملائکته حیث قال:
ص:385
«ولَقَدْ قَرَنَ اللّهُ بِهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ مِنْ لَدُنْ أَنْ کَانَ فَطِیماً أَعْظَمَ مَلَک مِنْ مَلاَئِکَتِهِ یَسْلُکُ بِهِ طَرِیقَ الْمَکَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَیْلَهُ ونَهَارَهُ».
فهذا الکلام یشیر صراحة إلی أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله لم یکن متبعاً لما سبقه من أدیان، بل کانت له منهجیته الخاصّة التی بلغته عن طریق الإلهام من ذلک الملک العظیم وکان صلی الله علیه و آله ملتزماً بها.
فکیف یعلِّمه هذا الملک العظیم سبل مکارم الأخلاق، ولا یلهمه الواجبات، وهکذا یتّضح الجواب عن السؤال بشأن تعبد النّبی صلی الله علیه و آله قبل البعثة بما سبقه من أدیان، من عدمه(1).
***
ص:386
ولَقَدْ کُنْتُ مَعَهُ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ لَمَّا أَتَاهُ الْمَلاَُ مِنْ قُرَیْش، فَقَالُوا لَهُ: یَا مُحَمَّدُ، إِنَّکَ قَدِ ادَّعَیْتَ عَظِیماً لَمْ یَدَّعِهِ آبَاؤُکَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ بَیْتِکَ، ونَحْنُ نَسْأَلُکَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَیْهِ وأَرَیْتَنَاهُ، عَلِمْنَا أَنَّکَ نَبِیٌّ ورَسُولٌ، وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّکَ سَاحِرٌ کَذَّابٌ. فَقَالَ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ: «ومَا تَسْأَلُونَ؟» قَالُوا:
تَدْعُولَنَا هذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّی تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وتَقِفَ بَیْنَ یَدَیْکَ، «فَقَالَ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ: «إِنَّ اللّهَ عَلَی کُلِّ شَیء قَدِیرٌ، فَإِنْ فَعَلَ اللّهُ لَکُمْ ذلِکَ، أَتُؤْمِنُونَ وتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَإنِّی سَأُرِیکُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وإِنِّی لاََعْلَمُ أَنَّکُمْ لاَ تَفِیئُونَ إِلَی خَیْر، وإِنَّ فِیکُمْ مَنْ یُطْرَحُ فِی الْقَلِیبِ، ومَنْ یُحَزِّبُ الأَحْزَابَ». ثُمَّ قَالَ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ: «یاأیَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ کُنْتِ تُؤْمِنِینَ بِاللّهِ والْیَوْمِ الاْخِرِ، وتَعْلَمِینَ أَنِّی رَسُولُ اللّهِ، فَانْقَلِعِی بِعُرُوقِکِ حَتَّی تَقِفِی بَیْنَ یَدَیَّ بِإِذْنِ اللّهِ». فَوَالَّذِی بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لاَنْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا، وجَاءَتْ ولَهَا دَوِیٌّ شَدِیدٌ، وقَصْفٌ کَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّیْرِ؛ حَتَّی وَقَفَتْ بَیْنَ یَدَیْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ مُرَفْرِفَةً، وأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الأَعْلَی عَلَی رَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ، وبِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَی مَنْکِبِی، وکُنْتُ عَنْ یَمِینِهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ - فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَی ذلِکَ قَالُوا عُلُوًّا وَاسْتِکْبَاراً: فَمُرْهَا فَلْیَأْتِکَ نِصْفُهَا ویَبْقَی نِصْفُهَا، فَأَمَرَهَا بِذلِکَ، فَأَقْبَلَ إِلَیْهِ نِصْفُهَا کَأَعْجَبِ إِقْبَال وأَشَدِّهِ دَوِیّاً، فَکَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ - فَقَالُوا - کُفْراً وعُتُوّاً -: فَمُرْ هذَا النِّصْفَ فَلْیَرْجِعْ إِلَی نِصْفِهِ کَمَا کَانَ، فَأَمَرَهُ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ فَرَجَعَ؛ فقُلْتُ أَنَا: لَاإِلهَ إِلَّا اللّهُ؛ إِنِّی أَوَّلُ مُؤْمِن بِکَ یَا رَسُولَ اللّهِ، وأَوَّلُ مَنْ
ص:387
أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللّهِ تَعَالَی تَصْدِیقاً بِنُبُوَّتِکَ، وإِجْلاَلاً لِکَلِمَتِکَ. فَقَالَ الْقَوْمُ کُلُّهُمْ: بَلْ سَاحِرٌ کَذَّابٌ، عَجِیبُ السِّحْرِ خفِیفٌ فِیهِ، وهَلْ یُصَدِّقُکَ فِی أَمْرِکَ إِلَّا مِثْلُ هذَا! یَعْنُونَنِی.
أشار الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة الذی یعدّ من أهم جوانبها إلی إحدی معجزات النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی مکة وقد شهدها الإمام علیه السلام لیؤکّد علاقته الحمیمة به صلی الله علیه و آله وسبقه إلیالإیمان، وهی المعجزة التی قل من رآها من المسلمین آنذاک فقال علیه السلام :
«ولَقَدْ کُنْتُ مَعَهُ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ لَمَّا أَتَاهُ الْمَلاَُ(1) مِنْ قُرَیْش، فَقَالُوا لَهُ: یَا مُحَمَّدُ، إِنَّکَ قَدِ ادَّعَیْتَ عَظِیماً لَمْ یَدَّعِهِ آبَاؤُکَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ بَیْتِکَ، ونَحْنُ نَسْأَلُکَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَیْهِ وأَرَیْتَنَاهُ، عَلِمْنَا أَنَّکَ نَبِیٌّ ورَسُولٌ، وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّکَ سَاحِرٌ کَذَّابٌ».
العبارة:
«الْمَلاَُ مِنْ قُرَیْش» تشیر إلی أنّ هذه المعجزة حدثت فی مکة وحین جهر النّبی صلی الله علیه و آله بدعوته وسمعها الکثیر من الناس، ولکن لم یکن یتمتع المسلمون بقوّة وقدرة، وإلّا لما تجرّأ خصوم الدعوة بالتحدّث معه بهذه الطریقة الفظة.
علی کلّ حال ظن أولئک أنّهم یختبرون النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وقد سنحت الفرصة لرسول اللّه صلی الله علیه و آله، لأن یثبت لهم حقانیّة دعوته من خلال المعجزة التی طلبوها (لا التی یریدها هو) ولذلک جاء فی هذه الخطبة:
«فَقَالَ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ: «ومَا تَسْأَلُونَ؟» قَالُوا: تَدْعُولَنَا هذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّی تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وتَقِفَ بَیْنَ یَدَیْکَ».
فما کان منه صلی الله علیه و آله
:«فَقَالَ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ: «إِنَّ اللّهَ عَلَی کُلِّ شَیء قَدِیرٌ، فَإِنْ فَعَلَ اللّهُ لَکُمْ ذلِکَ، أَتُؤْمِنُونَ وتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ؟» قَالُوا: نَعَمْ».
جدیر ذکره أنّه صلی الله علیه و آله قال:
«فَإِنْ فَعَلَ اللّهُ» ولم یقل:
«فَإِنْ فَعَلْتُ» إشارة إلی أنّ
ص:388
المعجزة بید اللّه وإن ظهرت علی ید النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله.
والعبارة:
«أَتُؤْمِنُونَ» و «تَشْهَدُونَ» إشارة إلی الإیمان القلبی بالإضافة إلی الشهادة بالحقّ ظاهریاً.
علی کلّ حال فلم یقرّوا بالأمرین فما کان منه صلی الله علیه و آله إلّاأن:
«قَالَ: «فَإنِّی سَأُرِیکُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وإِنِّی لاََعْلَمُ أَنَّکُمْ لاَ تَفِیئُونَ إِلَی خَیْر، وإِنَّ فِیکُمْ مَنْ یُطْرَحُ فِی الْقَلِیبِ(1) ، ومَنْ یُحَزِّبُ الأَحْزَابَ».
والعبارة:
«وإِنَّ فِیکُمْ...» إشارة إلی أبی جهل وعتبة وشیبة وأمیّة بن خلف الذین قتلوا یوم بدر ورمی بأجسادهم فی بئر کانت هناک.
والعبارة:
«مَنْ یُحَزِّبُ الأَحْزَابَ» إشارة إلی أبی سفیان. فالواقع أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أکمل طلبهم المعجزة بثلاثة أخبار غیبیة یعدّ کلّ منها معجزة، عدم إیمانهم وطرح بعضهم فی البئر ومعرکة الأحزاب التی حدثت بعد سنوات عدیدة لاحقاً.
ثم إلتفت النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله إلی أصل سؤالهم وإلتفت إلی الشجرة
«ثُمَّ قَالَ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ: «یاأیَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ کُنْتِ تُؤْمِنِینَ بِاللّهِ والْیَوْمِ الاْخِرِ، وتَعْلَمِینَ أَنِّی رَسُولُ اللّهِ، فَانْقَلِعِی بِعُرُوقِکِ حَتَّی تَقِفِی بَیْنَ یَدَیَّ بِإِذْنِ اللّهِ».
وخطاب النّبی صلی الله علیه و آله لتلک الشجرة یفید أنّ للنباتات والجمادات نوعاً من الإدراک والشعور الذی أفاضه علیها اللّه، کما تفید العبارة القادمة أنّها مؤمنة أیضاً باللّه والیوم الآخر ولکن ما حقیقة هذا الإیمان وکیفیة ذلک الشعور والإدراک، وهل لها بعد اختیاری أم إجباری، فذلک من الأمور التی لیست واضحة لدینا علی وجه الدقّة.
ولدینا العدید من الآیات القرآنیّة التی تشیر إلی ذلک الإیمان والشعور والإدراک لدی جمیع الأشیاء بما فیها الجمادات وتفید أنّها تسبح اللّه وتقدسه، وقد أسهب المفسرون بهذا الشان(2).
ص:389
فاستطرد أمیرالمؤمنین علی علیه السلام وقال:
«فَوَالَّذِی بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لاَنْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا، وجَاءَتْ ولَهَا دَوِیٌّ(1) شَدِیدٌ، وقَصْفٌ(2) کَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّیْرِ؛ حَتَّی وَقَفَتْ بَیْنَ یَدَیْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ مُرَفْرِفَةً(3) ، وأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الأَعْلَی عَلَی رَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ، وبِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَی مَنْکِبِی، وکُنْتُ عَنْ یَمِینِهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ».
فالذی یستفاد من هذه العبارة أنّ تلک الشجرة کانت ضخمة بحیث صاحبت حرکتها أصوات عالیة کانت مدویة، فألقت ببعض أغصانها علی النّبی صلی الله علیه و آله وبالبعض الآخر علی علی علیه السلام، فکانت تلک معجزة کبیرة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله بإذن اللّه فی إقتلاع تلک الشجرة ووقوفها بین یدیه صلی الله علیه و آله.
ولکن هل أدّت تلک المعجزة الباهرة إلی إیمان المشرکین المتعصبین؟ کلا! بل کعادة المتعصبین المعاندین أخذوا یفتشون عن الذرائع وهذا ما أشار إلیه الإمام علیه السلام
«فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَی ذلِکَ قَالُوا عُلُوًّا وَاسْتِکْبَاراً: فَمُرْهَا فَلْیَأْتِکَ نِصْفُهَا ویَبْقَی نِصْفُهَا، فَأَمَرَهَا بِذلِکَ، فَأَقْبَلَ إِلَیْهِ نِصْفُهَا کَأَعْجَبِ إِقْبَال وأَشَدِّهِ دَوِیّاً، فَکَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ».
والذی یستفاد من العبارة أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أراهم معجزتین أُخریین؛ الأُولی أنّه أمر الشجرة بالرجوع إلی مکانها، والثانیة أنّه أمرها بأن یأتیه نصفها بإذن اللّه.
وهل اقتنع القوم المشرکون المتعصبون بذلک؟ للأسف کلا! کما ورد فی کلام الإمام علیه السلام:
«فَقَالُوا کُفْراً وعُتُوّاً: فَمُرْ هذَا النِّصْفَ فَلْیَرْجِعْ إِلَی نِصْفِهِ کَمَا کَانَ، فَأَمَرَهُ
ص:390
صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ فَرَجَعَ؛ فقُلْتُ أَنَا: لَاإِلهَ إِلَّا اللّهُ؛ إِنِّی أَوَّلُ مُؤْمِن بِکَ یَا رَسُولَ اللّهِ، وأَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللّهِ تَعَالَی تَصْدِیقاً بِنُبُوَّتِکَ، وإِجْلاَلاً لِکَلِمَتِکَ».
وهل آمن أولئک بعد مشاهدتهم لهذه المعجزات الأربع العجیبة والخارقة للعادة والتی حصلت جمیعاً استجابة لاقتراحهم ولیس لاقتراح رسول اللّه صلی الله علیه و آله؟، کلا! ولیتهم اقتصروا علی عدم الإیمان بل رموه صلی الله علیه و آله بکلمات کافرة وطائشة وبعیدة عن المنطق کما أشار إلی ذلک الإمام:
«فَقَالَ الْقَوْمُ کُلُّهُمْ: بَلْ سَاحِرٌ کَذَّابٌ، عَجِیبُ السِّحْرِ خفِیفٌ(1) فِیهِ، وهَلْ یُصَدِّقُکَ فِی أَمْرِکَ إِلَّا مِثْلُ هذَا! یَعْنُونَنِی».
إشارة إلی أننا شهدنا العدید من السحرة طیلة أعمارنا ونعلم أنّ فعلک کفعلهم، بل أمهر منهم ولا یصدقک فی ذلک سوی أمثال هذا الصبی السریع التصدیق!
والعجیب أنّ صدر کلامهم یناقض تماماً عجزه! فقد اقترحوا المعجزة وصرحوا باقتناعهم وإیمانهم بمجرد حصولها، ولکن حین تکررت المعجزة أربع مرات رموه بالسحر وهنا یرد هذا السؤال: إنّ هؤلاء لولم یکونوا یعرفون السحر من المعجزة ویحتملون السحر علی النّبی، فما بالهم اقترحوا علیه المعجزة منذ البدایة؟ فقد کان لهم أن یرموه منذ البدایة بالسحر.
نعم، فالأفراد المتعصبون إنّما یفتقرون علی الدوام إلی المنطق والوجدان والانصاف.
کان للنبی صلی الله علیه و آله عدة معجزات، والمعجزة المذکورة کانت أبرزها ولم تختصر الإشارة إلیها فی هذه الخطبة فحسب، بل وردت هذه المعجزة فی أغلب التواریخ
ص:391
والروایات الإسلامیّة.
ویکفی هنا الإلتفات إلی ما ذکره ابن أبی الحدید فی شرحه لهذه الخطبة فقد قال: وأمّا أمر الشجرة التی دعاها رسول اللّه صلی الله علیه و آله فالحدیث الوارد فیها کثیر مستفیض قد ذکره المحدّثون فی کتبهم والمتکلمون فی معجزات النّبی، وقد وردت فی أغلب الروایات کما جاء فی الخطبة القاصعة (التی نحن بصددها) وإن اختصرها البعض وقال:
«إنَّهُ دَعا شَجَرَةً فَأَقْبَلَتْ تَخِدُّ إلَیْهِ الأَرْضَ خَدّاً».
ثم أضاف: وقد ذکر البیهقی فی کتاب دلائل النبوّة حدیث الشجرة ورواه أیضاً محمد بن اسحاق بن یسار فی کتاب السیرة والمغازی(1).
وقال المرحوم العلاّمة التستری فی شرح نهج البلاغة: رواها ابن أثیر فی کتاب الکامل وفی أسد الغابة والبلاذری فی أنساب الأشراف والکراجکی فی کنزالفوائد(2).
طبعاً یعلم من له معرفة بمعجزات الأنبیاء بصورة عامة ومعجزات رسول اللّه خاصة أنّ مثل هذه المعجزات لیست عجیبة فی إثبات حقانیّة دعوة النّبی، کما أنّ اصرار الأفراد الجهّال والمتعصبین علی إنکار الدعوة لیست بالشیء الجدید.
کما ورد سابقاً فممّا لا شک فیه فقد کانت لأنبیاء اللّه والأئمة المعصومین علیهم السلام أفعال خارقة للعادة تتعذر علی الإنسان العادی، أی الأمور التی تجری خلافاً للقوانین الطبیعیة السائدة ولا تتمّ إلّامن خلال الاستمداد من قوّة تفوق القوّة الطبیعیة من قبیل إحیاء الموتی وشفاء المرضی الذی لا علاج لهم والإخبار عن الغیب الذی ورد فی القرآن الکریم بشأن المسیح علیه السلام ومعجزة العصا والید البیضاء لموسی علیه السلام وناقة صالح علیه السلام واطفاء نار نمرود علی إبراهیم لتصبح علیه برداً وسلاماً
ص:392
ومعجزة شق القمر والأهم من کل ذلک معجزة القرآن الکریم التی خُصَّ بها النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله.
ومن الواضح أنّ المعجزات لا تعنی تحقق معلول دون علّة لینکر ذلک بعض الأفراد، بل بمعنی الاستبداد من العلل غیر الطبیعیة المجهولة، والزعم بأننا عارفون بجمیع العلل الطبیعیة والتی تفوق الطبیعة هو زعم لا یقرّه أحد.
ومن جانب آخر فإنّ السحر حقیقة وإن امتزجت بالعدید من الخرافات، والسحرة عادة ما یستفیدون من العلل الطبیعیة، لکنها علل وأسباب لم یلمّ بها الناس العادیون فمثلاً قیل بشأن سحر السحرة علی عهد موسی علیه السلام أنّهم صنعوا شیئاً شبیه الحیّة وسکبوا داخله «الزئبق» الذی جعل ذلک الشیء الذی یشبه الحیّة یتحرک حین واجه أشعة الشمس بفعل «تطایره»، وعلیه ففعلهم لم یکن خارقاً للعادة؛ لکنهم استغلوا بعض الأسباب التی لم تکن معروفة لدی عوام الناس.
وهنا یرد هذا السؤال: کیف یتسنی للناس التمییز بین السحر والمعجزة لیتعرفوا علی الأنبیاء ویکتشفوا کذب السحرة؟
ویبدو الفرق بینهما واضح؛ ومن ذلک؛ أولاً: إنّ سحر السحرة محدود لأنّه یستند العلوم البشریّة المحدودة، ولذلک یقوم السحرة بما یریدون من خرق العادة لا تلک التی یقترحها علیهم الآخرون، ذلک لأنّ عملهم ینطلق من تجاربهم وتمریناتهم وریاضاتهم السابقة.
أمّا بشأن الإعجاز فإنّ الأنبیاء یتجهون صوب الأمور التی یقترحها علیهم الناس کالمعجزة آنفة الذکر ومعجزة شق القمر وسائر المعجزات التی طلبها قوم موسی من نبیّهم علیه السلام رغم ما کان علیه الأنبیاء من معجزات منذ انطلاقتهم مثل معجزة القرآن والعصا والید البیضاء.
ثانیاً: تقترن معجزات الأنبیاء بادعاء النبوّة والحال لیس للسحرة مثل هذا الادعاء فی خرقهم للعادة، فالحکمة الإلهیّة لم تسمح بحصول ما یخرق العادة بید
ص:393
الکذابین والمفترین لیدعی النبوّة فیقود الناس إلی الضلال والغوایة، بل تقتضی الحکمة الإلهیّة فضح هؤلاء السحرة، ومن هنا فقد افتضح کلّ ساحر همّ بهذا الادعاء.
ثالثاً: لما کان السحر أمر منحرف، فلا یتجه إلیه إلّاالأفراد المنحرفون، أی الأفراد الذین تشهد أقوالهم وأولادهم علی انحرافهم. وعلی هذا الأساس إن بدرت من شخص قضیة خارقة للعادة فلابدّ من تأمّل سیرته، فإنّ کانت سیرته حسنة صالحة کان ذلک علامة علی کون تلک القضیة الخارقة للعادة معجزة، وإن کانت سیرته طالحة وأعماله مشینة کان ما بدر منه سحراً، ذلک لأنّ السحرة من المصادیق البارزة للکذابین من الأفراد والغشاشین.
***
ص:394
وإِنِّی لَمِنْ قَوْم لَاتَأْخُذُهُمْ فِی اللّهِ لَوْمَةُ لاَئِم، سِیمَاهُمْ سِیمَا الصِّدِّیقِینَ، وکَلاَمُهُمْ کَلاَمُ الأَبْرَارِ، عُمَّارُ اللَّیْلِ ومَنَارُ النَّهَارِ. مُتَمَسِّکُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ، یُحْیُونَ سُنَنَ اللّهِ وسُنَنَ رَسُولِهِ؛ لَایَسْتَکْبِرُونَ وَلَا یَعْلُونَ، وَلَا یَغُلُّونَ ولَا یُفْسِدُونَ. قُلُوبُهُمْ فِی الْجِنَانِ، وأَجْسَادُهُمْ فِی الْعَمَلِ.
خاض الإمام علیه السلام فی ختام الخطبة فی التعریف بنفسه لیکمل ما ذکره فی السابق من التعریف بمنزلته وموقعه لیمنح ما ورد فی هذه الخطبة قوّة وعمقاً واتقاناً أکثر، من جهة، لأنّ الإیمان بالمتکلم والوقوف علی مدی علمه وتقواه یدفع بالمخاطب لأنّ یحمل خطابه محمل الجد، ومن جهة أخری ولیتعرف علیه أولئک الشباب وسط أصحابه الذین لم یعلموا بمواقفه، إلی جانب ضرورة أن یعرف الجمیع أنّ هذه الکلمات لم یکن هدفها الدنیا ولا ترسیخ دعائم الحکومة بل الهدف منها هدایة الأمة إلی الصراط المستقیم، فقد أشار علیه السلام إلی تسع عشرة صفة من صفاته والتی تعدّ کلّ واحدة منها فضیلة ومنقبة عظیمة فقال:
«وإِنِّی لَمِنْ قَوْم لَاتَأْخُذُهُمْ فِی اللّهِ لَوْمَةُ لاَئِم».
فالقیام بالوظیفة أحیاناً یکون مخالفاً للأفکار ورغبات طوائف معینة فی المجتمع وهنا یتخلی بعض الأفراد الانتهازیین وأصحاب الدعة والراحة أو الجبناء عن أداء وظائفهم خشیة التعرف لملامة الآخرین وتقریعهم، وولی اللّه من یواصل
ص:395
طریقه إن رآه صحیحاً ولو انتهج عامّة الناس طریق الخطأ دون أن یشعر بأدنی خشیة أو خوف ویقدّم رضا اللّه علی رضا الخلق، وقد کان الإمام علی علیه السلام رائد هذا الطریق بعد النّبی صلی الله علیه و آله وهی الصفة التی امتاز بها جمیع أئمة أهل البیت علیهم السلام وأبرز مصداق علی ذلک الإمام الحسین علیه السلام وشهادته فی کربلاء.
وقد أثنی اللّه فی کتابه الکریم علی المجاهدین الذین یتسمون بهذه الصفة فقال:
«یُجَاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِم ذَلِکَ فَضْلُ اللّهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشَاءُ»(1).
وقال فی الصفة الثانیة والثالثة: «سِیمَاهُمْ سِیمَا الصِّدِّیقِینَ، وکَلاَمُهُمْ کَلاَمُ الأَبْرَارِ».
و «الصدّیقین»: هم الصادقون والمصدقون بأنبیاء اللّه الذین کانوا یصدقونهم فی أقوالهم وأفعالهم وقد جعلهم اللّه تعالی فی الآیة 69 من سورة النساء فی مصاف أنبیائه فقال: «فَأُوْلَئِکَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَیْهِمْ مِّنَ النَّبِیِّینَ وَالصِّدِّیقِینَ...».
و «الأبرار»: من ذکر لهم القرآن ثمانی عشرة صفة فی سورة الدهر، وهی الصفات التی ترفع صاحبها إلی أسمی مقام فی القرب من اللّه، ونعلم أنّ هذه الصفات نعت بها (علی وفاطمة الزهراء والحسن والحسین علیهم السلام).
ثم قال فی الصفتین الرابعة والخامسة:
«عُمَّارُ اللَّیْلِ ومَنَارُ النَّهَارِ».
والعبارة:
«عُمّار» جمع (عامر) إشارة إلی التهجد وإحیاء اللیل وعبادات الیوم والنهار التی تعمر روح الإنسان وقلبه وتضفی علیه معانی الصفاء والجمال وتحیی القلوب المیتة وتغسل الذنوب بماء حیاة التوبة، والعبارة «منار» إشارة إلی الأبراج العالیة التی کانت توضع سابقاً فی مسیر الطرق الصحراویة وتنصب علیها المصابیح حتی لا یضل المسافر الطریق (تشبه العلامات المروریة التی تنصب الیوم فی الشوارع). فهؤلاء الأفراد کتلک المصابیح فی هدایة الناس إلی اللّه والسعادة والخیر والنجاة من الضلال والغوایة.
ثم قال فی الصفتین السادسة والسابعة:
«مُتَمَسِّکُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ؛ یُحْیُونَ سُنَنَ
ص:396
اللّهِ وسُنَنَ رَسُولِهِ».
المراد من التمسک بحبل القرآن التوسل به لیخرج الإنسان من مستنقع الطبیعة وهوی النفس ویعرج إلی ساحة القرب الإلهی، أو خروج ماء الحیاة من باطن أرض الوجود الإنسانی بواسطته أو التمسک بحبل القرآن فی المعابر الخطیرة بغیة عدم السقوط فی أودیة الضلال.
قال النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی أهمیّة القرآن الکریم الوارد فی حدیث الثقلین:
«کِتابُ اللّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّماءِ إلَی الأَرْضِ»(1).
وإحیاء سنّة اللّه وسنّة النّبی العمل بالفرائض الواردة فی القرآن والواجبات التی فرضها النّبی صلی الله علیه و آله، لا العمل لوحده فحسب بل لابدّ من دعوة الآخرین إلی ذلک.
ثم قال فی الصفات الثامنة والتاسعة والعاشرة والحادیة عشرة:
«لَا یَسْتَکْبِرُونَ ولَا یَعْلُونَ، وَلَا یَغُلُّونَ(2) وَلَا یُفْسِدُونَ».
وهذه الصفات فی الواقع مرتبطة مع بعضها، فالتکبّر والشعور بالعُلو وحمل الغلّ والإفساد من صفات الطغاة المستکبرین بغیة تحقیق أهدافهم اللامشروعة، قال القرآن الکریم: «اِنَّ الْمُلُوکَ إِذَا دَخَلُوا قَرْیَةً أَفْسَدُوهَا»(3)، وقال أیضاً: «تِلْکَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لَایُرِیدُونَ عُلُوّاً فِی الأَرْضِ وَلَا فَسَاداً»(4).
وبالنظر إلی أنّ کلمتی الفساد والخیانة وردت هنا بصورة مطلقة فإنّهما تشملان فی العقائد والأخلاق والأموال وجمیع شؤون الحیاة.
وأخیراً قال فی الصفة الثانیة عشرة التی تمتاز بشمولیتها:
«قُلُوبُهُمْ فِی الْجِنَانِ، وأَجْسَادُهُمْ فِی الْعَمَلِ».
ص:397
إشارة إلی أنّ هدفهم نبیل للغایة فهم لا یفکرون سوی برضا اللّه وجنانه الخالدة، ومن هنا فأبدانهم تعیش علی الدوام طاعة الحقّ والعمل بالواجبات الإلهیّة والواجبات الإنسانیّة، جدیر بالذکر أنّ الخطبة ابتدأت بنفی الکبر والاستکبار واختتمت به وهذه إحدی شؤون الفصاحة والبلاغة فی إرتباط النهایة بالبدایة.
حقّاً إنّ الذین یتصفون بهذه الصفات الإثنتی عشرة هم المؤمنون المخلصون الذین ینتظرهم الجنّة بشوق، وهم القدوة الحسنة لعباد اللّه فی الحیاة الدنیا.
***
اللّهم اجعلنا من السائرین علی دربهم، ووفقنا لاتباع تعالیمهم ولا تفرق بیننا وبینهم فی الدنیا والآخرة طرفة عین أبداً!
***
ص:398
یَصِفُ فِیهَا الْمُتَّقینَ(1) رُوی أنّ صاحِباً لأَمیرالمُؤمنِینَ علیه السلام یُقالَ لَهُ هَمّامُ کانَ رَجُلاً عابِداً، فَقالَ لَهُ: یا أَمیرالمُؤمنینَ، صِفْ لِی الْمُتَّقینَ حَتّی کَأَنی أَنظُرُ إِلَیْهِمْ. فَتَثاقَلَ علیه السلام عَنْ جَوابِهِ ثُمَّ قالَ: یا همَّام! اتَّقِ اللّهَ وأَحْسِنْ: «اِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِینَ اتَّقَوْا والَّذینَ هُمْ مُّحْسِنُونَ». فَلَمْ یَقْنَعْ هَمّامُ بِهذَا الْقَولُ حَتّی عَزَمَ عَلَیْه، فَحَمِداللّهَ وأَثنی عَلَیهِ، وصلّی عَلَی النَّبِیِّ صلی الله علیه و آله ثُمَّ قالَ علیه السلام:
تتابع الخطبة مطلباً معیناً وهو صفات المتّقین حیث ذکر الإمام علیه السلام مائة وعشر
ص:399
صفات للمتّقین، لکننا إن تأمّلنا تفاصیل الخطبة لرأینا أنّ هذه الصفات تعالج أبعاداً مختلفة من حیاة المتّقین.
فبعضها یتحدّث عن سجایاهم الأخلاقیّة الفردیّة، بینما یبحث البعض الآخر فی أخلاقهم الاجتماعیّة.
ویکشف جانب آخر من الخطبة علو شأنهم فی القضایا العقائدیّة والمعارف الدینیّة بینما یشیر جانب آخر منها إلی منزلة تقواهم وورعهم من حیث الأقوال والأفعال.
کما تطرق جانب آخر من الخطبة إلی سیماهم وعلاماتهم التی ترشدنا إلی التعرف علی المتّقین الورعین فی جماعة معینة من خلال هذه الصفات.
واختتمت الخطبة بحادثة عجیبة لهمام - السائل الذی أصر علی بیان صفات المتّقین - حیث صعق صعقة فارق علی أثرها الحیاة الدنیا؛ فقال الإمام علیه السلام: هکذا تفعل المواعظ البالغة بأهلها، فقام إلیه رجل فقال: فما بالک یا أمیر المؤمنین؟ فأجابه الإمام بجواب مقنع.
ویستفاد من بعض الطرق الروائیة أنّ الإمام خطب بهذه الخطبة بعنوان صفات الشیعة(1).
طبق لما ورد فی صدر الخطبة فإنّه یرد هذا السؤال: لم تحفّظ الإمام علیه السلام عن بیان صفات المتّقین بادئ الأمر ثم شرحها أثر إصرار السائل؟
وردت عدّة وجوه فی سبب تأمّل الإمام علیه السلام بشأن الجواب منها:
1. إنّ الإمام علیه السلام کان یعلم بأنّ ذلک الرجل من أهل الموعظة والنصح ویخشی علیه من شعوره المرهف وحساسیته المتزایدة، ومن هنا اکتفی الإمام علیه السلام بجواب
ص:400
إجمالی یدل علیه ذیل الخطبة.
2. شهد المجلس آنذاک بعض الأفراد الغرباء الذین لم یر الإمام علیه السلام من مصلحة فی سماعهم لتلک الکنوز والجواهر الثمینة، ولعل ذیل الخطبة شاهد علی ذلک، فسؤال السائل وجواب الإمام علیه السلام یدلّ علی وجود غیر المؤهلین فی ذلک الوسط.
3. أثار الإمام علیه السلام اهتمام همام بصورة أعمق لسماع الجواب بذلک التأمّل والسکوت لتأخذ تلک الموعظة مأخذها المطلوب منه.
4. إنّ أدب السؤال والجواب یقتضی ألا یتعجل المجیب بجوابه، بل یتأمّل فی بدایة الحدیث لیعرف السائل بأهمیّة المطلب، الأمر هل الذی ذکر بشأن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه کان یتریث فی الجواب حتی یسئل عن ذلک التریث هو تفکیر فی الجواب؟ فیرد صلی الله علیه و آله: لا، بل إکرام للعلم والعمل(1).
***
ص:401
ص:402
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَی خَلَقَ الْخَلْقَ حِینَ خَلَقَهُمْ غَنِیّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِیَتِهِمْ، لاَِنَّهُ لَاتَضُرُّهُ مَعْصِیَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ. فَقَسَمَ بَیْنَهُمْ مَعَایِشَهُمْ، ووَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْیَا مَوَاضِعَهُمْ.
فَالْمُتَّقُونَ فِیهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ: مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، ومَلْبَسُهُمُ الاِقْتِصَادُ، ومَشْیُهُمُ التَّوَاضُعُ. غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللّهُ عَلَیْهِمْ، ووَقَفَوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَی الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ. نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِی الْبَلاَءِ کَالَّتِی نُزِّلَتْ فِی الرَّخَاءِ. ولَوْلَا الأَجَلُ الَّذِی کَتَبَ اللّهُ عَلَیْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِی أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَیْن، شَوْقاً إِلَی الثَّوَابِ، وخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ. عَظُمَ الْخَالِقُ فِی أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَادُونَهُ فِی أَعْیُنِهِمْ، فَهُمْ والْجَنَّةُ کَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِیهَا مُنَعَّمُونَ، وهُمْ والنَّارُ کَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِیهَا مُعَذَّبُونَ. قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وأَجْسَادُهُمْ نَحِیفَةٌ، وحَاجَاتُهُمْ خَفِیفَةٌ، وأَنْفُسُهُمْ عَفِیفَةٌ. صَبَرُوا أَیَّاماً قَصِیرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِیلَةً. تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ یَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ.
أَرَادَتْهُمُ الدُّنْیَا فَلَمْ یُرِیدُوهَا، وأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا.
قبل أن نخوض فی شرح هذا القسم من الخطبة علینا أن نبیّن هذه النقطة وهی ما کیفیة العلاقة بین جواب الإمام علیه السلام المقتضب بدایة الأمر وسؤال همام؟ فقد طلب السائل بیان صفات المتّقین، فأمر الإمام علیه السلام بالتقوی والإحسان بدلاً من بیان
ص:403
الصفات، ثم تطرق إلی فوائد التقوی ویبدو للوهلة الأُولی أنّ الأمر بالتقوی لیس جواباً عن سؤال همام ولا ذکر الفوائد.
الظاهر أنّ الإمام علیه السلام أراد بهذا الکلام أن یفهمه بأنّ التقوی مفهوم واضح بالإجمال وعلیک بالعمل، ثم تطرق علیه السلام لنتائج التقوی لحثه علیها، علی کلّ حال فقد خاض الإمام علیه السلام فی بدایة الخطبة فی بیان هذه النقطة المهمّة حیث بیّن أنّ اللّه تعالی غنی عن الجمیع فإنّ وردت بعض الوصایا الثقیلة والعدیدة بشأن التقوی فی هذه الخطبة فهی لا تضیف للّه شیئاً من الجلال والجاه، بل لیطوی الإنسان مسیرة التکامل فقال علیه السلام:
«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَی خَلَقَ الْخَلْقَ حِینَ خَلَقَهُمْ غَنِیًّا عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِیَتِهِمْ، لاَِنَّهُ لَاتَضُرُّهُ مَعْصِیَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ».
ودلیل ذلک واضح، فأوّلاً: اللّه تعالی وجود لامتناهٍ من جمیع الجهات وکمال مطلق ولیس للنقص من سبیل إلی هذا الوجود لیرقی به إلی کمال عن طریق الطاعة والعبودیة ولو کفر من فی الأرض کلّهم جمیعاً لما نال ذلک من کبریاء اللّه شیئاً، إذ إنّ المخلوقات أعجز من أن یلحقوا ضرراً بذاته القدسیّة.
وثانیاً: کلّ ما لدی المخلوقات من اللّه وفیوضاته ولا معنی لإعادة الفیض علیه، کلّ خلق یتغذی علی مائدته، بل حیاتهم بلطفه ورحمته ولو أوکلهم اللّه إلی أنفسهم طرفة عین لهلکوا.
ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی أوضاع الناس الدنیویة کمقدمة فی الواقع لبیان الجوانب المعنویّة التی ذکرت لاحقاً، فبیّن بعبارتین الأمور کافّة فی جوانب حیاتهم المادیّة وقال:
«فَقَسَمَ بَیْنَهُمْ مَعَایِشَهُمْ، ووَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْیَا مَوَاضِعَهُمْ».
إشارة إلی أنّ اللّه بیده جمیع حوائج الخلق المادیّة وهو یُفیض علیهم من لطفه بقدر کلٌّ حسب موقعه. وهذا ما ورد فی القرآن الکریم فی الآیة 32 من سورة الزخرف:
«نَحْنُ قَسَمْنَا بَیْنَهُمْ مَّعِیشَتَهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَات».
ص:404
طبعاً تقسیم المعیشة لا یعنی وصول کلّ شیء للإنسان فی داره دون سعی ومثابرة، ولکن الرزق یأتی بالسعی والجهد فقد خلق اللّه جمیع الموارد ودعی الجمیع للسعی والعمل، وهکذا المقامات الظاهریّة التی افاضها اللّه علی العباد لا تتحصل هی الأخری دون السعی والجد والاجتهاد.
جدیر ذکره أننا أن شاهدنا موت البعض فی العصر الراهن بسبب الجوع، فذلک لیس معلولاً لشحة المواد وقلتها، بل یعزی ذلک إلی ظلم وجور الطبقة الأنانیّة النفعیّة المستغلة، فلو کان هنالک تقسیم عادل فی الأرزاق لما جاع أحد حتی فی ظلّ أصعب السنین قحطاً.
ولم یوفّر اللّه تعالی الرزق للإنسان فحسب دون الکائنات، بل وفر ذلک بصورة مذهلة لجمیع الأحیاء والحیوانات، فلم یغفل عن نطفة فی جنین ولا یرقة فی بیضة طائر أو بذرة نبات ووفّر للجمیع ما یحتاجون إلیه، وتبدو قصّة تقسیم الأرزاق فی مختلف أسالیبها وطرقها لمن القصص العجیبة التی ینبغی أن تؤلف فیها الکتب.
ثم خاض علیه السلام فی بیان السجایا البارزة للمتّقین فاستهلها بثلاث صفات بارزة وقال:
«فَالْمُتَّقُونَ فِیهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ، مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، ومَلْبَسُهُمُ الاِقْتِصَادُ، ومَشْیُهُمُ التَّوَاضُعُ».
العبارة:
«مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ» إشارة إلی الخطوة الأُولی فی تهذیب الإنسان وتربیته والتی تتمثل فی صون لسانه ومنطقه؛ اللسان الذی تصدر بواسطته الکبائر، کما تحقق بواسطته أفضل العبادات، فإنّ صلح صلح کلّ ما فی الإنسان وإن فسد فسد کلّ شیء فیه.
ولمفردة
«صواب»، هنا مفهوم غایة فی السعة یشمل کلّ کلمة حقّ وحکمة، نعم فالمتقون ینبرون قبل کلّ شیء لصون ألسنتهم ومنطقهم، ومن هنا یعتقد أصحاب السیر والسلوک أنّ صون اللسان یعد الخطوة الأُولی فی إصلاح الذات، ذلک لأنّ صلاحه یعنی صلاح سائر الأعضاء، قال تعالی فی کتابه العزیز: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا
ص:405
اتَّقُوا اللّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِیداً * یُصْلِحْ لَکُمْ أَعْمَالَکُمْ وَیَغْفِرْ لَکُمْ ذُنُوبَکُمْ»(1).
وإصلاح الأعمال وغفران الذنوب أثر التقوی والقول السدید، قرینة حسنة علی إرتباطهما ببعضهما.
والتعبیر بالملبس فی العبارة
«ومَلْبَسُهُمُ الاِقْتِصَادُ»(2) والتی ذکرت ثانی صفة وفضیلة للمتّقین إن وردت بمعناها الحقیقی فهی إشارة إلی اللباس الظاهری الذی ینبغی أن یکون بعیداً عن الاسراف والتبذیر وکذلک التقتیر والبخل کما روی ذلک بعض الشرّاح.
أمّا إن کان اللباس بالمعنی الکنائی الواسع بقرینة بعض الآیات مثل
«وَلِبَاسُ التَّقْوَی ذلِکَ خَیْرٌ»(3) و «وَهُوالَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الَّیْلَ لِبَاساً»(4) و «هُنَّ لِبَاسٌ لَکُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ»(5) فلا ینبغی الاقتصار به علی معنی الارتداء الظاهری بل یکون معناه واسع یشمل جمیع حیاة الإنسان، أی إعتدال الحیاة برمتها فیکون بمثابة اللباس علی أجسادهم، کما عبّر فی الجملة الثالثة:
«مَشْیُهُمُ التَّوَاضُعُ» فهی لا تقتصر علی المشی الظاهری، ذلک لأنّ المشی المتواضع وإن کان حسناً لکنه لا یصلح فی مصاف أولی الصفات البارزة للمتّقین، ولکن إن کان إشارة لمعنی المشی الواسع فمعناه أنّ سلوکیاتهم کافّة مقرونة بالتواضع.
فقد أشار الإمام علیه السلام فی الواقع بدایة الخطبة إلی ثلاثة مبادئ أساسیّة: الصواب والاعتدال والتوضع التی تسود حیاة المتّقین فی جمیع جوانبها.
وقد وردت عدّة تأکیدات علی هذه المبادئ الثلاث فی الأخبار والروایات، فقد ورد فی الخبر عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:
«إنَّ هذَا اللِّسانَ مِفْتاحُ کُلّ خَیْر وشَرٍّ
ص:406
فَیَنْبَغی لِلْمُؤْمِنِ أَنْ یَخْتِمَ عَلی لِسانِهِ کَما یَخْتِمُ عَلی ذَهَبِهِ وفِضَتِهِ»(1).
وقال أمیرالمؤمنین علیه السلام:
«ما عالَ مَنِ اقْتَصَدَ»(2).
وقال الإمام الصادق علیه السلام:
«فیما اوْحَی اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلی داوُدَ علیه السلام: یا داوُدُ کَما أنَّ أقْرَبَ النّاسِ مِنَ اللّهِ الْمُتَواضِعُونَ کَذلِکَ أبْعَدُ النّاسِ مِنَ اللّهِ الْمُتَکِبِّرُونَ»(3).
ثم بین علیه السلام هاتین الصفتین فقال:
«غَضُّوا(4) أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللّهُ عَلَیْهِمْ، ووَقَفَوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَی الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ».
«غَضُّوا»: من مادة
«غضّ» تعنی فی الأصل (التقلیل) وحین تستعمل فی العین تعنی الخفض أی خفض الرأس إلی الأسفل أو إسدال الجفنین علی العینین.
«وَقَفُوا»: من مادة
«وقف» تعنی لغویاً التوقف بینما تعنی فی الاصطلاح الفقهی وقف شیء لآخر أو تستعمل بمعنی أوسع بمعنی خص الشیء بآخر. وعلیه فإنّ أخذنا المعنی الحقیقی للکلمة فی العبارتین المذکورتین کان المفهوم أنّهم لا ینظرون إلی الحرام ولا یسمعون سوی العلم النافع، وإن أخذنا بنظر الاعتبار المعنی الکنائی الواسع فمفهوم العبارة الأُولی أنّهم یخفضون بصرهم عن جمیع المحرمات ویوقفون سمعهم علی العلم النافع فقط.
والمراد من
«الْعِلْمِ النَّافِعِ» فی الدرجه الأُولی، العلوم الدینیّة المفیدة والقیم المعنویّة والحیاة السعیدة فی العالم الآخر، وبالدرجة الثانیة کلّ العلوم الضروریّة للعزّة والمجد والاستقرار والرفعة للبشریّة فی هذه الدنیا، بما فیها العلوم المرتبطة بصحة الإنسان وسلامته أو الصناعة والزراعة أو العلوم السیاسیّة وما شابه ذلک.
لا شک فی أنّ علاقة الإنسان بالعالم الخارجی والعالم المعاصر والسابق بصورة
ص:407
رئیسیّة عن طریق هاتین النعمتین أی العین والأذن، فالإنسان یری الحقائق بعینه وبها یقرأ التاریخ، ویسمع بأذنه رسالة السماء وأئمّة الدین وتفاصیل تجارب العظماء السابقین. فهو یرتبط بجمیع الأشیاء من حوله بهاتین الوسیلتین بحیث لو سلبتا منه لما بقی لدیه شیءٌ ولکان عقله وشعوره کعقل وشعور الصبی غیر الممیز، بل حتی لسانه وسائر حواسه إنّما تنشط فی ظلّ سلامة هذین العضوین ومن هنا فإنّ الفرد الأصم والأعمی أخرس علی الدوام وإن کان لسانه سالماً.
ورد فی حدیث عن الإمام الباقر علیه السلام قال:
«کُلُّ عَیْن باکِیَةٌ یَوْمَ الْقِیامَةِ غَیْرُ ثَلاث؛ عَیْنٌ سَهِرَتْ فی سَبیلِ اللّهِ، وعَیْنٌ فاضَتْ مِنْ خَشْیَةِ اللّهِ، وعَیْنٌ غَضَّتْ عَنْ مَحارِمِ اللّهِ»(1).
وفی حدیث آخر عن الإمام الحسن علیه السلام قال:
«اِنَّ أبْصَرَ الأبْصارِ ما نَفَذَ فِی الْخَیْرِ مَذْهَبَهُ وأسْمَعُ الاْسْماعِ ما وَعَی التَّذْکیرَ وانْتَفَعَ بِهِ»(2).
ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی صفة أخری من صفات المتّقین والتی تتمثّل بالرضا والتسلیم فقال:
«نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِی الْبَلاَءِ کَالَّتِی نُزِّلَتْ فِی الرَّخَاءِ(3)».
فالنعمة لا تسکرهم ولا تبطرهم، والمصائب والخطوب لا تحزنهم ولا تجزعهم؛ فهم راضون برضا اللّه مسلّمون لإرادته فی جمیع الأحوال. طبعاً أنّهم لا یتوانون فی السعی لمواجهة المحن والخطوب وتوفیر أسباب النعم والعیش الکریم لکنهم لا یعیشون سوی الرضا والتسلیم بالنسبة لما کان خارجاً عن إرادتهم؛ ذلک لأنّهم یعلمون من جانب أنّ اللّه حکیم ورحیم وأرحم من الأُم بولدها ولا یقدرّ سوی ما فیه مصلحة عبده المؤمن.
ویعلمون من جانب آخر أنّ الجزع إزاء الحوادث الألیمة لیس فقط لا یحلّ
ص:408
الأزمة بل یحبط الأجر والثواب وأحیاناً یضاعف من شدة الخطب ویوجب بالتالی الیأس والقنوط إزاء کلّ حادثة.
وقد وردت عدّة روایات عن المعصومین علیهم السلام بشأن مقام الرضا والتسلیم ومنها ما روی عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:
«رَأْسُ طاعَةِ اللّهِ الصبرُ والرِّضا عَنِ اللّه فیما احَبَّ الْعَبْدُ اوکَرِهَ، ولا یَرْضی عَبْدٌ عَنِ اللّهِ فیما احَبَّ أوکَرِهَ إِلَّا کانَ خَیْراً لَهُ فیما أحَبَّ أوکَرِهَ»(1).
وقد روی المرحوم الکلینی بعد نقله لهذه الروایة اثنتی عشرة روایة فی الرضا والتسلیم ومقامات المؤمن الراضی والمسلم لإرادة اللّه تبارک وتعالی.
ثم تطرق علیه السلام إلی صفة بارزة أخری للمتّقین والتی تدل علی الإیمان القوی والثقة بوعد اللّه فقال:
«ولَوْلَا الأَجَلُ الَّذِی کَتَبَ اللّهُ عَلَیْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِی أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَیْن، شَوْقاً إِلَی الثَّوَابِ، وخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ».
فأرواحهم أشبه بالطیر المسجون فی القفص فهو یری نفسه من جهة إزاء الحدائق النضرة المفعمة بأنواع الزهور والنباتات والفواکه والثمار، ومن جانب آخر یرفرف بأجنحته إزاء النار المحرقة داخل القفص فیحنو إلی الحریة لیحلق إلی تلک الحدائق ویتخلص من تلک النار المحرقة.
والمتقون علی هذه الشاکلة، فعشقهم للثواب من جانب وخوفهم من العقاب (أثر سوء العاقبة) من جانب آخر یشد أرواحهم المرهفة إلی العالم الآخر، بینما یحول عنهم دون ذلک الأجل الذی ضربه اللّه لهم.
ویکشف هذا التعبیر ضمنیاً سیادة الخوف والرجاء فی وجودهم، فهم راجون من جانب لثواب اللّه ولطفه، ویخشون من جانب آخر أن تزل أقدامهم فی هذه الدنیا فیقعون فی فخ الشیطان وهوی النفس فیغادرون الدنیا وقد ساءت عاقبتهم.
جاء فی الحدیث أنّ لقمان الحکیم خاطب ولده فقال له:
«یا بُنِیَّ خَفِ اللّهِ خَوْفاً
ص:409
لَوأَتَیْتَ یَوْمَ الْقِیامَةِ بِبِرِّ الثَقَلَیْنِ خِفْتَ أنْ یُعذّبَکَ وارْجُ اللّهَ رَجاءً لَووافَیْتَ الْقِیامَةَ بِإِثْمِ الثَّقَلَیْنِ رَجَوْتَ أَنْ یَغْفِرَاللّهُ لَکَ»(1).
وذکر الإمام علیه السلام صفة بارزة جدّاً فی المتّقین فقال:
«عَظُمَ الْخَالِقُ فِی أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَادُونَهُ فِی أَعْیُنِهِمْ».
فکلّ شخص یبدو له النهر الکبیر ضئیلاً حین یکون إلی جانب المحیط المتلاطم الأمواج، وحین ینظر الإنسان إلی الشمس التی تضیئ العالم لا یری من وجود لضوء أکبر وأکبر مصابیح العالم ضیاءً، نعم، فقد تعرّف المتقون علی القدرة المطلقة والعلم اللامتناهی لخالق عالم الوجود فأدرکوا بقدر استعدادهم عظمة ذاته المقدّسة، فکان من الطبیعی أن یصغر کلّ ما سواها فی أعینهم، وهذه هی إحدی العوامل التی تقف وراء تقوی المتّقین وورعهم وأعظم من ذلک عصمتهم من الذنب والمعصیة، فکلّما عظمت معرفة الإنسان باللّه صغر ما سواه فی نظره فلم یعد یتعلق بهذه الأشیاء الحقیرة والتافهة ولذلک لا یقارف الذنب.
ومن هنا نفهم ما قاله الإمام علی علیه السلام:
«وَاللّهِ لَو أُعْطیتُ الأَقالیمَ السَّبْعَةَ بِما تَحْتَ أفْلاکِها عَلی أنْ أعصِی اللّهَ فی نَمْلَة أسْلُبُها جُلْبَ شَعیرَة ما فَعَلْتُهُ»(2).
وقال فی مواصلته لکلامه:
«وإنَّ دُنْیاکُمْ عِنْدی لاََهْوَنَ مِنْ وَرَقَة فی فَمِ جَرادَة تَقْضِمُها».
فإنّ ذلک یُعزی ذلک إلی عرفانه علیه السلام باللّه تبارک وتعالی. نعم، کلّما إزدادت معرفة اللّه لدی الإنسان صغرت الدنیا فی عینیه وضعفت لدیه أسباب الذنب واستشعر المزید من الطمأنینة والسکینة، وبالطبع فإنّ أحد آثارها حضور القلب فی العبادة والصلاة، بحیث لا یلتفت إلی الألم حین تُسَل السهام من جسده.
ثم اتّجه علیه السلام إلی صفة بارزة أخری تتمثل فی مقام المتّقین الشهودی فقال:
«فَهُمْ
ص:410
والْجَنَّةُ کَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِیهَا مُنَعَّمُونَ، وهُمْ والنَّارُ کَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِیهَا مُعَذَّبُونَ».
للإیمان والیقین مراحل، فإیمان البعض تفرزه الأدلة العقلیة وسائر الأدلة الکافیة والشافیة علیه، وقد عبّر العرفاء وأساتذة الأخلاق وبالاستناد إلی الآیات القرآنیّة عن هذه المرحلة بمرحلة (العلم الیقینی)، والمرحلة الأسمی هی (مرحلة الشهود) حیث یتجاوز الإنسان فی هذه المرحلة الأدلة العقلیّة لیبلغ مقام الشهود فیری اللّه ویشاهد عظمته ببصیرته وتزول عنه جمیع الشکوک والوساوس التی تترتب أحیاناً علی الأدلة العقلیة وهذا ما یصطلح علیه بمقام (عین الیقین).
والمرحلة الثالثة وهی مرحلة (حق الیقین) المختصة بخواص اللّه ومقرّبیه حیث یصل الإنسان فی ظلها إلی مرتبة تذوب فیها ذاته فلا یری سوی اللّه ویغیب عن ناظریه کل ما سواه.
فالواقع أنّ المرحلة الأُولی عامة وتشمل جمیع المؤمنین الصادقین، بینما تختص المرحلة الثانیة بالمتقین المخلصین والمجاهدین، وتختصر المرحلة الثالثة علی صفوة معینة من أولیاء اللّه کالمعصومین علیهم السلام، ولکلّ مرحلة آثارها ومعطیاتها وأحد آثار مرحلة الشهود التی أشیر إلیها فی هذه الخطبة بشأن المتّقین أنّهم یرون أنفسهم حاضرین علی الدوام أمام الحقّ ولا ینفکون عن طاعته وإمتثال أوامره، وبالطبع فإنّ قدسیّة حیاتهم خیر شاهد علی إیمانهم الشهودی فقد جاء فی الحدیث المروی عن الإمام الصادق علیه السلام: إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله صلّی بالناس الصبح، فنظر إلی شابٍ فی المسجد وهو یخفق ویهوی(1) برأسه، مصفّراً لونه، قد نحف جسمه وغارت عیناه فی رأسه، فقال له رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«کَیْفَ أصْبَحْتَ یا فُلانَ؟» قال:
«أَصْبَحْتُ یا رَسُولَ اللّهِ مُوقِناً». فعجب رسول اللّه صلی الله علیه و آله من قوله، وقال صلی الله علیه و آله:
«إنَّ لِکُلِّ یَقین حَقیقَةً فَما حَقیقَةُ یَقینِکَ؟».
ص:411
فقال:
«إِنّ یَقِینی یا رَسُول اللّهِ هُو الَّذی أَحزَننی وَأَسهَرَ لَیلی وَأَظمَأ هَواجِری فَعزَفتْ نَفسِی عَنِ الدُّنیا وَما فِیها حَتّی کَأنّی إِلی أنْظُر عَرشَ رَبِّی وَقَد نُصبَ للحِسابِ وَحُشرَ الخَلائقُ لِذلکَ وَأَنا فِیهم، وَکَأنّی أنْظُر إلی أَهْلِ الْجَنَّةِ یَتَنَعَّمُونَ فِی الْجَنَّةِ ویَتَعارَفُونَ، عَلَی الأَرائِکِ مُتَّکِئُونَ، وکَأنّی أنْظُرُ إلی أهْلِ النّارِ وهُمْ فیها مُعَذَّبُونَ مُصْطَرِخُونَ وکَأنّی الاْنَ أَسْمَعُ زَفیرَ النّارِ یَدُورُ فی مَسامِعی».
فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله لأصحابه:
«هذا عَبْدٌ نَوَّر اللّهُ قَلْبَه بِالإیمانِ». ثم قال صلی الله علیه و آله له:
«إِلزم ما أَنتَ عَلیهِ».
فقال: یا رسول اللّه ادع لی أن أُرزق الشهادة معک. فدعا له رسول اللّه صلی الله علیه و آله فلم یلبث أن خرج فی بعض غزوات النّبی صلی الله علیه و آله فاستشهد بعد تسعة نفر وکان هو العاشر(1).
وقد وردت العدید من الأخبار التی تشبه ما ورد سابقاً بشأن المتّقین طیلة التاریخ والذین بلغوا مقام الشهود والتی تؤکد کلام الإمام علیه السلام.
ثم واصل کلامه علیه السلام فذکر خمس صفات أخری من صفات المتّقین فقال:
«قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وأَجْسَادُهُمْ نَحِیفَةٌ، وحَاجَاتُهُمْ خَفِیفَةٌ، وأَنْفُسُهُمْ عَفِیفَةٌ».
فهذه الصفات سلسلة من صفات المتّقین، ذلک لأنّ حزنهم الذی ورد فی صفتهم الأُولی یشیر إلی خوفهم من اللّه والتقصیر فی الإتیان بالوظائف، قال الإمام الصادق علیه السلام:
«اَلْحُزْنُ مِنْ شِعارِ الْعارفینَ». وواصل کلامه قائلاً:
«ولَو حَجَبَ الْحُزنُ عَنْ قُلُوبِ الْعارِفینَ ساعةً لاسْتَغاثُوا»(2).
نعم، فهم وجلون دائماً إزاء وظائفهم، ومن هنا خیم الحزن علی قلوبهم خشیة
ص:412
التقصیر فی حقّ مظلوم أو صدور ظلم منهم أو أنّهم فکروا فی ما سوی اللّه، أضف إلی ذلک لا یفارقهم غم العشق وحزن الإبتعاد عمّا یرجونه من قرب اللّه، علی کلّ حال فهم لا یعیشون هم الدنیا أبداً، لانّهم لا یعشقون الدنیا.
وعلیه فإن قال القرآن: «أَلَا إِنَّ أَوْلِیَاءَ اللّهِ لَاخَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلَا هُمْ یَحْزَنُونَ»(1). فهذا لا ینافی ما ورد فی هذه الخطبة، لأنّ الخطبة متعلقة بالخوف عمّا سوی اللّه والحزن علی الدنیا المادیّة وقوله فی الصفة الثانیة أنّ الناس منهم فی أمان إشارة إلی أنّ وجودهم لا یختزن سوی الخیر والبرکة للجمیع ولا یفرز أی عناء وعذاب. قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«إنّ شَرَّ النّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَاللّهِ یَوْمَ الْقِیامَةِ مَنْ یَخافُ النّاسُ شَرَّهُ»(2).
وقال علیه السلام فی الصفة الثالثة إنّ أجسامهم نحیفة ولا یراد به النحافة المتعارفة الیوم فی المجتمع، بل تعنی الضعف الذی یفید الزهد من جانب والتقوی والصوم ویدل من جانب آخر علی الخفة والاستعداد فی إتیان الوظائف الشرعیّة، علی کلّ حال فإنّ هذه الصفة کبعض الصفات الأخری لها استثناءات حیث إنّ البعض من الأفراد لیس بنحیف بحسب بنیته الجسمیّة لکنه فی صف المتّقین.
وأشیر فی الصفة الرابعة إلی حاجاتهم المحدودة لا علی غرار أصحاب الدنیا کانزی الذهب والفضة الذین یشبهون جهنم کلّما أُعطوا شیئاً نادوا «هل من مزید»، والحقّ أنّ القناعة والحاجات الخفیفة لتصون الإنسان من العدید من الذنوب وتریح فکره لسلوک سبیل الحقّ، کما ذکر الإمام علیه السلام فی إحدی کلماته القصار حیث قال:
«تَخَفَّفُوا تَلحَقُوا»(3).
وجاء فی الخبر أنّ الإمام الصادق علیه السلام دخل حماماً فقال له صاحب الحمّام:
نخلّیه لک؟ فقال علیه السلام:
«لا، انَّ الْمُؤْمِنَ خَفیفُ الْمَؤُونَةِ»(4).
ص:413
وأشار فی الصفة الخامسة إلی مقام العفة فی أنّ أرواحهم عفیفة، تلک العفة التی تسوق الإنسان إلی غض الطرف عن الهوی والمعصیة، وبعبارة أخری لم یعد للأهواء والمعاصی من سبیل إلیهم بحیث ینفرون من رؤیة المناظر القبیحة والفاحشة.
قال علیه السلام فی إحدی کلماته القصار:
«مَا الْمُجاهِدُ الشَّهیدُ فی سَبیلِ اللّهِ بِأَعْظَمَ اجْراً مِمَّنْ قَدَرَ فَعَفَّ؛ لَکادُ الْعَفیفُ أنْ یَکُونَ مَلَکاً مِنَ الْمَلائِکَةِ»(1).
وکیف لا یکونون کذلک وقد انتصروا فی میدان الجهاد الأکبر علی عدوٍ خطر هو هوی النفس والشیطان.
ثم قال فی ذکر صفة أخری من صفاتهم:
«صَبَرُوا أَیَّاماً قَصِیرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِیلَةً. تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ یَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ». فالصبر سواء علی الطاعة أو إزاء وساوس المعصیة أو علی المصیبة لمن الصفات البارزة للمتّقین.
ولا یسع أحد الظفر بأی هدف معنویاً کان أم مادیاً ما لم یتحل بالصبر والاستقامة ولوفقد الإنسان هذه الصفة فإنّه یخاطر بدینه وإیمانه وعزته وشرفه ومن هنا جاء فی حدیث عن الإمام علیه السلام أنّه قال:
«وعَلَیْکُمْ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الاْیمانِ کَالرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ»(2).
ونقل المرحوم الکلینی فی الکافی عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:
«الْجَنَّةُ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَکارِهِ والصَّبرِ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَی الْمَکارِهِ فِی الدُّنْیا دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ وجَهَنَّمُ مَحْفُوفَةٌ بِاللَّذاتِ والشَّهَواتِ فَمَن أَعْطی نَفْسَه لَذَّتَها وشَهْوَتَها دَخَلَ النّارَ»(3).
واعتبر الإمام علیه السلام کما ورد فی العبارة أنّ هذا العمل؛ أی الصبر مدّة قلیلة إزاء نیل تلک السعادة الخالدة تجارة مربحة یسرها اللّه لهم.
قال تعالی: «اِنَّ الَّذِینَ یَتْلُونَ کِتَابَ اللّهِ وَأَقَامُوا الصَّلوةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً
ص:414
وَعَلاَنِیَةً یَرْجُونَ تِجَارَةً لَّنْ تَبُورَ»(1).
وقال فی موضع آخر إنّ الملائکة تتلقی الصالحین من المؤمنین حین یرومون دخول الجنّة بالسلام: «سَلامٌ عَلَیْکُمْ بِما صَبَرْتُمْ»(2).
ثم تطرق علیه السلام إلی صفتین من صفات المتّقین فقال:
«أَرَادَتْهُمُ الدُّنْیَا فَلَمْ یُرِیدُوهَا، وأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا».
إشارة إلی اقبال الدنیا بجمیع متعها ولذائذها إلی الجمیع لتستقطب إلیها النفوس البشریّة، ولکن لا یقع فی شباکها سوی أولئک الجهّال أو أصحاب الأهواء، بینما لا یغتر بها المتقون الذین یعلمون أنّ حقیقتها سراب، وهنالک البعض الذی یغتر بالدنیا عن طریق المال والثروة والجاه والمقام والشهرة، بینما لا یخفی هذا المعنی علی المتّقین.
والحقّ أننا لنری الکثیر من الناس الذین یصبحون اساری المقام بحیث یدفعهم الحفاظ علیها إلی عدم التورع عن ارتکاب کلّ موبقة وجنایة، وهناک البعض الذی یأسره المال والشهوات بحیث یضحی من أجل ذلک بکرامته الإنسانیّة، أمّا المتقون السائرون علی خطی المعصومین یتجاوزون ذواتهم وشعارهم فی ذلک
«هَیْهاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ».
تدور محاور هذا الجانب من الخطبة الذی تضمن عشرین صفة من صفات المتّقین حول عدّة أمور، إیمان المتّقین الراسخ وهو الإیمان الذی بلغ حد الشهود ومشاهدة عالم ما وراء الطبیعة، مسألة التولی عن متع الدنیا ولذاتها وعدم الانخداع
ص:415
بالأهواء والشهوات وتحری العلم والمعرفة واجتناب الذنوب والمعاصی سیما معاصی اللسان والتواضع وکفّ الشر عن الخلق تمثّل معظم تلک الأمور.
وإن لم یکن للمتّقین سوی هذا الجانب المذکور فی الخطبة لکفاه أن یصنع منهم أُناساً کمل فضلاً عن الجوانب القادمة من الخطبة التی تشیر إلی هذه الصفات.
والصفات السابقة لیست منفصلة عن بعضها البعض الآخر، بل هی سلسلة متصلة ومشروع جامع للسالکین إلی اللّه والذین ینشدون القرب منه تعالی.
فذلک الشخص الذی بلغ به الأیمان درجة کأنّه یری حجب النور وینظر من خلف حجب الطبیعة الضخمة إلی الجنّة والنار من الطبیعی أن یصغر فی عینه کلّ ما سوی اللّه ولا تخدعه مفاتن الدنیا وزخارفها ویعیش الواقع إزاء خلق اللّه ویکف عنهم أذاه.
وهنا یطرح هذا السؤال: کیف یتحصل هذا الإیمان الشهودی ولمن سیکون نصیب هذه السعادة؟
وتتضح الاجابة عن هذا السؤال من خلال بعض التشبیهات، فالصورة الحقیقیة لا تنعکس فی مرآة القلب مادام ملطخاً بقذارة الأهواء، ولا یسع الإنسان التحلیق إلی سماء الحقیقة مادام مسجوناً فی زنزانة الطبیعة.
***
ص:416
أَمَّا اللَّیْلُ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِینَ لاَِجْزَاءِ الْقُرْآنِ یُرَتِّلُونَهَا تَرْتِیلاً، یُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ ویَسْتَثِیرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ. فَإِذَا مَرُّوا بِآیَة فِیهَا تَشْوِیقٌ رَکَنُوا إِلَیْهَا طَمَعاً، وتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَیْهَا شَوْقاً، وظَنُّوا أَنَّها نُصْبَ أَعْیُنِهِمْ. وإِذَا مَرُّوا بِآیَة فِیهَا تَخْوِیفٌ أَصْغَوْا إِلَیْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وظَنُّوا أَنَّ زَفِیرَ جَهَنَّمَ وشَهِیقَهَا فِی أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَی أَوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وأَکُفِّهِمْ ورُکَبِهِمْ، وأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، یَطْلُبُونَ إِلَی اللّهِ تَعَالَی فِی فَکَاکِ رِقَابِهِمْ.
خاض الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة فی حال المتّقین فی اللیل لیرکز علی التفاصیل ویمهد السبیل أمام الجمیع فقال:
«أَمَّا اللَّیْلُ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِینَ لاَِجْزَاءِ الْقُرْآنِ یُرَتِّلُونَهَا تَرْتِیلاً، یُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ ویَسْتَثِیرُونَ(1) بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ».
ویمکن أن تکون هذه العبارة إشارة إلی تلاوة القرآن فی صلاة اللیل، ذلک لأنّهم یرتلون القرآن حین القیام بعد سورة الحمد فی الصلاة؛ کما یمکن أن یکون الأمران منفصلین، أی أنّهم ینهضون فی اللیل للصلاة وتلاوة القرآن أیضاً.
جدیر ذکره أنّ الإمام علیه السلام بیّن أسلوب قراءة المتّقین للقرآن بعبارة قصیرة عمیقة
ص:417
المعنی فهم یقرأون القرآن بصیغة الترتیل الذی یعنی التأمّل والتدبر فی مفاهیم القرآن أضف إلی ذلک قال: إنّهم یرون أنفسهم مخاطبین بالقرآن فإن مرّوا بآیة فیها تشویق تطلعوا إلیها طمعاً وإن مرّوا بآیة فیها تخویف، استشعروا منها الحزن، کما أنّهم یبحثون عن دواء دائهم الأخلاقی والمعنوی فی زوایا الآیات القرآنیّة فهوالطبیب وهو الدواء.
ثم قال فی شرحه لهذا المعنی:
«فَإِذَا مَرُّوا بِآیَة فِیهَا تَشْوِیقٌ رَکَنُوا إِلَیْهَا طَمَعاً، وتَطَلَّعَتْ(1) نُفُوسُهُمْ إِلَیْهَا شَوْقاً، وظَنُّوا أَنَّها نُصْبَ أَعْیُنِهِمْ».
نعم! فهؤلاء لا یطالعون القرآن بصورة سطحیّة بل یرون أنفسهم مخاطبین به فتتأجج فی قلوبهم نیران الشوق حیث البشارة الإلهیّة ویرون ببصائرهم ما وهم فیه فی هذه الحیاة الدنیا، وهذا ما یدفعهم إلی السیر والسلوک إلی اللّه تعالی.
«وإِذَا مَرُّوا بِآیَة فِیهَا تَخْوِیفٌ أَصْغَوْا إِلَیْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وظَنُّوا أَنَّ زَفِیرَ(2) جَهَنَّمَ وشَهِیقَهَا فِی أُصُولِ آذَانِهِمْ».
فقد بلغ إیمانهم مرحلة الشهود فأخذوا یرون حقائق عالم الغیب وکأنّها تعیش معهم، وبالطبع إن کانت قراءة القرآن بهذه الصیغة کانت أفضل وسیلة فی التهذیب والتربیة.
ورد فی إحدی کلمات الإمام علیه السلام أنّه قال:
«ألا لا خَیْرَ فی قِراءَة لَیْسَ فیها تَدَبُّرٌ ألا لا خَیْرَ فی عِبادَة لَیْسَ فِیها تَفَقُّهٌ»(3).
وروی عن الإمام السجاد علیه السلام أنّه قال:
«آیاتُ الْقُرْآنِ خَزائِنٌ فَکُلَّما فُتِحَتْ خَزینَةٌ یَنْبَغی لَکَ انْ تَنْظُرَ ما فیها»(4).
ص:418
ولما فرغ الإمام علیه السلام فی العبارات السابقة من بیان کیفیة صلاة المتّقین المقرونة بتلاوة الآیات القرآنیّة والمتزامنة مع الخضوع والخشوع والتدبّر وحضور القلب أردفها فی العبارة التالیة ببیان رکنین آخرین هما الرکوع والسجود فقال:
«فَهُمْ حَانُونَ(1) عَلَی أَوْسَاطِهِمْ(2) ، مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ(3) وأَکُفِّهِمْ ورُکَبِهِمْ، وأَطْرَافِ(4) أَقْدَامِهِمْ، یَطْلُبُونَ إِلَی اللّهِ تَعَالَی فِی فَکَاکِ(5) رِقَابِهِمْ».
فالعبارات التی ذکرها الإمام علیه السلام بشأن الرکوع والسجود تعبیرات بمنتهی الروعة والجمال والتی تُطلع الإنسان علی عمق هذه العبادات، فالإنحناء أمام اللّه وافتراش الجبین وبسط الأرجل علی الأرض إزاء عظمة اللّه بالتوجه وحضور القلب ینطوی علی عالم من المعنویات، والطریف أنّ الهدف النهائی لذلک تحریر رقبة الإنسان من قید الأسر، ولکن هل المراد تحریرها من مخالب نار جهنم أم من کلّ قید من قیود هوی النفس والشیطان والأشرار من الناس؟ یبدو أنّ عبارة الإمام علیه السلام مطلقة تشمل الجمیع رغم تظافر الروایات التی وردت فیها العبارة
«مِنَ النّارِ» بعد
«فَکاکَ الرَقَبَة».
نعم! فحریة الإنسان مرهونة بعبودیّته للّه فی الدنیا وفی الآخرة وسوی المتّقین أسری الأهواء والرغبات والأموال والثروات والمقامات والشیاطین.
وما بیّنه الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة بشأن المتّقین إقتباس فی الواقع من الصفات التی ذکرها القرآن الکریم للمتّقین فی آواخر سورة الفرقان عن
«عِبادُ الرّحمن» فقد قال تعالی: «وَالَّذِینَ یَبِیتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِیَاماً * وَالَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا کَانَ غَرَاماً»(6).
ص:419
1. خاض الإمام علیه السلام بعد بیانه لصفات المتّقین فی مستهل الخطبة فی انشطتهم فی اللیل والنهار والتی تغص بدروس السعادة.
فشرح بادئ الأمر نشاطهم باللیل حیث یسیرون فیه بصورة کاملة باتجاه التربیة والتهذیب والقرب الإلهی.
ویستند أساس هذا النشاط إلی أمرین: 1. الصلاة بحضور قلب تام، وهی الصلاة الموصلة لکلّ سمو
«قُرْبانُ کُلِّ تَقِیٍّ» وهی الطریق المتّقین للقرب من اللّه والناهیة عن کل فحشاء ومنکر.
2. تلاوة القرآن فی الصلاة وخارجها فی غسق اللیل حیث الصمت المطلق والشرائط التی تنفی الموانع کافّة من الحضور بین یدی القرآن والمقرونة بالتدبّر فی الآیات بحیث یری المؤمن نفسه مخاطباً بآیات الثواب والعقاب فیری بأُم عینیه مصیر أصحاب الجنّة وأصحاب النار فی خضم الآیات وینفتح علی معارفها ویتعظ بمواعظها ویمتثل فی حیاته لأحکامها.
حقّاً إنّ مثل هذه الصلاة والتلاوة القرآنیّة فی جوف اللیل إنّما تربیهم بحیث یستطیعون فی النهار القیام بوظائفهم بأحسن نحو، وسیرد الحدیث عن نشاطهم فی النهار فی القسم القادم من الخطبة.
***
ص:420
وأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِیَاءُ. قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْیَ الْقِدَاحِ یَنْظُرُ إِلَیْهِمُ النَّاظِرُ فَیَحْسَبُهُمْ مَرْضَی، ومَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض؛ ویَقُولُ: لَقَدْ خُولِطُوا!
ولَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِیمٌ! لَایَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِیلَ، وَلَا یَسْتَکْثِرُونَ الْکَثِیرَ. فَهُمْ لاَِنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، ومِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ إِذَا زُکِّیَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا یُقَالُ لَهُ، فَیَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِی مِنْ غَیْرِی، ورَبِّی أَعْلَمُ بِی مِنِّی بِنَفْسِی! اللَّهُمَّ لَاتُؤَاخِذْنِی بِما یَقُولُونَ، واجْعَلْنِی أَفْضَلَ مِمَّا یَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لی مَا لَایَعْلَمُونَ!
خاض الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة فی نشاط المتّقین فی النهار (علی غرار القسم السابق الذی شرح فیه نشاطهم فی اللیل) فأشار بادئ الأمر إلی خمس صفات من صفاتهم فقال:
«وأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِیَاءُ. قَدْ بَرَاهُمُ(1) الْخَوْفُ بَرْیَ الْقِدَاحِ(2) یَنْظُرُ إِلَیْهِمُ النَّاظِرُ فَیَحْسَبُهُمْ مَرْضَی، ومَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض؛ ویَقُولُ: لَقَدْ خُولِطُوا!(3) ولَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِیمٌ!».
والصفات الخمس التی ذکرها الإمام علیه السلام بشأن نشاط المتّقین فی النهار دلالة
ص:421
واضحة علی هذه الحقیقة وهی أنّ تقوی هؤلاء المتّقین لیست منفصلة عن المجتمع قط، بل تقواهم مقرونة بالعلم والمعرفة والإدارة وتحمل المسؤولیّة والإحسان والعیش فی وسط المجتمع.
«حُلَمَاءُ»: من ماده «حلم» التی تعنی حسب (الراغب) ضبط النفس حین الغضب، ولما کانت هذه الحالة نابعة من العقل فإنّ مفردة الحلم تستعمل أحیاناً بمعنی العقل ومن هنا تُطلق کلمة الحلیم علی من یتمالک نفسه عند الغضب وعلی العالم أیضاً.
وقال علماء الأخلاق أنّ صفة الحلم تمثّل حالة الإعتدال بین الصفتین الرذیلتین؛ إحداهما الذلّة والأخری المفرطة وهی الغضب.
علی کلّ حال فإنّ هذه الصفة غالباً ما تظهر حین التعامل مع الجهّال فیضطر الحلیم إلی مداراتهم بحیث لا یُستغل علهم یفیقون إلی أنفسهم ویکفون عن جهلهم.
والتعبیر بالعلماء لا یقتصر علی أولئک الذین انفتحوا علی العلوم المعروفة بل یشمل الأفراد ممن لهم اطلاع ومعرفة واسعة وقدرة علی إدراک الحقیقة.
والعبارة:
«قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْیَ الْقِدَاحِ» لیس المراد منها أنّ المتّقین ضعیفو البنیة خشیة المسؤولیّة، بل المراد أنّ تلک الخشیة جعلتهم أکثر فاعلیة وحسماً فی القیام بوظائفهم، ذلک لأنّ السهم حین یبری لیصیب الهدف یکون انطلاقه أفضل وحدته أعظم.
والتعبیر
«یَنْظُرُ إِلَیْهِمُ النَّاظِرُ فَیَحْسَبُهُمْ مَرْضَی» إشارة إلی أنّ العلماء الحلماء والمتّقین الأبرار یبدون فی أعین السذج من الناس کأفراد ضعیفی الإرادة وغیر جادین فی قراراتهم.
ومن هنا نری رمی الأنبیاء من قبل أممهم بتهمة الجهل والجنون، سیما أنّهم لا یشابهون سائر قومهم، فمن لم یکن مثلهم یرونه مجنوناً لأنّه یخالف عاداتهم وعقائدهم بینما الواقع هم المجانین.
ص:422
قال القرآن بشأن السابقین فی الخیرات: «وَالَّذِینَ یُؤْتُونَ مَا أتَوا وقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَی رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ»(1).
جاء فی شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید فی ذیل الآیة الشریفة أنّه سئل النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: هل المراد من الآیة من یذنب ویخشی الذنب؟ فقال صلی الله علیه و آله:
«لا، بَلِ الرَّجُلُ یَصُومُ ویَتَصَدَّقُ ویَخافُ أنْ لا یَقْبَلَ مِنْهُ»(2).
ثم خاض الإمام علیه السلام فی بیان علوّ همّة المتّقین فقال:
«لَا یَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِیلَ، وَلَا یَسْتَکْثِرُونَ الْکَثِیرَ. فَهُمْ لاَِنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، ومِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ(3)».
فعلوّ همّتهم وسمّو معرفتهم لا تدعهم یرضون بالأعمال القلیلة أو یستکثرون تلک الأعمال علی خلاف المغرورین ضیقی النظر الذین یرضون من أنفسهم بالقلیل من العمل وکأنّهم أشرف خلق اللّه، وبغض النظر عن ذلک فهؤلاء یتمتعون بصفة بارزة هی نقد الذات التی یفر منها أغلب الأفراد والذین لا یقبلون النقد من الآخرین وبطریق أولی لا ینتقدون أنفسهم وبذلک یهجرون الأمر الذی یؤدّی إلی سموهم وتکاملهم.
فهؤلاء یشعرون بالخشیة دائماً وکأنّهم لم یؤدّوا حقّ نعمة اللّه وهجروا طریقة عبودیة اللّه وأنّهم مسؤولون أمام خلق اللّه.
وقد فسّر بعض شرّاح نهج البلاغة الأعمال الواردة هنا بالعبادات فقط واستشهدوا بالروایات الواردة فی کثرة عبادات النّبی صلی الله علیه و آله وأمیر المؤمنین علیه السلام والإمام السجاد علیه السلام. صحیح أنّ العبادات تعدّ إحدی الوظائف المهمّة للعباد، ولکن لیس لدینا أی دلیل علی حصر الأعمال الواردة فی العبارة المذکورة بالعبادة وعدم شمولها
ص:423
للمسؤولیات الاجتماعیّة.
وقد کان أئمّتنا علیهم السلام یقرون بذلک للّه تعالی مع ما کانت لدیهم من أعمال ضخمة واسعة ورغم قدسیتهم وطهارتهم، فقد ورد عن الإمام السجاد علیه السلام فی دعاء أبی حمزة الثمالی تضرعه قائلاً:
«وما قَدْرُ أعْمالِنا فی جَنْبِ نِعَمِکَ وکَیْفَ نَسْتَکْثِرُ أعْمالا نُقابِلُ بِها».
وجاء فی کتاب الغارات عن بعض أصحاب أمیر المؤمنین علیه السلام أنّ أحدهم تعجب من کثرة ما ینفق ویتصدق فی سبیل اللّه فقال له علیه السلام:
«لَو أعْلَمُ أَنَّ اللّهَ قَبِلَ مِنّی فَرْضاً واحِداً لأمْسَکْتُ، ولکنّی وَاللّهِ ما أدْری أقَبِلَ اللّهُ مِنّی شَیْئاً أمْ لا؟»(1).
وهذا فی الواقع درس لعامة الناس فی عدم الاغترار بأعمالهم العبادیّة والخیریّة مهما کانت کثیرة ذلک لأنّ مسألة الإخلاص صعبة ومعقدة.
وجاء فی حدیث آخر عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:
«ثَلاثٌ قاصِماتُ الظَّهْرِ؛ رَجُلٌ اسْتَکْثَرَ عَمَلَهُ، ونَسِیَ ذُنُوبَهُ، وأُعْجِبَ بِرَأْیِهِ»(2).
ثم أشار الإمام علیه السلام إلی نقطة أخری فی إطار حدیثه عن مسألة نقد الذات فقال:
«اِذَا زُکِّیَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا یُقَالُ لَهُ، فَیَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِی مِنْ غَیْرِی، ورَبِّی أَعْلَمُ بِی مِنِّی بِنَفْسِی! اللَّهُمَّ لَاتُؤَاخِذْنِی بِما یَقُولُونَ، واجْعَلْنِی أَفْضَلَ مِمَّا یَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لی مَا لَایَعْلَمُونَ!».
وإننا لنعلم أنّ من موانع الرقی والتقدم نحو اللّه وفی المجتمع البشری هو مدح المداحین وتملق المتملقین الذی قذف بأغلب زعماء العالم فی أودیة الخطأ والضلال، والمتقون یشعرون بالخوف دائماً من مدح الآخرین حذراً من أن یسوقهم إلی الغرور والعجب فیتعرضون لسخط اللّه، فهم یسألون اللّه أن یکونوا أعظم من ذلک المدیح وإن کانت لدیهم معصیة خفیّة سألوه غفرانها.
ص:424
یتصف نشاط المتّقین نهاراً بالصبغة الشعبیّة والاجتماعیّة المحضة رغم نشاطهم اللیلی فی تهذیب النفس فی ظلّ المناجاة والعبادة والتضرع إلی اللّه، والاستناد إلی العلم والحلم والإحسان والخوف فی تحمل المسؤولیّة لأفضل دلیل علی هذا المعنی.
فهم علماء یوضفون العلم لهدایة وإرشاد المجتمع.
وحلماء یتحمّلون الصبر إزاء تعصب ولجاجة الجهّال من الأفراد، ومحسنون یمدون ید الخدمة بقدر استطاعتهم إلی المحتاجین.
خائفون ووجلون من القیام بالمسؤولیات الکبیرة، فخوفهم خوف إیجابی لیکون الدافع للعمل أسمی وأعظم لا خوف سلبی یدعو إلی التقوقع وترک النشاط، ولذلک قال علیه السلام: إنّ الخوف لم یضعفهم بل جعلهم أکثر عملاً علی غرار السهم الذی یبری لیعد لإصابة الهدف.
ومن صفاتهم أنّهم لیسوا کأصحاب الدنیا الذین ینتهزون الفرص والنفعیین الذین یتأقلمون مع کلّ شخص ومع جمیع الظروف بغیة تحقیق أهدافهم المادیّة، ومن هنا یتهمهم مثل هؤلاء الأفراد بخفة العقل والسذاجة، وزبدة الکلام فإنّهم مشفقون من أعمالهم سباقون للنظر فیها قبل أن یتعرض لها الآخرون.
حقّاً مثل هؤلاء الأفراد یستطیعون انقاذ المجتمع البشری من الظلم والجور وإیصال الحقوق إلی أصحابها.
***
ص:425
ص:426
فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّکَ تَرَی لَهُ قُوَّةً فِی دِین، وحَزْماً فِی لِین، وإِیماناً فِی یَقِین، وحِرْصاً فِی عِلْم، وعِلْماً فِی حِلْم، وقَصْداً فی غِنیً، وخُشُوعاً فِی عِبَادَة، وتَجَمُّلاً فِی فَاقَة، وصَبْراً فِی شِدَّة، وطَلَباً فِی حَلاَل، ونَشَاطاً فِی هُدًی، وتَحَرُّجاً عَنْ طَمَع. یَعْمَلُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وهُو عَلَی وَجَل. یُمْسِی وهَمُّهُ الشُّکْرُ، ویُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّکْرُ. یَبِیتُ حَذِراً ویُصْبِحُ فَرِحاً؛ حَذِراً لَمَّا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ، وفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ والرَّحْمَةِ. إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَیْهِ نَفْسُهُ فِیما تَکْرَهُ لَمْ یُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِیَما تُحِبُّ. قُرَّةُ عَیْنِهِ فِیَما لَایَزُولُ، وزَهَادَتُهُ فِیَما لَایَبْقَی، یَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ، والْقَوْلَ بِالْعَمَلِ.
أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی اثنتی عشرة صفة أخری من صفات المتّقین بعبارات قصیرة عمیقة المعانی لیستهلها بقوتهم فی الدین وبعدهم عن الطمع فقال علیه السلام:
«فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّکَ تَرَی لَهُ قُوَّةً فِی دِین، وحَزْماً(1) فِی لِین، وإِیماناً فِی یَقِین، وحِرْصاً فِی عِلْم، وعِلْماً فِی حِلْم، وقَصْداً فی غِنیً، وخُشُوعاً فِی عِبَادَة، وتَجَمُّلاً(2) فِی فَاقَة، وصَبْراً فِی شِدَّة، وطَلَباً فِی حَلاَل، ونَشَاطاً(3) فِی هُدًی،
ص:427
وتَحَرُّجاً(1) عَنْ طَمَع».
والعبارة:
«قُوَّةً فِی دِین» تشیر إلی عدم استطاعة المشککین والمنافقین النفوذ إلیهم ولیس بإمکان خطوب الدنیا ومصاعب الحیاة زعزعة إیمانهم.
وتشیر العبارة
«وحَزْماً فِی لِین» إلی أنّهم رغم إشراقتهم الفکریة التی تستلزم عادة الحزم - خلاف العادات الیومیّة التی تسهل العمل - لا ینسون اللیونة والمرونة ویعاملون من یرافقهم فی تحقیق الأهداف الاجتماعیّة بالرفق والمحبّة علی ضوء المثل القائل:
«لا تَکُنْ حُلْواً فَتُسْتَرَطُ ولامُرّاٌ فَتُلْفَظُ».
والعبارة:
«وإِیماناً فِی یَقِین» تشیر إلی أنّ للإیمان درجات أعلاها درجة علم الیقین وحق الیقین التی تحصل أحیاناً عن طریق الاستدلالات القویة والمتینة، وأخری عن طریق الشهود من خلال ذلک السمّو.
قال الإمام الصادق علیه السلام:
«إنَّ الاْیمانَ أفْضَلُ مِنَ الإسْلامِ وإنَّ الْیَقینَ أفْضَلُ مِنَ الاْیمانِ وما مِنْ شَیء أعزُّ مِنَ الْیَقین»(2). نعم فقد بلغ المتقون هذه المرتبة السامیّة والنادرة.
والعبارة:
«حِرْصاً فِی عِلْم» رغم أنّ مفردة الحرص تحمل الجانب السلبی عادة لکنّها هنا تشیر إلی أنّهم بمنتهی الجدیة فی کسب العلم، ذلک لأنّه لا أصالة للتقوی ولا عمق دون العلم.
والعبارة:
«وعِلْماً فِی حِلْم» تشیر إلی أنّ العالم لا ینبغی أن یغضب وینفعل إزاء جهل الجاهلین بل ینفذ إلیه بحلمه بصورة تدریجیة فیزیل جهله.
ونقرأ مانقله المرحوم العلّامة المجلسی فی حدیث مفصّل حوار الإمام الصادق علیه السلام مع البصری الذی جاء إلی الإمام الصادق علیه السلام لتحصل العلم، فقال له فی شأن الحلم:
ص:428
«فَمَنْ قالَ لَکَ إنْ قُلْتَ واحِدَةً سَمِعْتَ عَشْراً فَقُلْ إنْ قُلْتَ عَشْراً لَمْ تَسْمَعْ واحِدَةً».
وقال بشأن العلم:
«فَأسْأَلِ الْعُلَماء ما جَهِلْتَ وإیّاکَ أنْ تَسْأَلَهُمْ تَعَنُّتاً وتَجْرِبَةً وإیّاکَ أنْ تَعْمَلَ بِرَأْیِکَ شَیْئاً»(1).
العبارة:
«قَصْداً فی غِنیً» إشارة إلی أنّهم إن أصبحوا أغنیاء وأثریاء لا یتخلون عن الإعتدال ویجتنبون الإسراف والتبذیر ویُعینون الفقراء بما لدیهم من أموال فائضة عن الحاجة.
والعبارة:
«وخُشُوعاً فِی عِبَادَة» إشارة إلی أنّ عبادتهم لیست سطحیّة جوفاء خالیة من الروح، بل تصدح عباداتهم بالخضوع والخشوع وحضور القلب الذی یمثّل روح العبادة فی أعمالهم العبادیة وکل صلاة من صلواتهم معراج للقرب الإلهی، ومن هنا قال القرآن الکریم فی وصفه للمؤمنین المفلحین: «الَّذِینَ هُمْ فِی صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ»(2).
والعبارة:
«تَجَمُّلاً فِی فَاقَة» التی تقابل فی الواقع
«قَصْداً فی غِنیً» إشارة إلی أنّ المتّقین ولا یشکون حین الفقر والفاقة.
وتفید مفردة
«تجمّل» أنّهم رغم فقرهم وعوزهم یحافظون علی ظاهرهم، کما یصفهم القرآن: «یَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِیَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ»(3).
والعبارة:
«صَبْراً فِی شِدَّة» تشیر إلی استقامتهم وصبرهم إزاء مکاره الدهر والحوادث الألیمة وکمصداق لقوله تعالی: «اِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِیبَةٌ قَالُوا إِنَّا اللّهِ وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ»(4).
حیث یرون أنفسهم راجعین إلی اللّه ودار الأمن والأمان والروح والریحان دون الإکتراث لهذه الدنیا فقد قال النّبی صلی الله علیه و آله:
«إنَّ الصَّبْرَ نِصْفُ الإیمانِ»(5). وقال:
ص:429
«الإیمانُ نِصْفانِ؛ نِصْفٌ فِی الصَّبْرِ ونِصْفٌ فِی الشُّکْرِ»(1).
والعبارة:
«طَلَباً فِی حَلاَل» تشیر إلی أنّ المتّقین لیسوا أفراداً متقوقعین ومعتزلین للأنشطة الحیویة، بل یسعون ویجدون من أجل المعاش والنهوض بالمجتمع الإسلامی الذی یشکل أحد أهدافهم الأساسیّة، مع هذا الفارق وهو أنّ أصحاب الدنیا لا یهتمون للحلال والحرام بینما یعیش هؤلاء هم الکسب الحلال ویهربون من العمل مهما کان دخله کثیراً إن شمّوا منه رائحة الحرمة، قال النّبی صلی الله علیه و آله:
«اَلْعِبادَةُ سَبْعُونَ جُزْءاً أفْضَلُها طَلَبُ الْحَلالِ»(2).
وقال تعالی: «یَا أَیُّهَا الرُّسُلُ کُلُوا مِنَ الطَّیِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً»(3). ویمکن أن تکون العبارة دلالة علی أنّ العمل الصالح ولید الغنی الحلال والطیب.
والعبارة:
«نَشَاطاً فِی هُدیً» تفید أنّ طی طریق الهدی بالنسبة لهؤلاء وخلافاً لما یعتقده الأفراد ضیقی الفکر وقلیلی المعرفة منطلقاً للنشاط والحیویة، فهم لا یکلّون قط من السیر علی هذا الدرب وسلوک هذا الطریق یضاعف من نشاطهم وفاعلیتهم.
المراد من العبارة
«وتَحَرُّجاً عَنْ طَمَع» أنّ المتّقین بعیدون کلّ البعد عن الطمع، الطمع نتیجة التعلق الشدید بالدنیا بسبب التوجه لغیر اللّه والذی یؤدّی إلی العدید من المفاسد ومنها أنّه أحد عناصر الذلّة والبغض والعداوة والحقد والحسد؛ فالطماع لا یشبع قط من مال الدنیا ویسعی للحصول علیه بالطرق والوسائل کافّة فهو فی الواقع یعیش أسر هذا القید علی الدوام کما قال الإمام علیه السلام فی إحدی کلماته القصار:
«الطَّمَعُ رِقُّ مُؤَبَّدٌ»(4).
ص:430
أضف إلی ذلک فالطمع یعطل الفکر والعقل ویعرض الإنسان للتذبذب والحیرة، کما قال علیه السلام فی إحدی کلماته القصار:
«أکْثَرُ مَصارِعِ الْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ الْمَطامِعِ»(1).
ثم تطرق علیه السلام إلی ثلاث صفات أخری من صفات المتّقین فقال:
«یَعْمَلُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وهُو عَلَی وَجَل(2). یُمْسِی وهَمُّهُ الشُّکْرُ، ویُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّکْرُ».
نعم! فلو أتی أولیاء اللّه بکلّ الأعمال الصالحة لظلوا یخشون عدم أدائهم حقّ العبودیة للّه والتقصیر فی إمتثال التکلیف، کما ورد فی الحدیث الشریف عن الحارث بن المغیرة أو أبیه، عن الإمام الصادق علیه السلام قال: قلت له: ما کان فی وصیّة لقمان؟ قال علیه السلام:
«کَانَ فِیها الأعاجِیب وَکانَ أَعجَبُ مَا کَانَ فِیها أنْ قَالَ لإبنِهِ: خِفِّ اللّهَ عَز وَجَلَّ خِیفَةً لَو جِئتَهُ بِبرّ الثّقَلَینِ لَعَذَّبَکَ، وَارجُ اللّهَ رجَاءً لَو جِئتَهُ بِذُبُوبِ الثّقَلَینِ لَرَحِمَکَ...»(3).
وللقرآن الکریم تعابیر مختلفة ورائعة بهذا الخصوص فی وصفه للسابقین فی الخیرات: «وَالَّذِینَ یُؤْتُونَ مَا أتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَی رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ»(4).
والعبارة:
«یُمْسِی وهَمُّهُ الشُّکْرُ، ویُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّکْرُ» إشارة إلی أنّ هؤلاء یبتدئون یومهم الذی یستانفون فیه العمل والنشاط باسم اللّه وفی آخر الیوم حیث انفتحوا علی تلک النعم الإلهیّة واستغلوها فی مرضات اللّه فیندفعون فی الحمد والشکر، بالضبط کالجلوس علی مائدة الطعام، فهم یشرعون بتناول الطعام باسم اللّه وینتهون بشکره حین یرفعون أیدیهم عن الطعام، رغم ما ذهب إلیه بعض الشرّاح(5) أنّ الاختلاف فی التعبیر من باب التنوع فی العبارة والمراد أنّهم ذاکرون وشاکرون فی الصباح والمساء وفی جمیع الأحوال، إلّاأنّ الأنسب ما ذکرناه.
وقد وردت عبارات عمیقة المعنی فی الآیات والروایات بشأن أهمیّة ذکر اللّه.
ص:431
فقد ورد فی الحدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:
«ثَلاثَةٌ مَعْصُومُونَ مِنْ إبْلیسَ وجُنُودِهِ:
الذّاکِرُونَ للّهِ، والْباکُونَ مِنْ خَشْیَةِ اللّهِ، والْمُسْتَغْفِرُونَ بِالأسْحارِ»(1).
کما وردت عدّة آیات وروایات فی الشکر منها: ما روی عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی غرر الحکم أنّه قال:
«شُکْرُ النِّعْمَةِ أَمانٌ مِنْ حُلُولِ النِّقْمَةِ»(2).
ثم أشار إلی صفتین مهمتین من صفات هؤلاء الأولیاء فقال:
«یَبِیتُ حَذِراً ویُصْبِحُ فَرِحاً؛ حَذِراً لَمَّا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ، وفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ والرَّحْمَةِ».
طبعاً لیس مفهوم العبارة تقسیم الوقت فی الخوف والرجا، فالخوف والرجاء راسخ فی قلوب المتّقین فی کلّ زمان، وعلی کلّ حال ولکن لما کان المتّقون یخلون إلی أنفسهم بعد نهایة یومهم للحساب یشعرون بالقلق إن کان بدر منهم زلة أو خطأ ومن هنا ورد الحث علی الاستغفار عند اللیل قبل النوم فقد روی عن الصادق علیه السلام أنّه قال:
«... مَنِ اسْتَغْفَرَاللّهَ حینَ یَأْوِی إلی فِراشِهِ مِائَةَ مَرَّة تَحاتَتْ ذُنُوبُهُ کَما یَسْقُطُ وَرَقُ الشَّجَرِ»(3).
ولما کان النهار انطلاقة فعالیة وأعمال صالحة جدیدة، الفعالیة التی ینبغی أن تستهل بالأمل والرجاء فقد أصبح تجلیاً لصفة الرجاء والأمل.
وللمفسرین عدّة أقوال بشأن الفارق بین الفضل والرحمة ذیل الآیة الشریفة: «قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ»(4) فقد ذهب البعض إلی أنّ الفضل الإلهی هو النعم الظاهریّة والمادیّة والرحمة النعم الباطنیّة والمعنویّة، بینما ذهب البعض الآخر إلی أنّ الفضل بدایة النعمة والرحمة دوامها، کما احتُمِلَ أن یکون الفضل إشارة إلی نعم اللّه العامّة علی جمیع الناس والرحمة إشارة إلی رحمته الخاصّة بالمؤمنین. وبالطبع لیس هنالک من تناقض فی هذه التفاسیر ویمکن الجمع بینها جمیعاً.
ص:432
ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی بیان صفة أخری من صفات المتّقین ذات الصلة بالتربیة وتهذیب النفس فقال:
«اِنِ اسْتَصْعَبَتْ(1) عَلَیْهِ نَفْسُهُ فِیمَا تَکْرَهُ لَمْ یُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِیمَا تُحِبُّ».
هذا فی الواقع أحد مراحل السلوک إلی اللّه والذی یصطلح علیه بمرحلة «المعاقبة» التی تأتی بعد مراحل «المشارطة» و «المراقبة» و «المحاسبة» أی یشترط علی نفسه منذ الصباح حین ینطلق فی یومه الجدید علی عدم مقارفة أی ذنب، ثم یعیش المراقبة طیلة یومه ومن ثم یتفرغ لیلاً لحساب ما أتی به من عمل فی النهار، فإنّ ظفر بمخالفة هب لمعاقبة نفسه کأن یمنع نفسه ما ترغب فیه، مثلاً یحرم نفسه من الطعام اللذیذ والفراش المریح والنوم الکافی وما شاکل ذلک لیؤدب نفسه الجامحة فتعیش طاعة اللّه فی الأیّام القادمة، وهذا البرنامج مؤثر وعملی لتهذیب النفس وبالطبع أنّ کلّ من داوم علیه سیلمس آثاره وبرکاته بعد مدّة لیست طویلة.
ثم أشار إلی أربع صفات مهمّة أخری فقال:
«قُرَّةُ عَیْنِهِ فِیمَا لَایَزُولُ، وزَهَادَتُهُ فِیمَا لَایَبْقَی، یَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ، والْقَوْلَ بِالْعَمَلِ».
والعبارة
«قُرَّةُ عَیْنِهِ» بالنظر إلی أنّ «قرّة» من مادة «قرّ» (علی وزن حرّ) تعنی فی الأصل البرودة والعرب تعتقد أنّ دموع الشوق باردة دائماً ودموع الحزن حارة ومحرقة، فإنّ هذه العبارة تقال حیث السرور والفرح، وعلیه فمفهوم العبارة المذکورة أنّ عین المتّقین مسرورة بعالم الآخرة، ذلک لأنّه عالم خالد ودائم، کما قال القرآن عن أصحاب الجنّة: «خَالِدِینَ فِیهَا مَا دَامَتِ السَّموَاتُ وَالأَرْضُ»(2) وقال أیضاً:
«فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِیَ لَهُمْ مِّنْ قُرَّةِ أَعْیُن جَزَاءً بِمَا کَانُوا یَعْمَلُونَ».(3) وبالنظر إلی أنّه وحسب ما ورد فی الأقسام السابقة من الخطبة فإنّ هؤلاء یرون بأعینهم فی هذه
ص:433
الدنیا الجنّة ونعمها، وتحصل لهم حالة السرور وقرة العیون، وبالعکس حیث ایقنوا أنّ الدنیا متقلبة فلم یتعلقوا بها قط، ومزجهم الحلم بالعلم والقول بالعمل کان من أهم نقاط قوّتهم، ذلک لأنّ العالم إن لم یکن حلیما إزاء جهل الجهّال تعذر علیه هدایتهم وإرشادهم وإن لم یقترن قوله بفعله لم یعد لکلامه من تأثیر، فقد قال الإمام الصادق علیه السلام:
«إنَّ الْعالِمَ إذا لَمْ یَعْمَلْ بِعِلْمِهِ زَلَّتْ مَوْعِظَتُهُ عَنِ الْقُلُوبِ کَما یَزِلُّ الْمَطَرُ عَنِ الصَّفا»(1).
***
ص:434
تَرَاهُ قَرِیباً أَمَلُهُ، قَلِیلاً زَلَلُهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً أَکْلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِیزاً دِینُهُ، مَیِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَکْظُوماً غَیْظُهُ. الْخَیرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، والشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ، إِنْ کَانَ فِی الْغَافِلِینَ کُتِبَ فِی الذَّاکِرِینَ، وإِنْ کانَ فی الذَّاکِرِینَ لَمْ یُکْتَبْ مِنَ الْغَافِلِینَ.
یَعْفُوعَمَّنْ ظَلَمَهُ، ویُعْطِی مَنْ حَرَمَهُ، ویَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، بَعِیداً فُحْشُهُ، لَیِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْکَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَیْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ. فِی الزَّلاَزِلِ وقُورٌ، وفِی الْمَکَارِهِ صَبُورٌ، وفِی الرَّخَاءِ شَکُورٌ. لَایَحِیفُ عَلَی مَنْ یُبْغِضُ، وَلَا یَأْثَمُ فِیمَنْ یُحِبُّ. یَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ یُشْهَدَ عَلَیْهِ، لاَ یُضِیعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلَا یَنْسَی مَا ذُکِّرَ، وَلَا یُنَابِزُ بِالاَْلْقَابِ، وَلَا یُضَارُّ بِالْجَارِ، وَلَا یَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ، وَلَا یَدْخُلُ فِی الْبَاطِلِ، وَلَا یَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ. إِنْ صَمَتَ لَمْ یَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وإِنْ ضَحِکَ لَمْ یَعْلُ صَوْتُهُ، وإِنْ بُغِیَ عَلَیْهِ صَبَرَ حَتَّی یَکُونَ اللّهُ هُوالَّذِی یَنْتَقِمُ لَهُ. نَفْسُهُ مِنْهُ فِی عَنَاء. والنَّاسُ مِنْهُ فِی رَاحَة. أَتْعَبَ نَفْسَهُ لاِخِرَتِهِ، وأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ. بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ ونَزَاهَةٌ، ودُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِینٌ ورَحْمَةٌ. لَیْسَ تَبَاعُدُهُ بِکِبْر وعَظَمَة، وَلَا دُنُوُّهُ بِمَکْر وخَدِیعَة.
تطرق الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی تسع من صفات المتّقین فقال:
ص:435
«تَرَاهُ قَرِیباً أَمَلُهُ، قَلِیلاً زَلَلُهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً(1) أَکْلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِیزاً(2) دِینُهُ، مَیِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَکْظُوماً(3) غَیْظُهُ».
فقد أشار الإمام علیه السلام فی هذه العبارة إلی قصر الأمل، لأنّ طول الأمل - کما ورد فی الروایات - ینسی الآخرة ونسیان الآخرة طامة کبری تفرز مختلف المعاصی والذنوب.
صحیح أنّ وجود الأمل لدی الإنسان مدعاة للحرکة والنشاط، کما جاء فی الحدیث النبوی الشریف:
«الأَمَلُ رَحْمَةٌ لاُِمَّتی ولَوْلا الأَمَلُ ما رَضَعَتْ والِدَةٌ وَلَدَها ولا غَرَسَ غارِسٌ شَجَراً»(4). ولکن إن تجاوز هذا الأمل الحد وتبدل إلی أمل طویل فإنّه یدفع جمیع قوی الإنسان وأفکاره نحوالدنیا وینسیه کلّ شیء، بل یتعذر حتی علی الإنسان فی ظلّ هذه الحالة أن یستثمر دنیاه.
وإننا لنری أنّ قلّة زلات المتّقین کونهم یبعدون أنفسهم عن مطبات الذنب وذکرهم الدائم للّه تبارک وتعالی. وخشوع قلوبهم نتیجة لعرفانهم باللّه، لأنّ الإنسان کلّما إزداد إدراکه لعظمة المعبود ازداد خضوعه له، وقناعة المتّقین معلولة لسعة افقهم إزاء النعم المادیّة للدنیا ومتاعها وزخرفها، وبما أنّهم یؤمنون بفنائها وزوالها فهم لا یجازفون فی السعی للحصول علیها فیقتنعون منها بذلک المقدار اللازم، وقلّة طعامهم لعلمهم بأنّ کثرة الأکل - وبغض النظر عمّا تفرزه من أنواع الأمراض - فإنّها تسلبهم حیویة العبادة ومناجاة اللّه، أضف إلی ذلک فإنّها تجعلهم یغفلون عن ذکر المعوزین من أهل الفاقة.
وجاء فی الحدیث عن الإمام علیه السلام فی غرر الحکم:
«مَنِ اقْتَصَدَ فی أکْلِهِ کَثُرَتْ صِحَّتُهُ وصَلُحَتْ فِکْرَتُهُ».
ص:436
العبارة:
«سَهْلاً أَمْرُهُ» إشارة إلی أنّه سهل لین فی أعماله الشخصیة، کما أنّه سهل المؤونة إزاء الناس، وأننا لنری بعض الأفراد الذین یعیشون حالة من التکلف القصوی بشأن سفر أو ضیافة ویزجون بأنفسهم فی أتون عذاب ألیم، أو یخوضون صراعاً قد یستغرق أشهراً وربّما سنوات تجاه الناس لانتزاع حقّ بسیط، والحال یعیش المتساهلون حیاة وادعة مریحة علی المستوی الشخصی إلی جانب الراحة فی علاقاتهم مع الآخرین.
العبارة:
«حَرِیزاً دِینُهُ» إشارة إلی أنّه یهتم قبل کلّ شیء بحفظ إیمانه وعقیدته ومبادئ دینه، ولا یضحی بها من أجل المال والمقام والشهوة.
والعبارة:
«مَیِّتَةً شَهْوَتُهُ» لا تعنی أنّهم یفتقرون إلی الشهوات، بل یسیطرون بعقولهم وإیمانهم علی تهذیب هذه الشهوة، وهوذات التعبیر الرائع الذی ساقه القرآن الکریم بشأن یوسف علیه السلام: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّءا بُرْهَانَ رَبِّهِ»(1).
وأمّا العبارة:
«مَکْظُوماً غَیْظُهُ» بعد الصفات السابقة إشارة إلی أنّ حفظ الدین وأداء الوظائف قد یؤدّی أحیاناً إلی ردود فعل طائشة من قبل بعض الجهّال والذی یثیر الغضب لدی المتّقین، لکنهم مسلّطون علی أنفسهم ویکظمون غیظهم.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه فأشار إلی أربع صفات من صفات المتّقین البارزة فقال:
«اَلْخَیْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، والشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ، إِنْ کانَ فِی الْغَافِلِینَ کُتِبَ فِی الذَّاکِرِینَ، وإِنْ کانَ فی الذَّاکِرِینَ لَمْ یُکْتَبْ مِنَ الْغَافِلِینَ».
ورد فی الحدیث عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:
«ألا أُنَبِّئُکُم لِمَ سُمِّیَ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِناً؟ لإیمانِهِ النّاسَ عَلی أنْفُسِهِمْ وأمْوالِهِمْ، ألا أُنَبِّئُکُمْ مَنِ الْمُسْلِمُ؟ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النّاسُ مِنْ یَدِهِ ولِسانِهِ»(2).
فإنّ کان هذا هو حال العادیین من المسلمین والمؤمنین، فمن الأولی أن یکون
ص:437
کذلک الوضع بالنسبة للمتّقین الذین یمثلون نخبة المؤمنین والمسلمین، فهؤلاء مصدر الخیرات والبرکات ولا یتلقی الناس منهم أی شرّ.
وجاء فی الحدیث النبوی الشریف:
«اِنَّ مَثَلَ الْمُؤمِنِ کَمَثَلِ النِّحْلَةِ إنْ صاحَبْتَهُ نَفَعَکَ وإنْ شاوَرْتَهُ نَفَعَکَ وإنْ جالَسْتَهُ نَفَعَکَ وکُلّ شَأْنِهِ مَنافِعُ وکَذلِکَ النِّحْلَة کُلّ شَأْنِها مَنافِع»(1).
قال بعض الأعلام: إنّ وجه المشابهة بین المؤمن والنحل حذق النحل وفطنته وقلّة أذاه ومنفعته وقناعته وسعیه فی النهار وتنزهه عن الاقذار وطیب أکله، وأنّه لا یأکل من کسب غیره(2) ، أضف إلی ذلک فإنّ النحلة تنتج الشهد العظیم الفائدة، بالإضافة إلی أنّ دورانها حول الأزهار یؤدّی إلی تلقیح مختلف أنواع النباتات، ناهیک عن لسعتها التی تعدّ وسیلة للدفاع عن نفسها من العدو ذات فائدة عظیمة فی علاج بعض الأمراض ومفردة الخیر والشر مفهوم غایة فی السعة تشمل الخیرات المادیّة والمعنویّة وجمیع الشرور المادیّة والمعنویّة کذلک.
والعبارة:
«اِنْ کَانَ فِی الْغَافِلِینَ کُتِبَ فِی الذَّاکِرینَ» إشارة إلی أنّه لا یتأثر حین یکون وسط بعض الغافلین من الأفراد فهو لا ینفک عن ذکر اللّه والیوم الآخر، کما لا یعیش حالة الغفلة حین یکون وسط الذاکرین.
ثم أشار علیه السلام إلی ثلاث صفات مهمّة أخری والتی تعدّ من کرامات المتّقین فقال:
«یَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، ویُعْطِی مَنْ حَرَمَهُ، ویَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ».
یردّ الإنسان بالمثل أحیاناً علی ما یواجهه من إساءات من الآخرین والتی غالباً ما تفرزها حالة الثأر والانتقام؛ ولکن لا تمارس أحیاناً مثل هذه المعاملة وهذا بالطبع الأسلوب الذی یطبع سیرة أولیاء اللّه والمتّقین، فهم یتجاوزون ویعفون عن ظلم الظلمة فی الوقت الذی یتمکنون فیه من الانتقام والرد بالمثل، وهذا بحد ذاته
ص:438
شجاعة لأنّه ینبع من موقع القوّة ولیس من قبیل الاستسلام تجاه الظلم، ویعتمد البذل والعطاء تجاه من حرمه ومنعه، وهذا دلیل علی جوده وکرمه.
وبالتالی فهو یمد ید المصالحة والسلام لمن یقاطعه ویشمله بعونه ونجدته وهذا شجاعة وکرم.
جاء فی الخبر المروی عن الإمام زین العابدین علیه السلام أنّه قال:
«إِذا کَانَ یَومَ القِیامَةِ نادی مُنادٍ أَینَ أَهلُ الفَضلَ؟ فَیَخرُجُ عُنقٌ مِنَ النّاسِ. فَتَسأَلُهُم المَلائِکَةُ: وَما کَانَ فَضلُکُم؟ فَیَقُولُونَ: «کُنّا نَصِلُ مَنْ قَطَعَنا ونُعْطی مَنْ حَرَمَنا ونَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَنا».
فَیقَولُونَ لَهُم: «صَدَقْتُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ»(1).
وقد أمرنا اللّه تعالی فی القرآن الکریم بصورة عامة وشاملة بهذا الخلق، حیث خاطب النّبی صلی الله علیه و آله قائلاً: «ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ السَّیِّئَةَ»(2).
ثم أشار الإمام علیه السلام فی عبارات قصیرة وعمیقة المعنی إلی ست صفات بارزة أخری فی المتّقین فقال:
«بَعِیداً فُحْشُهُ(3) ، لَیِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْکَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَیْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ».
والصفات الست التی یقابل کلّ زوج فیها الآخر وتفسر بعضها البعض الآخر تشیر إلی سلوکیات وتصرفات المتّقین الاجتماعیّة.
والعبارة:
«بَعِیداً فُحْشُهُ، لَیِّناً قَوْلُهُ» إشارة إلی أنّ معاملتهم لجمیع الناس تنطلق من اللسان الجمیل والکلمات المفعمة بالخیر والمحبّة ولیس فی أقوالهم وأعمالهم أی نوع من العنف والغلظة، فهم لیسوا بعیدین غایة البعد عن الفاحش من القول فحسب بل هم أبعد ما یکونون عن الفاحشین.
وقد ورد فی الروایة عن الإمام الصادق علیه السلام حین سئل عن حد حسن الخلق أنّه
ص:439
قال:
«أنْ تُلینَ جَناحَکَ، وتُطیبَ کَلامَکَ، وتَلقی أخاکَ بِبِشْر حَسَن»(1).
والعبارة:
«غَائِباً مُنْکَرُهُ» تشیر إلی انعدامه؛ أی لا یبدر منه أی منکر إزاء الآخرین.
ویحتمل أن یکون المراد أنّه لو بدرت منهم زلّة، فهی لیست بزلّة علنیّة علی الأقل لتلوث المجتمع.
والعبارة:
«حَاضِراً مَعْرُوفُهُ» إشارة إلی جمیع المحاسن التی یقرّها العقل والوجدان والشرع ولیست غریبة علیها (من مادة عرفان بمعنی المعرفة).
والمراد من
«مُقْبِلاً خَیْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ» أنّهم مندفعون علی الدوام فی الإتیان بأفعال الخیر، وإن کانت لهم من أعمال سیئة فی الماضی فهم یسعون إلی هجرانها والإبتعاد عنها.
ثم أشار إلی ثلاث من صفاتهم الحمیدة فقال:
«فِی الزَّلاَزِلِ(2) وَقُورٌ(3) ، وفِی الْمَکَارِهِ صَبُورٌ، وفِی الرَّخَاءِ شَکُورٌ».
والمراد من
«زلازل» الحوادث الألیمة والفتن العظیمة التی تهز القلوب. فالمتقون یربطون جأشهم إزاء هذه الخطوب ولا یفقدون معنویاتهم ویقفون إزاءَها کالجبل الأصم الذی لا تحرکه الریاح العاتیة،
«اَلْمُؤْمنُ أصْلَبُ مِنَ الْجَبَلِ»(4) فهم صامدون وهذا یدل علی أنّ التقوی لا تعنی الإعتزال عن المجتمع والخلود إلی الدعة والراحة، بل المتقون الحقیقیون هم أولئک الذین یتصدون للأحداث الصعبة ویسعون جاهدین وبکل شجاعة لإنقاذ أنفسهم ومجتمعاتهم ممّا یعصف بها من خطوب.
والصبر علی المکاره یمثل أحد فروع الصبر الذی یشمل کلّ مصیبة وحادثة ألیمة. فالمتقون ثابتون وصامدون فی هذا المیدان، ذلک لأنّ الجزع إزاء المصائب
ص:440
یقود الإنسان إلی المعصیة والسییء من القول من جهة، ومن جهة أخری یغلق علی الإنسان السبیل لمعالجة الموقف.
وشکرهم عند النعمة ناشیء من تواضعهم للّه والخلق، فهم لیسوا علی غرار المتکبرین الذین تنسیهم النعمة والمال والمقام والثروة کلّ شیء فیتمردون علی الخالق والمخلوق.
ثم أشار علیه السلام إلی ثلاث صفات أخری للمتّقین فقال:
«لَا یَحِیفُ(1) عَلَی مَنْ یُبْغِضُ، ولَا یَأْثَمُ فِیمَنْ یُحِبُّ. یَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ یُشْهَدَ عَلَیْهِ».
فهذه الصفات الثلاث تنطلق من روح المتّقین الداعیة إلی الحقّ والساعیة للعدالة، والعادل من ینصف حتی عدوه فی إیصال حقّه، کما قال تعالی فی القرآن: «وَلَا یَجْرِمَنَّکُمْ شَنئَانُ قَوْم عَلَی أَلاَّ تَعْدِلُوا»(2).
ولا یهب صحبه أکثر من حقهم بما یؤدّی لتضییع حقوق الآخرین، کما قال القرآن الکریم: «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوکَانَ ذَاقُرْبَی»(3).
وهذا هو سرّ اعترافهم بالحقّ قبل إقامة الشهود علیه، ذلک لأنّ الذین یسلمون إزاء الشهود لا یعتبرون ممن یسلم للحقّ، وإقامة الشهود هی التی اضطرتهم للتسلیم؛ أمّا من ینشد الحقّ والعدل فهوذلک الفرد الذی ینطلق إلی صاحب الحقّ لیعثر علیه ویؤدّی حقّه ویفک رقبته من ظلامة الآخرین، وعلی هذا الضوء لابدّ أن ینطلق المدین إلی الدائن ویفتش المؤتمن عن صاحب الأمانة، علی العکس ممّا تشهده المجتمعات المجانبة للتقوی.
نعم، فالمتقون من لا یقصرون فی أداء الحقوق ولیسوا بحاجة للقضاء والمحاکم کما أنّ العداوة والصداقة لا تخرجهم من حدود الحقّ والعدل.
ص:441
قال النّبی صلی الله علیه و آله:
«أَتْقَی النّاسِ مَنْ قالَ الْحَقَّ فیما لَهُ وعَلَیْهِ»(1).
ثم واصل علیه السلام کلامه لیشیر إلی سبع صفات بارزات أخری من صفات المتّقین بعبارات منسجمة فقال:
«لَا یُضِیعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلَا یَنْسَی مَا ذُکِّرَ، وَلَا یُنَابِزُ(2) بِالاَْلْقَابِ، وَلَا یُضَارُّ بِالْجَارِ، وَلَا یَشْمَتُ(3) بِالْمَصَائِبِ، وَلَا یَدْخُلُ فِی الْبَاطِلِ، وَلَا یَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ».
للعبارة:
«لَا یُضِیعُ مَا اسْتُحْفِظَ» معنی واسع یشمل جمیع الأمانات الإلهیّة والاجتماعیّة، من الصلاة التی قال فیها القرآن: «وَالَّذِینَ هُمْ عَلَی صَلَوَاتِهِمْ یُحَافِظُونَ»(4). حیث یحافظون علیها من خلال أدائها بإخلاص بعیداً عن السمعة والریاء، وکذلک سائر الأمانات، کالقرآن الکریم وأحکام الشریعة والأولاد الذین وهبهم إیّاهم اللّه تعالی ومختلف الأمانات التی یأتمنهم علیها الآخرون، فهم یسعون حثیثاً للحفاظ علیها ولا یفرطون بها بسبب التساهل والغفلة والتقصیر.
العبارة:
«لَا یَنْسَی مَا ذُکِّرَ» إشارة إلی جمیع ما یذکر به من الأمور المفیدة من جانب اللّه تعالی وأولیاء اللّه والمخلصین من الأساتذة والمعلمین والأصحاب والأصدقاء، فهؤلاء لیسوا من أهل النسیان الذین یتغاضون عن دروس الهدی والحقّ ولا یلتزمون بها، وإذا ما اعتراهم شیء من وساوس الشیطان تذکروا اللّه وإرشادات أولیائه فیعودون إلی رشدهم وهداهم، قال اللّه تعالی فی القرآن: «اِنَّ الَّذِینَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّیْطَانِ تَذَکَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ»(5).
والعبارة:
«وَلَا یُنَابِزُ بِالاَْلْقَابِ» إشارة لما ورد فی القرآن الکریم: «وَلاَ تَنَابَزُوا
ص:442
بِالاَْلْقَابِ»(1). لأنّ ذکر هذه الألقاب یؤجج فی القلوب نیران العداوة والبغضاء فیضطر الطرف المقابل إلی ممارسة ردود الأفعال الطائشة، الأمر الذی یلوث أجواء المجتمع ویحطم شخصیة الأفراد.
وعدم أذی الجار والشماتة بالمصائب التی وردت بعد مسألة التنابز بالألقاب تشیر إلی رعایتهم للحقوق الاجتماعیّة واحترام الآخرین فی الجوانب کافّة. وقد ورد الحث علی رعایة حقوق الجار فی القرآن الکریم وأحادیث النّبی صلی الله علیه و آله وروایات الأئمّة المعصومین علیهم السلام فقد روی عن أمیر المؤمنین علی علیه السلام أنّه قال:
«اللّهَ اللّهَ فی جیرانِکُمْ فَإنَّهُمْ وَصیَّةُ نَبِیِّکُمْ ما زالَ یُوصی بِهِمْ حَتّی ظَنَّنا أَنَّهُ سَیُورِّثُهُمْ»(2).
من جانب آخر فإننا نعلم أنّ من أصابته مصیبة فهو کالإنسان المجروح المحتاج إلی مَن یخفف عنه ویطبب جرحه، والشماتة هنا کذر الملح علی جروحه، ولیس هنالک من إنسان حی یسمح لنفسه أن یقوم بهذا العمل. قال الإمام الصادق علیه السلام:
«مَنْ شَمَتَ بِمُصیبَة نَزلَتْ بِأَخیهِ لَمْ یَخْرُجْ مِنَ الدُّنْیا حَتّی یُفْتَتَنَ»(3).
وآخر الصفات التی وردت فی العبارة المذکورة عدم دخول المتّقین فی الباطل وخروجهم من دائرة الحقّ والتی تنطوی علی معانٍ عمیقة جدّاً، یأبی المتقی - علی ضوء ما ذکر - الدخول فی الأفکار الباطلة والتصرفات الباطلة والخوض فی الأقوال الباطلة ولا یتبع سوی الحقّ المطلق ولا یحید عنه فی مطلقاً وأینما کان وتجاه کلّ شخص وازاء کلّ عمل.
ثم أشار علیه السلام إلی ثلاث صفات أخری من صفاتهم فقال:
«اِنْ صَمَتَ لَمْ یَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وإِنْ ضَحِکَ لَمْ یَعْلُ صَوْتُهُ، وإِنْ بُغِیَ عَلَیْهِ صَبَرَ حَتَّی یَکُونَ اللّهُ هُوالَّذِی یَنْتَقِمُ لَهُ».
فالمتقی لا یغتم فی سکوته، مع أنّ السکوت فی أغلب الأحیان یؤدّی إلی حالة
ص:443
من الکآبة والحزن، ذلک لأنّ السکوت أساس نجاة اللسان من أغلب الآفات، بالإضافة إلی کونه یدعو إلی التفکر فی أمور الدین والدنیا، جاء فی الحدیث النبوی الشریف:
«طُوبی لِمَنْ... أنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مالِهِ وأمْسَکَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ»(1).
کما أنّ المتقی لا یضحک بصوت عال ویقهقه فی ضحکه، لأنّ القهقهة من عادات الأثریاء المغرورین والأفراد الفارغین، قال أمیرالمؤمنین علیه السلام فی غرر الحکم:
«خَیْرُ الضَّحِکِ التَّبَسُّمُ».
والعبارة:
«وإِنْ بُغِیَ عَلَیْهِ...» إشارة إلی أنّه أحیاناً قد یمارس بعض الأصدقاء والقرابة وربّما حتی الاخوة ظلماً بحقّ الإنسان بحیث لوهب للإنتقام لنشبت نزاعات مستمرة قد تنتهی إلی ما لا یحمد عقباه، فإنّ إعتمد الإنسان فی ظلّ هذه الظروف التحمل واستیعاب الآخر وسلم الطرف المقابل للّه یکون قد أنقذ نفسه من الوساوس الشیطانیّة الخطیرة، کما یکون قد حافظ علی حالة الهدوء والاستقرار فی المجتمع، طبعاً لیس المراد من هذا الکلام العدوالغادر والقاسی، ذلک لأنّ مثل هذا التحمل والسکوت یدعوه لمزید من الظلم والطغیان.
ثم أشارالإمام علیه السلام إلی أربع صفات أخری تکمل کلّ واحدة منها الأخری فقال:
«نَفْسُهُ مِنْهُ فِی عَنَاء. والنَّاسُ مِنْهُ فِی رَاحَة». أی أنّه یتحمل المزید من العناء بغیة استقرار المجتمع، مثلاً لو ظهرت بعض المشاکل فی المجتمع جهد نفسه وتحمل بعض المشاق لحل تلک المشکلات بغیة إراحة المجتمع فالواقع أنّ هذا نوع من الإیثار والتضحیة یعمد بموجبه الإنسان إلی تحمل بعض المشاکل الاجتماعیّة من أجل راحة خلق اللّه.
وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ العبارة الثالثة والرابعة
«أَتْعَبَ نَفْسَهُ...» بمثابة الدلیل علی العبارتین السابقتین؛ أی إن کانت نفسه فی عناء من جانبه فذلک لأنّه یسعی دائماً للاستعداد والتزود للدار الآخرة، وإن کان الناس منه فی راحة
ص:444
فذلک لأنّه قرر ذلک.
کما یحتمل أن تکون العبارتان واردتین بشأن مسألة أخری، فالعبارتان السابقتان إشارة إلی الأمور المادیّة، وهاتان العبارتان إشارة للأمور المعنویّة.
قال الإمام علیه السلام:
«مَنْ عَمَّرَ دارَ إِقامَتِهِ فَهُوَ العاقِلُ»(1). وقال تعالی: «وَإِنَّ الاْخِرَةَ هِیَ دَارُ الْقَرَارِ»(2).
ثم اختتم الإمام علیه السلام الخطبة بأربع صفات أخری من الصفات البارزة للمتّقین الاختتام الذی ربّما لم یکن آخر الخطبة لولا تلک الحادثة التی وقعت لهمام ولعله أشار لمطالب مهمّة أخری بهذا الشأن) فقال:
«أَتْعَبَ نَفْسَهُ لاِخِرَتِهِ، وأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ. بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ ونَزَاهَةٌ؛ ودُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِینٌ ورَحْمَةٌ، لَیْسَ تَبَاعُدُهُ بِکِبْر وعَظَمَة، وَلَا دُنُوُّهُ بِمَکْر وخَدِیعَة».
فقد أشار الإمام علیه السلام فی ذکره لهذه الصفات إلی نقطة مهمّة وهی: أنّ المتّقین فی صِلاتهم الاجتماعیّة وتعاملهم مع الأصدقاء والأعداء واقامتهم للعلاقات أو قطعها مع هذا أو ذاک وبالتالی التعامل مع جمیع الأمور إنّما ینشدون أهدافاً مقدّسة؛ فإن بعدوا عن شخص فإنّما ذلک بسبب تلوثه بالمعاصی أو أنّ الاقتراب منه یجعلهم عرضة للافتتان بزخارف الدنیا التی ابتلی بها هذا الفرد، وبالطبع فإنّ اقترابهم من الأفراد یستند إلی دورهم فی هدایة الجهّال وتنبیه الغافل ومساعدة الضعیف والفقیر، أمّا أصحاب الدنیا فإنّما یبتعدون عن هذا الفرد أو ذاک بسبب کبرهم وغرورهم ویقتربون من هذا أو ذاک بغیة تحقیق مصالحهم المادیّة والخداع والتضلیل.
صرّح الراوی بعد نهایة الخطبة التی ذکرها الإمام علیه السلام حین بلغ هذا الموضع من
ص:445
الخطبة
«قَالَ: فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً کانَتْ نَفْسُهُ فِیهَا».
«فَقَالَ أَمِیرُالْمُؤْمِنِینَ علیه السلام: أَمَا واللّهِ لَقَدْ کُنْتُ أَخَافُهَا عَلَیْهِ. ثُمَّ قَالَ: أَهکَذَا(1) تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا».
«فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُکَ یَا أَمِیرَالْمُؤْمِنِینَ!».
«فَقَالَ علیه السلام: وَیْحَکَ، إِنَّ لِکُلِّ أَجَل وَقْتاً لَایَعْدُوهُ، وسَبَباً لَایَتَجَاوَزُهُ».
ثم أضاف الإمام علیه السلام:
«فَمَهْلاً! لَاتَعُدْ لِمِثْلِهَا، فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّیْطَانُ عَلَی لِسَانِکَ!».
وهنا یرد هذا السؤال: لم کانت عاقبة همام تلک الصعقة بینما لم تحدّث للإمام علیه السلام الذی ساق هذا الکلام؟
لابدّ من الإلتفات فی الجواب عن هذا السؤال إلی نقطة مهمّة وهی أنّ همام وإن کان رجلاً عابداً وزاهداً کما ورد فی مستهل الخطبة
«کانَ رَجُلا عابِداً» وقلبه یفیض حکمة ومعرفة وروحه مفعمة بالصفاء والنقاء (کما یتجلی ذلک من سؤاله) ولکن مهما کانت روحه سامیّة لا یمکن مقارنتها بروح أمیر المؤمنین علیه السلام التی تمثّل بحراً من السمّو والکمال، ومن هنا لم یسع قلب همام تحمل کلّ تلک المفاهیم والمعارف، وهل یمکن سکب البحر فی جدول صغیر؟ وعلیه فلیس من العجب أن یصعق همام صعقة تکون نفسه فیها ویفارق الدنیا.
فقد ورد فی القرآن الکریم بشأن قصة موسی وبنی اسرائیل وتجلی النور الإلهی للجبل: «فَلَمَّا تَجَلَّی رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَکّاً وَخَرَّ مُوسَی صَعِقاً»(2).
فلم یقتصر الأمر علی عدم تحمل موسی، بل إنهار ذلک الجبل بعظمته.
نعم! فالمواعظ التی تنطلق من القلب تستقر هکذا فی القلب، والمهم أن یکون الإنسان من ذوی
«الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ» وإلّا فالعتاة من الأفراد من ذوی القلوب
ص:446
القاسیة والملوثة والواقعة فی شباک الشیطان لا تمتلک الآذان الصاغیة لسماع المواعظ ولا القلب الوادع لاستیعابها.
بعبارة أخری أنّ همام وإن کان متّقیاً عالی الهمّة، لکنه لم یر فی نفسه ذلک السمّو الذی بیّنه الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة، فاشتعلت فی أعماقه نیران الحسرة وصعقت نفسه کمداً.
ویشهد التاریخ الإسلامی علی وجود العدید من هذه النماذج من الآثمین أحیاناً الذین عادوا إلی رشدهم وعدد من المتّقین الذین سمعوا مثل هذه المواعظ فلم یتحملوها وفارقوا الحیاة(1).
وهنالک احتمال ثالث وهو أنّ همام لما سمع البشائر التی ذکرها أمیرالمؤمنین علیه السلام للمتّقین حلقت روحه شوقاً إلی دیار المعبود لتعانق الجنان.
وجاء فی الخبر أنّ «ربیع بن الخُثَیم» کان فی ذلک المجلس فلما صعق همام جرت دموعه علی خدیه وقال لأمیر المؤمنین علیه السلام ما أسرع أثر وعظک فی ابن أخی لیتنی کنت مکانه، فقال علیه السلام:
«هکَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا!»(2).
والجواب عن السؤال الثانی هو ما ذکره الإمام علیه السلام أنّ لکلّ إنسان أجلاً فلا یفارق الدنیا حتی یحلّ أجله، ولکن حین حلول الأجل یمکن أن یکون العامل النهائی بعض الأمور المختلفة، والعامل النهائی هنا العبارات العمیقة لأمیر المؤمنین علیه السلام، أضف إلی ذلک لا یمکن مقارنة روح الإمام علیه السلام بروح همام، فروح الإمام بحر متلاطم من الأمواج ولیس من قبیل البرکة التی تتغیر أوضاعها بفعل التلاطم الشدید للمیاه.
ویتّضح ممّا تقدم جواب السؤال الثالث وهو لِمَ قبل الإمام علیه السلام طلب همام وبین له تلک المواعظ الشافیة والکافیة والسامیّة، بینما قال علیه السلام کنت أخشی علیه هذه
ص:447
الحادثة؟! لأنّ العامل النهائی حین حلّ أجله یمکن أن یکون تغییراً لمختلف أجهزة البدن أو الأمواج المعنویّة العاتیة داخل الروح.
أمّا قول الإمام علیه السلام للمعترض: (لا تعدّ لمثلها فإنّما نفث الشیطان علی لسانک) فذلک لأنّه لم یطرح السؤال بغیة التحقیق لفهم الموضوع بل کان هدفه نقض کلام الإمام علیه السلام وبعبارة أخری إبطاله حسبما یظن، والحقّ أنّ سؤالاً بهذا الشکل ولأجل هذا الهدف لهو سؤال شیطانی.
هذه الخطبة فی الواقع دورة متکاملة فی الأخلاق الإسلامیّة التی تسلط الضوء علی جمیع زوایا الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة والمادیّة والمعنویّة للإنسان، کما أنّها نظام متکامل لأولئک الذین یرومون السیر والسلوک إلی اللّه.
فقد بیّنت صفات المتّقین بأسلوب بدیع خلال أکثر من مائة وعشر صفات (وکأنّه علیه السلام اختار العدد الذی یمثل اسمه المبارک) فانطلق بها من إصلاح اللسان واختتمها بالتدین الاجتماعی واحترام حقوق الآخرین، فهنالک بعض الأفراد الذین ینسحبون من المیدان منذ الخطوة الأُولی أثر ضعف إیمانهم وخواء إرادتهم، لکن غیرهم من الأفراد مثل همام وباجتیازه لهذه الخصال یحث الخطی للقاء المعبود.
ومن المزایا التی تتصف بها هذه الخطبة أنّها تنتشل التقوی من صیغتها السلبیّة التی تراود أذهان البعض وتعرضها بصیغتها الإیجابیّة کما وردت فی الآیات القرآنیّة والروایات الإسلامیّة.
وهذه الخطبة لا تقول لک علیک باعتزال عن المجتمع والانقطاع عن کلّ شیء فی الدنیا لتبقی محافظاً علی طهرک، بل ترشد إلی الإندکاک فی وسط المجتمع ووسط الأمواج العاتیة لحیاة أصحاب الدنیا بحیث لا یترک ذلک بصماته السیئة علیک، علی
ص:448
غرار الإنسان القوی البنیة الذی یبقی محافظاً علی سلامته وسط المرضی ویقاوم کافّة المیکروبات والجراثیم.
وقد صنف المرحوم العلّامة الشهید المطهری التقوی إلی قسمین فی کتابه (عشر مقالات): تقوی الضعف وتقوی القوّة، وقال عن تقوی الضعف: إنّ الإنسان وبغیة صون نفسه من المعاصی یهرب من أسبابها، وتقوة القوّة: أن یخلق فی روحه قوّة وقدرة بحیث تمنحه حصانة روحیة وأخلاقیّة.
ویضیف: یشاهد فی أدابنا الشعریّة والنثریّة بعض التعلیمات التی تعکس التقوی بصورتها الأُولی والتی ینبغی التعامل معها بحذر، ثم یتطرق إلی شرح تقوی القوّة ویقول: «إنّ التقوی فی النصوص الدینیّة سیما نهج البلاغة تعنی تلک الملکة المقدّسة التی تمد الروح بالقوّة والإقتدار وتلجم النفس الأمّارة وتکبح جماح العواطف الجامحة»(1).
نعم فالتقوقع والإعتزال لا یعدّ فخراً، والفخر إنّما یحقّ لیوسف علیه السلام الذی صان نفسه عن تلک الرغبات الجنسیة الشدیدة وحفظ نفسه من الفحشاء ببرهان ربّه وذلک مثّل التقوی فی أعلی مستویاتها.
طبعاً لا ننکر أنّ البعض لم یبلغ هذه المرحلة من التقوی (تقوی القوّة)، وما أکثر من یضطر لانتخاب الصنف الأوّل (تقوی الضعف).
***
ص:449
ص:450
یَصِفُ فیهَا الْمُنافِقِینَ (1)
الخطبة کما یبدو من عنوانها فی المنافقین حیث تتحدث عن صفاتهم وتتکون من قسمین:
القسم الأوّل: یبتدئ بحمد اللّه والثناء علیه والشهادة بالرسالة للنبی صلی الله علیه و آله وترکزت خاتمته علی المحن العظیمة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله وما حاکه المنافقون وخصوم الدعوة الإسلامیّة ضده من مؤامرات خطیرة، وحیث تواصل خط النفاق واشتد بعد النّبی صلی الله علیه و آله علی عهد الإمام علیه السلام فقد حذر علیه السلام فی القسم الثانی من الخطبة من خطورة المنافقین وذکر بالأدلة والبراهین للمجتمع الإسلامی خصائصهم الواحدة تلو الأخری لیتعرف علیهم جمیع المسلمین ویقبروا مؤامراتهم فی مهدها.
***
ص:451
ص:452
نَحْمَدُهُ عَلَی مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَذَادَ عَنْهُ مِنَ الْمَعْصِیَةِ، ونَسْأَلُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً، وبِحَبْلِهِ اعْتِصَاماً. ونَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، خَاضَ إِلَی رِضْوَانِ اللّهِ کُلَّ غَمْرَة، وتَجَرَّعَ فِیهِ کُلَّ غُصَّة. وقَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الأَدْنَوْنَ، وتَأَلَّبَ عَلَیْهِ الأَقْصَوْنَ، وخَلَعَتْ إِلَیْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا، وضَرَبَتْ إِلی مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا، حَتَّی أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَها، مِنْ أَبْعَدِ الدَّارِ، وأَسْحَقِ الْمَزَارِ.
استهل الإمام علیه السلام هذه الخطبة کسائر الخطب بحمد اللّه والثناء علیه والشهادة للنبی صلی الله علیه و آله بالرسالة، وقرن الحمد والثناء هنا بالتضرع والدعاء فقال:
«نَحْمَدُهُ عَلَی مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَذَادَ(1) عَنْهُ مِنَ الْمَعْصِیَةِ، ونَسْأَلُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً، وبِحَبْلِهِ اعْتِصَاماً».
ولما کان أعظم فخر للإنسان هو التوفیق للطاعة وترک المعصیة، فقد رکز الإمام علیه السلام هنا علی هاتین النقطتین، والمراد من التوفیق هنا توفیر أسباب الطاعة وترک المعصیة، ذلک لأنّ اللّه أفاض علینا العقل والفطنة والضمیر الحی وبعث الأنبیاء والرسل وأنزل الکتب السماویة التی تقرّبنا جمیعاً من الطاعة وتبعدنا عن المعصیة، ولولا هذه الأسباب لغرقنا فی مستنقع المعصیة، وعلیه یجدر بنا حمد اللّه وشکره علی الدوام علی هذه النعم العظیمة.
أمّا الدعاء الذی ذکره الإمام علیه السلام فی عبارتین عقب هذا الحمد والثناء؛ فهو یتعلق
ص:453
بطلب إکمال هذه النعم والتوفیق للاعتصام بحبل اللّه، والمراد منه دین اللّه کما یفهم من الآیة الشریفة: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَلَا تَفَرَّقُوا»(1).
أو المراد القرآن الکریم کما یستفاد من حدیث الثقلین حیث قوله:
«کِتابَ اللّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَالسَّماءِ الَی الأَرْضِ»(2) أو المراد کلاهما حیث لیس هنالک من فارق بینهما.
الحقّ سنصبح أسعد الناس إن شملنا هذا التوفیق الإلهی بحیث تتمّ نعمه علینا ویقوی تمسکنا بحبل اللّه.
وقد طرح بعض شرّاح نهج البلاغة إشکالاً مفاده: کیف یطلب الإمام علیه السلام إتمام النعمة، بینما صرّح القرآن الکریم قائلاً: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لَاتُحْصُوهَا»(3) فی إشارة إلی أنّ نعم اللّه خارجة عن حدود العد والإحصاء؟
ولکن ما ینبغی الإلتفات إلیه هو أنّ لإتمام النعم مراحل ودرجات؛ فإن تعذر علی الإنسان بلوغ المرحلة النهائیّة فإنّه یستطیع الوصول إلی سائر مراحلها الأخری وهذا ما سأله الإمام علیه السلام اللّه تبارک وتعالی.
ثم شهد علیه السلام بنبوّة النّبی صلی الله علیه و آله بذکر بعض الصفات البارزة من صفاته فقال:
«ونَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، خَاضَ إِلَی رِضْوَانِاللّهِ کُلَّغَمْرَة(4) ، وتَجَرَّعَ فِیهِ کُلَّغُصَّة(5)».
وهاتان الصفتان التی بینهما الإمام علیه السلام بشأن النّبی صلی الله علیه و آله جامعتان لکلّ صفات الخیر؛ فالوقوف بوجه المحن والجلد علی المصائب مالم یقترن بتلک المقاومة والتحمل فإنّه لن یتمخض عن تبلور الأعمال ذات الأهمیّة.
وتشیر العبارة:
«تَجَرَّعَ فِیهِ کُلَّ غُصَّة» إلی أنّ المحن والخطوب التی تحملها رسول اللّه صلی الله علیه و آله لم تکن واحدة أو اثنتین بل کان یتجرعها الواحدة تلو الأخری.
ص:454
فقد تحمل من أعداء الإسلام أشد المصاعب، صابراً حیث زرعوا طریقه بالأشواک والعقبات، لکنه تخطاها جمیعاً، وهذا بحد ذاته درس لجمیع الأفراد الذین یرومون مواجهة الطاغوت وإصلاح مجتمعهم.
ثم بین الإمام علیه السلام جانباً من بعض المصائب العظیمة التی واجهها النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله إبان الدعوة إلی اللّه بعبارات قصیرة وعمیقة المعنی فقال:
«وقَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الأَدْنَوْنَ(1) ، وتَأَلَّبَ(2) عَلَیْهِ الأَقْصَوْنَ، وخَلَعَتْ إِلَیْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا(3) ، وضَرَبَتْ إِلی مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا(4) ، حَتَّی أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَها، مِنْ أَبْعَدِ الدَّارِ، وأَسْحَقِ(5) الْمَزَارِ».
والعبارة:
«تَلَوَّنَ لَهُ الأَدْنَوْنَ» إشارة إلی أنّ البعض من قرابة النّبی صلی الله علیه و آله کالعباس الذی کان یرغب فی دعمه وإسناده لم یکن جاداً بهذا الخصوص.
والعبارة:
«تَأَلَّبَ عَلَیْهِ الأَقْصَوْنَ» إشارة إلی سائر القبائل البعیدة عن قریش والتی اتّحدت مع بعضها وألّبت سائر القبائل للوقوف بوجه النّبی صلی الله علیه و آله ودعوته بحیث لم یکن یجرأ أحد من قرابته للدفاع عنه بشجاعة فی ظلّ تلک الظروف کما کانت وتیرة العداء تتصاعد بالشکل الذی یصعب معه مواجهتها.
والعبارة:
«خَلَعَتْ إِلَیْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا، وضَرَبَتْ إِلی مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا» إشارة إلی سرعة وجدّیة الخصوم فی معاداته صلی الله علیه و آله، ذلک لأنّهم حین یریدون للراحلة أن تسیر بسرعة یسلسون قیادها ویضربون بطنها واضلاعها. والتاریخ الإسلامی بکلّ فصوله وصفحاته لیشهد علی هذه الحقیقة، حیث إنّ الأعداء لم یتورعوا عن القیام بأی فعل کانوا یعتقدون أنّ من شأنه القضاء علی الإسلام والنّبی صلی الله علیه و آله والدعوة؛ لکن اللّه أراد لهذا النور أن یتمّ ولا یطفأ وأن یزداد إشراقاً یوماً بعد آخر، وفقد أفشل
ص:455
خططهم واطفأ بمطر لطفه ورحمته نیران فتنهم ومؤامراتهم فخرج النّبی صلی الله علیه و آله من هذه الأحداث الخطیرة منتصراً مرقوع الرأس وبسط نفوذ الإسلام ونشر رایاته فی غرب العالم وشرقه.
ولکن حیث کان للمنافقین فی الداخل - أولئک الذین أظهروا إسلامهم وإلتحقوا ظاهریاً برکب المسلمین بینما کانت قلوبهم مع الأعداء وتختزن البغض والعداء - دور مهم وخطیر تواصل حتی عهد الإمام علیه السلام وتغلغل بین صفوف المسلمین، فقد حذّر المسلمین تحذیرات جدّیة بشأن خط النفاق وشرح - کما سیاتی - فی القسم القادم خصائص المنافقین وأخطارهم وسلط ابن أبی الحدید الضوء هنا علی المخاطر والصعوبات التی تخطاها رسول اللّه إبان الدعوة وقال:
«من قرأ وکتب السیرة علم ما لاقی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی ذات اللّه من المشقةّ واستهزاء قریش به فی أول الدعوة ورمیهم إیّاه بالحجارة حتی أدموا عقبیه وصیاح الصبیان به وفرث الکرش علی رأسه وفتل الثوب فی عنقه وحصره وحصر أهله فی شعب بنی هاشم سنین عدّة محرمة معاملتهم ومبایعتهم ومناکحتهم وکلامهم حتی کادوا یموتون جوعاً لولا أنّ بعضاً ممن کان یحنو لرحم أو لسبب غیره فهو یسرق الشیء القلیل من الدقیق أو التمر فیلقیه إلیهم لیلاً، ثم ضربهم أصحابه وتعذیبهم بالجوع والوثاق فی الشمس وطردهم إیّاهم عن شعاب مکة حتی خرج من خرج منهم إلی الحبشة وخرج علیه السلام مستجیراً منهم تارة بثقیف وتارة ببنی عامر وتارة بربیعة الفرس وبغیرهم، ثم اجمعوا علی قتله والفتک به لیلاً حتی هرب منهم لائذاً بالأوس والخزرج تارکاً أهله وأولاده حتی وصل المدینة فناصبوه الحرب ولم یزل منهم فی عناء شدید وحروب متصلة حتی أکرمه اللّه تعالی ونصره وادّی دینه، ومن له أنس بالتواریخ یعلم من تفاصیل هذه الأحوال ما یطول شرحه»(1). (هذه هی الأمور التی أشار إلیها الإمام علیه السلام فی هذه العبارات القصیرة والعمیقة المعنی).
ص:456
أُوصِیکُمْ عِبَادَ اللّهِ بِتَقْوَی اللّهِ، وأُحَذِّرُکُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، والزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ، یَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً، ویَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً، ویَعْمِدُونَکُمْ بِکُلِّ عِمَاد، ویَرْصُدُونَکُمْ بِکُلِّ مِرْصَاد. قُلُوبُهُمْ دَوِیَّةٌ، وصِفَاحُهُمْ نَقِیَّةٌ. یَمْشُونَ الْخَفَاءَ، ویَدِبُّونَ الضَّرَاءَ. وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ، وفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَیَاءُ. حَسَدَةُ الرَّخَاءِ، ومُؤَکِّدُوالْبَلاَءِ، ومُقْنِطُوالرَّجَاءِ.
لَهُمْ بِکُلِّ طَرِیق صَرِیعٌ، وإِلَی کُلِّ قَلْب شَفِیعٌ، ولِکُلِّ شَجْودُمُوعٌ. یَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ، ویَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا، وإِنْ عَذَلُوا کَشَفُوا، وإِنْ حَکَمُوا أَسْرَفُوا.
کما ذکرنا فی آخر القسم السابق فإنّ الإمام علیه السلام أشار هنا إلی صفات المنافقین لیحذر المسلمین من خطرهم فذکر أوصافهم بمنتهی الدقّة بحیث یعجز غیره بالخوض فی صفات المنافقین بهذا العمق والدقّة.
واستهل کلامه بست من صفاتهم فقال:
«أُوصِیکُمْ عِبَادَ اللّهِ بِتَقْوَی اللّهِ، وأُحَذِّرُکُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، والزَّالُّونَ(1) الْمُزِلُّونَ، یَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً، ویَفْتَنُّونَ(2) افْتِنَاناً».
ص:457
فالصفة الأُولی التی ذکرها الإمام علیه السلام للمنافقین تتمثل فی ضلالهم؛ لیس ضلالهم فحسب بل إصرارهم علی إضلال وإغواء الآخرین، أضف إلی ذلک فهم خاطئون یسعون إلی قذف الآخرین فی لهوات الخطأ والزلل.
ویبدو الفارق بین الضالّین والزالّین واضحاً، فالأولی: إشارة إلی السیر عن عمد وعلم فی طریق الضلال والغوایة، وتشیر الثانیة إلی کثرة زلاتهم وأخطائهم.
نعم! فزلاتهم جمة کثیرة وکیف لا تکون کذلک ولم یستضیئوا بنور العلم والإیمان.
وبغض النظر عن هذه الخصال الذمیمة الأربع فهم أفراد متلونون یخرجون کلّ یوم بلون معین ویلبسون شکلاً آخر فی کلّ زمان لیحققوا أغراضهم الدنیئة من خلال ذلک فإذا کانوا بین المصلّین وقفوا للصلاة، وإن خالطوا أهل الخمور والفجور انغمسوا فی تعاطیها، بالضبط کما وصفهم القرآن: «وَإِذَا لَقُوا الَّذِینَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَی شَیَاطِینِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَکُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ»(1).
وربّما یکون الفارق بین
«یتلّونون» و «یفتنون» أنّ الأُولی تشیر إلی جوانبهم وأبعادهم الظاهریّة حیث یکتسبون کلّ یوم لوناً، والثانیة إشارة إلی خططهم الخفیّة بحیث یعمدون کلّ یوم لخطة مشبوهة، فطبیعة النفاق تتمثل فی أقوالهم وأفعالهم وخططهم.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه فی هذا الإطار فأشار إلی ست صفات أخری من الصفات الخطیرة التی یتصف بها المنافقون بعبارة قصیرة عمیقة المعنی فقال:
«وَیَعْمِدُونَکُمْ(2) بِکُلِّ عِمَاد، ویَرْصُدُونَکُمْ(3) بِکُلِّ مِرْصَاد. قُلُوبُهُمْ دَوِیَّةٌ(4) ،
ص:458
وَصِفَاحُهُمْ(1) نَقِیَّةٌ. یَمْشُونَ الْخَفَاءَ، ویَدِبُّونَ(2) الضَّرَاءَ(3) ، وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ، وَفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَیَاءُ(4)».
والعبارة:
«ویَعْمِدُونَکُمْ بِکُلِّ عِمَاد» إشارة إلی أنّهم لا یتورعون عن التشبث بکلّ وسیلة للقضاء علیکم، من قبیل بثّ الشائعات وإثارة الشکوک فی صفوف المؤمنین وبث الفرقة والعداوة والبغضاء والفساد و....
والعبارة:
«ویَرْصُدُونَکُمْ بِکُلِّ مِرْصَاد» إشارة إلی أنّهم لا یغضون الطرف عن أدنی فرصة بغیة تسدید الضربات إلی السلمین والانقضاض علیهم. فهم متربصون فإذا ما سنحت أدنی فرصة وثبوا علیکم.
وجمیع العبارات القادمة تعکس إزدواج شخصیّة المنافقین واختلاف ظاهرهم عن باطنهم فقال إنّ قلوبهم مریضة وظاهرهم سلیم، أقوالهم تبدو شافیة، غیر أنّ تصرفاتهم سقیمة لا علاج لها، فجمیع أعمالهم مقرونة بالمؤامرات السریة والخطط الشیطانیّة الخفیّة.
ثم واصل علیه السلام کلامه لیبین ثلاث صفات أخری فقال:
«حَسَدَةُ(5) الرَّخَاءِ، ومُؤَکِّدُ والْبَلاَءِ، ومُقْنِطُوالرَّجَاءِ».
قال تعالی فی القرآن المجید: «اِنْ تَمْسَسْکُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْکُمْ سَیِّئَةٌ یَفْرَحُوا بِهَا»(6) وهذه هی طبیعة المنافقین فی کلّ عصر ومصر.
ص:459
إن بثّ الیأس والتشاؤم بغیة إضعاف الإرادة والقضاء علی قوّة الجهاد والمقاومة، هی إحدی الحیل الخطیرة للمنافقین بحیث لو نجحت لانطوت علی آثار غایة فی الخطورة، ویبدو هذا الموضوع أعظم خطورة فی العصر الراهن حیث تخیم فیه وسائل الإعلام علی جمیع أرجاء المعمورة، وقد وضّف المنافقون هذه الوسیلة فی داخل وخارج البلدان الإسلامیّة لإدخال الیأس فی قلوب المسلمین وصدهم عن الرقی والتقدم والتطور وتمهید السبیل للقضاء علیهم. ولابدّ هنا من الصمود لمواجهة هؤلاء الشیاطین بکلّ ما أوتی المسلمون من قوّة والتذکیر بالألطاف الإلهیّة والعنایات الخفیّة وخلق الأمل هنا وهناک والجهر بهذا المبدأ: «اِنْ تَنصُرُوا اللّهَ یَنصُرْکُمْ وَیُثَبِّتْ أَقْدَامَکُمْ»(1)، «وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ کُنْتُم مُّؤْمِنِینَ»(2).
ثم أشار علیه السلام إلی ثلاث صفات من صفاتهم فقال:
«لَهُمْ بِکُلِّ طَرِیق صَرِیعٌ(3) ، وإِلَی کُلِّ قَلْب شَفِیعٌ، ولِکُلِّ شَجْو(4) دُمُوعٌ».
العبارة الأُولی کنایة عن کثرة الأفراد الذین یذهبون ضحیة مؤامراتهم وخططهم أو یتعرضون للأذی والضرر.
وتشیر العبارة الثانیة إلی أنّ المنافقین یسعون بمختلف الحیل وأسالیب الخداع والتملق للنفوذ إلی القلوب والإیحاء إلی الآخرین بأنّهم من أصدقائهم.
وتشیر العبارة الثالثة إلی أسالیبهم المضللة فی الخداع وذرف دموع التماسیح علی مصائب المؤمنین لیغطوا من خلال ذلک علی بغضهم الباطنی وعداوتهم
ص:460
المتأصلة فی قلوبهم فیخدعون الناس ویستقطبونهم إلی أودیة الضلال فیجعلونهم یعیشون ذلک البؤس والشقاء.
والعبارة الرابعة إشارة إلی کثرة الأفراد الذین خدعوا بهم وهلکوا بفعل ضرباتهم الموجعة، وإشارة إلی أنّ ضحایاهم لیسوا قلائل بحیث یمکن تجاوزهم بسهولة، فهم علی درجة من الکثرة وکان کلّ زقاق وشارع فقد ضحیة لمؤامراتهم ومخططاتهم، وبناءً علی ما تقدم فلولم یتصد المسلمون لإفشال خططهم فسوف لن یسلم أحد من ضرباتهم المهلکة.
والعبارة الخامسة تخبر عن ألاعیبهم بغیة اختراق القلوب، فهم علی الدوام شرکاء مع اللصوص ورفاق قطاع الطرق والذین یزودون السراق بکلّ المعلومات عن القوافل ویتعاونون معهم جنباً إلی جنب، ولذلک فهم یسعون لیوحوا لکلّ من یصادفونه أنّهم من خلص أصدقائه.
والعبارة السادسة هی إکمال وتأکید لما ورد فی العبارة السابقة؛ فهؤلاء یصوّرون للآخرین أنّهم یشاطرونهم أحزانهم ویذرفون دموع التماسیح علی مصائبهم بینما یضحکون فی باطنهم ویشعرون بالسرور والفرح، نعم هذا هودیدن النفاق.
وأشار علیه السلام فی مواصلته لکلامه إلی صفتین قبیحتین وذمیمتین من صفات المنافقین فقال:
«یَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ، ویَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ».
نعم فکلّ واحد منهم یخوض فی المجلس فی مدح الآخر والاشادة به وینسب له بعض الصفات الحمیدة التی لیس لها من صلة بشخصیته، علی أساس أنّه یطالبه أن یعامله بالمثل فیمدحه ویثنی علیه فی مجلس آخر، فمدحهم وثنائهم لا ینطلق من الحقّ قط وتقدیر المحسنین والأخیار، بل الهدف سماع المزید من الکذب المشابه لما یورد بحقّه.
والعبارة:
«یَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ» هی الأخری تأکید علی هذا الموضوع وتعبیر آخر عن هذه الصفة الذمیمة والمریضة، أی أنّهم لا یقدمون خدمة مجانیّة بعیدة عن الریاء لکائن من کان، بل یتوقعون مقابلها خدمة لهم، ولا یقتصر ذلک علی الثناء فحسب بل فی کلّ أمر وحیثما ما کان.
ص:461
وأخیراً اختتم الإمام علیه السلام هذا القسم ببیان ثلاث رذائل أخلاقیّة ذمیمة للمنافقین فقال:
«اِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا(1) ، وإِنْ عَذَلُوا(2) کَشَفُوا، وإِنْ حَکَمُوا أَسْرَفُوا».
إنّ حاجة الناس لبعضها البعض ممّا لا یمکن إنکاره وقد توجب هذه الحاجة أحیاناً أن یلجأ أحد للآخر لمساعدته فی حلّ مشکلته، إلّاأنّ الإلحاح عمل قبیح، فذلک الطرف المقابل ربّما لا یرید أو یتعذر علیه القیام بذلک العمل أو قبول ذلک الطلب فیشعر بحالة من الخجل والانزعاج من ذلک الإلحاح.
قال القرآن الکریم فی بیان صفة المؤمن حین الحاجة: «لَایَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً»(3) إلّاأنّ المنافقین یریدون نیل أهدافهم وإن أخذ الطرف المقابل حیاءً واضطر للعمل خلاف رغبته ومیله؛ وکذلک إن إرادوا نصح شخص وأمره بالمعروف کما یزعمون ذهبوا بماء وجهه وسط الآخرین، بینما صرحت التعالیم الإسلامیّة بأنّ هذا العمل ینبغی أن یتمّ بمنتهی الدقّة واللطافة؛ بما یحفظ ماء وجه المسلم ولا یکدره ویجعله یعیش حالة من الحزن والغم.
وتشیر العبارة:
«وإِنْ حَکَمُوا أَسْرَفُوا» إلی أنّ المنافقین إن بلغوا منصباً فإنّهم لیس فقط لا یؤدّون حقّ ذلک المنصب، بل یسلکون طریق الاسراف فیغضبون اللّه والناس لضمان مصالحهم اللامشروعة، قال القرآن الکریم بشأن بعض المنافقین:
«وَإِذَا تَوَلَّی سَعَی فِی الأَرْضِ لِیُفْسِدَ فِیهَا وَیُهْلِکَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لَایُحِبُّ الْفَسَادَ»(4).
ویحتمل أن یکون المراد من قوله
«إنْ حَکَمُوا» أنّهم إن تصدّوا للحکم فی مسألة معینة فإنّ حکمهم لا یستند إلی العدل قط وأنّهم ینتهکون حدود العدل والقسط، ولا مانع من الجمع بین التفسیرین.
ص:462
قَدْ أَعَدُّوا لِکُلِّ حَقٍّ بَاطِلاً، ولِکُلِّ قَائِم مَائِلاً، ولِکُلِّ حَیٍّ قَاتِلاً، ولِکُلِّ بَاب مِفْتَاحاً، ولِکُلِّ لَیْل مِصْبَاحاً. یَتَوَصَّلُونَ إِلَی الطَّمَعِ بِالْیَأَسِ لِیُقِیمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ، ویُنْفِقُوا بِهِ أَعْلاَقَهُمْ، یَقُولُونَ فَیُشَبِّهُونَ، ویَصِفُونَ فَیُمَوِّهُونَ. قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِیقَ، وأَضْلَعُوا الْمَضِیقَ، فَهُمْ لُمَةُ الشَّیْطَانِ، وحُمَةُ النِّیْرَانِ:
(أُولئِکَ حِزْبُ الشَّیْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّیْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
أشار الإمام علیه السلام قی هذا الحانب من الخطبة الذی یمثل ختامها إلی أنّ المنافقین یندفعون نحو تنفیذ مآربهم وفق خطط جهنمیّة متکاملة، واستنفروا أفکارهم لحل کلّ معضلة تعرض علیهم وأعدوا البرامج اللازمة للقضاء علی معارضیهم فقال علیه السلام:
«قَدْ أَعَدُّوا لِکُلِّ حَقٍّ بَاطِلاً، ولِکُلِّ قَائِم مَائِلاً، ولِکُلِّ حَیٍّ قَاتِلاً، ولِکُلِّ بَاب مِفْتَاحاً، ولِکُلِّ لَیْل مِصْبَاحاً».
فقد کشف الإمام علیه السلام عن حقیقة فی هذه العبارات الخمس واستناداً لمفردة
«أَعَدُّوا» أنّ المنافقین یلمّون بجمیع الشؤون الإیجابیة للمجتمع ویخططون لمواجهتها والقضاء علیها، وقد انطلقوا من بعض الحلول حتی فی المواقف الصعبة التی تواجههم لیتمکنوا من خلال ذلک من فتح ما أغلق علیهم من أبواب وإزالة ما یعترض طریقهم من عقبات، فهم یحملون سراجاً فی اللیالی الظلماء لتحقیق مآربهم.
ص:463
وکثیراً ما تلاحظ الشواهد الحیّة لهذه العبارات العمیقة المعنی فی کلام الإمام علیه السلام طیلة التاریخ ولا سیما القرون الإسلامیّة الأُولی؛ ومن ذلک الحجج والذرائع لتنحیة الإمام علیه السلام عن الخلافة (کونه شاباً أو فیه دعابة) وإحراق بیت الوحی بعد النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله بذریعة المخالفة لإجماع المسلمین (الإجماع الذی لیس له من وجود خارجی) والمطالبة بدم عثمان ومن جانب أولئک الذین تلطخت أیدیهم بدمه، ورفع القرآن علی أسنة الرماح حین الأشراف علی الهزیمة وما شابه ذلک.
والطریف أنّهم یتشبثون أحیاناً ببعض الأمور التی تثیر الدهشة لدی کلّ إنسان مطلع؛ مثلاً حین قیل لجیش معاویة إنّکم أنتم «الفئه الباغیه» التی أخبر عنها رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حدیثه المعروف بشأن عمار حین خاطبه قبل ثلاثین سنة وقال له:
«یا عَمّارُ تَقتُلُکَ الفِئةُ الباغیةِ» فردّوا علی ذلک: إنّ قاتل عمار هو علی، لأنّه هو الذی أتی به! ونحن لم نقتله(1).
ثم أشار علیه السلام إلی حیلة أخری من حیلهم فی النفوذ إلی القلوب فقال:
«یَتَوَصَّلُونَ إِلَی الطَّمَعِ بِالْیَأَسِ لِیُقِیمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ، ویُنْفِقُوا بِهِ أَعْلاَقَهُمْ(2)».
فهم نفعیون مشبوهون رأس مالهم الکفر والنفاق والضلال وزبائنهم السذج من الأفراد وثمن هذه المعاملة فقدان الدین والإیمان، علی غرار بعض التجار الذین لا یهتمون للمشتری حین الشراء بغیة استقطاب الآخرین لشراء بضائعهم علی أساس أن:
«الإنْسانُ حَریصٌ عَلی ما مُنِعَ» فیثیروا الرغبة لدی الطرف المقابل لیقبل علی متاعهم الفاسد والتالف فیشتریه بأغلی الأثمان.
ثم قال علیه السلام:
«یَقُولُونَ فَیُشَبِّهُونَ، ویَصِفُونَ فَیُمَوِّهُونَ(3)».
نعم! فهؤلاء دائماً ما یبدون النفاق والضلال بصیغة الحقّ لیقبله منهم الناس
ص:464
الذین ینشدون الحقّ بفعل فطرتهم وطبیعتهم فیغوصوا فی مستنقع من الضلال.
وقال فی صفة أخری:
«قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِیقَ، وأَضْلَعُوا(1) الْمَضِیقَ».
ونحن نجد هذا الأسلوب عند منافقی عصرنا الذین یستقطبون العدید من الناس بسهولة ویلحقونهم بهم، ثم یقطعون العدید من التعهدات والمواثیق التی یبدو من الصعوبة بمکان الخروج منها کما یقوم الاستکبار العالمی الناهب وبغیة توریط الأمم والشعوب بمنحها بعض القروض وبشروط غایة فی السهولة بادئ الأمر، فإذا ما وقعت فی شباکهم وخدعت بألاعیبهم مارسوا معها مختلف الضغوط وبشتی الوسائل لیفرضوا علیها رغباتهم وأغراضهم فی حین تکون هذه الشعوب قد غاصت فی مأزق یصعب علیها الخروج منه.
وأخیراً اختتم الإمام علیه السلام خطبته بهذا التحذیر قائلاً:
«فَهُمْ لُمَةُ(2) الشَّیْطَانِ، وحُمَةُ(3) النِّیْرَانِ : «أُولئِکَ حِزْبُ الشَّیْطَانِ، أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّیْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ»(4)».
لا یسع أحد تحدید الانطلاقة التاریخیة للنفاق والمنافقین. فهنالک العدید من الأفراد الفاسدین والمفسدین فی المجتمعات البشریّة الذین ینبرون للمواجهة حین یمتلکون القوّة والقدرة اللازمة لها؛ ولکنهم حین یتجرّعون الهزیمة، یعمدون إلی إرتداء ثوب النفاق لیتحولوا إلی خلایا سریة ویواصلوا من خلال ذلک العمل لتحقیق أهدافهم المشبوهة، ویبدو أنّهم یستسلمون فی الظاهر ویعربون عن إخلاصهم وإلتحاقهم بالجماهیر لکنهم یعتمدون سریاً مختلف الخطط والمشاریع لتحقیق
ص:465
مآربهم وأهدافهم المُغرضة.
ولعل من أبرز خصائص المنافقین الإزدواج فی الشخصیة، الإزدواج فی الظاهر والباطن والقول والفعل والمجالس الخاصّة والعامّة وبالتالی الإزدواج فی کلّ شیء والذی شرحه الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة بعبارات بمنتهی العمق والدقّة، فهؤلاء یزعمون أنّهم مصلحون بینما فی الواقع هم مفسدون حقیقیون، ویحسبون أنفسهم أذکیاء وعقلاء والآخرین حمقی وأغبیاء، والحال هم الحمقی والبلهاء.
وهؤلاء شرکاء اللصوص وأصحاب القوافل ورفاق الناس وعملاء الأجانب الذین یعتاشون علی البلد ویعیشون التبعیة للاستعمار.
وإذا ما برزت عاصفة وجدّ الجدّ وحان وقت التضحیة والفداء التمسوا الذرائع الواهیة وصرحوا «إِنَّ بُیُوتَنا عَوْرَة»(1) وانسحبوا من المیدان، وهنا بالضبط تتکشف أوجه النفاق ویماط اللثام عنها أثر بروز الأحداث والصعوبات.
وخلافاً لما یعتقده بعض السذج من أبناء العامّة من أنّ کلّ من رآی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسمع کلامه أو وقعت عیناه علیه اکتسب هالة من القدسیّة واصطلح علیه بالصحابی وأحرزت عدالته وصدقه، فإنّ هنالک العدید من المنافقین الخطرین بین معاصرین لرسول اللّه صلی الله علیه و آله والذین أشارت إلیهم سورة المنافقین وکما أشارت بصورة أوضح وأعمق سورة التوبة وسورة الأحزاب وسائر السور القرآنیّة، وکان لرسول اللّه صلی الله علیه و آله موقفه الشدید منهم، ومن یتأمّل هذه السور القرآنیّة ویتمعن فیها یدرک شدّة موجة النفاق حتی فی آواخر عمر النّبی صلی الله علیه و آله إلّاأنّ نفوذ النّبی وقدرته والانتصارات الباهرة للمؤمنین سلبتهم زمام المبادرة.
فقد نشطوا عقب رحیل النّبی صلی الله علیه و آله وأعدوا مختلف الخطط المشبوهة وبلغ سعیهم درجة بحیث اعتلوا علی عهد بنی أمیّة منبر رسول اللّه صلی الله علیه و آله بعنوان خلفاء النّبی صلی الله علیه و آله حیث شغله من اعتنق الإسلام آواخر عهد النّبی صلی الله علیه و آله وابن أعدی أعداء النبی ألا وهو
ص:466
معاویة «خال المؤمنین» وهذه قصة لا مجال لبحثها.
وکثیراً ما یشاهد الیوم النفاق فی عالمنا المعاصر أکثر من أی وقت مضی، حیث ینشط فیها المنافقون بإعداد مختلف الخطط التآمریة وبوسائل وأدوات وإمکانات هائلة والکثیر من العملاء فی مختلف بقاع العالم والاستفادة من جمیع الوسائل الحدیثة والمتطورة والمشاریع الشیطانیّة.
کما تمارس البلدان الاستعماریة التی تتوقف حیاتها علی إمتصاص دماء الآخرین مختلف الجرائم والجنایات تحت غطاء بعض العناوین البراقة من قبیل حقوق الإنسان والحریة والدیمقراطیة، سیما فی البلدان التی لا تتماشی مع سیاستهم، حیث تتعالی أصواتهم لممارسة أدنی عنف بحقّ سجین بینما تخرس ألسنتهم حیال ما یجری فی سائر السجون کسجن «أبو غریب» فی العراق و «غوانتانامو» حیث ترتکب أبشع الجرائم التی قل نظیرها فی التاریخ والتی دوت فضائحها فی مختلف أرجاء العالم.
فهم یسعون فی ظلّ هذه الحریة لسلب حریة العمل والعقیدة جمیع معارضیهم ویسعون لترسیخ وتأسیس الحکومات العمیلة لهم، بل لا یتورعون أحیاناً من التصریح علناً بأنّ أفضل خیار لنا هی الحکومات التی ترعی مصالحنا.
وبالتالی یتحدّث هؤلاء عن الحکومات الشعبیة، بینما یسعون جاهدین لإسقاط أی حکومة یقف ورائها الشعب لکنها لا تضمن مصالحهم.
ولعل إحدی طرقهم الخبیثة ما یقدمونه أحیاناً کمساعدات أو قروض دون مقابل وأخری مع مقابل وفائدة، والهدف غیر المعلن بالطبع هوخلق التبعیة فی تلک الدول والبلدان، ذلک لأنّها إن أصبحت تابعة کان علیها أن تقبل مکرهة کلّ ما یملی علیها؛ وهذه قصة عمیقة الفصول کثیرة التشعب یتطلب شرحها العدید من الکتب والمجلات ولیس هنالک من سبیل للخلاص من مخالب هؤلاء المنافقین المتغطرسین والمتسلطین والمتلونین سوی وحدة الشعوب المظلومة والمقهورة
ص:467
فتقوم بالدرجة الأولی بکشف النقاب عنها وکشف حقیقتها لیعرفها الجمیع، ثم تهب وفق خطة مدروسة لمقاومتها، والحقّ بما أنّ المنافقین یقتصرون علی تحقیق أهدافهم المادیّة فإنّهم یفتقرون إلی روح الفداء والتضحیة وبالتالی فهم محکومون بالهزیمة والفشل.
***
ص:468
یَحْمَدُ اللّهَ وَیُثْنِی عَلی نَبِیِّهِ وَیَعِض (1)
یمکن تصنیف الأبحاث التی بینها الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: حمد اللّه والثناء علیه مع ذکر بعض آثار الذات القدسیّة والتی تعدّ من عجائب عالم الوجود، ثم الشهادة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله بالرسالة والإشارة إلی بعض الصفات البارزة من صفاته.
والقسم الثانی: إشارة إلی الهدف من خلق الإنسان ومراقبة اللّه له وشرحها بعبارات غایة فی الروعة والجمال.
والقسم الثالث: الوعظ بالتقوی والاستعداد لحساب الآخرة وحضور محکمة العدل الإلهیّة.
***
ص:469
ص:470
اَلْحَمْدُ للّهِ الَّذِی أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ، وجَلاَلِ کِبْرِیَائِهِ، مَا حَیَّرَ مُقَلَ الْعُقُولِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ، ورَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ النُّفُوسِ عَنْ عِرْفَانِ کُنْهِ صِفَتِهِ.
وأَشْهَدُ أَنْ لَاإِلهَ إِلَّا اللّهُ، شَهَادَةَ إِیمان وإِیقَان، وإِخْلاَص وإِذْعَان. وأَشْهَدُ أَنَّ محَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ وأَعْلاَمُ الْهُدَی دَارِسَةٌ، ومَنَاهِجُ الدِّینِ طَامِسَةٌ، فَصَدَعَ بِالْحَقِّ؛ ونَصَحَ لِلْخَلْقِ، وهَدَی إِلَی الرُّشْدِ، وأَمَرَ بِالْقَصْدِ، صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ.
استهل الإمام علیه السلام هذه الخطبة - کسائر الخطب - بحمد اللّه والثناء علیه، ولکن بعبارات جدیدة وتشبیهات مربیة للنفوس ومهذبة لها.
فقال:
«اَلْحَمْدُ للّهِ الَّذِی أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ، وجَلاَلِ کِبْرِیَائِهِ، مَا حَیَّرَ مُقَلَ(1) الْعُقُولِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ، ورَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ(2) النُّفُوسِ عَنْ عِرْفَانِ کُنْهِ صِفَتِهِ».
حقّاً لو أمعن الإنسان النظر فی عالم الخلق من الذرة حتی المنظومات السماویة والمجرات وأنواع النباتات والأزهار والثمار مروراً بالأصناف العجیبة للحیوانات
ص:471
والطیور والسباع وحیتان البحار ووحوش الصحاری والأنواع المذهلة للحشرات والأحیاء الدقیقة لتعرف کلّ یوم علی عجائب جدیدة وغرائب شتی فیها؛ والتی یکشف عنها کلّ یوم تطور العلم البشری ویعکس عجائب خلقتها بما یجعل الإنسان یعیش حالة من الذهول إزاء قدرة الخالق الحکیم، وهذه هی الحقیقة التی تتضح یوماً بعد آخر فی أنّه أسمی من الخیال والقیاس والوهم، بل أسمی من کلّ ما رأینا وقرأنا وکتبنا.
ثم اتّجه علیه السلام صوب الاقرار بالشهادتین لیبیّن کلّ واحدة منهما بعبارات جدیدة فقال:
«وأَشْهَدُ أَنْ لَاإِلهَ إِلَّا اللّهُ، شَهَادَةَ إِیمان وإِیقَان، وإِخْلاَص وإِذْعَان(1)».
فهذه العبارات الأربع (إیمان وإیقان وإخلاص وإذعان) تشیر إلی أربع مراحل من العقائد الدینیّة، فالإیمان هو المرحلة الأُولی حیث یقرّ الإنسان بشیء ثم یؤمن به رغم ما یثار حوله من شکوک وشبهات جزئیة؛ ولکن مرحلة الإیقان هی المرحلة التی یزول فیها تلک الشبهات والشکوک ویضحی فیها الإیمان القلبی شفافاً ومشرقاً.
ومرحلة الإخلاص مرحلة نفی کلّ ما سوی اللّه فلا یری المؤمن سواه فیعشقه ویناجیه ویطلب منه ولا یلتفت إلی أحد غیره، وأخیراً ترد مرحلة الإذعان التی تعنی حسب أرباب اللغة الإقرار المقرون بالخضوع، أی یظهر إیمانه فی جمیع أعماله وأقواله وتصرفاته، فتصطبغ حیاته بالصبغة الربّانیّة فیصبح مصداقاً لقوله تعالی: «صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً»(2).
ومن الطبیعی أنّ الإیمان والیقین والإخلاص کلّما تجذر فی الإنسان کانت ثمرته النهائیة تلک الأعمال.
ولما فرغ علیه السلام من الشهادة للّه بالوحدانیّة خاض فی الشهادة بالرسالة مع ذکر بعض
ص:472
الصفات البارزة للنبی صلی الله علیه و آله وأهدافه؛ فقال:
«وأَشْهَدُ أَنَّ محَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ وأَعْلاَمُ الْهُدَی دَارِسَةٌ(1) ، ومَنَاهِجُ الدِّینِ طَامِسَةٌ(2) ، فَصَدَعَ(3) بِالْحَقِّ؛ ونَصَحَ لِلْخَلْقِ، وهَدَی إِلَی الرُّشْدِ، وأَمَرَ بِالْقَصْدِ، صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ».
والعبارة:
«أَعْلاَمُ الْهُدَی» تعنی العلامات التی توضع فی طریق المسافرین حتی لا یضلوا الطریق (کالإشارات الضوئیّة التی تنصبها إدارة المرور فی الطرق والشوارع لیتعرف الناس علی تلک الطرق) وتشیر هنا إلی تعالیم أئمّة الدین وإرشادات الکتب السماویة.
والعبارة:
«ومَنَاهِجُ الدِّینِ طَامِسَةٌ» إشارة إلی قوانین السماء التی اعتراها النسیان علی عهد الجاهلیّة.
نعم فقد نهض رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالأمر وحمل لواء الدعوة فی ظلّ هذه الظروف وذلک الوسط الذی خیمت فیه ظلمات الکفر علی کلّ مکان فقام بأربعة أمور: الأوّل أنّه بین الحقّ فی المعارف الدینیّة بصورة جلیة، ثم هب لابتغاء الخیر للناس ودعاهم بإرشاداته ومواعظه إلی ترک الذنوب والفساد والآثام وإمتثال الأوامر والطاعة للّه ورسوله، وهداهم فی المرحلة الثالثة إلی کلّ ما فیه سموهم وتکاملهم، وأخیراً أوصاهم بالعدل والقسط والاعتدال فی جمیع الأمور (صلوات اللّه وسلامه علیه)، فقد أشار الإمام علیه السلام فی هذه العبارة إلی أرکان الدعوة الإسلامیّة إلی جانب رسمه صورة واضحة للاوضاع فی عصر الجاهلیّة.
***
ص:473
ص:474
واعْلَمُوا، عِبَادَ اللّهِ، أَنَّهُ لَمْ یَخْلُقْکُمْ عَبَثاً، ولَمْ یُرْسِلْکُمْ هَمَلاً، عَلِمَ مَبْلَغَ نِعَمِهِ عَلَیْکُمْ، وأَحْصَی إِحْسَانَهُ إِلَیْکُمْ، فَاسْتَفْتِحُوهُ، واسْتَنْجِحُوهُ، واطْلُبُوا إِلَیْهِ واسْتَمْنِحُوهُ، فَما قَطَعَکُمْ عَنْهُ حِجَابٌ، وَلَا أُغْلِقَ عَنْکُمْ دُونَهُ بَابٌ، وإِنَّهُ لَبِکُلِّ مَکَان، وفِی کُلِّ حِین وأَوَان، ومَعَ کُلِّ إِنْس وجَانٍّ؛ لَایَثْلِمُهُ الْعَطَاءُ، وَلَا یَنْقُصُهُ الْحِبَاءُ، وَلَا یَسْتَنْفِدُهُ سَائِلٌ، وَلَا یَسْتَقْصِیهِ نَائِلٌ، وَلَا یَلْوِیهِ شَخْصٌ عَنْ شَخْص، وَلَا یُلْهِیهِ صَوْتٌ عَنْ صَوْت، وَلَا تَحْجُزُهُ هِبَةٌ عَنْ سَلْب، وَلَا یَشْغَلُهُ غَضَبٌ عَنْ رَحْمَة، وَلَا تُولِهُهُ رَحْمَةٌ عَنْ عِقَاب، وَلَا یُجِنُّهُ الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ، وَلَا یَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ. قَرُبَ فَنَأَی، وعَلاَ فَدَنَا، وظَهَرَ فَبَطَنَ، وبَطَنَ فَعَلَنَ، وَدَانَ ولَمْ یُدَنْ. لَمْ یَذْرَءِ الْخَلْقَ بِاحْتِیَال، وَلَا اسْتَعَانَ بِهِمْ لِکَلاَل.
أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی ثلاث مسائل رئیسیّة: الأُولی هدف الخلیقة، ثم النعم الجمة التی تفاض علی جمیع العباد، وأخیراً التأکید علی المراقبة الدائمیة والحضور الإلهی فی کلّ مکان وعلی کلّ حال. فقال فی الأمر الأوّل:
«واعْلَمُوا، عِبَادَ اللّهِ، أَنَّهُ لَمْ یَخْلُقْکُمْ عَبَثاً، ولَمْ یُرْسِلْکُمْ هَمَلاً(1)».
وهذا هو اقتباس من الآیة الشریفة: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاکُمْ عَبَثاً وَأَنَّکُمْ إِلَیْنَا
ص:475
لَاتُرْجَعُونَ»(1).
ومن المفروغ منه أنّ اللّه علیم وحکیم لا یفعل العبث قط، رغم أنّ منافع الأفعال وفوائدها لا تعود علیه بشیء؛ لأنّه غنی مطلق، ولکن بالطبع لأفعاله آثار وبرکات تعود علی عباده.
وبما أنّ الشرط الأوّل لبلوغ الهدف یتمثل فی وجود الهادی والمرشد فقد وردت العبارة:
«لَمْ یُرْسِلْکُمْ هَمَلاً» عقب العبارة
«لَمْ یَخْلُقْکُمْ عَبَثاً»، لأنّ الإرسال فی مثل هذه الحالات بمعنی الترک والهمل تقال فی الأصل للقطیع دون راعٍ، وعلی هذا الضوء تتّضح مسؤولیة الإنسان إزاء أهداف الخلیقة وهدایة الأولیاء.
وقال علیه السلام فی المسألة الثانیة:
«عَلِمَ مَبْلَغَ نِعَمِهِ عَلَیْکُمْ، وأَحْصَی إِحْسَانَهُ إِلَیْکُمْ».
والنعمة والإحسان تشمل جمیع النعم المادیّة والمعنویّة بالإضافة إلی مختلف القابلیات والاستعدادات الباطنیّة، وهذا یعنی أنّ الناس یتمتعون بنعمه فلا یسلکون طریق الجحود ولا یهدرون نعم اللّه ویجتنبون الکسل والتقاعس فی الانتفاع بهذه النعم ولیعلموا أنّ جمیع الأسباب والوسائل متوفرة للوصول إلی الهدف المنشود والکمال المطلوب.
ثم انتقل إلی المسألة الثالثة فقال علیه السلام:
«فَاسْتَفْتِحُوهُ(2) ، واسْتَنْجِحُوهُ(3) ، واطْلُبُوا إِلَیْهِ واسْتَمْنِحُوهُ(4) ، فَما قَطَعَکُمْ عَنْهُ حِجَابٌ، وَلَا أُغْلِقَ عَنْکُمْ دُونَهُ بَابٌ».
إشارة إلی أنّ الفیض جاهز من المبدیء الفیاض، وقد جاء الآن دورکم لتمدوا إلی خزائن لطفه ید العوز والحاجة وتفتحوا أبواب رحمته وتسألوه التوفیق والفلاح، وأننا لنعلم بالطبع أنّ النتیجة ستکون قطعیّة وحتمیّة حین تقترن قابلیة
ص:476
القابل بفاعلیة الفاعل.
وخلافاً لما یظنه الوثنیون وعبدة الأصنام والمشرکون وأتباعهم فی عصرنا الراهن من أنّه لا ینبغی التوجه مباشرة إلی اللّه ولابدّ من عبادة غیره لیفتح لهم الطریق إلیه تعالی، فقد صرح الإمام علیه السلام أن لیس هنالک من مانع ولا رادع فی الطریق ولکلّ العباد طرق بابه وإن استعانوا أحیاناً بوجاهة الشفعاء فهذا تأکید آخر علی الاتصال المباشر بالذات القدسیّة وإمتثال أوامره.
ثم خاض فی توضیح هذا الکلام من خلال الإشارة إلی ثلاث نقاط أخری لیوضح من خلالها الفارق بین عطاء اللّه وبذل الآخرین فقال:
«وإِنَّهُ لَبِکُلِّ مَکَان، وفِی کُلِّ حِین وأَوَان، ومَعَ کُلِّ إِنْس وجَانٍّ؛ لَایَثْلِمُهُ(1) الْعَطَاءُ، وَلَا یَنْقُصُهُ الْحِبَاءُ(2) ، وَلَا یَسْتَنْفِدُهُ سَائِلٌ، وَلَا یَسْتَقْصِیهِ نَائِلٌ».
حیث إنّ اللّه الرحیم حاضر فی کلّ مکان وتمد إلی ساحة کبریائه أعناق وأیدی جمیع المحتاجین، بل هو مع کلّ شخص أینما کان، ومن جانب آخر فإنّه لیس لعطائه من حدود، وهو دائم لا ینضب ولا ینفد ولا یخشی علیه التقتیر علی الآخرین إن منح البعض الآخر، لأنّه وجود لامتناهٍ من جمیع الجهات ومن هنا فإنّ جوده وکرمه لا متناهٍ ونعمته وعطاءَه لامتناهیان أیضاً، بل کما ورد فی دعاء الافتتاح:
«ولا تَزیدُهُ کَثْرَةُ الْعَطاءِ إِلَّا جُوداً وکَرَماً»، إشارة إلی أنّه کلّما أفاض أکثر کلّما ازداد أمل الناس بجوده وکرمه.
ثم خاض فی المسألة الثالثة:
«وَلَا یَلْوِیهِ(3) شَخْصٌ عَنْ شَخْص، وَلَا یُلْهِیهِ صَوْتٌ عَنْ صَوْت، وَلَا تَحْجُزُهُ هِبَةٌ عَنْ سَلْب، وَلَا یَشْغَلُهُ غَضَبٌ عَنْ رَحْمَة، وَلَا تُولِهُهُ(4)
ص:477
رَحْمَةٌ عَنْ عِقَاب، وَلَا یُجِنُّهُ(1) الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ، وَلَا یَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ».
فهذه العبارات السبع تشجیع من جانب للعباد فی أن یسألوه کلّ ما یریدون، ویعلموا أنّه لو تزامنت مع طلبات طلبات الخلیقة کافّة فإنّه علیم بکلّ هذه الطلبات خبیر بها، الأمر الذی لا یدرکه اطلاقاً سوی اللّه تبارک وتعالی وکل ما سواه قد یشغله سؤال شخص عن الإلتفات إلی سؤال آخر.
ومن جانب آخر تحذیر لجمیع العباد فی مراقبة حضور اللّه تبارک وتعالی فی جمیع الأحوال ولیدرکوا کما أنّ نعمه وعطایاه لامتناهیّة وأنّه لا یخیب أحداً فی سؤاله وطلبه وأنّ رحمته سبقت ومنعت غضبه وأنّ نعمه لا تحول دون مؤاخذة الظلمة والطغاة وأنّه عالم بکلّ ما یفعلونه فی خلوتهم وعلانیتهم، والحقّ لیس هنالک من معنی للغیب والشهادة والبعید والقریب علی الذات القدسیّة ولا تجری هذه الأمور سوی علی مخلوقاته المحدودة التی تشعر بالقرب والبعد والخفاء والعلانیّة.
ثم شرح وأکّد ما ذکره فی العبارات السابقة بسبع عبارات أخری تتعلق بصفات اللّه تبارک وتعالی فقال:
«قَرُبَ فَنَأَی، وعَلاَ فَدَنَا، وظَهَرَ فَبَطَنَ، وبَطَنَ فَعَلَنَ، ودَانَ(2) وَلَمْ یُدَنْ. لَمْ یَذْرَءِ(3) الْخَلْقَ بِاحْتِیَال، وَلَا اسْتَعَانَ بِهِمْ لِکَلاَل(4)».
والواقع أنّ جمیع هذه الصفات السبع تستند إلی حقیقة واحدة وهی: أنّه وجود لامتناهٍ من جمیع الجهات، ولذلک فهو حاضر فی کلّ مکان وفی نفس الوقت فإنّ کنه هذه الذات اللامتناهیة خارج عن متناول الأفکار، والظاهر والباطن والقریب
ص:478
والبعید لدیه علی حد سواء، واستناداً إلی علمه اللامتناهی فهوغنی عن الحاجة للتفکیر حین الخلق ولهذا السبب فلیس للتعب والکلل والملل من سبیل إلی ذاته القدسیّة، لأنّ هذه صفات المخلوقات ذات القدرة المحدودة، فیشعرون بالتعب حین تنفد طاقتهم وقدرتهم والحقّ أنّ الإمام علیه السلام قد اعتمد منتهی الفصاحة والبلاغة فی هذه الخطبة لیصور حقیقة واحدة بأوجه مختلفة وبعبارات متنوعة غایة فی الجمال والروعة.
***
ص:479
ص:480
أُوصِیکُمْ، عِبَادَ اللّهِ، بِتَقْوَی اللّهِ، فَإِنَّهَا الزِّمَامُ والْقِوَامُ، فَتَمَسَّکُوا بِوَثَائِقِهَا، واعْتَصِمُوا بِحَقَائِقِهَا، تَؤُلْ بِکُمْ إِلَی أَکْنَانِ الدَّعَةِ وأَوْطَانِ السَّعَةِ، ومَعَاقِلِ الْحِرْزِ ومَنَازِلِ الْعِزِّ، (یَوْم تَشْخَصُ فِیهِ الأَبْصَارُ)، وتُظْلِمُ لَهُ الأَقْطَارُ، وتُعَطَّلُ فِیهِ صُرُومُ الْعِشَارِ. ویُنْفَخُ فِی الصُّورِ، فَتُزْهَقُ کُلُّ مُهْجَة، وتَبْکَمُ کُلُّ لَهْجَة، وتَذِلُّ الشُّمُّ الشَّوَامِخُ، وَالصُّمُّ الرَّوَاسِخُ، فَیَصِیرُ صَلْدُهَا سَرَاباً رَقْرَقاً، ومَعْهَدُهَا قَاعاً سَمْلَقاً، فَلاَ شَفِیعٌ یَشْفَعُ، وَلَا حَمِیمٌ یَنْفَعُ، وَلَا مَعْذِرَةٌ تَدْفَعُ.
أوصی الإمام علیه السلام الجمیع هنا بالورع والتقوی وعدد آثار التقوی المهمّة فقال:
«أُوصِیکُمْ، عِبَادَ اللّهِ، بِتَقْوَی اللّهِ، فَإِنَّها الزِّمامُ والْقِوَامُ».
والتعبیر
«بزمام» إشارة إلی قوّة التقوی المانعة والتی تحول دون الإنسان وإرتکاب المعصیة وتصده عن السقوط فی مستنقع الفساد والذنب والانحدار فی فخ الشیطان وهوی النفس، و
«قِوَام» إشارة إلی أسس الحیاة الطیبة والمقرونة بالسعادة، وبعبارة أخری: أنّ للتقوی بعد الحیلولة من جانب والبناء من جانب آخر، فإنّ امتزج الجانبان کملت سعادة الإنسان ونجاته، وبکلمة موجزة فإنّ سعادة الإنسان تتکامل مادیاً ومعنویاً بوجود التقوی.
واعتبر بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ
«الزِّمامُ والْقِوَامُ» یتعلقان بالعبادات، والحال أنّ العبارة من قبیل حذف المتعلق الذی یهب المفهوم شمولیة، والآیات القرآنیّة
ص:481
شاهد علی ذلک أنّ التقوی سبب النجاة فی الآخرة ومصدر البرکة فی الحیاة المادیّة الدنیویّة حیث صرح تعالی من جانب: «تِلْکَ الْجَنَّةُ الَّتِی نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ کَانَ تَقِیّاً»(1).
ومن جانب آخر: «وَلَو أَنَّ أَهْلَ الْقُرَی آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَیْهِمْ بَرَکَات مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»(2).
ثم قال فی مواصلة کلامه کتوضیح وتأکید:
«فَتَمَسَّکُوا بِوَثَائِقِها(3) ، واعْتَصِمُوا بِحَقَائِقِهَا(4) ، تَؤُلْ(5) بِکُمْ إِلَی أَکْنَانِ(6) الدَّعَةِ(7) وأَوْطَانِ السَّعَةِ، ومَعَاقِلِ(8) الْحِرْزِ ومَنَازِلِ الْعِزِّ».
والتعبیر «بوثائق» جمع وثیقة بمعنی العروة المحکمة إشارة إلی الأبعاد الظاهریّة للتقوی، والتعبیر «بالحقائق» جمع حقیقة إشارة إلی جوانبها الواقعیّة.
والعبارات الأربع التی ذکرت فی العبارة المذکورة کنتیجة (وجزاء الشرط مقدر) تشیر إلی أنّ التمسک بالتقوی سبب الهدوء والسکینة وکذلک الفتح والحفظ من الأخطار والتمتع بالعزة والکرامة.
نعم! حین تسود التقوی فی المجتمع بصفتها شعور بالمسؤولیّة الربّانیّة فإنّه قلّ من یتجاوز علی حقوق الآخرین ویمارس الظلم والجور ونتیجة ذلک الاستقرار والسکینة، وإن سادت التقوی بصفتها وظیفة فإنّ المجتمع یأخذ بالرقی والاتساع
ص:482
شیئاً فشیئاً، وإن برزت التقوی بصفتها سداً منیعاً أمام العدو فإنّ المجتمع سیصان من شره ومجموع هذه الأمور هی أساس العزّة والرفعة والسمّو.
ثم قال علیه السلام: إنّ هذه الآثار الأربعة إنّما تتحقق بصورة کاملة فی الآخرة؛ لیس بمعنی إنعدام هذه الآثار فی الحیاة الدنیا بل المعنی: أنّ الهدف الأصلی والنهائی هناک:
««یَوْم تَشْخَصُ(1) فِیهِ الأَبْصَارُ» وتُظْلِمُ لَهُ الأَقْطَارُ، وتُعَطَّلُ فِیهِ صُرُومُ(2) الْعِشَارِ(3)».
فهذه الصفات الثلاث تتعلق بالصیحة الأُولی وزلزلة نهایة العالم، لأنّها علی درجة من الرعب والهول وإثارة الدهشة بحیث تنسی الإنسان کلّ شیء سوی نفسه، کما رسم هذه الصورة القرآن الکریم فقال: «یَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ کُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ کُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَی النَّاسَ سُکَارَی وَمَا هُمْ بِسُکَارَی وَلکِنَّ عَذَابَ اللّهِ شَدِیدٌ»(4).
ثم تطرق الإمام علیه السلام فی مواصلته لکلامه لیشرح جوانب أخری من بدایة القیامة والتی تهزّ القلوب وتذهل الأفکار فقال:
«ویُنْفَخُ فِی الصُّورِ، فَتُزْهَقُ(5) کُلُّ مُهْجَة(6) ، وتَبْکَمُ(7) کُلُّ لَهْجَة، وتَذِلُّ الشُّمُّ(8) الشَّوَامِخُ(9) ، وَالصُّمُّ(10) الرَّوَاسِخُ(11) ، فَیَصِیرُ
ص:483
صَلْدُهَا(1) سَرَاباً رَقْرَقاً(2) ، ومَعْهَدُهَا(3) قَاعاً(4) سَمْلَقاً(5)».
والذی یستفاد من الآیات القرآنیّة أنّ تغیرین شدیدین وعظیمین یحدثان فی نهایة العالم وعلی أعتاب القیامة والتی عبّر عنها بالنفخ فی الصور، ذلک لأنّهم فی الماضی کانوا یعمدون إلی النفخ فی بوق الحرکة أو بوق الحرب وبعدة أصوات مختلفة لتبلغ مسامع الآخرین حین یراد تحریک الجیش أو إعلان الحرب أو إیقاظه من النوم، وعلیه فالنفخ فی الصور هذا یعنی بدایة تغییر عظیم.
کما یستفاد من الآیات القرآنیّة حدوث زلزلة عظیمة تتزامن مع النفخة الأُولی وبموجبها تذهل الکائنات الحیّة کافّة من شدّتها وهذه نفخة الموت، وإلی ذلک أشارت الآیة الشریفة: «اِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَیٌْ عَظِیمٌ * یَوْمَ تَرَوْنَهَا...»(6). وکذلک الآیة:
«وَنُفِخَ فِی الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِی السَّمواتِ وَمَنْ فِی الأَرْضِ...»(7).
وفی النفخة الثانیة أی إعادة الحیاة یحدث تغییر آخر یظهر فیه عالم جدید علی إنقاض العالم السابق فینطلق الأموات من القبور للحساب، وقد وردت الإشارة فی سورة الزلزلة إلی النفخة الثانیة: «اِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الاِْنسَانُ مَا لَهَا * یَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا». کما ورد فی الآیة 68 من سورة الزمر إشارة لذلک: «ثُمَّ نُفِخَ فِیهِ أُخْرَی فَإِذَا هُمْ قِیَامٌ یَنْظُرُونَ». وما ذکره
ص:484
الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة إشارة إلی النفخة الأُولی التی تؤدّی إلی خراب العالم ونسف الجبال ومحو آثارها وذهول الإنسان وبالتالی موته.
وما ورد فی ذیل هذه الخطبة إشارة للأحداث التی تعقب النفخة الثانیة حیث قال:
«فَلاَ شَفِیعٌ یَشْفَعُ، وَلَا حَمِیمٌ یَنْفَعُ، وَلَا مَعْذِرَةٌ تَدْفَعُ». وهذا الکلام اقتباس من الآیة القرآنیّة الشریفة: «مَا لِلظَّالِمِینَ مِنْ حَمِیم وَلَا شَفِیع یُطَاعُ»(1). والآیة: «فَیَوْمَئِذ لاَّ یَنفَعُ الَّذِینَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ یُسْتَعْتَبُونَ»(2).
ومن الطبیعی أنّ عدم قبول المعذرة کما یفهم من الآیات المذکورة یختص بأولئک الذین حطموا الجسور الموصلة للشفاعة بأعمالهم وأفعالهم؛ وإلّا فإنّ أولئک الذین أبقوا السبل الموصلة إلیها فسیشملون بتلک الشفاعة، قال تعالی فی القرآن الکریم بهذا الخصوص: «وَلَا یَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَی»(3).
***
ص:485
ص:486
یفید ترتیب هذه الخطبة أنّها جزء من خطبة مفصلة وقد اختار المرحوم السید الرضی هذا القسم حسب منهجه فی الاقتطاف، وقد اقتطع هذا القسم من سائر الأقسام وذکره بصورة مستقلة. علی کلّ حال تتکون هذه الخطبة من ثلاثة أقسام:
تضمن القسم الأوّل إشارات قصیرة وعمیقة المعنی إلی بعثة النّبی صلی الله علیه و آله وبالنتیجة فضله العظیم علی البشریّة برمتها سیما المجتمع العربی.
وحذر فی القسم الثانی من الخداع والاغترار بزخارف الدنیا بعد الوصیة بالورع والتقوی، ثم أوضح تفاهة الدنیا بعبارات غایة فی الروعة والمعنی وبتشبیهات رائعة.
وکشف فی القسم الثالث عن سبیل النجاة وأکّد علی ضرورة المبادرة إلی استغلال الفرص ما دامت سانحة قبل فوات الأوان وحلول الموت.
***
ص:487
ص:488
بَعَثَهُ حِینَ لَاعَلَمٌ قَائِمٌ، وَلَا مَنَارٌ سَاطِعٌ، وَلَا مَنْهَجٌ وَاضِحٌ.
أُوصِیکُمْ، عِبَادَاللّهِ، بِتَقْوَی اللّهِ، وأُحَذِّرُکُمُ الدُّنْیَا، فَإِنَّهَا دَارُ شُخُوص، ومَحَلَّةُ تَنْغِیص، سَاکِنُهَا ظَاعِنٌ، وقَاطِنُهَا بَائِنٌ، تَمِیدُ بِأَهْلِهَا مَیَدَانَ السَّفِینَةِ تَقْصِفُهَا الْعَوَاصِفُ فِی لُجَجِ الْبِحَارِ، فَمِنْهُمُ الْغَرِقُ الْوَبِقُ، ومِنْهُمُ النَّاجِی عَلَی بُطُونِ الأَمْوَاجِ، تَحْفِزُهُ الرِّیَاحُ بِأَذْیَالِهَا، وتَحْمِلُهُ عَلَی أَهْوَالِهَا، فَمَا غَرِقَ مِنْهَا فَلَیْسَ بِمُسْتَدْرَک، ومَا نَجَا مِنْهَا فَإِلَی مَهْلَک!
قال الإمام علیه السلام فی المقطع الأوّل من هذه الخطبة حیث أراد کشف النقاب عن العصر الذی انطلقت فیه الدعوة النبویّة والمراد به العصر الجاهلی ومن خلال ثلاث عبارات قصیرة:
«بَعَثَهُ حِینَ لَاعَلَمٌ قَائِمٌ، وَلَا مَنَارٌ سَاطِعٌ(1) ، وَلَا مَنْهَجٌ وَاضِحٌ».
فالطرق الصحراویّة والجبلیّة لم تکن واضحة فی الأزمنة السابقة کما هی علیه الیوم، طبعاً الطرق الرئیسیّة کانت معروفة بفعل کثرة التردد علیها والعبور والمرور، غیر أنّ الطرق الفرعیّة لم تکن کذلک، وبغیة إرشاد المسافرین کی لا یضلوا الطرق کانوا ینصبون فی النهار بعض العلامات بصیغة أعمدة وما شابه ذلک فی أغلب الطریق منذ بدایتها حتی نهایتها والتی یصطلح علیها ب «العلم» وکانوا یشعلون السراج علی سطوحها والتی یصطلح علیها ب «المنار»، وعلیه لولا أعلام النهار
ص:489
وأسرجة اللیل ووضوح الطرق الرئیسیّة لتزاید احتمال ضلال سالکی الطریق.
فقد شبه الإمام علیه السلام حیاة الناس فی الجاهلیّة بالطرق العشوائیّة التی لم تنصب علیها أیة علامة وسراج یضییء الدرب، ولیس لذلک من نتیجة سوی الضلال المبین للناس والذی أشار إلیه القرآن الکریم بقوله: «وَإِنْ کَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلاَل مُبِین»(1).
ثم واصل علیه السلام کلامه فخاطب الجمیع قائلاً:
«أُوصِیکُمْ، عِبَادَاللّهِ، بِتَقْوَی اللّهِ، وأُحَذِّرُکُمُ الدُّنْیَا، فَإِنَّهَا دَارُ شُخُوص،(2) ومَحَلَّةُ تَنْغِیص، سَاکِنُهَا ظَاعِنٌ، وقَاطِنُهَا بَائِنٌ».
وتشیر هذه العبارات الأربع جمیعاً إلی تقلب أحوال الدنیا وعدم استقرارها، مع إقترانها بالألم والمعاناة، والعجیب مع إتضاح دلالات تقلبها وتصرم أحوالها وکثرة خطوبها ومحنها فی جمیع مواضعها إلّاأنّ هنالک طائفة من الناس تراها خالدة من الناحیة العملیّة وتسعی إلیها بکلّ ما أوتیت من قوّة.
وعلی هذا الأساس تطرق الإمام علیه السلام إلی بیان مثال بلیغ ومثیر بشأن هذه الدنیا الغرور بحیث لا یمکن الإتیان بصورة أفضل منه فقال:
«تَمِیدُ بِأَهْلِهَا مَیَدَانَ السَّفِینَةِ تَقْصِفُهَا(3) الْعَوَاصِفُ فِی لُجَجِ(4) الْبِحَارِ، فَمِنْهُمُ الْغَرِقُ الْوَبِقُ(5) ، ومِنْهُمُ النَّاجِی عَلَی بُطُونِ الأَمْوَاجِ، تَحْفِزُهُ(6) الرِّیَاحُ بِأَذْیَالِها، وتَحْمِلُهُ عَلَی أَهْوَالِها، فَما غَرِقَ مِنْهَا فَلَیْسَ بِمُسْتَدْرَک، ومَا نَجَا مِنْهَا فَإِلَی مَهْلَک!».
وتشبیه الدنیا بالبحر وسکنتها برکاب السفینة وإبان العواصف الشدیدة التی لا تفضی سوی إلی الغرق قد ورد قبیل هذه الخطبة للإمام علیه السلام فی مواعظ لقمان الحکیم، فقد ورد عن الإمام الکاظم علیه السلام فی ما روی عن لقمان الحکیم أنّه وعظ ابنه
ص:490
قائلاً:
«یا بُنَیَّ إِنَّ الدُّنْیا بَحْرٌ عَمیقٌ قَدْ غَرِقَ فیها عالَمٌ کَثیرٌ فَلْتَکُنْ سَفینَتُکَ فیها تَقْوَی اللّهِ وحَشْوُهَا الإِیمانُ وشَراعُهَا التَّوَکَّلُ وقیّمُهَا الْعَقْلُ ودَلیلُهَا الْعِلْمُ وسُکّانُهَا(1) الصَّبْرُ»(2).
وقد أشار الإمام علیه السلام فی مواصلته لهذه الخطبة إلی سبیل النجاة من هذا البحر المرعب.
علی کلّ حال فما بیّنه الإمام علیه السلام فی هذا التشبیه البلیغ والرائع هو أنّه رسم صورة لأهل الدنیا کیف یتبدل أمنهم إلی خوف وصحتهم إلی مرض وغناهم إلی فقر وتجمعهم إلی فرقة حین یتعرضون لمختلف أنواع المصائب والمحن والخطوب، وکیف تقضی علیهم هذه الدنیا من خلال أحداثها وعلی هذا الأساس یبدو من العجیب کیف یتعلق الناس بها ویطمأنون إلیها.
***
ص:491
ص:492
عِبَادَ اللّهِ، الاْنَ فَاعْلَمُوا، والأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ، والأَبْدَانُ صَحِیحَةٌ، والأَعْضَاءُ لَدْنَةٌ، والْمُنْقَلَبُ فَسِیحٌ، والْمَجَالُ عَرِیضٌ، قَبْلَ إِرْهَاقِ الْفَوْتِ، وحُلُولِ الْمَوْتِ.
فَحَقِّقُوا عَلَیْکُمْ نُزُولَهُ، وَلَا تَنْتَظِرُوا قُدُومَهُ.
کشف الإمام علیه السلام بوضوح فی شرحه لهذا الجانب من الخطبة - کما أشرنا سابقاً - النقاب عن سبیل النجاة من تلک المحن الخطیرة التی أشار إلیها فی القسم السابق، حیث تبدو النجاة من الخطوب الخطیرة لهذه الدنیا المزخرفة والغرور حتمیةً إذا ما طبقت هذه الوصایا والتعالیم فقال:
«عِبَادَ اللّهِ، الاْنَ فَاعْلَمُوا، والأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ، والأَبْدَانُ صَحِیحَةٌ، والأَعْضَاءُ لَدْنَةٌ(1) ، والْمُنْقَلَبُ(2) فَسِیحٌ(3) ، والْمَجَالُ عَرِیضٌ، قَبْلَ إِرْهَاقِ(4) الْفَوْتِ، وحُلُولِ الْمَوْتِ. فَحَقِّقُوا عَلَیْکُمْ نُزُولَهُ، وَلَا تَنْتَظِرُوا قُدُومَهُ».
فقد حذّر الإمام علیه السلام فی هذه العبارات العمیقة المعنی الجمیع، ولاسیما الشباب والکهول من ضرورة اغتنام الفرصة والمبادرة إلی العمل کونه أفضل وسیلة للنجاة قبل فوات الأوان وحلول عهد الشیخوخة والعجز حیث تتباطئ فیه الألسن ویضعف
ص:493
فیه البدن ویمرض وتذبل الأعضاء ویضیق المیدان وتسلب الفرصة، نعم لابدّ من المبادرة للعمل الصالح قبل حلول هذه العقبات.
کما أکّد علی عدم الظن ببعد الأجل مهما کان عمر الإنسان، فلا ینبغی الغفلة حتی لمن کان فی سنی الشباب والفتوة والشعور بالقوّة والنشاط والصحة والسلامة، والإبتعاد عن الغرور بحیث لو قیل له: کفاک ذنباً ومعصیة فعد إلی اللّه وتب إلیه، قال مازالت الفرصة سانحة، وسیأتی یوماً وقت التوبة والعمل الصالح فیما بعد، فهل هنالک من یعلم ماذا سیحصل غداً، وهل هناک من یضمن ماذا سیحل بعد ساعة، ومن منّا سیبقی حیاً ومن منّا سیموت؟ وقد ورد مثل هذا المعنی فی مستهل الخطبة 237 حیث قال علیه السلام:
«فَاعْلَمُوا واَنْتُمْ فی نَفْسِ الْبَقاءِ والصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ والتَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ».
جدیر ذکره أنّ أغلب نسخ نهج البلاغة ذکرت فی مستهل هذه الخطبة العبارة
«الآنَ فَاعْلَمُوا» بدلاً من (فاعلموا) وتشهد القرائن، علی صحة هذه النسخة، أضف إلی ذلک فإنّ انسجام المطالب وتناسب المواعظ تفید ضرورة العمل، والخطبة 237 شاهد علی ذلک.
***
ص:494
یُنَبِّهُ فیهِ عَلی فَضیلَتِهِ لِقَبُولِ قَوْلِهِ واَمْرِهِ ونَهْیِهِ (1)
تتألف هذه الخطبة من ثلاثة أقسام:
أشار الإمام علیه السلام فی القسم الأوّل إلی طاعته الخالصة ودفاعه المطلق عن النّبی واستدل علی ذلک بعلم صحب النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وشهادتهم.
وتطرق فی القسم الثانی إلی الأحداث المهمّة منذ احتضار النّبی ووفاته حتی غسله ودفنه والصلاة علیه والتی تفید أنّه علیه السلام أقرب من غیره للنبی صلی الله علیه و آله.
وخلص فی القسم الثالث إلی نتیجة واضحة تتمثل فی وجوب طاعته من قبل الجمیع بدلیل کلّ سوابقه وفضائله ومناقبه، ثم دعا مخاطبیه لمواکبته فی حفظ بیضة الدین وإرث النّبی صلی الله علیه و آله وإمتثال أوامره فی جهاد العدو (معاویة وجند الشام) وأن لا یشعروا بأدنی شکّ فی أنّهم علی الحقّ وأنّ أعداءهم علی الباطل.
ص:495
ص:496
ولَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أَنِّی لَمْ أَرُدَّ عَلَی اللّهِ وَلَا عَلَی رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ. ولَقَدْ وَاسَیْتُهُ بِنَفْسِی فِی الْمَوَاطِنِ الَّتِی تَنْکُصُ فِیهَا الأَبْطَالُ، وتَتَأَخَّرُ فِیهَا الأَقْدَامُ، نَجْدَةً أَکْرَمَنِی اللّهُ بِهَا.
استهل الإمام علیه السلام هذه الخطبة بالإشارة إلی أمرین مهمین؛ الأوّل أنّه کان دائماً وفی جمیع المواطن مطیعاً مطلقاً للّه ولرسوله، بینما کان هنالک بعض الأفراد من هذه الأُمّة وبعض الصحابة ممن ینبری بین حین وآخر للرد علی النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فقال:
«ولَقَدْ(1) عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أَنِّی لَمْ أَرُدَّ عَلَی اللّهِ وَلَا عَلَی رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ».
«مستحفظون» :(بفتح الفاء صیغه اسم مفعول) إشارة إلی تلک الطائفة التی استودعها رسول اللّه أمانة سرّه والتاریخ الإسلامی الصحیح، وهذا یدلّ علی وجود
ص:497
ثلّة من صحبه الذین حفظت سره بدقّة بعیدة عن أی غرض وسوء نیّة، فهم حفظة الأسرار الإسلامیّة والحوادث التاریخیّة والذین کان یعرفهم الناس بالإخلاص والأمانة.
فی مقابل تلک الزمرة علی عهد معاویة التی باعت دینها بالدنیا ووضعت الأحادیث والروایات وانبرت للقضاء علی فضائل علی علیه السلام ونسبت النقص والکذب له علیه السلام لتعمر دنیاها بهذه المعاصی.
وهذه العبارة تمثّل فی الوقت ذاته إشارة إلی أولئک الذین تنطلق ألسنتهم أحیاناً بالردّ والإعتراض علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله، کما ورد فی القرآن الکریم: «وَمِنْهُمْ مَّنْ یَلْمِزُکَ فِی الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَّمْ یُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ یَسْخَطُونَ»(1).
وإشارة إلی بعض الأفراد المعروفین مثل عمر والذی ورد بشأنه فی روایات العامّة أنّه اعترض یوم الحدیبیة - طبق نقل المصنّف عبدالرزّاق الصنعانی، العالم المعروف لدی العامّة علی النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله حیث قال له: ألست رسول اللّه؟ قال صلی الله علیه و آله:
بلی. قال عمر: ألسنا علی الحقّ وعدونا علی الباطل؟ قال صلی الله علیه و آله: بلی. فقال عمر:
فعلام نعطی الدنیّة فی دیننا (ونمضی صلحاً مع العدو أشبه بالاستسلام؟) فردّ علیه النّبی صلی الله علیه و آله بأنّه رسول اللّه ویتبع أمر اللّه وأنّه سینصره، فواصل عمر إعتراضه وقال: أو لم تقل إننا سنحج البیت؟ فقال صلی الله علیه و آله: نعم سنحج البیت ولم أقل سنحجه هذا العام(2).
ویفهم من الروایة أنّه لم یکن الخلیفة الثانی فقط من یعترض علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله بل کانت معه طائفة ممن تعترض أیضاً.
إلّا أننا لا نلمس فی أی من صفحات التاریخ أنّ علیّاً علیه السلام اعترض علی فعل من
ص:498
أفعال النّبی صلی الله علیه و آله بل کان یتبعه فی الأمور کافّة ویمتثل لأوامره دون نقاش.
ثم واصل علیه السلام کلامه مشیراً إلی تضحیاته فی سبیل الإسلام والنّبی صلی الله علیه و آله فقال:
«ولَقَدْ وَاسَیْتُهُ(1) بِنَفْسِی فِی الْمَوَاطِنِ الَّتِی تَنْکُصُ(2) فِیهَا الأَبْطَالُ، وتَتَأَخَّرُ فِیهَا الأَقْدَامُ، نَجْدَةً أَکْرَمَنِی اللّهُ بِهَا».
هذه العبارات القصیرة إشارة إلی تضحیاته علیه السلام فی الغزوات الإسلامیّة کأحد وخیبر والأحزاب وحنین.
وإننا لنعلم حسب تصریح المؤرخین بشأن معرکة أُحد أنّ خصوم الدعوة لما بثّوا شائعة قتل النّبی صلی الله علیه و آله فی المعرکة وقتل العدید من المسلمین انفرج سائر المسلمین عن المعرکة ولم یبقَ حول النبی سوی علی علیه السلام الذی دافع بکلّ صبر وثبات(3).
کما نعلم أنّ أحداً لم ینبر فی یوم الأحزاب ل «عمرو بن عبدود» ویبارزه سوی أمیرالمؤمنین علی علیه السلام حین تخلف جمیع المسلمین(4).
وفی معرکة خیبر کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یسلم الرایة کلّ یوم لمن یزعم القتال لکنهم لم یحققوا شیئاً حتی کان آخر یوم فسلم الرایة لعلی علیه السلام ففتح حصون خیبر الواحدة تلو الأخری(5).
ولقد فرّ أغلب المسلمین یوم حنین حین تعرضوا لهجوم العدو المباغت لما شعروا بالخوف والرعب وکان علی رأس مَن ثبت وصمد فی الدفاع عن النّبی صلی الله علیه و آله هو علی علیه السلام(6).
ص:499
وبالطبع فإنّ تضحیات علی علیه السلام لا تقتصر علی میادین القتال، بل اقتحم علیه السلام سائر المیادین بکلّ شجاعة سیما تلک التی یتخاذل فیها الأبطال، فقد بات علیه السلام علی فراش رسول اللّه حین همَّ الکفّار والمشرکون بالقضاء علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ففداه بنفسه.
***
ص:500
ولَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَی صَدْرِی. ولَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِی کَفِّی، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَی وَجْهِی. ولَقَدْ وُلِّیتُ غُسْلَه صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وَالْمَلاَئِکَةُ أَعْوَانِی، فَضَجَّتِ الدَّارُ والأَفْنِیَةُ. مَلاٌَ یَهْبِطُ، ومَلاٌَ یَعْرُجُ، ومَا فَارَقَتْ سَمْعِی هَیْنَمَةٌ مِنْهُمْ. یُصَلُّونَ عَلَیْهِ حَتَّی وَارَیْنَاهُ فِی ضَرِیحِهِ. فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّی حَیًّا ومَیِّتاً؟ فَانْفُذُوا عَلَی بَصَائِرِکُمْ، وَلْتَصْدُقْ نِیَّاتُکُمْ فِی جِهَادِ عَدُوِّکُمْ. فَوَالَّذِی لَاإِلهَ إِلَّا هُوإِنِّی لَعَلَی جَادَّةِ الْحَقِّ، وإِنَّهُمْ لَعَلَی مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ. أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وأَسْتَغْفِرُ اللّهَ لِی وَلَکُمْ!
لما فرغ الإمام علیه السلام من بیان رابطته الحمیمة والقائمة علی أساس الإخلاص والطاعة مع النّبی صلی الله علیه و آله فی حیاته ذکر علاقته به بعد وفاته والتی تفید أنّه لم یکن لأحد من المسلمین غیره مثل هذه العلاقة بالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله فقال:
«ولَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَی صَدْرِی. ولَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِی کَفِّی، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَی وَجْهِی».
والعبارة:
«اِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَی صَدْرِی» یمکن أن تشیر إلی أنّ أمیر المؤمنین علی علیه السلام رفع رأس النّبی صلی الله علیه و آله وضمه إلی صدره فی تلک اللحظة والتی کانت سکینة للنّبی صلی الله علیه و آله وعلی علیه السلام بالإضافة إلی أنّ هذه الوضعیة تسهل من التقاط الأنفاس، کما یحتمل أن
ص:501
یکون رأس النبی کان فی حجر الإمام علیه السلام وقد انحنی فمسّ صدره علیه السلام رأس النّبی صلی الله علیه و آله، إلّاأنّ هذا الاحتمال لا ینسجم مع قوله
«عَلَی صَدْرِی». وقد اختلف الشرّاح فی المراد من النفس فی العبارة
«سَالَتْ نَفْسُهُ» حیث دارت أقوالهم حول محورین:
الأوّل: أنّ المراد من النفس الدم الذی ورد فی أغلب عبارات الفقهاء والأدباء والتی أشارت إلی هذا المعنی، ومن ذلک
«النفس السائلة» فی الکتب الفقهیة کما ورد مثل هذا الاستعمال فی الأشعار العربیة حیث قیل: ثم سیلان نفسه فی کفّه، وإمرارها علی وجهه، وأراد بنفسه دمه یقال: إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قاء وقت موته دماً یسیر، وأنّ علیّاً علیه السلام مسح بذلک الدمه وجهه(1).
والتفسیر الآخر هو أنّ النفس تلک الروح البشریّة القدسیّة التی وردت الإشارة إلیها کراراً فی القرآن الکریم «اللّهُ یَتَوَفَّی الأَنْفُسَ حِینَ مَوْتِهَا»(2). وعلیه فمفهوم العبارة أنّ روح النّبی الطاهرة فاضت علی ید علی حین فارقت بدنه الطاهر فمسح بها وجهه(3).
إلّا أنّ العبارة التی بقیت مبهمة علی أغلب الشرّاح والمترجمین هی قوله علیه السلام:
«أَمْرَرْتُهَا عَلَی وَجْهِی» فقالوا: وهل الروح شیء یمکن مسح الوجه بها؟!
ولحل هذا الإشکال یمکن أن یقال إنّ
«الکفّ» مؤنثة لأنّ الأعضاء الثنائیة فی البدن مؤنثة بینما الأعضاء المفردة مذکرة، قال الشاعر العربی:
«وکَفٍّ خَضیب زُیِّنَتْ بِبَنانی»، وعلیه فمعنی العبارة أنّ کفّی لامست الروح القدسیّة للنّبی صلی الله علیه و آله ثم مسحت وجهی بتلک الکفّ للبرکة، وهکذا یحلّ إشکال تفسیر العبارة المذکورة.
ثم خاض علیه السلام فی سائر مراسم وفاة النّبی صلی الله علیه و آله کالغسل والدفن فقال:
«ولَقَدْ وُلِّیتُ
ص:502
غُسْلَه صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وَالْمَلاَئِکَةُ أَعْوَانِی، فَضَجَّتِ الدَّارُ والأَفْنِیَةُ(1). مَلاٌَ یَهْبِطُ، ومَلاٌَ یَعْرُجُ، ومَا فَارَقَتْ سَمْعِی هَیْنَمَةٌ(2) مِنْهُمْ. یُصَلُّونَ عَلَیْهِ حَتَّی وَارَیْنَاهُ(3) فِی ضَرِیحِهِ».
والعبارة:
«وُلّیت غسله» یمکن أن تکون إشارة إلی أنّ النّبی صلی الله علیه و آله کلّفنی بالقیام بهذا العمل، ومعونة الملائکة بهدف إکرام النّبی صلی الله علیه و آله وتعظیمه وإجلاله، وضجیج الدار والأفنیة الوارد فی العبارة یمکن أن یراد به المعنی الحقیقی، من قبیل ما ذکروه بشأن تسبیح الجمادات فی تفسیر آیات التسبیح الواردة فی القرآن الکریم، کما یمکن أن یکون المراد به المعنی المجازی لیشیر إلی الحزن والأسی العظیم الذی خیم علی بیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وهنالک احتمال أن تکون الملائکة محذوفة والعبارة تدل علی ذلک، وعلیه فمعنی العبارة
«ضجت...» هو ضجیج الملائکة الذین کانوا فی بیته صلی الله علیه و آله، ولکن یبدو هذا الاحتمال بعیداً.
والاحتمال الرابع هو أنّ هذا الضجیج کان من قبل الناس الحاضرین حول البیت.
والعبارة هبوط وعروج الملائکة إشارة إلی أنّ الملائکة کانت تأتی جماعات جماعات تصلّی علی النّبی وتعرج، وکان الإمام علیه السلام یسمع بأذنه الشریفة أصواتهم حین الصلاة والسلام علی النّبی صلی الله علیه و آله وقد تواصلت هذه الصلوات والتحیات علی النّبی صلی الله علیه و آله حتی دفنه.
والتعبیر بالضریح إشارة إلی الحفرة التی أعدت لدفن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله؛ لأنّ هذا هو المعنی اللغوی للضریح، وإن کان الضریح الیوم یطلق علی ما یوضع علی القبر.
وقد تواترت روایات الفریقین علی أنّ علیّاً علیه السلام تولی لوحده غسل النّبی ودفنه فقد روی المرحوم العلّامة المجلسی فی بحار الأنوار عن کتاب الوصیة للشیخ
ص:503
«عیسی الضریر» عن الإمام الکاظم علیه السلام أنّه قال:
«قالَ رَسُولُ اللّهِ یا عَلی! أَضَمِنْتَ دَیْنی تَقْضیهِ عَنِّی! قالَ نَعَمْ. قالَ اللّهُمَّ فَاشْهَدْ. ثُمَّ قالَ یا عَلی تَغْسِلْنی ولا یَغْسِلْنی غَیْرُکَ فَیَعْمی بَصَرُهُ... قالَ عَلی علیه السلام فَکَیْفَ أقْوی عَلَیْکَ وَحْدی؟ قالَ یُعْینُکَ جِبْرَئیلُ ومیکائیلُ وإسْرافیلُ»(1).
ثم خاض الإمام علیه السلام فی استنتاج من مجموع الأبحاث السابقة لیعتبر قربه من النّبی صلی الله علیه و آله فی حیاته ووفاته دلیلاً واضحاً علی أولویته بأمر الخلافة، فقال:
«فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّی حَیّاً ومَیِّتاً؟» وأثر ذلک عُبیء الجمیع للجهاد ضد العدو.
لعل هنالک من یتساءل وما علاقة هذه الأمور بقضیة الخلافة؟ وتبدو الإجابة عن هذا السؤال واضحة؛ ومراد الإمام علی علیه السلام لوکانت خلافة النّبی - علی فرض - أنّه غیر منصوص علیها فلابدّ أن تسند إلی أقرب الأفراد منه وأولاهم به صلی الله علیه و آله، أوَلیس ذلک الشخص الذی عاش التسلیم المطلق لأوامر النّبی وأعظمهم تضحیة وجهاداً فی الغزوات الإسلامیّة ومن کان یری هبوط الملائکة وعروجها ولا تفارق سمعه هینمة من أصواتها ومن تولی غسل النّبی وتکفینه ودفنه کما عهد إلیه أولی من غیره بهذا الأمر؟ فعلمه ومعارفه من جانب وتضحیاته الجسام من جانب آخر وقربه من رسول اللّه من جانب ثالث والوصیة له بغسل النّبی ودفنه وتکفینه من الجانب الرابع فکلّ هذه الامتیازات لو وضعت فی کفّة میزان لرجحت علی الکفّة الأخری مهما کانت ثم خلص علیه السلام إلی نتیجة فقال:
«فَانْفُذُوا عَلَی بَصَائِرِکُمْ، وَلْتَصْدُقْ نِیَّاتُکُمْ فِی جِهَادِ عَدُوِّکُمْ. فَوَالَّذِی لَاإِلهَ إِلَّا هُوإِنِّی لَعَلَی جَادَّةِ الْحَقِّ، وإِنَّهُمْ لَعَلَی مَزَلَّةِ(2) الْبَاطِلِ».
فقد اعتمد الإمام علیه السلام فی الواقع منطقاً منظماً بصیغة علّة ومعالیل متسلسلة فی هذه الخطبة، فقد أثبت بادئ الأمر قربه من النّبی وتضحیاته فی حیاته ثم قربه منه
ص:504
بعد وفاته، وأثر ذلک خلص إلی أولویته فی إحراز مقام الخلافة. ثم تطرق إلی نتیجة کلیّة فدعی الجمیع إلی جهاد العدو(1).
والعبارة:
«جادَةِ الْحَقِّ ومَزَلَّةِ الْباطِلِ» هی عبارة رائعة ودقیقة، ذلک لأنّ الحقّ کالجادة المستقیمة والواضحة التی توصل الإنسان إلی مقصده المطلوب، إلّاأنّ الباطل لیس بطریق بل مزلة وهاویة.
ثم اختتم الإمام علیه السلام الخطبة بعبارتین فقال:
«أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وأَسْتَغْفِرُ اللّهَ لِی وَلَکُمْ!».
فقد أتمّ الإمام علیه السلام علی الناس الحجّة بهذه العبارة وأکّد ضرورة العمل بتعالیمه ووصایاه ثم سأل اللّه کحسن ختام للخطبة المغفرة للجمیع لیشمل اللّه صحبه بلطفه ورحمته إن إرتکبوا بعض الأخطاء.
أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی الفاجعة الألیمة لرحیل النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وضجیج الملائکة التی تکشف عن عظم هذا المصاب الجلل.
وتبدو هذه الحادثة أعظم خطورة حین تتزامن مع سائر الرزایا والأحداث والتی تکشف دراستها عن مدی عمق تلک الفاجعة.
وقد خاض جمع من شرّاح نهج البلاغة هنا فی ذکر بعض هذه الأحداث؛ لکننا رأینا من الأفضل أن نترک العنان لقلم «الشهرستانی» أحد علماء القرن السادس صاحب کتاب الملل والنحل والمعروف بتعصبه للعامّة لنری ما ذکره بهذا الخصوص فقد أشار إلی عشرة اختلافات مهمّة کلّ واحدة منها تعدّ مصیبة للعالم، وإن سعی لتبریرها تحت ذریعة اجتهاد الصحابة، ولکن تلک الأعمال کانت علی درجة من
ص:505
الوضوح فی شناعتها بحیث تأبی التبریر بالاجتهاد أو الخطأ.
الاختلاف الأوّل فی النزاع الذی حدث عند النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی مرضه حیث روی البخاری فی صحیحه عن ابن عباس أنّ النّبی صلی الله علیه و آله قال حین اعتل:
«إیتُونی بِدَواةٍ وقِرْطاس أکْتُبُ لَکُمْ کِتاباً لا تَضِلُّوا بَعْدی».
قال عمر:
«إنّ رسول اللّه غلب علیه الوجع (وما یقوله خارج عن الوعی) حسبنا کتاب اللّه».
فاشتد نزاع الصحابة فقال صلی الله علیه و آله:
«قُومُوا عَنّی لا یَنْبَغی عِنْدی التَّنازُعُ».
قال ابن عباس بعد نقله لهذا الحدیث:
«الرَّزِیَّةُ کُلُّ الرَّزِیَّهِ ما حالَ بَیْنَنا وبَیْنَ کِتابِ رَسُولِ اللّهِ»(1).
ثم تطرق إلی الاختلاف الثانی فی مرض رسول اللّه أیضاً حین قال صلی الله علیه و آله:
«جَهِّزُوا جیشَ أُسامَةَ لَعَنَ اللّهُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ». فقال البعض علینا إمتثال أمر النّبی، وکان أسامة خارج المدینة یتأهب للحرکة نحوالشام للقضاء علی فتنتهم، وقال البعض الآخر غلب الوجع علی النّبی ولا نطیق مفارقته.
والاختلاف الثالث حین وفاة النّبی صلی الله علیه و آله حیث قال عمر:
«مَنْ قالَ أَنَّ مُحَمّداً قَدْ ماتَ قَتَلْتُهُ بِسَیْفی هذا وإِنَّما رُفِعَ إلَی السَّماءِ کَما رُفِعَ عیسی علیه السلام».
وقال أبوبکر: من کان یعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات، ومن کان یعبد ربّ محمد فانّه حی لا یموت ثم تلی هذه الآیة: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ...»(2).
فقبل الناس منه وقال عمر: کأنّی لم أسمع هذه الآیة إلّاالآن(3).
ص:506
والاختلاف الرابع فی موضع دفن النّبی حیث أراد المهاجرون دفنه فی مکة، بینما أراد الأنصار دفنه فی المدینة لأنّها دار الهجرة، ورغبت فئة ثالثة بدفنه فی بیت المقدس حیث الأنبیاء ثم اتفقوا جمیعاً علی دفنه فی المدینة، ویعتقد البعض أنّ هدف عمر من هذا الکلام هو اشغال الناس حتی یحضر أبوبکر وتتمّ له الخلافة.
حیث روی عنه صلی الله علیه و آله أنّه قال:
«الأَنْبِیاءُ یُدْفَنُونَ حَیْثُ یَمُوتُونَ»(1).
وبرز الاختلاف الخامس فی الخلافة والذی عدّه الشهرستانی من أهم الخلافات حیث قال:
«اِذْ ما سُلَّ سیفٌ فِی الاِْسْلامِ عَلی قاعِدَة دِینیّة مِثْلَ ما سُلَّ عَلَی الاِْمامَةِ فی کُلِّ زَمان».
ثم نقل قصّة سقیفة بنی ساعدة وماحدث فیها من اختلافات وبالتالی بیعة أبی بکر.
واعتبر الخلاف السادس قضیة فدک وأشار فیه إلی خطبة فاطمة الزهراء علیها السلام حیث طالبت بها کهبة من النّبی أو میراث، فاحتج علیها أبوبکر بالحدیث (الموضوع)
«نَحْنُ مَعاشِرَ الأَنْبِیاءِ لا نُوَرِّثْ، ما تَرَکْناهُ صَدَقَةٌ».
ثم أشار إلی الاختلاف السابع بشأن مانعی الزکاة الذی اعتبرهم البعض کفرة بینما لم یکفرهم البعض الآخر والاختلاف الثامن نص أبوبکر علی خلافة عمر حین وفاته فقال له الناس:
«وَلَّیْتَ عَلَیْنا فظّاً غَلیظاً»؛ بینما استجاب له سائر الناس.
والاختلاف التاسع فی الشوری التی نصبها عمر لتعیین الخلیفة من بعده، والاختلاف العاشر الذی حدث علی عهد أمیر المؤمنین علی علیه السلام بعد أن بایعته الأُمة علی الخلافة، فأثار طلحة والزبیر وعائشة، فتنة الجمل، ومعاویة، صفین، والخوارج، النهروان(2).
ص:507
ص:508
یُنَبِّهُ عَلی إحاطَةِ عِلْمِ اللّهِ بِالْجُزْئِیّاتِ، ثُمَّ یَحُثُّ عَلَی التَّقْوی،
ویُبَیِّنُ فَضْلَ الاِْسْلامِ والْقُرْآنِ (1)
تتألف هذه الخطبة من عدّة أقسام:
تحدّث الإمام علیه السلام فی القسم الأوّل بعبارات رائعة عن العلم الإلهی المطلق وشهد للنبی صلی الله علیه و آله بالرسالة، لیکمل فی الواقع الشهادتین بعبارات جدیدة.
وأوصی علیه السلام فی القسم الثانی بالتقوی وأنّها دواء کلّ داء والشفاء من جمیع الأمراض والوسیلة لإصلاح المفاسد کافّة وطهارة الروح وقرة العین، وقد تضمنت إشارات إلی التقوی من خلال ذکر بعض النقاط التی قلّما ذکرت فی سائر الخطب.
ص:509
وتطرق فی القسم الثالث إلی أهمیّة الإسلام ومزایاه بعبارات مشوقة تستقطب القلوب.
وتحدّث فی القسم الرابع عن النّبی صلی الله علیه و آله وخدماته الجلیلة فی ذلک العصر المظلم الجاهلی وزعامته للنهضة الإسلامیّة.
واختتم الخطبة بالحدیث عن القرآن الکریم من خلال ذکره لأربعین صفة من صفاته التی یمکن القول إنّها أشمل إشادة وتمجید للقرآن، علیه آلاف التحیة والثناء.
***
ص:510
یَعْلَمُ عَجِیجَ الْوُحُوشِ فِی الْفَلَوَاتِ، ومَعَاصِیَ الْعِبَادِ فِی الْخَلَوَاتِ، واخْتِلاَفَ النِّینَانِ فِی الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ، وتَلاَطُمَ الْمَاءِ بِالرِّیَاحِ الْعَاصِفَاتِ.
وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً نَجِیبُ اللّهِ، وسَفِیرُ وَحْیِهِ، ورَسُولُ رَحْمَتِهِ.
بما أنّ هذه الخطبة تتحدّث حول الإسلام والقرآن، فقد استهلها الإمام علیه السلام بالحدیث عن الإیمان بالمبدأ والمعاد؛ الإیمان الذی یشکل الدافع لجمیع الخیرات والوسیلة لجمیع البرکات، حین یرید التحدث عن معرفة اللّه فإنّه یرکز علی العلم الإلهی المطلق الذی یعد من أهم صفات الحقّ تعالی فقال:
«یَعْلَمُ عَجِیجَ(1) الْوُحُوشِ فِی الْفَلَوَاتِ(2) ، ومَعَاصِیَ الْعِبَادِ فِی الْخَلَوَاتِ، واخْتِلاَفَ النِّینَانِ(3) فِی الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ(4) ، وتَلاَطُمَ الْمَاءِ بِالرِّیَاحِ الْعَاصِفَاتِ(5)».
فقد رکز الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة علی أربع ظواهر مختلفة عن بعضها البعض الآخر فی هذا العالم ولا تحضی بالاهتمام، لیشیر إلی علم اللّه تعالی بها:
ص:511
الأُولی: وکما نعلم فإنّ الصحاری المترامیّة الأطراف فی العالم تضم العدید من الحیوانات الوحشیة التی لا یطرق سمعنا ضجیجها وعجیجها، لکن اللّه تعالی عالم بها ویعلم کلّ حیوان فیها ومتی یضج بصوته وما طبیعة ذلک الضجیج.
والظاهرة الثانیة: کثرة الذنوب التی تمارس فی الخلوات والبعیدة عن أنظار الناس والتی تخفی علینا جمیعاً، لکن اللّه یعلم بکلّ إنسان فی کلّ مکان وکل زمان والذنب الذی یرتکبه.
والظاهرة الثالثة: أنّه یعلم بحرکات وسکنات الحیتان فی أعماق البحار والغائبة عن عیون الناس.
وأخیراً یعلم الأمواج فی المحیطات والبحار وحرکاتها فی اللیل والنهار والتی لا ندرک سوی جزء یسیر منها، فهو العالم متی تتحرک واین تتحرک وکیف تتوقف.
ولو أضفنا لکلّ هذه الأمور أنّ علم اللّه تعالی بهذه الأمور لا یقتصر علی الیوم والأمس، بل منذ الأزل الذی شهد وقوع هذه الحوادث لیل نهار (ما عدا الذنوب البشریّة المحددة بزمان معین) فاللّه یعلم کیف تحققت کلّ واحدة من هذه الظواهر وأین وکیف.
وکذلک لو أضفنا أنّ الأمور المذکورة لا تقتصر علی الکرة الأرضیّة، التی تعدّ مرکز مختلف الحوادث، بل ملیاردات الکواکب فی مجرّاتنا والتی تعتبر مرکزاً للعدید من الحوادث الدائمیة بالإضافة إلی سائر المجرّات الأخری والتی یتجاوز عددها الملیارات.
نعم! کلّ هذه الأمور حاضرة فی علم اللّه وهنا نوقن بما ذکره القرآن الکریم فی الآیة 27 من سورة لقمان اذ قالت: «وَلَوأَنَّمَا فِی الأَرْضِ مِنْ شَجَرَة أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ یَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِدَتْ کَلِمَاتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ». فی أنّه عین الواقع وهی لیست من قبیل الاستغراب فحسب، بل لا تعدّ بشیء بالنسبة لدائرة علم اللّه المطلق.
ص:512
ثم واصل کلامه علیه السلام بعد بیان علم اللّه تعالی بعالم الخلق بالشهادة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله بالرسالة واثنی علیه بثلاث صفات مهمّة من صفاته فقال:
«وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً نَجِیبُ(1) اللّهِ، وسَفِیرُ وَحْیِهِ، ورَسُولُ رَحْمَتِهِ».
نعم! فهو إنسان غایة فی النجابة والسمو انتجبه اللّه للنبوّة وأنزل علیه وحیه وجعله موضع رحمته.
وقد تجلت هذه الرحمة بعدة صور ووجوه، فتارة عن طریق بیان المعارف الدینیّة السامیّة، وتارة أخری بواسطة شرح التعالیم وثالثة بطلب الرخصة من اللّه للأمّة، وبالتالی ستظهر هذه الرحمة بصیغة الشفاعة یوم القیامة؛ نسأل اللّه أن نشمل بها جمیعاً
جاء فی الحدیث النبوی الشریف أنّه لما نزلت الآیة الشریفة: «وَمَا أَرْسَلْنَاکَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِینَ»(2) أنّه صلی الله علیه و آله قال لجبرئیل علیه السلام لما نزلت هذه الآیة:
«هَلْ أَصابَکَ مِنْ هَذِهِ الرَّحمَة شَیءٌ؟ قال: نَعم إنِّی کُنتُ أخشی عَاقبةَ الأمر، فآمَنتُ بِکَ لَمّا أَثنی اللّهُ عَلیَّ بِقَولِهِ : «ذِی قُوَّة عِنْدَ ذِی الْعَرْشِ مَکِین» (3)
وَقَدْ قَالَ: إنّما أنا رَحمَةٌ مُهداةٌ»(4).
***
ص:513
ص:514
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّی أُوْصِیکُمْ بِتَقْوَی اللّهِ الَّذِی ابْتَدَأَ خَلْقَکُمْ، وإِلَیْهِ یَکُونُ مَعَادُکُمْ، وبِهِ نَجَاحُ طَلِبَتِکُمْ، وإِلَیْهِ مُنْتَهَی رَغْبَتِکُمْ، ونَحْوَهُ قَصْدُ سَبِیلِکُمْ، وإِلَیْهِ مَرَامِی مَفْزَعِکُمْ. فَإِنَّ تَقْوَی اللّهِ دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِکُمْ، وبَصَرُ عَمَی أَفْئِدَتِکُمْ، وشِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِکُمْ، وصَلاَحُ فَسَادِ صُدُورِکُمْ، وطُهُورُ دَنَسِ أَنْفُسِکُمْ، وجَلاَءُ عَشَا أَبْصَارِکُمْ، وأَمْنُ فَزَعِ جَأْشِکُمْ، وضِیَاءُ سَوَادِ ظُلْمَتِکُمْ. فَاجْعَلُوا طَاعَةَ اللّهِ شِعَاراً دُونَ دِثَارِکُمْ، ودَخِیلاً دُونَ شِعَارِکُمْ، ولَطِیفاً بَیْنَ أَضْلاَعِکُمْ، وأَمِیراً فَوْقَ أُمُورِکُمْ، ومَنْهَلاً لِحِینِ وُرُودِکُمْ، وشَفِیعاً لِدَرَکِ طَلِبَتِکُمْ، وجُنَّةً لِیَوْمِ فَزَعِکُمْ، ومَصَابِیحَ لِبُطُونِ قُبُورِکُمْ، وسَکَناً لِطُولِ وَحْشَتِکُمْ، ونَفَساً لِکَرْبِ مَوَاطِنِکُمْ. فَإِنَّ طَاعَةَ اللّهِ حِرْزٌ مِنْ مَتَالِفَ مُکْتَنِفَة، ومَخَاوِفَ مُتَوَقَّعَة، وأُوَارِ نِیرَان مُوقَدَة. فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَی عَزَبَتْ عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا، واحْلَوْلَتْ لَهُ الاُْمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِها، وانْفَرَجَتْ عَنْهُ الأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاکُمِهَا، وأَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ انْصَابِهَا، وهَطَلَتْ عَلَیْهِ الْکَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا، وتَحَدَّبَتْ عَلَیْهِ الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا، وتَفَجَّرَتْ عَلَیْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا، ووَبَلَتْ عَلَیْهِ الْبَرَکَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا.
فَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِی نَفَعَکُمْ بِمَوْعِظَتِهِ، ووَعَظَکُمْ، بِرِسالَتِهِ، وامْتَنَّ عَلَیْکُمْ بِنِعْمَتِهِ. فَعَبِّدُوا أَنْفُسَکُمْ لِعِبَادَتِهِ، وَاخْرُجُوا إِلَیْهِ مِنْ حَقِّ طَاعَتِهِ.
بعد أن أشار الإمام علیه السلام إلی علم اللّه المطلق والشهادة بالنبوّة فی القسم السابق
ص:515
والذی کان یمثل فی الواقع مقدمة، خاض فی هذا القسم فی ذی المقدمة والذی تمثّل فی الدرجة الأُولی فی الوصیة بالتقوی وقرنها ببعض صفات اللّه لیؤجج فی قلوبهم نیران عشق التقوی والورع فقال:
«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّی أُوْصِیکُمْ بِتَقْوَی اللّهِ الَّذِی ابْتَدَأَ خَلْقَکُمْ، وإِلَیْهِ یَکُونُ مَعَادُکُمْ، وبِهِ نَجَاحُ طَلِبَتِکُمْ، وإِلَیْهِ مُنْتَهَی رَغْبَتِکُمْ، ونَحْوَهُ قَصْدُ سَبِیلِکُمْ، وإِلَیْهِ مَرَامِی مَفْزَعِکُمْ(1)».
کما قال القرآن الکریم: «وَإِنْ یَمْسَسْکَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ کَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ»(2). وقال أیضاً: «ثُمَّ إِذَا مَسَّکُمُ الضُّرُّ فَإِلَیْهِ تَجْأَرُونَ»(3).
ثم خاض علیه السلام إثر الوصیة بالتقوی إلی ذکر آثارها بثمان عبارات قصیرة وعمیقة المعنی فقال:
«فَإِنَّ تَقْوَی اللّهِ دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِکُمْ، وبَصَرُ عَمَی أَفْئِدَتِکُمْ، وشِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِکُمْ، وصَلاَحُ فَسَادِ صُدُورِکُمْ، وطُهُورُ دَنَسِ أَنْفُسِکُمْ، وجَلاَءُ عَشَا(4) أَبْصَارِکُمْ، وأَمْنُ فَزَعِ جَأْشِکُمْ(5) ، وضِیَاءُ سَوَادِ ظُلْمَتِکُمْ».
العبارة الأُولی إشارة إلی الأمراض الفکریة والروحیة فی الغوایة والضلال، والعبارة الثانیة إشارة إلی إزالة الموانع وحجب المعرفة فی ظلّ التّقوی، وتشیر العبارة الثانیة إلی قلّة الطعام ورعایة الاعتدال فی تناول الأغذیة فی ظلّ التّقوی؛ ذلک لأننا نعلم وکما ورد فی الحدیث النبوی الشریف:
«الْمِعْدَةُ رَأْسُ کُلِّ داء والْحِمْیَةُ رَأْسُ کُلِّ دَواء»(6).
والذی أیده الأطباء المعاصرون قاطبة أنّ قسماً مهماً من الأمراض معلول لکثرة
ص:516
الطعام، والصحة وطول العمر فی قلّة الطعام، والعبارتان الرابعة والخامسة کلاهما إشارة إلی تطهیر الباطن من الرذائل الأخلاقیّة کالکبر والحسد والبغض والعداء وما شابه ذلک، غیر أنّ العبارة الرابعة واردة بشأن الصفات القبیحة التی تترسخ فی باطن الإنسان بحیث تقوده إلی الفساد، بینما تشیر العبارة الخامسة إلی الانحراف السطحی والبسیط والذی یغسل بماء التقوی.
والعبارة السادسة إشارة إلی أنّ التقوی تجعل رؤیة الإنسان الباطنیّة أعظم حدة وعینه أشد بصیرة، ویبدو أنّ الفارق بینها وبین العبارة
«وبَصَرُ عَمَی أَفْئِدَتِکُمْ» أنّ الکلام فی تلک العبارة عن العمی المطلق بالتقوی وهنا إشارة إلی قلّة نور البصیرة الذی یزداد فی ظلّ التّقوی.
والعبارة السابعة إشارة إلی الاضطرابات التی یعیشها الإنسان أثر مقارفة الذنب والمعصیة؛ فالخوف من عذاب اللّه فی الدنیا والآخرة وتأنیب الضمیر الموجود فی طبیعة الذنب کلّها تزال بالتقوی.
قال القرآن الکریم «مَنْ جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَیْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّنْ فَزَع یَوْمَئِذ آمِنُونَ»(1).
والعبارة الأخیرة تشیر إلی تأثیر التقوی فی القضاء علی ظلمات الجهل وإنهیار العدالة والظلم والجور. وعلی هذا الضوء فإنّ التقوی تجلب للإنسان خیر وسعادة الدنیا والآخرة.
ثم تطرق الإمام علیه السلام بعد ذکره للتقوی وآثارها المهمّة فی الحیاة المادیّة والمعنویّة البشریّة إلی طاعة اللّه والتی تعدّ من المعطیات الهامة للتقوی لیوضح بعشر عبارات قصیرة وعمیقة المعنی أهمیّة الطاعة فی حیاة الأفراد المؤمنین فقال:
«فَاجْعَلُوا طَاعَةَ اللّهِ شِعَاراً دُونَ دِثَارِکُمْ، ودَخِیلاً دُونَ شِعَارِکُمْ، ولَطِیفاً بَیْنَ أَضْلاَعِکُمْ، وأَمِیراً فَوْقَ
ص:517
أُمُورِکُمْ، ومَنْهَلاً(1) لِحِینِ وُرُودِکُمْ(2) ، وشَفِیعاً لِدَرَکِ(3) طَلِبَتِکُمْ، وجُنَّةً لِیَوْمِ فَزَعِکُمْ، ومَصَابِیحَ لِبُطُونِ قُبُورِکُمْ، وسَکَناً لِطُولِ وَحْشَتِکُمْ، ونَفَساً لِکَرْبِ مَوَاطِنِکُمْ».
فقد شخص الإمام علیه السلام فی العبارات الثلاث الأُولی منزلة طاعة اللّه فی وجود الإنسان، فشبهها بادیء الأمر بالشعار الذی یعنی مایلی البدن من الثیاب لا الدثار الذی یعنی الثیاب الخارجیة التی تقتصر علی الریاء والاهتمام بالظاهر، ثم غاص أبعد من ذلک لیسحبها إلی باطن الجسم علی أنّها اعمق من الشعار، ثم تعمق أکثر لیری موضعها فی القلب.
وهنا لابدّ من الإلتفات إلی أنّ العبارة «بین اضلاع» إشارة لطیفة إلی القلب، ذلک لأنّ القلب داخل الصدر وقد احیط من جمیع جوانبه بالاضلاع.
جدیر ذکره أنّ القلب لیس مرکز الإدراکات، إلّاأنّه علی صلة وثیقة بدماغ الإنسان وروحه، وکل ظاهرة تطرأ علی الروح إنّما تظهر آثارها بادئ الأمر فی القلب.
العبارة:
«أَمِیراً فَوْقَ أُمُورِکُمْ» إشارة إلی ضرورة سیادة أوامر اللّه فی جمیع شؤون الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة والسیاسیّة.
والعبارة:
«ومَنْهَلاً لِحِینِ وُرُودِکُمْ...» تشیر إلی أنّ المعطیات الإیجابیّة والبرکات الجمة لطاعة اللّه علی الحیاة المادیّة والمعنویّة للإنسان إنّما تغذی روحه، وتوصله إلی أهدافه السامیّة وتحمیه ممّا یتعرض له من مشاکل، وتعد مصدر السکینة والطمأنینة فی عالم البرزخ والقبر ویوم القیامة.
ثم واصل علیه السلام کلامه بالتطرق إلی علّة لزوم الطاعة فقال:
«فَإِنَّ طَاعَةَ اللّهِ حِرْزٌ مِنْ مَتَالِفَ مُکْتَنِفَة، ومَخَاوِفَ مُتَوَقَّعَة، وأُوَارِ(4) نِیرَان مُوقَدَة».
ص:518
فالعبارتان الأولی والثانیة فی الواقع إشارة إلی معطیات الطاعة فی الحیاة الدنیا، والعبارة الثالثة ترمز إلی آثارها فی الآخرة؛ فهی تحفظه فی الدنیا من المخاطر الحاضرة والمستقبلیّة، وفی الآخرة من العذاب الألیم لنار جهنم.
وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد بهذه الأخطار، المفاسد الأخلاقیّة والباطنیّة والتی تؤدّی إلی البعد عن هدی اللّه، والحال من شأن هذه الأخطار أن تشمل المخاطر المادیّة، ذلک لأنّ الطاعة الإلهیّة تفیض الأمن الاستقرار علی المجتمع البشری وتنزل علیه برکات السماء والأرض وتحد من نسبة الوفیات، کما أشیر إلی ذلک فی الآیات الشریفة من سورة نوح: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کَانَ غَفَّاراً * یُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَیْکُمْ مِّدْرَاراً * وَیُمْدِدْکُمْ بِأَمْوَال وَبَنِینَ وَیَجْعَلْ لَّکُمْ جَنَّات وَیَجْعَلْ لَکُمْ أَنْهَاراً»(1).
ثم عاد الإمام علیه السلام ثانیة إلی مسألة التقوی والورع ومعطیاتها وآثارها، علی أنّ الطاعة والتقوی من قبیل اللازم والملزوم، فالتقوی تؤدّی إلی الطاعة، کما أنّ الطاعة عنصر بلورة التقوی فی باطن الإنسان؛ حیث أشار علیه السلام إلی ثمانیة من آثار التقوی بعبارات مقتضبة عمیقة المعنی فقال:
«فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَی عَزَبَتْ(2) عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا، واحْلَوْلَتْ(3) لَهُ الاُْمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِها، وانْفَرَجَتْ عَنْهُ الأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاکُمِهَا، وأَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ انْصَابِهَا(4) ، وهَطَلَتْ(5) عَلَیْهِ الْکَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا(6) ،
ص:519
وتَحَدَّبَتْ(1) عَلَیْهِ الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا، وَتَفَجَّرَتْ عَلَیْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا(2) ، ووَبَلَتْ(3) عَلَیْهِ الْبَرَکَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا(4)».
فتتضح قیمة التقوی علی صعید الحیاة المادیّة والمعنویّة للإنسان من خلال هذه الآثار التی بینها الإمام علیه السلام للتقوی.
نعم! فالشدائد تزول فی ظلّ التّقوی وتفاض أمطار الرحمة الإلهیّة علی التقاة والمجتمعات التقیة، ویغیب الفساد والانحراف. قال القرآن الکریم بهذا الخصوص:
«وَلَوأَنَّ أَهْلَ الْقُرَی آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَیْهِمْ بَرَکَات مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ»(5). وقال:
«وَمَنْ یَتَّقِ اللّهَ یَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجاً * وَیَرْزُقْهُ مِنْ حَیْثُ لَایَحْتَسِبُ»(6).
ولا تختصر علاقة التقوی بهذه الأمور علی الجانب المعنوی، بل هی کذلک حتی من وجهة نظر التحلیلات العقلیة والمنطقیة، فإننا نری المجتمعات التی استطاعت من خلال انطلاقها من التقوی والثقة بین أبنائها وتعاونهم مع بعضهم من التغلب علی العدید من المحن والمخاطر وحدّت من حجم الاختلافات والنزاعات والقضایا الجزائیّة والعقابیة إلی أدنی ما یمکن. والطریف فی الأمر أنّ شهر رمضان المبارک الذی یتمتع فیه الصائمون بمزید من التقوی بمقتضی الآیة الشریفة: «لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ»(7)
ص:520
شهد هبوطاً ملحوظاً للجرائم والجنایات، کما أنّ العدید من المشاکل الاجتماعیّة التی تفرزها المشاکل الأخلاقیّة تزول بأقصی ما یمکن من السرعة أبان مزاولة الناس للأسفار المعنویّة کالسفر لحج بیت اللّه الحرام، ذلک لأنّ التقوی ملکة مانعة إزاء کلّ هذه المشاکل، والأفراد الذین یشعرون بثقل حقوق الآخرین التی تثقل رقابهم إنّما یبحثون عمّا ینجیهم من هذا الثقل، وعلی هذا الضوء هنالک تفسیر مادی إلی جانب التفسیر المعنوی للعلاقة بین التقوی وغیاب المشاکل ومضاعفة البرکات.
ثم اختتم الإمام علیه السلام هذا القسم من الخطبة بالعودة إلی مسألة التقوی لیؤکد ثانیة علی ما استهل به هذا الجانب من الخطبة فقال:
«فَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِی نَفَعَکُمْ بِمَوْعِظَتِهِ، ووَعَظَکُمْ، بِرِسالَتِهِ، وامْتَنَّ عَلَیْکُمْ بِنِعْمَتِهِ».
وهذه الصفات الثلاث التی ذکرها الإمام علیه السلام للّه تبارک وتعالی تمثّل جمیعاً دوافع لسلوک سبیل التقوی، لأنّها تشمل جمیع النعم المادیّة والمعنویّة والمواعظ الإلهیّة وهی المواعظ التی تفاض علی جمیع أهل الإیمان عن طریق رسالات الأنبیاء سیّما النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وسائر أنواع النعم المادیّة والمعنویّة التی تمنح للإنسان والتی یمکن من خلالها بلوغ ذروة العبودیة والورع والتقوی والکمال المعنوی والمادی تثیر لدی الإنسان الشعور بالشکر والحمد لواهب هذه النعم وتنتهی به إلی تقوی اللّه وطاعته وإمتثال أوامره.
وقال فی العبارة الأخیرة:
«فَعَبِّدُوا أَنْفُسَکُمْ لِعِبَادَتِهِ، وَاخْرُجُوا إِلَیْهِ مِنْ حَقِّ طَاعَتِهِ».
«عبّدوا» وإن أخذت من مادة عبادة إلّاأنّها تعنی فی هذه الموارد الاعداد والتسلیم ومن ذلک قولهم «عبّد الطریق».
ومن الواضح أنّ إعداد النفس لعبودیة اللّه مقدمة لأداء حقّ الطاعة، ولا یتیسر هذا الإعداد إلّاعن طریق الإیمان والمعارف الإلهیّة وتزکیة النفس وتهذیبها والانفتاح علی أسرار العبادات.
***
ص:521
ص:522
ثُمَّ إِنَّ هذَا الاِْسْلاَمَ دِینُ اللّهِ الَّذِی اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، واصْطَنَعَهُ عَلَی عَیْنِهِ، وأَصْفَاهُ خِیَرَةَ خَلْقِهِ، وأَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلَی مَحَبَّتِهِ. أَذَلَّ الأَدْیَانَ بِعِزَّتِهِ، ووَضَعَ الْمِلَلَ بِرَفْعِهِ، وأَهَانَ أَعْدَاءَهُ بِکَرَامَتِهِ، وخَذَلَ مُحَادِّیهِ بِنَصْرِهِ، وهَدَمَ أَرْکَانَ الضَّلاَلَةِ بِرُکْنِهِ. وسَقَی مَنْ عَطِشَ مِنْ حِیَاضِهِ، وأَتْأَقَ الْحِیَاضَ بِمَواتِحِهِ. ثُمَّ جَعَلَهُ لَاانْفِصَامَ لِعُرْوَتِهِ، وَلَا فَکَّ لِحَلْقَتِهِ، وَلَاانْهِدَامَ لاَِساسِهِ، وَلَا زَوَالَ لِدَعَائِمِهِ، وَلَا انْقِلاَعَ لِشَجَرَتِهِ، وَلَا انْقِطَاعَ لِمُدَّتِهِ، وَلَا عَفَاءَ لِشَرَائِعِهِ، وَلَا جَذَّ لِفُرُوعِهِ، وَلَا ضَنْکَ لِطُرُقِهِ، وَلاَ وُعُوثَةَ لِسُهُولَتِهِ، وَلَا سَوَادَ لِوَضَحِهِ، ولَا عِوَجَ لاِنْتِصَابِهِ، وَلَا عَصَلَ فِی عُودِهِ، وَلَا وَعَثَ لِفَجِّهِ، وَلَا انْطِفَاءَ لِمَصَابِیحِهِ، وَلَا مَرَارَةَ لِحَلاَوَتِهِ. فَهُودَعَائِمُ أَسَاخَ فِی الْحَقِّ أَسْنَاخَهَا، وثَبَّتَ لَهَا أَسَاسَهَا، ویَنَابِیعُ غَزُرَتْ عُیُونُهَا، ومَصَابِیحُ شَبَّتْ نِیرَانُهَا؛ ومَنَارٌ اقْتَدَی بِها سُفَّارُهَا، وأَعْلاَمٌ قُصِدَ بِهَا فِجَاجُهَا، ومَنَاهِلُ رُوِیَ بِهَا وُرَّادُهَا. جَعَلَ اللّهُ فِیهِ مُنْتَهَی رِضْوَانِهِ، وذِرْوَةَ دَعَائِمِهِ، وسَنَامَ طَاعَتِهِ؛ فَهُوعِنْدَ اللّهِ وَثِیقُ الأَرْکانِ، رَفِیعُ الْبُنْیَانِ، مُنِیرُ الْبُرْهَانِ، مُضِیُ النِّیرَانِ، عَزِیزُ السُّلْطَانِ، مُشْرِفُ الْمَنَارِ، مُعْوِذُ الْمَثَارِ. فَشَرِّفُوهُ واتَّبِعُوهُ، وأَدُّوا إِلَیْهِ حَقَّهُ، وَضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ.
خاض الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة فی بیان أهمیّة الإسلام وعظمة هذا الدین الحنیف، حیث أکمل بهذا القسم ما أورده فی القسم السابق بشأن التقوی
ص:523
والطاعة، ذلک لأنّ الطاعة والتقوی إنّما تتحصل فی ظلّ التبعیة لهذا الدین. فتحدث بادئ الأمر عن إحدی عشرة صفة من صفات الإسلام العظیم فقال:
«ثُمَّ إِنَّ هذَا الاِْسْلاَمَ دِینُ اللّهِ الَّذِی اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، واصْطَنَعَهُ(1) عَلَی عَیْنِهِ، وأَصْفَاهُ خِیَرَةَ خَلْقِهِ، وأَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلَی مَحَبَّتِهِ».
فقد بیّن فی هذه الصفات الخمس الأُولی الأرکان الأصلیة لهذا الدین المقدّس والذی انفرد اللّه تعالی بتشریعه بمنتهی الدقّة، وتولی إبلاغه أفضل خلق اللّه النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله واستندت دعائمه علی أساس حبّ اللّه.
العبارة:
«اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ» إشارة إلی أنّ الطریق الذی یؤدّی إلی القرب الإلهی یقتصر علی الدین الإسلامی الحنیف: «وَمَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الاِْسْلاَمِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ»(2).
والعبارة:
«واصْطَنَعَهُ عَلَی عَیْنِهِ» تقال فی الأمور التی یکون الشخص حاضراً وناظراً حین الإتیان بها وبعبارة أخری تتم أمام عینیه. وأمّا بشأن اللّه فهی کنایة عن نهایة عنایته ومراقبته له، قال القرآن الکریم بشأن موسی علیه السلام: «وَلِتُصْنَعَ عَلَی عَیْنِی»(3).
والعبارة:
«أَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلَی مَحَبَّتِهِ» (بالنظر إلی عودة الضمیر فی محبته إلی اللّه) إشارة إلی أنّ الإسلام بنی علی المحبّة وهذه إحدی افتخاراتنا فی أنّ دیننا بنی علی أساس الحبّ، ولذلک جاء فی الروایة:
«هَلِ الدِّینُ إِلَّا الْحُبِّ إنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ یَقُولُ:
«قُلْ إِنْ کُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونی یُحْبِبْکُمُ اللّهُ»»(4).
وعلی هذا الضوء فإنّ أساس هذا الدین محبّة العباد للّه من جانب، وحبّ اللّه للعباد من جانب آخر، ثمّ واصل کلامه بالإشارة إلی ست صفات أخری فقال:
«أَذَلَّ الأَدْیَانَ بِعِزَّتِهِ، ووَضَعَ الْمِلَلَ بِرَفْعِهِ، وأَهَانَ أَعْدَاءَهُ بِکَرَامَتِهِ، وخَذَلَ مُحَادِّیهِ(5) بِنَصْرِهِ،
ص:524
وهَدَمَ أَرْکَانَ الضَّلاَلَةِ بِرُکْنِهِ. وسَقَی مَنْ عَطِشَ مِنْ حِیَاضِهِ، وأَتْأَقَ(1) الْحِیَاضَ بِمَواتِحِهِ(2)».
والعبارتان:
«أَذَلَّ الأَدْیَانَ بِعِزَّتِهِ، ووَضَعَ الْمِلَلَ بِرَفْعِهِ...» (بالنظر إلی أنّ الضمیر فی العبارات یعود إلی الإسلام) إشارة إلی ما ورد فی القرآن الکریم: «هُو الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَی ودِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَلَوکَرِهَ الْمُشْرِکُونَ»(3).
وجاء فی الآیة التی سبقتها: «یُرِیدُونَ لِیُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوکَرِهَ الْکَافِرُونَ»(4).
وقد انتصر الإسلام علی سائر الأدیان فی جبهتین؛ إحداهما الجبهة الظاهریّة من الناحیة السیاسیّة والعسکریّة، والأخری الجبهة الباطنیّة من حیث المنطق والدلیل والبرهان، فقد أقام القرآن الکریم أقوی الأدلة لإثبات المعارف الدینیّة الحقّة التی تسوق کلّ منصف إلی تقبلها، وکما قال الإمام علیه السلام فی العبارة المذکورة فقد سقی کلّ من عطش من معین فیضه وملأ حقول العلم والمعرفة بأدلته وبراهینه.
ثم تطرق علیه السلام إلی سائر الامتیازات المهمّة التی اتّصف بها الإسلام لیرکز بادئ ذی بدئ علی خلود هذا الدین المقدّس، فأماط اللثام عن حقیقة هذا الخلود بثمان عبارات عمیقة المعنی وبرسم صورة غایة فی الوضوح والروعة فقال:
«ثُمَّ جَعَلَهُ لَا انْفِصَامَ لِعُرْوَتِهِ، وَلَا فَکَّ لِحَلْقَتِهِ، وَلَاانْهِدَامَ لاَِساسِهِ، وَلَا زَوَالَ لِدَعَائِمِهِ، وَلَا انْقِلاَعَ لِشَجَرَتِهِ، ولَا انْقِطَاعَ لِمُدَّتِهِ، وَلَا عَفَاءَ(5) لِشَرَائِعِهِ، وَلَا جَذَّ لِفُرُوعِهِ».
ص:525
وهو ذات الأمر الذی قال فیه القرآن بشأن النّبی: «مَّا کَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَد مِّنْ رِّجَالِکُمْ وَلکِنْ رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِیِّینَ..»(1).
وقد نظمت أصول الإسلام وأرکانه من جانب الحکیم بما یبعدها عن التزلزل مهما تقادم الزمان وقد تکهن بمتطلبات کلّ زمان ومکان فی ظلّ أحکامه الثابتة والمتغیرة (بتغیر الموضوعات) وهذه الشمولیة هی التی جعلته خالداً.
ثم خاض الإمام علیه السلام بعد فراغه من إثبات خلود الإسلام فی بیان سائر صفاته من قبیل سهولته ووضوحه واستقامته ووضوح قوانین الدین من خلال ثمان عبارات فقال:
«وَلَا ضَنْکَ(2) لِطُرُقِهِ، وَلاَ وُعُوثَةَ(3) لِسُهُولَتِهِ، وَلَا سَوَادَ لِوَضَحِهِ(4) ، وَلَا عِوَجَ لاِنْتِصَابِهِ(5) ، ولَا عَصَلَ(6) فِی عُودِهِ، وَلَا وَعَثَ لِفَجِّهِ(7) ، وَلَا انْطِفَاءَ لِمَصَابِیحِهِ، وَلَا مَرَارَةَ لِحَلاَوَتِهِ».
والعبارة الأُولی:
«وَلَا ضَنْکَ لِطُرُقِهِ» إشارة إلی ما ورد فی الحدیث النبوی الشریف
«بُعِثْتُ بِالْحَنَفیّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ»(8). الشریعة التی لا تختزن أی صعوبة أمام السالکین إلی اللّه وقوانینها سهلة مستساغة، ولما کان الإفراط فی السهولة قد یؤدّی إلی الضعف فقد قال فی العبارة اللاحقة:
«وَلَا وُعُوثَةَ لِسُهُولَتِهِ» أی أنّ هذه السهولة والیسر والسماحة للشریعة لا تسیر نحو الإفراط قط، بل ضمن إطار الاعتدال، وتشیر العبارة الثالثة إلی هذه الحقیقة فی أنّ وضوح جادة الإسلام دائمی
ص:526
ولیس ممّا یتخلله الظلام أحیاناً والفارق بین العبارتین الرابعة والخامسة أنّ کلیهما إشارة إلی استقامة الشریعة الإسلامیّة وخلوها من الاعوجاج، فی حین أنّ العبارة الرابعة أشارت إلی استقامة المسیرة، بینما أشارت العبارة الخامسة إلی استقامة أعمدة واُسس بناء هذا الصرح العظیم.
وتشیر العبارة السادسة:
«وَلَا وَعَثَ لِفَجِّهِ» إلی أنّ سطح هذه الجادة محکم وراسخ والسیر علیه سهل یسیر، ولیس من قبیل الطرق الملیئة بالتراب والرمل والتی تغوص فیها أرجل السالک وبالتالی یصعب المشی والسیر علیها.
وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد بالعبارة السابعة
«وَلَا انْطِفَاءَ لِمَصَابِیحِهِ» هو وجود العلماء فی کلّ عصر وزمان حیث تلطف اللّه بهؤلاء الأدلاء فی کل زمان والذین یضیئون الطریق لجمیع السالکین، بینما ذهب البعض الآخر إلی أنّ المراد بهم الأئمّة المعصومین علیهم السلام الذین لا تخلو الأرض منهم. کما یمکن أن تکون إشارة إلی مفهوم عام یشمل الأدلة الواضحة وعلامات الحقّ وآثار العظمة فی کلّ عصر ومصر.
والعبارة الأخیرة:
«وَلَا مَرَارَةَ لِحَلاَوَتِهِ» إشارة إلی المرارة التی تشوب العدید من حلوات الدنیا، أوالتی تختتم بها، من قبیل المال والثروة والمقام والانتفاع باللذات التی عادة ماتستبطن القلق والإرباک؛ غیر أنّ حلاوة الإسلام ممّا لا تشوبها مرارة قط.
ولما فرغ الإمام علیه السلام من بیان خلود الإسلام وسهولة أحکامه أشار إلی قوّته وإقتداره لیؤدی حقّ الکلام بسبع عبارات قصیرة من خلال هذا الاستنتاج فقال:
«فَهُو دَعَائِمُ أَسَاخَ(1) فِی الْحَقِّ أَسْنَاخَهَا(2) ، وثَبَّتَ لَهَا أَسَاسَهَا(3) ، ویَنَابِیعُ غَزُرَتْ(4)
ص:527
عُیُونُهَا، ومَصَابِیحُ شَبَّتْ نِیرَانُهَا؛ ومَنَارٌ اقْتَدَی بِهَا سُفَّارُهَا(1) ، وأَعْلاَمٌ قُصِدَ بِهَا فِجَاجُهَا، ومَنَاهِلُ رُوِیَ بِهَا وُرَّادُهَا».
وعلی هذا الأساس فقد شبّه الإسلام بقصر عظیم الأسس والدعائم وراسخ القوائم وإلی جانبه الحقول والبساتین والعیون الملیئة بالمیاه وقد یسر الوصول إلیه من خلال ملء طریقه بالمصابیح فی اللیالی المظلمة والعلامات الواضحة فی النهار، بحیث لا یعیش سالک هذا الطریق أی ضلال فی لیل أو نهار، کما شقت العیون فی ذلک الطریق لتروی ضما العطاشی المسافرین.
ویمکن أن تکون هذه الأسس والدعائم إشارة إلی ما ورد فی الحدیث الشریف:
«بُنِیَ الاْسْلامُ عَلی خَمْسَة؛ عَلَی الصَّلاةِ والزَّکاةِ والصَّوْمِ وَالْحَجِّ والْوِلایَةِ ولَمْ یُنادَ بِشَیء کَما نُودِیَ بِالْوِلایَةِ»(2).
أمّا العیون التی أُشیر إلیها فی العبارة الثالثة فیمکن أن تکون إشارة إلی القرآن الکریم والسنة النبویة وائمّة العصمة علیهم السلام والمصابیح والمنائر إشارة إلی ما ظهرت منهم علیهم السلام من إعجازات وکرامات، ومناهل الری إشارة إلی علوم المعصومین علیهم السلام والتی تسقی الجمیع.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بالإشارة إلی ثلاث خصائص من خصائص الإسلام فقال:
«جَعَلَ اللّهُ فِیهِ مُنْتَهَی رِضْوَانِهِ، وذِرْوَةَ دَعَائِمِهِ، وسَنَامَ طَاعَتِهِ».
فالعبارة الأُولی إشارة إلی ما ورد فی القرآن الکریم فی قوله تعالی: «وَرَضِیتُ لَکُمُ الاِْسْلاَمَ دِیناً»(3).
کما یمکن أن تکون العبارة الثانیة إشارة إلی الآیة الشریفة: «وَمَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ
ص:528
الاِْسْلاَمِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ»(1).
والعبارة الثالثة إشارة إلی الجهاد طبق بعض الروایات، فقد جاء عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال لأحد أصحابه:
«ألا اخْبِرُکَ بِأصْلِ الاِْسْلامِ وفَرْعَهُ وذَوْرَةِ سَنامِهِ».
قال: بلی! جعلت فداک. فقال علیه السلام:
«أمّا أصْلُهُ الصَّلاةُ وفَرْعُهُ الزَّکاةُ وذَرْوَةُ سَنامِهِ الْجِهادُ»(2).
ثم أشار علیه السلام فی ختام هذا القسم إلی سبع صفات أخری من صفات الإسلام بعبارات قصیرة وعمیقة المعنی فقال:
«فَهُو عِنْدَ اللّهِ وَثِیقُ الأَرْکانِ، رَفِیعُ الْبُنْیَانِ، مُنِیرُ الْبُرْهَانِ، مُضِیُ النِّیرَانِ، عَزِیزُ السُّلْطَانِ، مُشْرِفُ الْمَنَارِ، مُعْوِذُ(3) الْمَثَارِ».
وتشیر العبارة الأُولی
«فَهُو عِنْدَ اللّهِ...» إلی أنّ الإسلام بنی علی أسس محکمة من الأدلة العقلیة والمنطقیة والمعجزات الواضحة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله.
کما تشیر العبارة:
«رَفیعُ الْبُنْیانِ» إلی سعة وعظمة الخطط الإسلامیّة التی تشمل جمیع أصول وفروع حیاة الناس المادیّة والمعنویّة.
والعبارة الثالثة:
«مُنیرُ الْبُرهان» یمکن أن تکون إشارة إلی الأدلة والبراهین التی تثبت حقانیّة الدین الإسلامی الحنیف.
والعبارة الرابعة:
«مُضِیُ النِّیرَانِ» بشأن العلوم والمعارف الحقّة التی تنبع من الإسلام، کما جاء فی التاریخ: من أنّ الإسلام خلق حرکة فی القرون الوسطی المظلمة لیحقق إنجازات وتطوراً هائلاً فی جمیع العلوم البشریّة والتجریبیّة وقد صدّر المسلمون من خلالها نتاجاتهم العلمیّة إلی جمیع أکناف العالم وکان کما صرّح بعض علماء الغرب بمنزلة الشمعة التی أضاءت ظلمات القرون الوسطی لأوربا.
ویمکن أن تکون العبارة الخامسة:
«عَزیزُ السُّلْطانِ» إشارة إلی منعة وإقتدار حاکمیة الإسلام الذی لا یقهر، أو منعة أدلته وبراهینه القویة والمتقنه وحصانتها من الإنهیار.
ص:529
والعبارة السادسة:
«مُشْرِفُ الْمَنَارِ» واستناداً إلی أنّ «منار» أعمدة مرتفعة کانوا یضعون علیها المصابیح المضیئة لکی لا یضلّ المسافرون طریقهم فی الصحاری والفلوات، وکلّما کان هذا المنار أرفع وأعلی کان أعظم هدایة وإرشاداً للآخرین - إشارة إلی أنّ هدی القرآن والإسلام علی درجة من القوّة بحیث یدعو إلیه جمیع النائین من مختلف البقاع.
والعبارة السابعة:
«مُعْوِذُ الْمَثَارِ» بالنظر إلی أنّ «مثار» مصدر میمی وبمعنی الحمل علی الحرکة والإثارة والطرد - فهی إشارة إلی أنّ أی قدرة وقوّة لا یسعها مواجهة الإسلام الأصیل.
ثم أصدر علیه السلام أثر ذکره لهذه الصفات أربع وصایا تمثّل فی الواقع لوازم تلک الصفات فقال:
«فَشَرِّفُوهُ واتَّبِعُوهُ، وأَدُّوا إِلَیْهِ حَقَّهُ، وَضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ».
ومن البدیهی أن یکون عظیماً من یتصف بهذه الصفات وعلی العاقل أن یعزه ویکرمه ولابدّ من اتباع هذا الدین الذی یمتاز بهذه الأدلة القویة والواضحة والائتمار بأوامره ویعطیه ما یستحقه من منزلة بأن یجعله أسوة لحیاته فی جمیع شؤونه.
***
ص:530
ثُمَّ إِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِالْحَقِّ حِینَ دَنَا مِنَ الدُّنْیَا الاِْنْقِطَاعُ، وأَقْبَلَ مِنَ الاْخِرَةِ الاِْطِّلاَعُ، وأَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاق، وقَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَی سَاق، وخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ، وأَزِفَ مِنْهَا قِیَادٌ، فِی انْقِطَاع مِنْ مُدَّتِهَا، وَاقْتِرَاب مِنْ أَشْرَاطِهَا، وتَصَرُّم مِنْ أَهْلِهَا، وانْفِصَام مِنْ حَلْقَتِهَا، وانْتِشَار مِنْ سَبَبِهَا، وعَفَاء مِنْ أَعْلاَمِهَا، وتَکَشُّف مِنْ عَوْرَاتِهَا، وقِصَر مِنْ طُولِهَا.
جَعَلَهُ اللّهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ، وکَرَامَةً لاُِمَّتِهِ، ورَبِیعاً لاَِهْلِ زَمَانِهِ، ورِفْعَةً لاَِعْوَانِهِ، وشَرَفاً لاَِنْصَارِهِ.
بین الإمام علیه السلام فی الفصل السابق ببحث رائع عظمة الإسلام وبعض خصائصه وامتیازاته من خلال عبارات عمیقة وبلیغة. ثم تطرق هنا بشأن من بعث بذلک الدین أی النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله ولاسیما تلک الظروف المعقدة التی انبثقت فی ظلها دعوته الشریفة. وسیتطرق فی الفصل القادم إلی أهمیّة القرآن الکریم بصفته أهم معجزة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله ودستور الشریعة الإسلامیّة.
ورکز فی هذا الفصل - کما ورد انفآ - إلی الظروف المعقدة للعصر الجاهلی والفترة التی انطلقت فیها الدعوة الإسلامیّة من خلال أربع عشرة عبارة قصیرة وعمیقة المعنی فی کشف ملابسات ذلک الزمان فقال:
«ثُمَّ إِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ
ص:531
مُحَمَّداً صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِالْحَقِّ حِینَ دَنَا مِنَ الدُّنْیَا الاِْنْقِطَاعُ، وأَقْبَلَ مِنَ الاْخِرَةِ الاِْطِّلاَعُ(1) ، وَأَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاق، وقَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَی سَاق(2)».
وأضاف:
«وخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ(3) ، وَأَزِفَ(4) مِنْهَا قِیَادٌ(5) ، فِی انْقِطَاع مِنْ مُدَّتِهَا، وَاقْتِرَاب مِنْ أَشْرَاطِهَا(6)».
ثم قال:
«وتَصَرُّم(7) مِنْ أَهْلِهَا، وانْفِصَام مِنْ حَلْقَتِهَا، وانْتِشَار مِنْ سَبَبِهَا، وَعَفَاء(8) مِنْ أَعْلاَمِهَا، وتَکَشُّف مِنْ عَوْرَاتِهَا، وقِصَر مِنْ طُولِهَا».
وهذه العبارات الأربع عشرة تشیر جمیعاً إلی أنّ العالم آیل إلی الزوال، وأننا لنعیش أواخره. فالنعم والإمکانات والمواهب والاستعدادات فی جمیع الجوانب تسیر نحو الفناء.
ثم قال علیه السلام:
«جَعَلَهُ اللّهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ، وکَرَامَةً لاُِمَّتِهِ، ورَبِیعاً لاَِهْلِ زَمَانِهِ، وَرِفْعَةً لاَِعْوَانِهِ، وشَرَفاً لاَِنْصَارِهِ».
نعم! فهذا النّبی العظیم صلی الله علیه و آله قد خلق ربیعاً مفعماً بالنضارة والحیویة آخر الدنیا وبلغ باتباعه قمة الفخر وذروة الانتصار وأغنی الجمیع ببرکة وجوده وأشرقت بطلعته تلک الشمس الساطعة فی ذلک الوسط المعتم.
***
ص:532
بالنظر إلی ما ورد سابقاً فإنّ القسم الأعظم من هذه الدنیا قد مضی ولم یبق من عمرها سوی القلیل، وهذا ما یستفاد بصورة جلیة من الآیات القرآنیّة، فقد جاء فی الآیة الشریفة الأُولی من سورة الأنبیاء: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِی غَفْلَة مُّعْرِضُونَ».
کما جاء فی الآیة الأُولی من سورة القمر: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ».
وفی الآیتین السادسة والسابعة من سورة المعارج: «اِنَّهُمْ یَرَوْنَهُ بَعِیداً * وَنَرَاهُ قَرِیباً» وسائر الآیات.
وهنا یرد هذا السؤال: وکم هو عمر الدنیا لیقال ولّی شطرها الأعظم؟ لقد مضی 14 قرناً علی الدعوة الإسلامیّة ویمکن أن تمضی قرون طویلة أخری، والحال لا نشعر بأثر علی زوال الدنیا وبدایة القیامة.
وردت عدّة أقوال لشرّاح نهج البلاغة بهذا الشان وکأنّهم بلغوا طریقاً مسدوداً وأخذ کلٌّ یبحث عن سبیل للخروج منه، وأعرب البعض الآخر بعد کثرة الکلام عن عجزه ورأی من الأنسب الصمت والسکوت.
والطریف فی الأمر أنّ کلّ شارح ذکر شیئاً بشأن عمر الدنیا؛ فقیل 5 آلاف سنة وقیل 7 آلاف سنة وقیل 12 ألف سنة، بینما عدّها البعض الآخر أکثر من ذلک، والأعجب من ذلک أنّ البعض أضاف مقداراً من الشهور والأیّام إلی ما ذکره من سنوات، ویبدو أنّ أحداً منهم لم یعزز کلامه بدلیل معتبر بل مجرّد استناد الکلام إلی الحدس والظن؛ أو کإطلاق السهم فی اللیل کما یقولون. ونری من الأفضل قبل أن نخوض فی تعیین عمر الدنیا بالسنوات والأشهر والأیّام؛ أن نتجه صوب الإجابة عن السؤال المذکور لنری کیف أنّ ما تبقی من عمر الدنیا أقلّ ممّا تصرم منها.
ذکرت هنا عدّة أجوبة والجواب الآتی یعدّ أفضلها.
فالعلم المعاصر وکذلک الروایات الإسلامیّة تری للحیاة البشریّة تاریخاً طویلاً
ص:533
علی الکرة الأرضیّة وبمقارنته بما بقی من عمر الإنسان علی وجه الأرض یمکن أن یکون قصیراً.
فقد جاء فی بعض الروایات:
«أوتظنون أنّ اللّه لم یخلق خلقاً غیرکم، إنّ اللّه خلق ألف ألف آدم قبل آدمکم هذا»(1).
وعلیه فلیس هنالک من مشکلة فی ما ورد فی هذه الخطبة وکذلک الإشارات التی تضمنتها مختلف الآیات القرآنیّة إلی هذه المسألة والتی تشیر إلی قصر عمر ما تبقی من الدنیا.
والتفسیر الآخر للعبارات المذکورة أنّ المراد من انقطاع الدنیا واقبال الآخرة هو نهایة حیاة الناس أو الأمم، لأنّ مدّة عمر الإنسان قصیرة ولا یکاد یعیش فترة حتی یحل أجله.
ولو أمعنا النظر فی العبارات الأربع عشرة المذکورة لرأینا أنّ هذا التفسیر لا ینسجم مع تلک العبارات.
أشار الإمام علیه السلام فی ختام هذا القسم إلی الافتخار بخلق النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله لاتباعه، لیعتبره بمنزلة فصل الربیع لأهل زمانه وشرف ورفعة وعزّة أعوانه وأنصاره.
وإننا لندرک حقیقة هذه العبارات التی وردت فی الخطبة کلّما تأمّلنا تاریخ العصر الجاهلی ثم تلک النهضة والثورة العظیمة التی احدثتها البعثة النبویّة الشریفة، فقد کان أعراب الجاهلیة یعتبرون الإنسان فاقداً لأیة منزلة اجتماعیّة وتاریخیّة تذکر، بینما حظی بمکانة قل نظیرها أو انعدم فی التاریخ البشری فی ظلّ البعثة النبویّة،
ص:534
فلم یکتف أتباع نبی الإسلام صلی الله علیه و آله من العرب والعجم بتشکیل تلک الحکومة الواسعة الأطراف آنذاک فی معظم مناطق العالم، بل بلغوا ذروة العلم والمعرفة والمدنیّة ممّا جعل العلوم الإسلامیّة فی خاتمة المطاف تعدّ بؤرة وانطلاقة لتلک الثورة العلمیّة التی شهدتها أوربا فی العصر الحدیث، ولو عاد المسلمون الیوم لأمجادهم السابقة وأحیوا تلک القیم الإسلامیّة والمثل الدینیّة لاحتلوا الصدارة ثانیة فی المجالات العلمیّة والسیاسیّة والاقتصادیّة.
***
ص:535
ص:536
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَیْهِ الْکِتَابَ نُوراً لَاتُطْفَأُ مَصَابِیحُهُ، وسِرَاجاً لَایَخْبُوتَوَقُّدُهُ، وبَحْراً لَایُدْرَکُ قَعْرُهُ، ومِنْهَاجاً لَایُضِلُّ نَهْجُهُ، وشُعَاعاً لَایُظْلِمُ ضَوْءُهُ، وفُرْقَاناً لَایَخْمَدُ بُرْهَانُهُ، وتِبْیَاناً لَاتُهْدَمُ أَرْکَانُهُ، وشِفَاءً لَاتُخْشَی أَسْقَامُهُ، وعِزًّا لَاتُهْزَمُ أَنْصَارُهُ، وحَقّاً لَاتُخْذَلُ أَعْوَانُهُ. فَهُومَعْدِنُ الاِْیمَانِ وبُحْبُوحَتُهُ، ویَنَابِیعُ الْعِلْمِ وبُحُورُهُ، ورِیَاضُ الْعَدْلِ وغُدْرَانُهُ، وأَثَافِیُّ الاِْسْلاَمِ وبُنْیَانُهُ، وأَوْدِیَةُ الْحَقِّ وغِیطَانُهُ. وبَحْرٌ لَایَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ، وعُیُونٌ لَایُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ ومَنَاهِلُ لَایُغِیضُهَا الْوَارِدُونَ، ومَنَازِلُ لَایَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ، وأَعْلاَمٌ لَایَعْمَی عَنْهَا السَّائِرُونَ، وآکَامٌ لَایَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ.
جَعَلَهُ اللّهُ رِیًّا لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، ورَبِیعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، ومَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، ودَوَاءً لَیْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ، ونُوراً لَیْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ، وحَبْلاً وَثِیقاً عُرْوَتُهُ، ومَعْقِلاً مَنِیعاً ذِرْوَتُهُ، وعِزًّا لِمَنْ تَوَلاَّهُ، وسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وهُدًی لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ، وعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ، وبُرْهَاناً لِمَنْ تَکَلَّمَ بِهِ، وشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وفَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ، وحَامِلاً لِمَنْ حَمَلَهُ، ومَطِیَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ، وآیَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وجُنَّةً لِمَنِ اسْتَلاَْمَ. وعِلْماً لِمَنْ وَعَی، وحَدِیثاً لِمَنْ رَوَی، وحُکْماً لِمَنْ قَضَی.
کما قیل سابقاً فقد استهل الإمام علیه السلام هذه الخطبة البلیغة بالحدیث عن أهمیّة
ص:537
التقوی، ثم شرح سبیل التقوی الذی یتمثّل فی تبعیة هذا الدین الحنیف، وخاض فی المرحلة التالیة فی أهمیّة الدعوة النبویّة وحامل الرسالة الإسلامیّة، وتعرض فی القسم الأخیر من الخطبة إلی خصائص وإمتیازات القرآن معجزة النّبی الخالدة ودستور الشریعة الإسلامیّة السمحاء، والذی یجدر ذکره أنّ الإمام علیه السلام أشار ب 42 عبارة قصیرة وعمیقة المعنی إلی 42 إمتیازاً مهمّاً من امتیازات القرآن وشرح خصائصه باسهاب بحیث لا یمکن تصور ما هو أفضل منه.
فتطرق فی البدایة إلی عشر فضائل وامتیازات فقال:
«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَیْهِ الْکِتَابَ نُوراً لَا تُطْفَأُ مَصَابِیحُهُ، وسِرَاجاً لَایَخْبُو(1) تَوَقُّدُهُ، وبَحْراً لَایُدْرَکُ قَعْرُهُ، ومِنْهَاجاً(2) لَایُضِلُّ نَهْجُهُ، وشُعَاعاً لَایُظْلِمُ ضَوْءُهُ، وفُرْقَاناً لَایَخْمَدُ بُرْهَانُهُ، وتِبْیَاناً لَاتُهْدَمُ أَرْکَانُهُ، وشِفَاءً لَاتُخْشَی أَسْقَامُهُ، وعِزًّا لَاتُهْزَمُ أَنْصَارُهُ، وحَقًّا لَاتُخْذَلُ أَعْوَانُهُ».
والعبارتان الأُولی والثانیة فی الواقع اقتباس من الآیات القرآنیّة التی شبهت القرآن بالنور ومن ذلک الآیة 15 من سورة المائدة: «قَدْ جَاءَکُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَکِتَابٌ مُبِینٌ»، فالقرآن الکریم أضاء بنوره طرق الحیاة المظلمة وکشف السبیل القویم من بین سبل الضلالة والحیرة، وأرشد قوافل المجتمعات الإنسانیّة فی صحاری وفلوات هذا العالم إلی هدفها المنشود ألا وهو سعادة الدارین الدنیا والآخرة.
وتشیر العبارة الثالثة:
«وبَحْراً لَایُدْرَکُ قَعْرُهُ» إلی الأسرار الخفیة ودقائق العلوم المودعة فی القرآن الکریم والتی تسمو علی الأفکار ولا یبلغها سوی خاصة أولیاء اللّه، وقد أشارت بعض الروایات الإسلامیّة إلی بطون القرآن المتعددة.
والتعبیر بالمنهاج الوارد فی العبارة الرابعة بشأن القرآن الذی یعنی الطریق الواضح والمستقیم الذی لا یضلّ فیه السالکون إشارة إلی الأفراد الذین انتفعوا بهذا الطریق الواضح والصراط الإلهی المستقیم ولا یعتریهم الضلال قط.
ص:538
کما تصمنت العبارة الخامسة: إشارة أخری إلی نور القرآن حیث إنّ ضیاءَه خالد لا یزول أبداً کما وصف القرآن نفسه فقال: «لاَّ یَأْتِیهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِیلٌ مِّنْ حَکِیم حَمِید»(1).
وأشارت العبارة السادسة إلی نقطة مهمّة أخری وهی أنّ القرآن فرقان؛ أی حین یمتزج الحقّ بالباطل أحیاناً، فما کان مطابقاً للقرآن فهو حقّ وما خالفه فهو باطل، وعلیه فهو یفرق الحقّ عن الباطل، وقد ورد التعبیر عن القرآن بالفرقان فی الآیة الأُولی من سورة الفرقان إذ قالت: «تَبَارَکَ الَّذِی نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَی عَبْدِهِ لِیَکُونَ لِلْعَالَمِینَ نَذِیراً» والأهم من کلّ ذلک أنّ هذه الصفة للقرآن لا تؤول إلی الخمود والانطفاء والاختفاء أبداً.
وفی العبارة السابعة شبه القرآن بالبناء الراسخ الأرکان والأسس بحیث لا یهدم أبداً، وهذه إشارة إلی خلود التعالیم القرآنیّة(2).
ویطالعنا تشبیه آخر فی العبارة الثامنة؛ حیث شبه القرآن بالدواء الشافی الذی لیس بعده سقم، ذلک لأننا نعلم
«لَیْسَ مِنْ دَواء إِلَّا ویُهَیِّجُ داء»(3) فإنّ هنالک آثاراً مختلفة سلبیّة للدواء أحیاناً، غیر أنّ القرآن لا ینطوی سوی علی المنافع والآثار الإیجابیّة.
وقد ورد التعبیر بالشفاء عن القرآن فی ذات القرآن فی الآیة 57 من سورة یونس: «قَدْ جَاءَتْکُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّکُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِی الصُّدُورِ».
وفی الآیة 82 من سورة الاسراء: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْانِ مَا هُوشِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِینَ».
حتی أنّه لیستفاد من أغلب روایات المعصومین أنّ القرآن الکریم شفاء
ص:539
للأمراض البدنیّة بالإضافة إلی الأمراض العقائدیّة والأخلاقیّة، ومن تلک الروایات ما أکّدت علی فائدة سورة الحمد فی علاج الأمراض البدنیّة.
وقد جاء تفسیر سورة الحمد فی العدید من الروایات، وکذلک فی سائر التفاسیر، ومنها تفسیر کنز الدقائق، کما ذکر المرحوم الکلینی فی الجزء الثانی من کتابه أصول الکافی فی باب فضل القرآن العدید من هذه الروایات الواردة بهذا الخصوص.
کما ورد الکلام فی العبارتین التاسعة والعاشرة من عبارات الخطبة فی أنصار القرآن وأعوانه الذین کتبت لهم الغلبة علی الأعداء دائماً فلا یعیشون الفشل والهزیمة.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بالإشارة إلی احدی عشرة فضیلة أخری بعبارات قصیرة ومتتابعة، حیث شبه القرآن بالبحر والعین الصافیة والبناء المتقن والمعدن الثمین والمنهج الواضح فقال:
«فَهُو مَعْدِنُ الاِْیمانِ وبُحْبُوحَتُهُ(1) ، ویَنَابِیعُ الْعِلْمِ وبُحُورُهُ، ورِیَاضُ(2) الْعَدْلِ وغُدْرَانُهُ(3) ، وأَثَافِیُّ(4) الاِْسْلامِ وبُنْیَانُهُ، وأَوْدِیَةُ الْحَقِّ وغِیطَانُهُ(5). وَبَحْرٌ لَایَنْزِفُهُ(6) الْمُسْتَنْزِفُونَ، وعُیُونٌ لَایُنْضِبُهَا(7) الْمَاتِحُونَ(8) ، ومَنَاهِلُ لَا یُغِیضُهَا(9) الْوَارِدُونَ، ومَنَازِلُ لَایَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ، وأَعْلاَمٌ لَایَعْمَی عَنْهَا
ص:540
السَّائِرُونَ، وَآکَامٌ(1) لَایَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ».
العبارة:
«مَعْدَنِ الاْیمانِ» إشارة إلی أنّ أدلة المعارف الإسلامیّة من التوحید واثبات وجود اللّه حتی مسألة المعاد وإعجاز القرآن والولایة؛ إنّما ذکرت جمیعاً وبصورة واسعة فی القرآن الکریم وهی الأدلة التی تشکل مصادر الأدلة الأخری، ذلک لأنّ المعدن یطلق علی المصدر والمنبع والمرکز الأصلی للأشیاء الثمینة.
کما ذکر هذا المطلب بتعبیر آخر فی العبارة الثانیة، اعتبر فیها القرآن عیناً فیاضة وبحراً من العلم، بل عیون متدفقة وبحار یستطیع أهل الإیمان انتهال مختلف العلوم منها، وإننا لنعلم الیوم أنّ مصدر علم الکلام والفقه والأخلاق وتاریخ الأنبیاء وتاریخ الإسلام والعلوم الأخری هو القرآن الکریم.
وأشار فی العبارة الثالثة إلی مسألة مهمّة أخری لیصف فیها القرآن علی أنّه حدائق وریاض العدل وغدرانه ومنابعه، فقد خاطب القرآن الکریم جمیع المؤمنین قائلاً: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ امَنُوا کُونُوا قَوَّامِینَ بِالْقِسْطِ»(2)؛ أی أنّه لا یری القیام بالعدل کافیاً ویری ضرورة القیام بالقسط حیث القوام صیغة مبالغة وتأکید، حتی أنّه لیصرح بأنّ العداوة والبغضاء والقرب والصداقة لا ینبغی أن تحول دون إجراء العدالة: «وَلَا یَجْرِمَنَّکُمْ شَنئَانُ قَوْم عَلَی أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوأَقْرَبُ لِلتَّقْوَی»(3).
کما أوصی فی ذیل الآیة الأُولی: بعدم التوانی فی إجراء العدالة حتی تحت طائلة إسناد الأب والاُم والأقرباء.
جدیر ذکره أنّ الإمام علیه السلام شبه العدالة بالروضة والغدیر الذی یسقی الروضة، وبالطبع فإنّ المجتمع الذی تطبق فیه العدالة بمثابة جمال الحدیقة والروضة والحرکة والحیویة الناشئة من السقی الکافی، فی حین أنّ المجتمع الذی یسوده الظلم
ص:541
والتمییز الطبقی أشبه بالصحراء القاحلة والمحرقة الخالیة من الماء والزرع.
والکلام فی العبارة الرابعة عن أساس وبنیان الإسلام الذی ورد فی القرآن الکریم، لأنّ «أثافی» و «بنیان» تعنی الأسس والجذور، وحسب روایة الإمام الباقر علیه السلام:
«بُنِیَ الاِْسْلامُ عَلی خَمْسَةِ اشْیاء؛ عَلَی الصَّلاةِ والزَّکاةِ والْحَجِّ والصَّوْمِ والْوِلایَةِ»(1) ونعلم أنّ أصول هذه الفرائض وردت بصورة موسعة فی القرآن الکریم.
وجری الکلام فی العبارة الخامسة عن الحقّ (الحقّ بمعناه الجامع الواسع الذی یشمل جمیع الحقوق الإلهیّة والإنسانیّة والاجتماعیّة) حیث قال الإمام علیه السلام:
«وأَوْدِیَةُ الْحَقِّ وغِیطَانُهُ».
وجری الکلام فی العبارات السادسة والسابعة والثامنة عن عدم نفاد المعارف والعلوم القرآنیّة التی لا تتناقص مهما اغترف منها، وتمد العلماء والباحثین والسالکین بالجدید من الحقائق حتی یوم القیامة، والدلیل علی ذلک واضح، فالقرآن کلام اللّه وکلام اللّه کذاته لا متناهٍ، علی غرار ما ورد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:
«لا تُحْصی عَجائِبُهُ ولا تُبْلی غَرائِبُهُ»(2).
ویحمل هذا الکلام رسالة واضحة لجمیع مفسری القرآن وهی أن لا یتصوروا أنّ ما قالوه بشأن القرآن هو آخر الکلام ولیس هنالک ما هو جدید غیره.
وجاء فی حدیث آخر عن الإمام الصادق علیه السلام بشأن مَن سأله عن القرآن الکریم، قائلاً: ما بال القرآن لا یزداد علی النشر والدرس إلّاغضاصةً؟ فقال علیه السلام:
«لأنّ اللّهَ لَم یَجْعَلْهُ لِزَمانٍ دُونَ زَمانٍ وَلا لِناسٍ دُون نَاس، فَهُو فِی کُلِّ زَمانٍ جَدیدٌ وعِنْدَ کُلِّ قَوْمٍ غَضٌّ إلی یَوْمِ الْقِیامَةِ»(3).
والعبارات التاسعة والعاشرة والحادیة عشرة إشارة إلی وضوح منهج القرآن
ص:542
وضمانه الهدی لسالکی هذا الطریق، فلا یضل من سلک ولا تخفی علاماته علی من سار علیه کما لا تغیب عنهم منازله الآمنة.
ثم أشار علیه السلام فی مواصلته لذکر هذه الصفات الرفیعة للقرآن إلی خمس صفات أخری فقال:
«جَعَلَهُ اللّهُ رِیَّاً(1) لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، ورَبِیعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، ومَحَاجَّ(2) لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، ودَوَاءً لَیْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ، ونُوراً لَیْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ».
والعبارة الأُولی:
«جَعَلَهُ اللّهُ رِیَّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ» إشارة إلی أنّ کلّ عالم أکثر تعطشاً للعلم، ذلک لأنّه ذاق طعم العلم والمعرفة، وبما أنّ علوم القرآن الکریم ومعارفه غایة فی السعة ولیست محدودة فإنّ العلماء یستطیعون ری عطشهم العلمی بالقرآن.
جاء فی الکلمات القصار للإمام علیه السلام فی نهج البلاغة:
«مَنْهُومانِ لا یَشْبَعانِ؛ طالِبُ عِلْم وطالِبُ دُنْیا»(3).
والعبارة الثانیة:
«ورَبِیعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ» إشارة إلی أنّ عالم الطبیعة یستأنف حیاته فی فصل الربیع، فتظهر النباتات والأزهار والثمار، وللقرآن مثل هذا الأثر فی القلوب الواعیة، فأزهار الفضیلة وثمار الإیمان اللذیذة والأخلاق والمعرفة وبالتالی القرب الإلهی إنّما یتیسر فی ظلّ القرآن الکریم.
واعتبر القرآن فی العبارة الثالثة جادة واسعة وواضحة لسالکی الحقّ، لأنّ الصلحاء هم أولئک الذین یحثون الخطی فی السیر والسلوک إلی اللّه وأنّ أفضل جادة وطریق یُمکّنهم من بلوغ المقصد هی جادة القرآن الکریم.
وأشار فی العبارة الرابعة إلی نقطة جدیدة وهی أنّ الأدویة قد یکون لها أحیاناً تأثیر فی التسکین فقط، کما تکون أحیاناً أخری علاجاً مؤقتاً وثالثة علاجاً تاماً،
ص:543
لکنها تستبطن عوارض سلبیّة وأمراضاً عرضیّة، أمّا القرآن فهو الدواء المنزه عن هذه الأمور فهو العلاج التام الخالی من العوارض السلبیّة، کما أشار فی العبارة الخامسة إلی أمر جدید وهو أنّ أنوار عالم المادة تمتزج أحیاناً بالظلمة (کالنور بین الطلوعین وبین الغروبین) وإن لم تخالطه ظلمة فإنّ له خسوفاً وکسوفاً أو غروباً وافولاً أمّا نور القرآن فلا غروب ولا أفول فیه ولا خسوف ولا کسوف، لأنّه ینبعث من نور علم الحقّ ولیس هناک من سبیل إلی الظلمة: «اَللّهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ...»(1).
ثم أشار علیه السلام إلی أربعة امتیازات أخری من امتیازات القرآن فقال:
«وحَبْلاً وَثِیقاً عُرْوَتُهُ، ومَعْقِلاً(2) مَنِیعاً ذِرْوَتُهُ، وعِزًّا لِمَنْ تَوَلاَّهُ، وسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ».
فالإمام علیه السلام ببیانه لهذه الصفات الأربع إنّما شبه فی الواقع سعادة الإنسان بالقلعة الحصینة الواقعة علی سفح الجبل، وعلی سالکی هذا الطریق - علی غرار متسلقی الجبال - أن یتمسکوا بحبال قویة مربوطة اعلی الجبل ویتمسکوا بعدّة عروات وثیقة لیتمکنوا من الوصول إلی تلک القلعة وتلک القلعة فی موضع لا یبلغها العدو وکل من دخلها کانت له قدرة لا تقهر وعاش فیها سلیماً معافی.
ومن هنا یفرز العدو الأصلی للإنسان هوی النفس والشیطان وعدم الاستقرار، ومن یستظل بالقرآن سیبلغ ذروة السلامة والسعادة والکرامة والأمن.
ثم أشار علیه السلام إلی خمس صفات منسجمات اخر من صفات القرآن فقال:
«وهُدیً لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ، وعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ(3) ، وبُرْهَاناً لِمَنْ تَکَلَّمَ بِهِ، وشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وفَلْجاً(4) لِمَنْ حَاجَّ بِهِ».
المراد من الهدی فی العبارة الأُولی واضح، والمراد من العذر فی العبارة الثانیة
ص:544
یمکن أن یکون إتمام الحجّة، حیث أتمّ القرآن الحجّة علی جمیع الأفراد بشأن الإیمان والإتیان بالواجبات الإلهیّة، کما یمکن أن یکون إشارة إلی أنّ القرآن سیکون معذوراً أمام اللّه تعالی فی القیامة، بمعنی کلّ من کان عمله وفق تعالیم القرآن سیکون معذوراً عند اللّه، ویبدو المعنی الثانی أصوب من الأوّل.
والعبارة:
«بُرْهَاناً لِمَنْ تَکَلَّمَ بِهِ» إشارة إلی أنّ الإنسان لا یستطیع الاستدلال بالقرآن فی عقائده وأعماله فحسب، بل البراهین القرآنیّة أفضل برهان فی دحر حجّة المخالفین سواء فی المبدأ والمعاد أو فی الإرشادات الدنیویّة.
والعبارة:
«شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ» تأکید أکثر علی هذا المعنی إذ إنّ کلّ من جعل القرآن شاهده علی خصمه کان أعظم شاهد له ونتیجة ذلک ما ورد فی العبارة الخامسة من أنّ الاستدلال والاستشهاد بالقرآن سبب التغلب والانتصار علی الخصم.
ثم قال الإمام علیه السلام فی آخر سبع صفات اختتم بها هذه الخطبة:
«وحَامِلاً لِمَنْ حَمَلَهُ، وَمَطِیَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ، وآیَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ(1) ، وجُنَّةً لِمَنِ اسْتَلأَمَ(2) ، وعِلْماً لِمَنْ وَعَی، وحَدِیثاً لِمَنْ رَوَی، وحُکْماً لِمَنْ قَضَی».
فقد شبه المؤمن بالقرآن فی العبارة الأُولی والثانیة بالشخص الذی رکب مرکباً یحلق به إلی سماء السعادة.
واعنبر القرآن فی العبارة الثالثة وسام شرف لجمیع الأفراد الذین جعلوه دلالة حیاتهم، فآیات القرآن أفضل شعار وعلاماته ودلالاته أفضل العلامات والدلالات.
وعدّه فی العبارة الرابعة کدرع یقی الإنسان مکاره الحوادث فی مواجهته للأعداء، العدوالظاهری المخالف للإسلام والعدو الباطنی، أی هوی النفس والعدو
ص:545
الخفی أی الشیطان.
وأشار فی العبارات الخامسة والسادسة والسابعة إلی العلوم الحاصلة من القرآن، ویمکن أن تکون العبارة
«وعِلْماً لِمَنْ وَعی» إشارة إلی استدلالات القرآن المنطقیة والعبارة
«حَدیثاً لِمَنْ رَوی» إشارة إلی الأحادیث النقلیة والأحادیث التی بلغتنا من جانب الوحی.
وأشار علیه السلام فی العبارة الأخیرة إلی تطبیقه العملی فی مسألة القضاء واصدار الأحکام، بناءً علی أنّ القضاء فی العبارة بمعنی الأحکام فی الخصومات، وإن کان القضاء یشمل الأحکام کافّة، فهوإشارة إلی جمیع الأحکام الفقهیة والعقائدیة.
ورد البحث بشأن عظمة القرآن فی عدّة خطب من نهج البلاغة، ولکن لم یرد أی بحث بهذه السعة والشمولیّة، وما ذکره الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة (إثنا وأربعین امتیازاً للقرآن) من مطالب یمکن أن تجعل المراقب غیر الواعی یظنها من قبیل الادعاء الذی یفتقر إلی الدلیل، إلّاأنّ الدقّة فی الآیات القرآنیّة تفید وجود العدید من الشواهد والأدلة الکافیة علی هذا الأمر.
فمثلاً حین عد الإمام علیه السلام القرآن معدن الإیمان ومصدر العلم فذلک لأنّ القرآن ذکر عدّة أدلة بشأن أهم المسائل العقائدیّة أی المبدأ والمعاد بحیث فتح أبواب الإیمان باللّه والمعاد بوجه کلّ إنسان منصف.
وبشأن مسألة معرفة اللّه، فهو یأخذ بید الإنسان فی أعالی السماء وأعماق الأرض لیریه الحرکة المنظمة لتعاقب اللیل والنهار وحرکة الریاح(1) ، وخلق أنواع
ص:546
الحیونات والنباتات والثمار،(1) وتحلیق الطیور فی السماء(2) ، وحرکة الغیوم وامتلاء الأرض العطشی بالمیاه أثر نزول الأمطار(3) والتی تعکس کلّ واحدة منها نظام عالم الخلیقة لیوقن أنّ وراء ذلک مبدأ علم وقدرة صاغه بهذا الشکل. وبشأن مسألة المعاد فقد أخذ بید الإنسان الطالب للحقیقة إلی بدایة الخلیقة(4) ولیریه مشاهد المعاد فی عالم النباتات(5) وقدرة اللّه علی إحیاء العظام البالیة للموتی(6).
وأمّا بشأن العدالة فقد أولاها أهمیّة بحیث اعتبرها من وظائف المؤمنین القطعیة(7) وتطبیقها حتی بشأن العدو(8) وعدّ الانحراف عنها کبیرة من الکبائر.
وإن عدّ أمیرالمؤمنین علیه السلام القرآن کعین فیاضة لری قلوب العلماء وربیع قلوب الفقهاء فدلیل ذلک فی ذات القرآن، ذلک لأنّه وإن کتبت آلاف التفاسیر للقرآن فما زال العلماء یکتشفون کلّ یوم ما هو جدید فیه.
ص:547
وإن قال الإمام علیه السلام: إنّ القرآن سبب عزّة المسلمین واقتدارهم فدلیل ذلک وقد ورد فی عدّة آیات قرآنیّة فی أنّه یدعو إلی وحدة الکلمة وعدم التفرقة ویری الإخوة هی رابطة المؤمنین ونتیجة ذلک عزّة المؤمنین فی ظلّ عزّة اللّه(1).
کما أنّ جذور جمیع المواضیع التی ذکرها الإمام علیه السلام بصفتها 42 إمتیازاً للقرآن فی هذا الجانب من الخطبة موجودة فی القرآن الکریم، ولو جمعت لأصبحت کتاباً ضخماً، ولو عمل بهذه الأوامر والتعالیم لحصلت منها کلّ هذه الآثار.
إنّ عظمة القرآن لم تقتصر علی الإشادة به بهذه الصفات العظیمة من قبل المسلمین وکبار العلماء الأعلام، بل أذعن لهذه العظمة حتی أولئک الأباعد الذین غاصوا فی تأمّل آیات هذا الکتاب السماوی فذکروا بعض العبارات الجدیرة بالتأمّل والاهتمام.
کتب «آلبرماله» المورّخ والعالم الفرنسی المعروف فی کتابه «التاریخ العام» حول القرآن:
«إنّ القرآن ممتاز بمعنی الکلمة، البدیل عن سائر الکتب القیمة والذی یضم جمیع العلوم (الإنسانیّة) وهو الکتاب الذی یحتوی علی التعالیم الدینیّة والقوانین المدنیّة المعاصرة، ونسخة مرشدة للقاضی وکمال تام للزعیم الروحانی»(2).
وکتب «ویل دیورانت» العالم والفیلسوف المعروف المعاصر فی کتابه تاریخ الحضارة:
«إنّ القرآن یخلق عقائد سهلة وبعیدة عن الغموض فی القلوب المتواضعة، منزّهة
ص:548
من طقوس العادات الهجینة ومن سنن الوثنیة والکهنة، وببرکته بلغ المسلمون ذلک الرقی الأخلاقی والثقافی ورسخ بینهم النظم الاجتماعیّة وأسس الوحدة.
وأضاف: إنّه حرّر عقولهم من العدید من الأوهام والخرافات والظلم والعنف وأکسبهم عزّة وکرامة، وقد غرس فی المجتمع الإسلامی حالة من الاعتدال والتقوی لیس لها مثیل فی أیٍّ من مناطق العالم التی قطنها الإنسان الأبیض...»(1).
وکتب «رولف لین تون» صاحب (سیر الحضارة):
«لقد مهدت المدرسة القرآنیّة سبیل الرقی والتطور لکلّ فرد مهما کان انتماؤه، بحیث أمکن حتی لابن العبد أن یبلغ المقامات الرفیعة والعالیة فی المجتمع الإسلامی»(2).
وقال البروفسور «درابرز اروب»:
«القرآن سلسلة من الوصایا والتعالیم الأخلاقیّة والذی یتکون من مفاهیم یقبلها الجمیع. وهذه الوصایا والتعالیم بلیغة وکاملة وهی ضروریة ولازمة لتنظیم شؤون الناس»(3).
وقال «جان دیون بورت» مؤلّف کتاب «الاعتذار إلی القرآن ومحمد من التقصیر»:
«إنّ القرآن منزّه عن کلّ عیب ونقص بحیث لا یتطلب أدنی إصلاح، ولا یشعر الإنسان بأی ملل إذا ما تصفحه من أوله إلی آخره»(4).
وقال الشاعر الألمانی المعروف والعالم «جیته»:
«لسنین طویلة، أبعدنا القساوسة عن فهم حقائق القرآن المقدس وعن عظمة النبی محمّد، ولکن کلما خطونا علی طریق فهم العلم تنزاح من أمام أعیننا حُجُب
ص:549
الجهل والتعصب المقیت، وقریباً سیلفت هذا الکتاب الفرید أنظار العالم، ویصبح محور أفکار البشریة»(1).
***
ص:550
کانَ یُوصی بِهِ أصْحابَهُ (1)
أوصی الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة بأربعة أمور مهمّة من التکالیف الإسلامیّة والتی تشکل جانباً من الخطبة.
فقد تطرق فی القسم الأوّل إلی الصلاة وأهمیتها وأشار إلی الإکثار منها والمحافظة علی کیفیتها لیعتبرها وسیلة النجاة فی الآخرة وسبب التطهر من المعاصی فی الدنیا وغسل الروح والقلب من الرذائل الأخلاقیّة، ثم ذکَّر باهتمام النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله والمؤمنین بالصلاة.
وخاض فی القسم الثانی فی مسألة الزکاة التی تعدّ من أهم أرکان الإیمان بعد الصلاة وعدّها من کفّارات الذنوب وحجاباً من نار جهنم، وأنّ أدائها مفخرة عظیمة، وعرض بالذم لمن یغفل عنها.
ص:551
وانتقل فی القسم الثالث إلی موضوع غایة فی الأهمیّة والذی یتمثل بأداء الأمانة لیعتبر المؤتمن سعیداً وخائن الأمانة مهزوماً وآیساً من رحمة اللّه وخاض فی تفسیر مختصر للآیة الشریفة: «اِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ...»(1).
وتحدّث فی القسم الرابع عن موضوع مهم یضمن إجراء جمیع التکالیف والأحکام الإلهیّة وهو مراقبة اللّه واحاطته العلمیّة بجمیع أعمال الإنسان، وکذلک أعضاء الإنسان وجوارحه وضمیره هی الأخری مراقبة ومحیطه بأعماله.
وتفید العبارة
«کانَ یُوصی بِهِ أصْحابَهُ» أنّ الإمام علیه السلام کان یکرر هذا الکلام کلّما سنحت الفرصة لیحذر صحبه من خطورة هذه الأصول الأربعة المهمّة، ویجدر بالسالکین لخط الإمام علیه السلام أن یواصلوا وینفذوا هذه الوصایا ویتواصوا بعضهم البعض بهذه المبادئ الأربعة المنجیة.
***
ص:552
تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلاَةِ، وحَافِظُوا عَلَیْهَا، واسْتَکْثِرُوا مِنْهَا، وتَقَرَّبُوا بِهَا، فَإِنَّها (کَانَتْ عَلَی الْمُؤْمِنینَ کِتَاباً مَّوْقُوتاً). أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَی جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِینَ سُئِلُوا: (مَا سَلَکَکُمْ فِی سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَکُ مِنَ الْمُصَلِّینَ). وإِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ، وتُطْلِقُهَا إِطْلاَقَ الرِّبَقِ، وشَبَّهَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِالْحَمَّةِ تَکُونُ عَلَی بَابِ الرَّجُلِ، فَهُویَغْتَسِلُ مِنْهَا فِی الْیَوْمِ واللَّیْلَةِ خَمْسَ مَرَّات، فَمَا عَسَی أَنْ یَبْقَی عَلَیْهِ مِنَ الدَّرَنِ؟ وقَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنیِنَ الَّذِینَ لَاتَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِینَةُ مَتَاع، وَلَا قُرَّةُ عَیْن مِنْ وَلَد وَلَا مَال. یَقُولُ اللّهُ سُبْحَانَهُ: (رِجَالٌ لاَّ تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللّهِ وإِقَامِ الصَّلاَةِ وإِیتَآءِ الزَّکَاةِ). وکَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ نَصِباً بِالصَّلاَةِ بَعْدَ التَّبْشِیرِ لَهُ بِالْجَنَّةِ، لِقَوْلِ اللّهِ سُبْحَانَهُ: (وأْمُرْ أَهْلَکَ بِالصَّلاَةِ واصْطَبِرْ عَلَیْهَا)، فَکَانَ یَأْمُرُ بِها أَهْلَهُ ویَصْبِرُ عَلَیْهَا نَفْسَهُ.
أشار الإمام علیه السلام کما ذکرنا فی مبحث «نظرة إلی الخطبة» إلی أربعة أمور مهمّة وأکّد علی أنّها من الأرکان، تتعلق ثلاث منها بفروع الدین (الصلاة والزکاة وحفظ وأداء الأمانة) والرابع من آثار أصول الدین وهو الإیمان بحضور اللّه فی کلّ مکان وعلمه بمضمرات القلوب وأعمال الجوارح، وأشار فی القسم الأوّل المتعلق بالصلاة إلی آثار الصلاة المعنویّة والتربویّة والعاقبة السیئة لتارکی الصلاة والمستخفین بها
ص:553
وقد عرَّف من خلال ذلک بالمصلّی الحقیقی فقال بادئ الأمر:
«تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلاَةِ، وحَافِظُوا عَلَیْهَا، واسْتَکْثِرُوا مِنْهَا، وتَقَرَّبُوا بِهَا، فَإِنَّها «کَانَتْ عَلَی الْمُؤْمِنینَ کِتَاباً مَّوْقُوتاً»(1)».
فقد تضمنت العبارة القصیبرة أربعة أوامر بشأن الصلاة هی: تعاهدها، والمحافظة علیها، والإکثار منها، والتقرب بها إلی اللّه.
والمراد من التعاهد المراقبة والإصلاح، ویطلق هذا التعبیر علی الشخص الذی یتفقد أملاکه ومزارعه ویجد ویجتهد فی إصلاحها، وعلیه فالعبارة المذکورة إشارة إلی مواصلة المذاکرة بشأن واجبات الصلاة ومستحباتها ومکروهاتها، بحیث یکون کلّ یوم أفضل من سابقه فی الصلاة.
والمراد من المحافظة ما أشیر إلیه فی الآیة 238 من سورة البقرة: «حَافِظُوا عَلَی الصَّلَوَاتِ وَالصَّلوةِ الْوُسْطَی» والمتمثل بحفظها من الموانع والریاء والسمعة وامثال ذلک.
کما ذهب البعض إلی أنّ المراد حفظ أوقات کلّ صلاة وأدائها فی وقت الفضیلة.
ویشیر التعبیر «استکثروا» لما ورد فی الحدیث النبوی الشریف:
«الصَّلاةُ خَیْرُ مَوْضُوع فَمَنْ شاءَ اسْتَقَلَّ ومَنْ شاءَ اسْتَکْثَرَ»(2).
کما ورد فی الروایة:
«إنَّ أَحَبّ الأَعْمالِ إِلَی اللّهِ عَزَّ وجَلَّ الصَّلاةُ والْبِرُّ والْجِهادُ»(3).
وقال فی العبارة الرابعة التی تمثّل فی الواقع نتیجة للعبارات الثلاث السابقة:
«وَتَقَرَّبُوا بِهَا».
جاء فی الحدیث المروی عن الإمام علی بن موسی الرضا علیهما السلام أنّه قال:
«اَلصَّلاةُ
ص:554
قُربانُ کُلُّ تَقِیٍّ»(1).
ثم تطرق علیه السلام إلی الدلیل علی الوصایا الأربع بشأن الصلاة، فأشار إلی سبعة واستشهد ببعض الآیات القرآنیّة والأحادیث النبویّة فقال فی البدایة: «اِنَّ الصَّلوةَ کَانَتْ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ کِتَاباً مَوْقُوتاً»(2).
وقد ذکر المفسرون تفسیرین لهذه الآیة فقالوا: إنّ المراد من «موقوت» الوجوب حیث یستعمل هذا التعبیر بدل الوجوب؛ والثانی إنّه إشارة إلی أوقات الصلاة التی ینبغی مراقبتها بدقّة من قبل المؤمنین فیأتون بکلّ صلاة فی وقتها.
ثم خاض فی الدلیل الثانی فقال علیه السلام:
«أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَی جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِینَ سُئِلُوا : «مَا سَلَکَکُمْ فِی سَقَر (3)* قَالُوا لَمْ نَکُ مِنَ الْمُصَلِّینَ»(4)».
طبعاً أشیر فی مواصلة الآیة الشریفة المذکورة إلی سائر الذنوب التی أدّت إلی دخولهم النار من قبیل: عدم إطعام المسکین ومسایرة أهل الباطل والتکذیب بیوم القیامة: «وَلَمْ نَکُ نُطْعِمُ الْمِسْکِینَ * وَکُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِینَ * وکُنَّا نُکَذِّبُ بِیَوْمِ الدِّینِ»(5)؛ إلّاأنّ المهم هو أنّ القرآن أشار إلی تقدیم ترک الصلاة علی کلّ تلک الأمور، وهذه دلالة واضحة علی أهمیّة الصلاة ودورها فی سعادة الإنسان.
وهذه الآیات هی أدلّة واضحة علی عقاب الکفّار علی ترک فروع الدین کترکهم لأصول الدین.
وقال الإمام علیه السلام فی بیان الدلیلین الثالث والرابع لإثبات أهمیّة الصلاة:
«وإِنَّهَا
ص:555
لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ(1) الْوَرَقِ، وتُطْلِقُهَا إِطْلاَقَ الرِّبَقِ(2)».
نعم؛ فکما أنّ الصلاة تحول دون الذنوب فی المستقبل بمضمون الآیة الشریفة:
«اِنَّ الصَّلوةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْکَرِ»(3)، فإنّها تؤثر مثل ذلک فی الذنوب السابقة عن طریق التوبة والإنابة إلی اللّه والتی تعدّ الصلاة مصدره فتقضی علی المعاصی التی هی کالقید علی رقبة الإنسان وتصده عن الرقی والکمال؛ وتحرره من تلک القیود.
روی عن سلمان الفارسی قال: کنت مع رسول اللّه إذ جلسنا عند شجرة فهزها رسول اللّه فتساقطت أوراقها، ثم قال صلی الله علیه و آله:
«أَلا تَسْأَلُوننی عَمّا صَنَعْتُ؟» قالوا:
فأخبرنا یا رسول اللّه قال:
«اِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ إذا قامَ إِلَی الصَّلاةِ تَحاتَتْ خَطایاهُ کَما تَحاتَتْ وَرَقَ هذِهِ»(4).
ثم استشهد الإمام علیه السلام فی استدلاله الخامس بکلام رسول اللّه بشأن أهمیّة الصلاة فقال:
«وشَبَّهَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ وسَلَّم بِالْحَمَّةِ تَکُونُ عَلَی بَابِ الرَّجُلِ، فَهُو یَغْتَسِلُ مِنْهَا فِی الْیَوْمِ واللَّیْلَةِ خَمْسَ مَرَّات، فَمَا عَسَی أَنْ یَبْقَی عَلَیْهِ مِنَ الدَّرَنِ(5) ؟»(6).
ویتّضح من خلال ما ورد فی متن الخطبة من کلمة «الحمّة» (عین المیاه الحارة التی یستفاد منها فی علاج المرضی) أنّ الصلاة لیست کعین الماء العادیة، بل عین خاصة لها آثار عجیبة فی القضاء علی الأدناس، ولکن لابدّ من الإلتفات إلی أنّ هذا
ص:556
التعبیر حسب تحقیقنا وبحثنا إنّما جاء فقط فی کلام الإمام علیه السلام وفی هذه الخطبة.
ویمکن أن یکون هذا التأثیر نابع من کون الصلاة تحیی فی الإنسان روح التقوی وبمقتضی الآیة الشریفة: «اِنَّ الصَّلوةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْکَرِ» فهی تصده عن الفحشاء والمنکرات فی المستقبل وتدعوه بالطبع إلی التوبة بالنسبة لما سلف منه.
ثم واصل کلامه علیه السلام لیستدل فی دلیله السادس بآیة قرآنیّة أخری تکشف عن عظم منزلة المصلین فقال:
«وقَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنیِنَ الَّذِینَ لَاتَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِینَةُ مَتَاع، وَلَا قُرَّةُ عَیْن مِنْ وَلَد وَلَا مَال. یَقُولُ اللّهُ سُبْحَانَهُ : «رِجَالٌ لاَّ تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللّهِ وإِقَامِ الصَّلاَةِ وإِیتَآءِ الزَّکَاةِ»(1)».
جدیر ذکره أنّ الآیة المذکورة وردت بعد آیة من تلک التی أعقبت آیة النور فی القرآن وجری الحدیث فی الآیة التی سبقتها عن تلک البیوت الرفیعة التی أشرق فیها نور اللّه وانشغلت بتسبیح اللّه لیل نهار والرجال الذین أشیر إلیهم فی الآیة التی نحن بصددها هم امناء نور اللّه الذین لم تستهوهِم زخارف الحیاة الدنیا أو تصدهم عن ذکر اللّه والإحسان إلی خلقه ومعونتهم.
وأخیراً أشار علیه السلام فی آخر دلیل علی أهمیّة الصلاة إلی سیرة النّبی المقتبسة من القرآن الکریم فقال:
«وکَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآلِهِ نَصِباً(2) بِالصَّلاَةِ بَعْدَ التَّبْشِیرِ لَهُ بِالْجَنَّةِ، لِقَوْلِ اللّهِ سُبْحَانَهُ : «وأْمُرْ أَهْلَکَ بِالصَّلاَةِ واصْطَبِرْ عَلَیْهَا» (3)
،فَکَانَ یَأْمُرُ بِهَا أَهْلَهُ ویَصْبِرُ(4) عَلَیْهَا نَفْسَهُ».
وتشیر هذه الأدلة السبعة التی ذکرها أمیر المؤمنین علی علیه السلام بشأن أهمیّة الصلاة والتی استلهمها من القرآن والسنة وعشرات الأدلة الأخری التی لم یکن علیه السلام فی مقام
ص:557
التطرق إلیها، تشیر إلی مدی أهمیّة الصلاة وکونها جوهرة ثمینة ومدی تأثیرها ودورها فی تهذیب الإنسان وسعادته إلی جانب المخاطر التی یستبطنها الإبتعاد عن الصلاة والحرمان من برکاتها.
الإنسان موجود رصیده النسیان؛ فهولا ینسی الآخرین فحسب، بل غالباً ما یعانی من نسیان ذاته، وهذا النسیان الذاتی من أعدی أعداء سعادة الإنسان.
وهنالک عنصران مهمّان یسهمان فی هذا النسیان الذاتی؛ الأوّل: المتطلبات الواقعیة لحیاته الیومیّة سیما فی العصر الذی تعقدت فیه الحیاة وکثرت مشاکلها، والثانی: الحاجات الکمالیّة والخیالیّة والظاهریّة والمقرونة بالهوی وحبّ المال والجاه والشهوة، فهی أشبه بالمسافر الذی تطالعه علی جانبی الطریق القصور الفخمة والشواهد الجمیلة التی تصده فجأة عن مساره الرئیسی وتقذف به إلی الهاویة.
ولعل أهم آثار الصلاة إیقاظ الإنسان من سباته ووضعها حدّاً لنسیانه، ذلک لأنّه إن ذکر اللّه انقلب الوضع رأساً علی عقب، فلسفة الصلاة حسب الآیة الشریفة: «أَقِمِ الصَّلوةَ لِذِکْرِی»(1) هی ذکر اللّه والتی جاءت بعد الآیة الشریفة: «ولَذِکْرُ اللّهِ أَکْبَرُ»(2) والتی أعقبت هذه الآیة الشریفة: «اِنَّ الصَّلوةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْکَرِ» تشیر إلی أنّ الجذور الأصلیة لفلسفة الصلاة إنّما تکمن فی ذکر اللّه، لأنّ حبّ الدنیا رأس کلّ خطیئة، وحبّ الدنیا هو الذی یصد الإنسان عن ذکر اللّه، کما ورد فی الآیة 29 من سورة النجم: «فَأَعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلَّی عَنْ ذِکْرِنَا وَلَمْ یُرِدْ إِلَّا الْحَیَاةَ الدُّنْیَا».
ص:558
وتفید سائر الآیات القرآنیّة أنّ الشیطان إنّما یطوف حول قلب الإنسان فإذا ما ذکر اللّه هرب منه: «اِنَّ الَّذِینَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّیْطَانِ تَذَکَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ»(1).
وهذا هودلیل ما صرحت به الروایات الإسلامیّة من أنّ الصلاة عمود الدین وعین ماء صافیة، سیما إن أوتی بهذه الصلاة فی جماعة وأقبل فیها المؤمنون زمراً علی اللّه تبارک وتعالی، جاء فی الحدیث عن نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله:
«مَنْ صَلّی الصَّلاة فی جَماعَة فَظُنُّوا بِهِ کُلَّ خَیْر وَاقْبَلُوا شَهادَتَهُ»(2).
ولو تأمّلنا مقدمات الصلاة (الطهارة والوضوء والغسل) التی تدعوالإنسان إلی طهارة الروح والبدن وسائر شرائطها من قبیل حلیة لباس المصلی والتوجه إلی المسجد، أقدم مرکز للتوحید، وسائر الأرکان ومضامین الآیات والأذکار والتعقیبات، فإنّها تعمق فهم الإنسان لمدی أهمیّة هذه العبادة العظیمة والاستثنائیّة، والذی یشیر إلی مدی الدور الذی تلعبه الصلاة فی تربیة الإنسان وإیصاله إلی القرب الإلهی والسیر والسلوک المعنوی والعرفانی.
***
ص:559
ص:560
ثُمَّ إِنَّ الزَّکَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلاَةِ قُرْبَاناً لاَِهْلِ الاِْسْلاَمِ، فَمَنْ أَعْطَاهَا طَیِّبَ النَّفْسِ بِهَا، فاِنَّها تُجْعَلُ لَهُ کَفَّارَةً، ومِنَ النَّارِ حِجَازاً ووِقَایَةً. فَلاَ یُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ، وَلَا یُکْثِرَنَّ عَلَیْهَا لَهَفَهُ، فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا غَیْرَ طَیِّبِ النّفْسِ بِهَا، یَرْجُوبِهَا مَا هُوأَفْضَلُ مِنْهَا، فَهُوجَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ، مَغْبُونُ الأَجْرِ، ضَالُّ الْعَمَلِ، طَوِیلُ النَّدَمِ.
کما أشیر فی مستهل الخطبة أنّ الإمام علیه السلام أشار فیها إلی أربعة أمور غایة فی الأهمیّة کان أولها الصلاة وقد مر بحثها بصورة وافیّة، والأمر الثانی الزکاة حیث قال علیه السلام:
«ثُمَّ إِنَّ الزَّکَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلاَةِ قُرْبَاناً لاَِهْلِ الاِْسْلاَمِ».
و «القربان»: هنا یعنی ما یوجب التقرب إلی اللّه تعالی ونعلم أنّ الصلاة هی رابطة الخالق بالخلق والزکاة رابطة الخلق بسائر عباد اللّه والتی تعدّ نوعاً من الإرتباط باللّه. جدیر ذکره أنّ الصلاة والزکاة ذکرتا مع بعضهما فی سبع وثلاثین آیة من الآیات القرآنیّة، وهذا یدل علی أنّهما لازم وملزوم فی تحقیق سعادة الفرد والمجتمع.
ثم عدد الإمام علیه السلام بعض الآثار المهمّة للزکاة وشرائطها فقال:
«فَمَنْ أَعْطَاهَا طَیِّبَ النَّفْسِ بِهَا، فاِنَّها تُجْعَلُ لَهُ کَفَّارَةً، ومِنَ النَّارِ حِجَازاً ووِقَایَةً».
فالشرط الأوّل لقبول الزکاة حسب ما ذکر الإمام علیه السلام فی هذه العبارة أن تؤدّی
ص:561
عن طیب نفس ورغبة وبصفتها إمتثال لأمر اللّه ونیل رضاه لتنطوی فی ظلّ هذه الحالة علی أثرین مهمّین؛ أحدهما أنّها کفّارة للذنوب السابقة، والآخر حجاب من نار جهنم.
طبعاً، من یؤدّی الزکاة مکرهاً ولا یسعه طرح حبّ المال من قلبه یکون قد أدّی التکلیف، ولکن لا حظ له من برکاتها المعنویّة والروحیّة والأخلاقیّة.
قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«أَرْضُ الْقِیامَةِ نارٌ ما خَلا ظِلُّ الْمُؤْمِنِ فَإنّ صَدَقَتَهُ تُظِلُّهُ»(1).
وقد صرّح القرآن بأنّ إحدی صفات المنافق أنّه إن انفق شیئاً إنّما ینفقه کراهة ولذلک فهو لا یحظی بقبول اللّه تعالی: «وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ کَفَرُوا بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ... وَلَا یُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ کَارِهُونَ»(2).
ثم خلص الإمام علیه السلام إلی هذه النتیجة فقال:
«فَلاَ یُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ، وَلَا یُکْثِرَنَّ عَلَیْهَا لَهَفَهُ(3)».
نعم! فالناس صنفان؛ صنف یؤدّی زکاته وسائر صدقاته فی سبیل اللّه بمنتهی الرضا، ولیس له هم سوی الفوز برضا اللّه دون توقع أدنی شکر أو جزاء ممن یأخذ الزکاة والصدقة «اِنَّمَا نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لَانُرِیدُ مِنْکُمْ جَزَآءً وَلَا شُکُوراً»(4)؛ أمّا الصنف التالی فذلک الذی یکون أداء الزکاة عنده کحالة الاحتضار، وهولا ینفک یعیش حالة من القلق، لیقول علی الدوام: کم کان ثمین ذلک المال الذی زکیته وکم جهدت من أجل الحصول علیه، ولوکان عندی الیوم لفعلت به کذا وکذا، فهذا الصنف مصداق لما ذکره الإمام علیه السلام فی العبارة المذکورة، ولابدّ أن نری هنا کیف یبیّن الإمام علیه السلام الآثار السلبیّة لذلک، فقال:
«فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا غَیْرَ طَیِّبِ النّفْسِ بِهَا، یَرْجُوبِهَا مَا هُوأَفْضَلُ مِنْهَا، فَهُوجَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ، مَغْبُونُ الأَجْرِ، ضَالُّ الْعَمَلِ، طَوِیلُ النَّدَمِ».
ص:562
ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة فی تفسیرهم لهذه العبارة
«یَرْجُوبِهَا مَا هُوأَفْضَلُ مِنْهَا»: إلی أنّ المراد أنّ الإنسان المؤمن لا یتوقع حتی برکة المال والحصول علی المزید من النعم فی أدائه للزکاة وسائر القربات، بل هدفه رضا اللّه، إلّاأنّ هذا التفسیر لا یبدو منسجماً مع العبارة
«جاهِلْ بِالسُنَّةِ» و
«ضَالُّ الْعَمَلِ»، ذلک لأنّ المستفاد من الروایات الإسلامیّة أنّ انتظار الفضل الإلهی والعنایة لیس ممنوعاً فی هذه الموارد، بل مرغوب فیه.
فقد جاء فی الروایة أنّه یستحب التوجه للّه وطلب سعة الرزق حین الحاجة عن طریق التصدق(1) وقد قال القرآن بهذا الخصوص: «یَمْحَقُ اللّهُ الرِّبَا وَیُرْبِی الصَّدَقَاتِ»(2).
إلّا أنّ التفسیر الثانی الذی یمکن قوله بشأن هذه العبارة والذی ینسجم مع سائر العبارات، الأوّل أنّ هذه العبارة استمرار للعبارة
«غَیْرَ طَیِّبِ النّفْسِ بِهَا»؛ أی أنّه لا یُعطی الزکاة عن نفس طیّبة ولا یأمل بما هو أفضل منها، ومن الطبیعی أنّ مثل هذا الشخص قد عمل خلاف السنة وانحدر إلی الضلال. والآخر أنّ المراد الشخص الذی لا یعیش الرضا الباطنی حین أداء الزکاة ویطلب من اللّه ما هو أفضل منها، فهو شخص خاطئ وجاهل بالسنة.
الزکاة من أهم الفرائض بعد الصلاة؛ فالکلام فی الصلاة عن الرابطة بالخالق، وفی الزکاة عن الرابطة بخلق اللّه. والواقع أن صدق الإنسان وجدیته فی موضوع الإرتباط بالخالق إنّما یثبت حین تکون رابطته قویة بالخلق، فیحیط بمشاکلهم
ص:563
ویسعی لحلها ویعبّر عن مواساته للمحتاجین والمساکین والمحرومین ویسعی بکلّ ما أوتی من قوّة لمساعدتهم، وبالطبع فإنّ أهم مظاهر ذلک هو أداء الزکاة، ومن هنا وکما أشیر سابقاً فقد ذکرت الزکاة إلی جنب الصلاة فی 37 آیة من الآیات القرآنیّة.
من جانب آخر فإنّ التمایز الطبقی یعدّ من أخطر الظواهر الاجتماعیّة فی أن تکون هناک طبقة مرفهة مهیمنة علی کلّ شیء وأخری محرومة تفتقر إلی أبسط المقومات الأساسیّة للحیاة، الأمر الذی یترک آثاره السلبیّة علی هذه الطبقة المعدمة، کما تعانی الطبقة المرفهة من بعض الضغوط بفعل ردود الفعل التی تمارسها تلک الطبقة وهذا ما یؤدّی بالتالی إلی سلب الأمن عن المجتمع.
قال القرآن الکریم فی الآیة 195 من سورة البقرة: «وَأَنفِقُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ» والمراد إذا أردتم النجاة من الهلکة فلا تنسوا الانفاق فی سبیل اللّه.
وهی الحقیقة التی وردت إشارة لطیفة إلیها فی کلام أمیر المؤمنین علیه السلام، حیثُ قال بعد تصنیفه أبناء المجتمع إلی عالم وجاهل وغنیّ وفقیر:
«وإذا بَخِلَ الْغَنِیُّ بِمَعْرُوفِهِ باعَ الْفَقیرُ آخِرَتَهُ بِدُنْیاهُ» أی حین یبخل الأغنیاء بالتفضل علی الفقراء والمحرومین فإنّ هؤلاء المحرومین یبیعون آخرتهم بدنیاهم وبالتالی یثورون ویحطمون جمیع القوانین الاجتماعیّة.
ومن جانب ثالث هنالک الصفات الرذیلة بالفعل وبالقوّة فی أغلب الأفراد والتی لا یمکن استئصالها إلّابأداء الزکاة، قال القرآن الکریم: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَکِّیهِمْ بِهَا...»(1).
نعم! هنالک تأثیرات عظیمة لأداء الزکاة فی تهذیب النفس وتهذیب صفاته الإنسانیّة.
***
ص:564
ثُمَّ أَدَاءَ الأَمَانَةِ، فَقَدْ خَابَ مَنْ لَیْسَ مِنْ أَهْلِهَا. إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَی السَّماوَاتِ الْمَبْنِیَّةِ، والأَرَضِینَ المَدْحُوَّةِ، والْجِبَالِ ذَاتِ الطُّوْلِ الْمَنْصُوبَةِ فَلاَ أَطْوَلَ ولَا أَعْرَضَ، وَلَا أَعْلَی وَلَا أَعْظَمَ مِنْهَا. ولَوامْتَنَعَ شَیٌْ بِطُول أَوعَرْض أَوقُوَّة أَوعِزٍّ لاَمْتَنَعْنَ؛ ولکِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وعَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوأَضْعَفُ مِنْهُنَّ، وهُوالاِْنْسَانُ، (إِنَّهُ کَانَ ظَلُوماً جَهُولاً).
طرح الإمام علیه السلام فی القسم الثالث من الخطبة - بعد بیان أهمیّة الصلاة والزکاة - مسألة أخری غایة فی الأهمیّة هی «أداء الأمانة». والأمانة إن لم تؤدّی فقدت سائر المشاریع الإسلامیّة أثرها ومعطیاتها، فقال:
«ثُمَّ أَدَاءَ الأَمَانَةِ، فَقَدْ خَابَ مَنْ لَیْسَ مِنْ أَهْلِهَا».
وقد اختلف شرّاح نهج البلاغة فی المراد (بأداء الأمانة) الوارد فی هذه العبارة؛ فقد ضیّقه البعض لیراه یعنی الولایة والإمامة أو ما شابه ذلک، والحال أنّ مجیء أداء الأمانة بعد الصلاة والزکاة یفید أنّ المراد به مفهوم عام وشامل، ذلک لأنّ أداء الأمانة أساس ودعامة جمیع الأنشطة الاجتماعیّة والإیجابیّة بحیث لو تسللت الخیانة إلی أداء الأمانة لانعدمت الثقة بین الجمیع ولزال التعاون الاجتماعی ولساد سوء الظنّ بین الناس ممّا یؤدّی إلی إرباک المجتمع، ولذلک جاء فی الروایة أنّ الإمام الصادق علیه السلام قال:
«إنّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ لَمْ یَبْعَثْ نَبِیّاً إِلَّا بِصِدْقِ الْحَدیثِ وأداءِ الأَمانَةِ إِلَی
ص:565
الْبَرِّ والْفاجِرِ»(1).
کما ورد فی الحدیث النبوی الشریف:
«الأَمانَةُ تَجْلِبُالْغِنی والْخِیانَةُ تَجْلِبُالْفَقْرَ»(2).
جدیر ذکره أنّ للأمانة معنیین؛ معنی خاص یشمل أمانات الناس المالیة التی یستودعها بعضهم البعض الآخر وحفظها من أوجب الواجبات، ومعنی عام یشمل جمیع المسؤولیات الإلهیّة، وعلی هذا الأساس فإنّ عمرنا وأولادنا وبلدنا ومراکزنا الاجتماعیّة والحکومات الإلهیّة کلّها أمانات أودعت لدینا ولا ینبغی خیانتها.
والمفهوم العام یشمل أمانات الناس المادیّة وکذلک الأمانات الإلهیّة والمعنویّة وحفظها من أرکان الدین کما أشار الإمام علیه السلام إلیها بعد الصلاة والزکاة، وتفید العبارات اللاحقة بعدها إلی أنّ الهدف من ذکر الأمانة هنا هو المفهوم العام، ذلک لأنّ الإمام علیه السلام قال عقب هذه العبارة:
«اِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَی السَّماوَاتِ الْمَبْنِیَّةِ(3) ، والأَرَضِینَ المَدْحُوَّةِ(4) ، والْجِبَالِ ذَاتِ الطُّوْلِ الْمَنْصُوبَةِ، فَلاَ أَطْوَلَ وَلَا أَعْرَضَ، وَلَا أَعْلَی وَلَا أَعْظَمَ مِنْهَا».
ثم قال علیه السلام:
«ولَوامْتَنَعَ شَیٌْ بِطُول أَوعَرْض أَوقُوَّة أَوعِزٍّ لاَمْتَنَعْنَ؛ ولکِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وعَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوأَضْعَفُ مِنْهُنَّ، وهُوالاِْنْسَانُ ، «إِنَّهُ کَانَ ظَلُوماً جَهُولاً»».
هذا الکلام إشارة لما ورد فی الآیة 72 من سورة الأحزاب: «اِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَی السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَیْنَ أَنْ یَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِْنْسَانُ إِنَّهُ کَانَ ظَلُوماً جَهولاً».
ص:566
هنالک نقطة مهمّة فی هذه الآیة الشریفة: وهی: ما المراد بهذه الأمانة الإلهیّة التی بلغت هذا القدر من الثقل بحیث عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال؟
وقد ذهب أغلب المفسرین إلی أنّ المراد بها التکالیف الشرعیّة والأوامر والنواهی والإیمان ومنها ولایة المعصومین علیهم السلام وأنّ عدم تحملها من قِبل السماء والأرض والجبال دلیل علی عدم استعدادها لقبول هذه المسؤولیّة، وعلیه فعرض هذه التکالیف الإلهیّة علیها کان بلسان الحال، رغم ما ذهب إلیه البعض من أنّ اللّه أفاض علیها آنذاک ما یکفیها من العقل والشعور لتخاطب بذلک الخطاب، ولکن علی کلّ حال فقد حملها وقبلها الإنسان بفضل ما أودع من استعداد ربّانی شامل.
حقاً أنّ هذا لوسام شرف عظیم للإنسان لأنّ یخاطب بأوامر اللّه ونواهیه ولذلک فهویحتفل فی الیوم الذی یبلغ فیه التکلیف.
وعلی هذا الضوء فسر «الظلوم والجهول» بعاقبة العمل، أی أنّه لم یکن ظلوماً فی قبول هذه الأمانة بل ظلم نفسه فی أداء حقها ولم یلتفت إلی قدر نفسه ومقامه وکان جاهلاً به.
فهذا أوضح تفسیر یمکن ذکره للآیة الشریفة، لکنه لا ینسجم مع ما ورد فی الخطبة التی نحن بصددها من جهتین، الأُولی: إنّ السماوات والأرض والجبال إنّما لم تتحمل هذه الأمانة بسبب ما هی علیه من عقل وفطنة، والثانیة: إنّ الإنسان کان أضعف منها وقد ظلم نفسه إثر جهله وحمل تلک الأمانة، ومن هنا فإنّ النهوض بهذه الأمانة والتکلیف یعد نقطة ضعف فی الإنسان، وعدم قبولها من قبل السماوات والأرض یعد نقطة قوّة لها.
وهذا المعنی وبغض النظر عن عدم انسجامه مع الآیة الشریفة، فهو لا یتفق أیضاً مع سائر الآیات القرآنیّة، فاللّه جعل الإنسان أفضل خلقه فقال: «لَقَدْ کَرَّمْنَا بَنِی ادَمَ...
ص:567
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَی کَثِیر مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِیلاً»(1) وقد أمر جمیع ملائکته بالسجود له وجعله خلیفته فی أرضه وقال بحقه: «اِنِّی جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ خَلِیفَةً»(2). فهل یمکن أن یقال بعد کل هذه الافتخارات إنّ الإنسان أضعف واحط من الجمادات کالأرض والسماء والجبال؟!
حقّاً إنّ هذه مسألة معقدة ولا یبدو من السهل الجمع بین مضمون هذه الخطبة وما جاء فی الآیة الشریفة، ولم یتجه شرّاح نهج البلاغة صوب حل هذه المشکلة، والحل الوحید هو أن نعتبر الآیة قضیة کلیّة ونحمل کلام الإمام علیه السلام علی قضیة جزئیّة فنقول: إنّ الإمام علیه السلام تطرق إلی فئة من الناس، فئة بحکم الآیة الشریفة:
«أُوْلئِکَ کَالاَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ»(3) ممن لیس لهم حظ من عقل ومعرفة ویعیشون فی دوّامة من الجهل والغرور والغفلة واتباع الهوی الذی تسلل إلی أفکارهم فکان قبول هذه الأمانة سبب بؤسهم وشقائهم بدلاً من أن یکون أساس إعتزازهم وفخرهم؛ ولعلنا نلمس شبیه ذلک فی القرآن الکریم بشأن المنافقین ومرضی القلوب: «وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّنْ یَقُولُ أَیُّکُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِیمَاناً فَأَمَّا الَّذِینَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِیمَاناً وَهُمْ یَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَی رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ کَافِرُونَ»(4).
ومن هنا یجدر بالباحثین الترکیز والتعمق فی هذه المسألة.
إنّ حفظ الأمانة، سواء بالمعنی الخاص الذی یعنی حفظ ثروات الآخرین المالیة، أو بمعناها العام فی حفظ وصون المسؤولیات الإلهیّة والمعنویّة والمادیّة
ص:568
والفردیّة والاجتماعیّة، لمن المبادئ الأساسیّة لجمیع الأنبیاء علیهم السلام، والدلیل علی ذلک الحدیث النبوی الشریف:
«اِنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ لَمْ یَبْعَثْ نَبِیّاً إلّابِصِدْقِ الْحَدیثِ وأداءِ الأَمانَةِ إلَی الْبَرِّ والْفاجِرِ».
وحفظ هذه الأمانة علی درجة من والعظمة بحیث أبت حمله تلک السماوات المرفوعة والجبال الشامخة، وحملها الإنسان أشرف مخلوقات اللّه بما أفاض اللّه علیه من استعداد، وقد صانها وحملها الأنبیاء والأولیاء ومن سار علی دربهم لیفوزوا بهذا الشرف، رغم عدم أداء تلک الأمانة من قبل طائفة جاحدة من الظلمة والجهّال، والنقطة المهمّة هی أنّ المصادر الإسلامیّة ذکرت المزید من الحقوق للمسلمین بالنسبة لبعضهم البعض الآخر؛ إلّاأنّ حفظ الأمانة أهمها جمیعاً والتی تعتبر جزءً من حقوق الإنسان. ومن هنا جاء فی الروایة الواردة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّ أحد وصایاه کانت بهذا الخصوص:
«إعْلَمْ أنَّ ضارِبَ عَلیٍّ بِالسَّیْفِ وقاتِلِهِ لَوإتْمَنَنی واسْتَنْصَحَنی واسْتَشارَنی ثُمَّ قَبِلْتُ ذلِکَ مِنْهُ لأدّیتُ إِلَیْهِ الأَمانَةَ»(1).
وتبدو هذه المسألة علی درجة من الأهمیّة بحیث اعتبرت من أفضل الدلالات علی شخصیة الإنسان وإیمانه حتی أنّها لتفوق الصلاة والصوم والحج.
جاء فی الحدیث النبوی الشریف:
«لا تَنْظُرُوا إلی کَثْرَةِ صَلاتِهِمْ وصَوْمِهِمْ وکَثْرَةِ الْحَجِّ والْمَعْرُوفِ وطَنْطَنَتِهِمْ بِاللَّیْلِ ولکِنِ انْظُرُوا إِلی صِدْقِ الْحَدیثِ وأداءِ الأَمانَةِ»(2).
والدلیل الواضح علی صدق هذا الحدیث الشریف، التجارب التی عشناها طیلة حیاتنا، فما أکثر الأفراد الذین یعیشون حالة من الجدّ والاجتهاد والالتزام بالمسائل العادیة، ولکن ما أن ترد بعض المسائل المهمّة سیما الأموال الطائلة حتی تزل أقدامهم وتهتز شخصیتهم.
ص:569
ص:570
اِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَی لَایَخْفَی عَلَیْهِ مَا الْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ فِی لَیْلِهِمْ ونَهَارِهِمْ. لَطُفَ بِهِ خُبْراً، وأَحَاطَ بِهِ عِلْماً. أَعْضَاؤُکُمْ شُهُودُهُ، وجَوَارِحُکُمْ جُنُودُهُ، وضَمَائِرُکُمْ عُیُونُهُ، وخَلَوَاتُکُمْ عِیَانُهُ.
أشار الإمام علیه السلام فی الأقسام السابقة من هذه الخطبة إلی ثلاثة مواضیع مهمّة تعدّ من أرکان الأوامر الإلهیّة وهی الصلاة والزکاة وأداء الأمانة، ثم تطرق الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة إلی أمر بمثابة العنصر الإجرائی لهذه الأوامر المهمّة والذی یتمثل بإحاطة اللّه تعالی العلمیّة بالإنسان فی أحواله کافّة.
وبعبارة أخری أنّ الإنسان حین یهم بطاعة هذه الأوامر یشعر بأنّه حاضر علی کلّحال عند اللّه وأنّ علمه محیط به علی غرار العیون التی تبث داخل الطرق والمدن بغیة رعایة الناس للقوانین السائدة فقال:
«اِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَی لَایَخْفَی عَلَیْهِ مَا الْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ فِی لَیْلِهِمْ ونَهَارِهِمْ. لَطُفَ بِهِ خُبْراً، وأَحَاطَ بِهِ عِلْماً».
والتعبیر بالعباد تعبیر واسع یشمل جمیع الناس بما فیهم المسلم والکافر والصغیر والکبیر والعالم والجاهل، وتقدیم اللیل علی النهار لأنّ اللیل موضع خفی لأغلب العصاة.
والعبارة:
«لَطُفَ بِهِ خْبْراً» بالنظر إلی أنّ اللطیف أحد أسماء اللّه الحسنی ویطلق علی من یلم بأظرف الأمور وأدقّها، إشارة إلی عدم غیاب أصغر أعمال العباد وأخفاها عن علمه تبارک وتعالی: «یَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْیُنِ وَمَا تُخْفِی الصُّدُورُ»(1).
ص:571
وکل هذه الأمور تستند إلی کون علمه سبحانه وتعالی بجمیع الأشیاء علماً حضوریاً فهو حاضر فی کلّ مکان والکون برمته حاضر لدیه، فلا یخفی علیه شیء ولا یعزب عن علمه شیء.
وقد تمسک البعض بمثال فقال: لو کان فی یدنا شیء ننظر إلیه فهل یخفی علینا شیء منه، وبالطبع فإنّ علم اللّه لأعمق وأسمی من ذلک بالنسبة لجمیع الکائنات.
وقال فی مواصلته لکلامه ولإثبات شدّة الرقابة الإلهیّة علی الإنسان:
«أَعْضَاؤُکُمْ شُهُودُهُ، وجَوَارِحُکُمْ جُنُودُهُ، وضَمَائِرُکُمْ عُیُونُهُ، وخَلَوَاتُکُمْ عِیَانُهُ».
ولمفردة الأعضاء (جمع عضو) معنی عام یشمل الأعضاء التی بها یقوم الإنسان بأعماله، مثل الأیدی والأرجل، وکذلک الأعضاء التی یبدو ظاهریاً لا یقوم بها بعمل کالأضلاع والعظام؛ أمّا الجوارح (جمع جارحة) واستناداً إلی مادتها اللغویّة جرح التی تعنی الاکتساب فهی تقتصر علی الإشارة إلی تلک الأعضاء التی یقوم بواسطتها الإنسان ببعض الأعمال ویحسن بها أو یسییء بها، وعلیه فذکر الجوارح بعد الأعضاء من قبیل ذکر الخاص بعد العام.
و «ضمائر» جمع «ضمیر» بمعنی باطن الإنسان وتشیر هنا إلی وجدان الإنسان الذی یمثل القاضی الباطنی.
و «خلوات»: جمع «خلوة» تعنی الموضع الذی لا یتواجد فیه عامة الناس، ولما کانت أغلب الذنوب إنّما ترتکب فی الخلوات، فقد رکزت علیها العبارة السابقة.
وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ (خلوات) تعنی ما یرتکب من أعمال فی الخلوة وستکون من قبیل حذف المضاف، علی کلّ حال فإنّ هدف الإمام علیه السلام من بیان هذه العبارات الأربع الأخیرة أن یقول لیس لعلم اللّه إحاطة بجمیع أعمال الإنسان فحسب، بل أعضاء الإنسان وجوارحه ووجدانه شهوده وجنوده وعیونه، وإنّ کلّ بقعة من مکان حتی الخلوات لتشهد علی أعمال الإنسان.
***
ص:572
فِی مُعَاوِیَة (1)
أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی سیاسة معاویة المؤسسة علی الکذب والخداع والمکر والحیلة، وذکر علیه السلام أنّه أعرف بهذه الفنون من السیاسة إلّاأنّ الورع والتقوی وخشیة اللّه لا تدعه أبداً یمارس هذا الأسلوب الرخیص، وصرّح فی آخر کلامه بأنّه ممن لا تنطلی علیه هذه السیاسة فیستغفل ولا یبدی مقاومة.
***
ص:573
ص:574
واللّهِ مَا مُعَاوِیَةُ بِأَدْهَی مِنِّی، ولکِنَّهُ یَغْدِرُ ویَفْجُرُ. ولَولَا کَرَاهِیَةُ الْغَدْرِ لَکُنْتُ مِنْ أَدْهَی النَّاسِ، ولکِنْ کُلُّ غُدَرَة فُجَرَةٌ، وکُلُّ فُجَرَة کُفَرَةٌ. «ولِکُلِّ غَادِر لِوَاءٌ یُعْرَفُ بِهِ یَوْمَ الْقِیَامَةِ».
واللّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَکِیدَةِ، وَلَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِیدَةِ.
إنّ بعض السذج والجهّال فی عصر أمیرالمؤمنین یرون حین مقارنتهم للإمام علی علیه السلام بمعاویة أنّ هذا الأخیر کان أعظم سیاسة منه، وهو ذات الکلام الذی سمع فی القرون اللاحقة من قبل البعض وما زال یکرره الیوم بعض الجاهلین، وعبارات الإمام علیه السلام تعدّ رداً منطقیاً یلقم مثل هؤلاء الأفراد حجراً، حیث قال علیه السلام:
«واللّهِ مَا مُعَاوِیَةُ بِأَدْهَی(1) مِنِّی، ولکِنَّهُ یَغْدِرُ ویَفْجُرُ».
و «یَغْدِرُ»: من «غدر» بمعنی الخدعة ونقض العهد و
«یَفْجُرُ» من «فجور» بمعنی الإثم والمعصیة، والواقع أنّ هذا الفجور نتیجة لذلک الغدر، لأنّ الغدر یمهد السبیل للمعصیة.
ثم قال علیه السلام:
«ولَولَا کَرَاهِیَةُ الْغَدْرِ لَکُنْتُ مِنْ أَدْهَی النَّاسِ».
فقد أشار الإمام علیه السلام فی الواقع إلی نقطة مهمّة وهی أنّ السیاسة علی نوعین:
سیاسة طائشة ومقرونة بأنواع المعاصی، وبالتالی فهی سیاسة شیطانیّة، وسیاسة عن
ص:575
تدبیر مفعم بالورع والتقوی، وبالتالی فهی سیاسة رحمانیّة، وفی الواقع تتفاوت السیاستین وتبعاً لذلک تتفاوت نتائجهما.
والسیاسة بالمعنی الأوّل لا تعرف من حد خلقی ودینی وإنسانی ووجدانی، وتقضی علی کلّ قانون أو مبدأ أو ضابطة تشکل خطراً علیها، علی غرار ما نلاحظه الیوم فی عالم السیاسة الذی یحکم الشرق والغرب.
أمّا الصنف الثانی فتخضع فیه السیاسة لأطر معینة حدودها القیم والمثل الدینیّة والإنسانیّة والوجدان والضمیر؛ فهی لا تعتمد الظلم والجور والمعصیة قط سیما تجاه العزل من الأفراد الأبریاء؛ ولا تسمح بالغدر والخیانة والفجور ونقض العهود والمواثیق، وترفض التسلط والتوسع وبالتالی تری وجود بعض الخطوط الحمراء التی لا یمکن تجاوزها.
ومن هنا أشار الإمام علیه السلام فی مواصلته لکلامه إلی أولئک الأفراد الذین انتهجوا الغدر والفجور لیعتمدوهما کوسیلة لسیاساتهم فقال:
«ولکِنْ کُلُّ غُدَرَة فُجَرَةٌ، وکُلُّ فُجَرَة کُفَرَةٌ. (ولِکُلِّ غَادِر لِوَاءٌ یُعْرَفُ بِهِ یَوْمَ الْقِیَامَةِ)».
والعبارة:
«ولِکُلِّ غَادِر لِوَاءٌ...» حدیث معروف عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله روته أغلب المصادر، ومنها: الشوکانی فی نیل الأوطار، والبخاری فی صحیحه، وقال الشوکانی:
متفق علیه(1).
ثم قال علیه السلام فی اختتامه لهذا الکلام وحتی لا یتصور أحد أنّ الإمام علیه السلام بما هو علیه من نقاء القلب تنطوی علیه سیاسة الغدر والمکر:
«واللّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَکِیدَةِ، ولَا أُسْتَغْمَزُ(2) بِالشَّدِیدَةِ».
وهذا الکلام فی الواقع رد علی أولئک الذین یزعمون أنّه لا یمکن مواجهة أولئک الفجرة سوی من قبل أمثالهم ولیس أمام الفرد المتدین سوی الوقوع فی مخالبهم،
ص:576
فمضمون کلام الإمام علیه السلام هو إنّ الإنسان قد لا یکون من أهل الخداع والفجور والخیانة ولکن یعرف طریقة أهل الغدر والخیانة حتی لا یقع فی شباکهم ویخدع بالأعیبهم.
حقیقة السیاسة هی التدبیر وإدارة الحکومة ورعایة شؤون الناس، وهو أمر متعارف علیه منذ قدیم الزمان فی المجتمعات البشریّة، وقد حکمت تلک المجتمعات من قبل بعض الساسة طالحین کانوا أم صالحین.
والسیاسة علی صنفین: سیاسة طائشة وأخری حکیمة، أمّا السیاسة الطائشة فهی تلک السیاسة التی لا تؤمن بأی مانع أو رادع من أجل تحقیق أهدافها فتبیح کلّ شیء فهی تقتل المتهم والبریء وتهدم البیوت العامرة والخالیة، وتتشبث بکلّ حیلة وکذب وغش، وإذا ما عقدت اتفاقیة وتعارضت مستقبلاً مع أهدافها نقضتها، وبالتالی فهی لا ترحم الولد والأب والاُم، ومن هنا قیل: إنّ السیاسة لا تعرف من معنی للأب والاُم.
وقد قرأنا فی التاریخ أنّ الخلیفة العباسی هارون الرشید قال لابنه المأمون: «لو نازعتنی الملک لأخذت الذی فیه عیناک»، کما استقبل المأمون جسد أخیه الأمین بفرح وسرور، وما أکثر أمثال هذه الحوادث فی تاریخ العرب والعجم والشرق والغرب والتی أشار القرآن الکریم إلی نماذجها بشأن فرعون فقال: «اِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِی الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِیَعاً یَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ یُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَیَسْتَحیْیِ نِسَآءَهُمْ إِنَّهُ کَانَ مِنَ الْمُفْسِدِینَ»(1).
أمّا السیاسة الحکیمة والإنسانیّة فهی السیاسة التی تعتمد الأسس المشروعة
ص:577
بغیة الوصول إلی الهدف ولا تنتهک قط حدود الأحکام الشرعیّة والمبادئ الإنسانیّة، وتجری العدل بحقّ العدو والصدیق؛ وترعی الأمانة، وتلتزم بالعهود والمواثیق وتنظر بعین الاعتبار إلی الإنسان وکرامته وعزته.
وإنّ أصحاب السیاسة الحکیمة والإنسانیّة مهما کانوا قلائل مقارنة بأصحاب السیاسة الشیطانیّة، قد یعانون من المشاکل والمعضلات، إلّاأنّهم ظلّوا ناصعی الجبین فی التاریخ وأضحت سیاستهم قدوة للبشریّة برمتها.
والنموذج البارز للصنف الأوّل من السیاسة، معاویة ورهطه فی الشام، والنموذج الجلی الواضح للسیاسة بصنفها الثانی أمیرالمؤمنین علی علیه السلام، وهو ما أذعن له العدو والصدیق سوی تلک الثلة المتعصبة.
ابن أبی الحدید واستناداً إلی مبادئ مذهبه قارن بین سیاسة أمیر المؤمنین علیه السلام فی إدارة البلاد والسیاسة التی انتهجها عمر، فقال: «زعموا أنّ عمر کان أسوس من أمیرالمؤمنین وإن کان هو أعلم منه».
ثم خاض فی الرد علی هذه النظریة فقال: «إنّ سیاسة علی هی سیاسة النّبی صلی الله علیه و آله». وروی عن استاذه أبو جعفر النقیب أنّه قال: «کانت سیاسة علی علیه السلام هی ذاتها سیاسة رسول اللّه صلی الله علیه و آله».
ثم تطرق إلی شرح کلمات الجاحظ (العالم السنی المعتزلی) فی مقارنة سیاسة علی علیه السلام ومعاویة وإلیک خلاصة کلامه:
زعم البعض أنّ معاویة کان أسوس من علی علیه السلام وهذا خطأ کبیر، ثم واصل کلامه فی إبطال هذا الکلام حیث صرّح بأنّ علیّاً علیه السلام لم یعمل فی الحروب سوی بما وافق القرآن والسنّة، بینما کان معاویة یخالف القرآن.
فکان علیه السلام یوصی الجیش بعدم البدء بالقتال وتعقیب الهاربین والإجهاز علی المجروحین (والحال لم یکن معاویة یرعی أیّاً من هذه الوصایا).
ولما فرغ ابن أبی الحدید من نقل هذا الکلام اتّجه صوب بعض الإشکالات التی
ص:578
أوردها البعض علی سیاسة علی علیه السلام ومنها:
1. لو کان علی علیه السلام حین بویع له بالخلافة فی المدینة أقر معاویة علی الشام إلی أن یستقر الأمر له ثم یعزله، وقال فی الجواب: إنّ أمیرالمؤمنین کان یعلم أن إقراره أقوی لحال معاویة وأکّد فی الامتناع من البیعة، فلا یبقی بعد ذلک من عذر لعزله.
2. إنّه حین ملک شریعة الفرات فی صفین هلّا منعها عن معاویة وأهل الشام، فکان یأخذهم قبضاً بالأیدی بعد أن ملکها معاویة فمنعها عنه وعن أهل العراق؟
وقال فی الجواب: إنّه لم یکن یستحل ما استحله معاویة من تعذیب البشر بالعطش؛ فإنّ اللّه تعالی ما أمر أحداً بذلک.
3. إنّه علیه السلام أخطأ حین محی اسمه من الخلافة فقوی الشبهة فی نفوس أهل الشام.
وقال فی الجواب: إنّه علیه السلام احتذی فی ذلک لما دعی إلیه واقترحه الخصم علیه، فعل رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی صلح الحدیبیة، حین أصر زعماء الشرک علی محو اسمه من النبوّة (وحیث لم یرض ذلک أحد) فقد أقدم علیه بنفسه، وأخبره النّبی صلی الله علیه و آله بذلک سابقاً.
3. إنّه علیه السلام کان غیر مصیب فی ترک الاحتراس، فقد کان یعلم کثرة أعدائه؟
وقال فی الجواب: إنّ هذا إن کان قادحاً فی السیاسة والتدبیر فلیکن قادحاً فی سیاسة رسول اللّه صلی الله علیه و آله الذی لم یکن یرضی بذلک(1).
ولابن أبی الحدید کلمات أکثر من ذلک حیث أفرد أکثر من 50 صفحة فی شرح ذیل هذه الخطبة للبحث المذکور ولا یسعنا ذکرها هنا.
والجدیر ذکره ما ذکره فی آخر کلّ هذه الأبحاث، حیث قال: فقد بان بما أوضحناه فساد قول من قال إنّ تدبیره علیه السلام وسیاسته لم تکن صالحة:
«اِنَّهُ أصحُّ النّاسِ تَدْبیراً وأحْسَنُهُمْ سِیاسَةً وإِنَّمَا الْهَوی والْعَصَبیَّةُ لا حیلَةَ فیهِما».
***
ص:579
إلی هنا تمّ وبحمد اللّه الخطبة 200 من خطب أمیرالمؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام فی نهج البلاغة ومن الجزء السابع لهذا الکتاب القیم، نشکر اللّه تعالی علی توفیقه ومنّه أن یسّر لنا هذا الطریق، ونسأله أن یظلّلنا بغمام لطفه وکرمه کی نتمّ الأجزاء الآتیة من هذا السفر المبارک إن شاءاللّه تعالی.
وکذلک نحمده أن نال هذا الشرح إعجاب ورضا الطوائف المختلفة من الناس انتخب بعنوان أفضل کتاب لسنة 2002 م ونأمل أن یفتح هذا الشرح فصلاً جدیداً بین الشروح المطروحة لنهج البلاغة.
***
ولا یخفی أننا تلقّینا ببالغ الأسی والحزن رحیل وفقدان أحد الإخوة العاملین الأعزّاء معنا، ألا وهو العالم الفاضل والمتتبع المتبحر المغفور له المرحوم حجّة الإسلام والمسلمین الحاج الشیخ إبراهیم البهادری (قدّس سرّه).
کان المرحوم رجلاً فاضلاً، جاداً، منظماً، مخلصاً، متّقیاً، ومحققاً بارعاً، حیث أقدم علی تحقق أکثر من عشرین کتاباً من کتب العلماء الکبار، وترک من بعده تراثاً قیّماً، نسأل اللّه تعالی أن یغمده برحمته الواسعة إنّه قریب مجیب.
«رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِینَ سَبَقُونَا بِالْإِیمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِی قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِینَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّکَ رَءُوفٌ رَحِیمٌ»
نهایة الجزء السابع لنفحات الولایة فی شرح نهج البلاغة لأمیرالمؤمنین علیه السلام
27 / شعبان المعظم / 1426 ه ق، الموافق 2004 م
ص:580